وها نحن مع خاتمة سورة يس المكية، فهيا بنا نتدارس هذه الآيات المباركة ونتأمل ونتدبر معانيها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس وما نسمع.
بسم الله الرحمن الرحيم: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:77-83].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس:77]، وسبب هذه الآية هو: أن العاص بن وائل أو أبي بن خلف جاء بعظم قديم وفتته بين يدي رسول الله وذره، ثم قال: ( أتزعم يا محمد! أن ربك يحيي هذا بعد موته؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: بلى سيبعثك ويدخلك جهنم )، فنزلت هذه الآية: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ [يس:77] أي: الإنسان الكافر الجاحد المكذب بالبعث والدار الآخرة.
أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ [يس:77]، وهذه من أقوى البراهين والأدلة على البعث الآخر، فالذي خلقك أيها الإنسان من نطفة ماء، وتكونت في بطن أمك أطواراً ثم أصبحت إنساناً، ثم.. ثم..، أيعجزه أن يعيدك مرة ثانية؟
وحسب سنة الله في الأرض أن من فعل شيئاً مخترعاً لا يعجز على أن يأتي بمثله أبداً، بل من السهل عليه، لكن صرفت الشياطين عقول هؤلاء المكذبين بالبعث والدار الآخر.
فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس:77]، وهذا خاصم الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: أتزعم أن ربك يحيي هذا؟ وفتت العظم ونسفه.
ثم قال تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79]، والقدرة والعلم بهما توجد الموجودات، فما دام هو القوي القدير العليم الخبير فلن يعجز عن أن يعيد البشرية بعد فنائها.
فالذي أوجد هذه البشرية هنا وأماتها كلها لا يعجز عن أن يوجدها في مكان آخر، فمن المستحيل أن يعجز عن فعل هذا، فهذه البشرية من آدم إلى يوم القيامة وهم بلايين الخلق أوجدهم وأماتهم الله عز وجل، ولن يعجز عن إعادتهم أحياء.
وسبب تكذيب المكذبون بالبعث الآخر هو أن يستمروا على الباطل، وعلى الفسق والفجور، وعلى الكذب والخداع، وعلى العناد والمكابرة، وعلى الشرك و.. و..، فهذا سبب عنادهم، وإلا ما حملهم على أن يقولوا: ما يخلقنا مرة ثانية، وقد خلقهم أول مرة وهو الذي خلقكم أول مرة.
وهكذا يقول تعالى في الرد على العاص بن وائل أو أبي بن خلف الذي جاء بالعظم وفتته وقال: كيف يحيي الله هذا؟ فقال الله تعالى لرسوله: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:79] أي: خلقها أول مرة، والإنشاء بمعنى الخلق قبل وجود شيء.
وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79] أي: عليم بكل المخلوقات، فلا يوجد خلق إلا والله عليم به، ولو ذرة في الأرض أو في السماء، فكيف بالإنسان بكامله؟
وهناك شجرتان عند العرب تسميان: المرخ والعفار، يقولون: (في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار)، وهاتان الشجرتان يؤخذ عودان منهما كالسواك، ويضربان ببعضهما البعض فتشتعل النار، والآية عامة في المرخ والعفار، ففي كل شجر أخضر يحمل النار، وهذه من قدرة القادر الذي لا يعجزه شيء، بأن أوجد النار في الشجر الأخضر الذي هو ماء، وهذا أعظم برهان على إحياء الموتى.
فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:80]، أي: لتطبخوا وتستدفئوا.. إلى غير ذلك، وخلق الله هذه الأشجار وأوجدها ماءً وحولها إلى نار؛ لفائدتنا وصالحنا.
فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ [يس:80] أي: من ذلك الشجر الأخضر تُوقِدُونَ [يس:80] النار وتشعلونها لحاجتكم.
استخدم عقلك: الذي يخلق السماوات السبع.. انظر فقط إلى كوكب الشمس والقمر، وإلى هذه النجوم والكواكب، وهذه السماوات الذي رفعها هو الذي خلق الأرض وكل ما فيها.. فهذا الخالق لا يعجز عن خلق الإنسان مرة ثانية، ومستحيل أن يقول العقل هذا.
فالذي خلق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش يدير ملكوته، لا يعجز عن خلق البشرية عندما يفنيها ويميتها.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [يس:81] أليس بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس:81] قال تعالى: بَلَى [يس:81] إنه والله! لقادر على أن يخلق مثل البشر الذين أماتهم.
وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس:81] (الخلاق) أي: كثير الخلق، وكثير الموجودات خلقها الله، فكل موجود في السماوات وفي الأرض خلقها الله عز وجل ولا خالق سواه.
ومن أعظم الآيات أن البشرية كلها لو تجتمع في صعيد واحد لن تجد اثنين إلا ويفرق بينهما، وهذا أمر عجب، فأحياناً الإنسان يصعق ويغمى عليه، وأية قدرة هذه؟ وأي علم هذا؟
وقف الآن -مثلاً- وانظر إلى هؤلاء الحاضرين في الدرس المائة أو المائتين، فلن تجد اثنين لا يفرق بينهما، وهذه آية عظيمة، فأي علم أعظم من هذا العلم؟ فقولوا: سبحان الله.. سبحان الله.. سبحان الله.
ومن آياته الدالة على وجود علمه وقدرته وألوهيته: خلق السماوات والأرض أولاً، واختلاف ألسنتكم وألوانكم، فبالألسنة ينطق باللغة الفلانية والفلانية، وكل واحد له لهجة، فلو كل واحد من الحضور قال: السلام عليكم، لا يمكن أن تتحد اللهجة بينهما، فلا إله إلا الله. فالله سبحانه وتعالى لن يعجزه أن يعيد البشرية في يوم واحد، بل يقول لهم: كونوا، فيكونون.
فما أنكر البعث والدار الآخرة وكذب بها إلا الذين يريدون أن يصروا على الباطل، والشر والفساد والكفر والشرك، ولا يريدون أن يتنازلوا عن شهواتهم، فيقولون: أين الدار الآخرة؟ وكيف نحيا بعد موتنا؟ لا أقل ولا أكثر.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس:81] أي: مثل البشرية؟
فقولوا: بلى إنه قادر على أن يخلق مثلهم، فقد قالها الله عز وجل: بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس:81] (الخلاق): أي الذي خلق كل شيء ولم يخلق معه غيره شيئاً أبداً، وفي كتابه يقول: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]، فالحمد لله أن قلنا: لا إله إلا الله، والله! لو قطعنا ولو صلبنا ولو حرقنا، لا نستطيع أن نقول: مع الله إله، ما عندنا إلا: لا إله إلا الله، ولهذا لا نخضع ولا نذل ولا ننكسر، ولا نهون أمام مخلوق أبداً، إلا أمام الله عز وجل، فنركع ونسجد، ونعفر وجوهنا في التراب، ونحن فرحون بذلك حامدون؛ إذ لا إله إلا الله.
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا [يس:82] أي: شيئاً من الأشياء عظيماً أو حقيراً، من الناس أو من الجبال أو من الشجر أو من السماء والأرض، فقط يقول له: (كن) إذا أمر بأن يكون لا بد وأن يكون، فهو يكون.
إنما أمره عز وجل جل إذا أراد شيئاً كائناً ما كان في الملكوت كله أن يقول له: كن، فيكون على الفور.
بِيَدِهِ مَلَكُوتُ [يس:83] أي: ملك كل شيء أولاً، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:83] ثانياً رغم أنوفكم، وإليه لا إلى غيره ترجع المخلوقات من الكائنات في الأرض أو في السماوات، كلنا نرجع إلا إلى الله.
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:83]، وقد تقدمت صفات الرجوع وكيف اجتمعت البشرية على صعيد واحد واحتضروا، وأحضرهم ونادهم وأمرهم، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار والعياذ بالله.
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [يس:83] أي: ملك كل شيء من الإبرة إلى السماء، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:83] لا إلى غيره نرجع بأنفسنا، ولا يرجعنا إلا هو عز وجل بنفخة الفناء، فإنه لم يبق على الأرض من أحد، ونفخة البعث وإذا بنا قيام؛ ليحاسبنا ثم يجزينا إما بالنعيم المقيم في دار السلام، أو بالعذاب الأليم في دار البوار جهنم وبئس المصير.
وقد علمتم -زادكم الله علماً- أن المؤمن الصالح نفسه زكية طيبة طاهرة بمادة الإيمان وصالح الأعمال، ويبقى طهره وصفاؤه لبعده عن الشرك والذنوب والآثام، فهذا أفلح يوم يبعثه الله ودخل الجنة، ومن خبّث نفسه ولوثها وعفنها بأوضار الذنوب والآثام بعد الكفر والشرك -والعياذ بالله-، نفسه مدساة لا يتلاءم معها إلا جهنم وبئس المصير، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:9-10]، فنسب إلينا نحن التزكية، فنحن الذين نعمل على تزكية أنفسنا، ونعمل على تدسيتها، وأدوات التزكية: الإيمان والعمل الصالح، وأدوات التدسية: الشرك والمعاصي، فليس وراء ذلك شيء، فتزكو النفس وتطيب بالإيمان الذي هو كإيمان رسول الله وأصحابه، والعمل الصالح الذي أعلاه الصلاة وسائر العبادات، فإذا أديتها كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنها أن تزكي النفس وتطهرها، وتطيبها فتصبح كأرواح الملائكة وكأنفس الملائكة، وهذه الأنفس أصحابها يفلحون أي يفوزون بالنجاة من النار، ودخول الجنة دار الأبرار، اللهم اجعلنا منهم!
تقرير عقيدة البعث والجزاء والدار الآخرة؛ إذ جاءت فيها أربعة براهين وحجج كلها دالة وتقرر أننا بعد الموت نبعث أحياء لنحاسب ونجزى.
[ ثانياً: مشروعية استعمال العقليات في الحجج والمجادلة].
مشروعية استعمال العقول لمعرفة الحق من الباطل؛ لأن هذه الآيات أصحابها يستعملون العقول، فالذي خلق السماوات والأرض لا يعجز عن خلق الإنسان، والذي يقول للشيء كن فيكون لا يعجز أيضاً عن خلق الإنسان، والذي جعل الأخضر ناراً ننتفع بها لا يعجز كذلك عن خلق الإنسان، فهذه براهين أربعة دلت عليها هذه الآيات.
[ثالثاً: تنزيه الله تعالى عن العجز والنقص وعن الشريك والولد وسائر النقائص].
تنزيه الله تعالى عن الشرك والشريك وعن النقص؛ إذ هو لا إله إلا هو ولا رب سواه.
[رابعاً: تقرير أن الله تعالى بيده وفي تصرفه وتحت قهره كل الملكوت، فلذا لا يصح طلب شيء من غيره؛ إذ هو المالك الحق وغيره لا ملك له].
تقرير أن الله عز وجل خالق كل شيء وبيده كل شيء، والملكوت كله له ولا يعجز عن شيء، فيجب على البشرية أن تعرف هذا وتؤمن بالله وتعبده عبادة شرعها لهم في كتابه، وبينها لهم رسوله ليكملوا في الدنيا ويسعدوا، وليسعدوا في الدار الآخرة، فإن تكبروا وأعرضوا وتعاموا وصموا، فهم هالكون ومصيرهم جهنم والعياذ بالله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر