ثم تحدث الشيخ عن العلماء ومنزلتهم، وأنهم هم الهداة الذين ينيرون للناس الطريق، فإذا فقدوا أظلمت الدنيا وتخبط الناس في ظلمات الجهالة، وذكر أنه لابد من معرفة حق العلماء وإنزالهم منزلتهم التي أنزلهم الله إياها..
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: التاريخ ديوان البشرية، والتراث سجل الأمم، يدون فيه حلو الأيام ومرها، ويحفظ فيه تجارب الناس خيرها وشرها، وفي مدونات التاريخ وسجلات الأمم تأتي وصايا الحكماء، ونصائح العقلاء، ومواعظ الواعظين، وآداب المتأدبين.. تأتي خلاصة لهذه التجارب، ونتيجة لهذه المدونات، كأنها الثمار ودرر البحار، وما زالت الأقوال المأثورة، والأمثال الجارية، والحكم المحفوظة، والوصايا السائرة، تملأ أحاديث الناس، فتؤدب الناشئة، وتصقل التجربة، وتزكي الخبرة، وتزين المجالس.
ونحن أمة الإسلام قد جاءنا الوحي من كتاب ربنَّا عز شأنه، وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مرشداً للأمة في مسيرتها، وهادياً لها في طريقها، ثم من بعد ذلك تجيء رجالات هذه الأمة في خلفائها وأئمتها، وعلمائها وصلحائها، وناصحيها وواعظيها، من الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، والعلماء الربانيين، والصالحين المصلحين، والذين يأمرون بالقسط من الناس.
وشرائع الدين وتوجيهات الشرع كلها دالة على معالي الأمور، مرشدة لكريم الأخلاق، زاجرة عن الدنايا، ناهية عن القبائح، باعثة على صواب التدبير، قائدة إلى حسن التقدير.
وطرق الخير -بفضل الله- كثيرة، وأبواب البر واسعة، وصلاح الدين بصلاح الزمان، وصلاح الزمان بصلاح الناس، وصلاح الناس -بعد توفيق الله- بالإرشاد وحسن التوجيه والتفصيل.
فعليكم بتقوى الله، عليكم -رحمكم الله- بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته ومراقبته، والحذر من سخطه واعتصموا بحبله، واعمروا قلوبكم بذكره، أحيوا قلوبكم بالمواعظ، وثبتوها باليقين، وذللوها بذكر الموت، وبصروها بفجائع الدنيا، وحذروها تقلبات الدهر، ونوروها بالحكمة، وانظروا في أخبار الماضين وسير الأولين، وخافوا إن عصيتم ربكم عذاب يوم عظيم.
الحذر الحذر -يا عباد الله- أن تكونوا ممن لا تنفعه المواعظ، وممن لا يحبون الناصحين، فلقد ذم الله أقواماً وسجل عليهم سوء مقالتهم: قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الشعراء:136-138]، وقال في قوم آخرين: وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:79].
انظر -يا عبد الله- أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله عز وجل فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها، الزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعاده، وما أنت صائر إليه، وموقوف عليه، ومسئول عنه، واعمل بما يحفظك الله به، وما ينجيك من عذابه وأليم عقابه، فإن الله قد أحسن إليك وأتم نعمته عليك.
واعلم أن الدنيا دار بلغة، وطريق إلى الآخرة، وأن المرد إلى الله، وأن الإنسان طريد الموت.. لا ينجو هاربه، ولا يفلت طالبه، فهو مدركه لا محاله، فكن منه على حذر، ولمقدمه على استعداد: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8].. أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].
واعلم يقيناً أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، فأجمل في الطلب، واقتصد في المكسب، وتحرى طيب المطعم والمشرب، فبئس الطعام الحرام، وارض بما قسم الله تكن غنياً، وما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل.. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].
فاحتط لنفسك واستقل من عثرتك، فلست في دار المقام، فلقد نادى المنادي بالرحيل، فما بقاء المرء بعد ذهاب أقرانه! وطوبى لمن كان من الدنيا على وجل! ويا بؤس من يموت وتبقى من بعده ذنوبه.
دع الغفلة فإنك لم تزل في هدم عمرك وتناقص أيامك منذ أن خرجت من بطن أمك، فحاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء كان مرجعه إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الحسرة والندامة.
أصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، وليكن أول ما تلزم به نفسك -يا عبد الله- وتنظر فيه لشأنك صلاح دينك، وصحة معتقدك، وصدق إخلاصك، ولزوم ما افترض الله عليك.
صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك، وعف عن المحارم تكن عابداً، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً.. ارحم المسكين، وأكرم الغريب، واسع على الأرامل، ففي الحديث الصحيح: {الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو قال: كالصائم لا يفطر والقائم لا يفتر مخرَّج في الصحيحين .
وإذا وعدت الخير فأنجزه، واقبل الحسنة وادفع بها، وغض الطرف عن عيوب الناس، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، واجعل من نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، ولا تظلم كما تحب ألا تُظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس ما ترضاه لهم من نفسك، يجمع لك ذلك كله قول نبيك محمد صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه مخرَّج في الصحيحين .
فتكلَّم -رحمك الله- بخير وإلا فاسكت، واجتنب فضول الكلام، واسمع قول نبيك محمد صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت فلا تقل ما لا تعلم، وإن قلَّ ما تعلم، وخير القول ما نفع، والقول على الله بغير علم قرين الشرك بالله، وسبيل من سبل الشيطان العريضة، ولقد قال سبحانه: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:168-169]. فدع -رحمك الله- القول فيما لا تعرف، والخوض فيما لم تكلف.. وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم }.
وإذا ناديته سمع نداءك، وإذا ناجيته علم بنجواك، تفضي إليه بحوائجك، وتشكو إليه همومك، وتسأله كشف كربك، وتستعين به على إنجاز أمورك، فاستفتح بالدعاء أبواب نعمته، واستمطر بالسؤال شآبيب رحمته، ولا تستبطئ الإجابة، فإن العطية على قدر النية، وربما أخر عنك الإجابة ليكن أعظم للأجر وأجزل للعطاء، وربما صرف عنك من الشر بدعائك ما لا تعلمه، وساق لك ما هو خير لك مما لا تعلمه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:1-11].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: العلماء بعلومهم، والحكماء بحكَمِهم، والصالحون بوصاياهم، هم -بإذن الله- نجوم هادية لمن سار في الليالي المظلمة، ودفة محكمة لمن خاض عباب البحار الموحشة، وغيث مدرار يأتي على الأرض الهامدة، فتهتز وتربو ثم تنبت من كل زوج بهيج.. ومن أجل هذا فما كان حديثاً يفترى، ولا فتوناً يتردد، تلك السير الرائعة والتراجم الماتعة، التي تبين وتنبئ عن حياة أهل العلم والفضل من أئمة الهدى وأعلام السلف .. علماء ربانيون، وأئمة متقون ينفع الله بهم ويبارك في علومهم.. يبلغون الدين أحسن بلاغ، ويحفظون الأمة -بإذن الله- من الضياع.. هم المرجع في العلوم والحكم، وحسن المواعظ، ولزوم السنة والسير على نهج السلف الصالح ، فهم هداة ينيرون السبيل للسالكين.. تنقضي أعمارهم، وتمر حياتهم على هذه الدنيا مرور الغيث الهامع، فتخضر الأرض وتنبت وتثمر، فيحمد الوارد والصادر، ويسجل التاريخ حديثهم للرواة، ويحفظ أيامهم وسيرهم نبراساً للدعاة.. فهم -بتوفيق الله- الحديث الحسن لمن وعاه.. اشتغلوا بالعلم وتحصيله وتحقيقه وتفصيله.. الواحد منهم أمة لما جمع الله فيهم من خصال الرجال، وضم من محاسن الأقوال والأفعال، فكانوا مضرب المثال ومحط الرحال.
العلماء هم منائر الأرض ومنابرها، وهم نجومها وزينتها.. نجوم إذا انطمست ضل السائرون طريقهم، وكواكب إذا تهاوت التبست على الحيارى مسالكهم.
أثنى الله عليهم ورفع مقامهم ونوه بذكره فقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
وخصهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالفضل الأسنى في أحاديث شتى، في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير حديث صحيح أخرجه الترمذي وغيره من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.. والحافظ ابن القيم رحمه الله يقول: هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والماء، وطاعتهم أفرض من طاعة الأمهات والآباء، بنص الكتاب العزيز كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] وأولوا الأمر: هم الأمراء والعلماء.
وبموتهم وانطفاء أنوارهم تنتقص الأرض من أطرافها، كما ذكر ذلك حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: [[خراب الأرض بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير فيها ]].
فرفع الله في عليين منازلهم، وأحسن في الدارين مثوبتهم، وأجزل لهم أجرهم، وحفظ أثرهم وآثارهم، وعوض المسلمين بفقدهم خيراً.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واعرفوا للعلماء فضلهم، واقدروهم قدرهم، واحفظوا لهم مكانتهم.
ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد إمام الحنفاء وسيد الأنبياء، فقد أمركم بذلك ربكم فقال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطبيين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين.. اللهم وانصر عبادك المؤمنين.. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق والتأييد والتسديد إمامنا وولي أمرنا، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر