أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ [الصافات:75-82].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ [الصافات:75]. نوح عليه السلام أحد أولي العزم الخمسة، وأولهم نوح، وثانيهم إبراهيم، وثالثهم موسى، ورابعهم عيسى، وخامسهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]. ونوح يعتبر أول الرسل إذ لم يسبقه إلا إدريس، وكان الزمن بينه وبين آدم كما يقول أهل العلم قرابة ألف سنة، فهو أول الرسل، وأول أولي العزم.
ونوح عليه السلام بعثه الله عز وجل في البشرية يومئذ، ولم تكن في عددها وكثرتها كما الآن.
وقال تعالى هنا: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ [الصافات:75]. والمجيب هو الله. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]. ولقد استجبنا له فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ [الصافات:75].
إذاً: قوله تعالى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ [الصافات:75]، أي: نحن رب العزة والجلال والكمال. وَنَجَّيْنَاهُ ، أي: طلب منا النجاة فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الصافات:76]. ألا وهو الغرق. والبشرية كلها غرقت، وليس هناك كرب أعظم من هذا الكرب.
وقد بين تعالى كيف تم ذلك، وهو أنه أمر الله السماء أن تمطر، والأرض أن تتفجر بالمياه، فالتقى الماء من فوق وأسفل، فأغرق البشرية كلها، ولم يبق شبر من الأرض إلا عمه الماء. وكان نوح على سفينته مع من معه من المؤمنين، نساءً ورجالاً.
وقوله: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ [الصافات:77]، أي: ذرية نوح هُمُ الْبَاقِينَ [الصافات:77]. فنحن منهم بقيناً.
وقوله: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ [الصافات:78]، أي: حبه وتعظيمه، وإجلاله وذكره بخير، وهو السلام عليه. وقد قال هنا: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ [الصافات:78]، أي: من بعده، فكلهم يحبونه ويقدسونه، ولا يتعرضون له بسوء.
والرسول صلى الله عليه وسلم جاءه من بني أسلم من قال: بت البارحة يقظان ما نمت، فقال: ما بك؟ قال: لدغتني عقرب، قال: ( لو قلت عندما أويت إلى هذا المكان: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق لم يضرك شيء )، ولم تلدغك عقرب. فهذه الكلمة: ( أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق ) لابد أن يقولها كل من نزل منزلاً وهو مسافر؛ حتى يحفظه الله عز وجل. فإذا كنت مسافراً إلى جدة .. إلى كذا وفي الطريق نزلت في مكان تنام فيه وتستريح فقل: ( أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق )؛ حتى يحفظك الله. وهكذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم أصحابه.
وأما قول: سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات:79] فهي مروية، وذكرها أهل العلم، ولا بأس بها.
الحالة الثانية: وهي: ( فإن لم تكن تراه فإنه يراك ). فتفعل العبادة وأنت تعلم أن الله ينظر إليك، وتعمل العبادة وأنت تعلم أن الله يراك وينظر إليك، ومن ثم تتقنها وتجودها وتحسنها، ولا يقع فيها زيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير؛ لأنك محسن عبادتك.
وأركان الإيمان هي: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. وبذلك تكون مؤمناً.
قد علمتم أنه جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في روضته، ورجاله بين يديه؛ يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فدخل جبريل وشق الصفوف، وانتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، وقال: يا محمد! ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت ). فهذا هو والله الإسلام. ( قال: أخبرني عن الإيمان )، أي: ما الإيمان؟ ( قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: أخبرني عن الإحسان )، أي: ما الإحسان؟ ( قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ). وهنا مرتبتان:
المرتبة الأولى: كأنك تشاهد الله وأنت تعبده، فما يلتفت قلبك ولا بصرك أبداً إلى غير الله.
والمرتبة الثانية إذا نزلت من هذه المنزلة العالية: أن تعبد الله وأنت تعلم أنك مراقب، وأن الله ينظر إليك، ومن ثم تحسن عبادة الله.
واعلموا أن كل مسلم حق الإسلام هو مؤمن حق الإيمان، وكل مؤمن حق الإيمان هو مسلم حق الإسلام. وقد يكون مسلماً في الظاهر وهو كافر ليس بمؤمن ولا بمسلم. وهذه حال المنافقين والعياذ بالله، فقد يصلون أمام الناس أو يتصدقون؛ ليثنى عليهم بخير، أو ليقال: إنهم ليسوا كافرين، وفي نفس الوقت هم لا يؤمنون بالله ولا بلقاء الله.
اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين.
والله تعالى نسأل أن يجعلنا من المؤمنين المحسنين المحبين لنوح والمؤمنين.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: بيان إكرام الله لأوليائه، وإهانته لأعدائه ] فالآيات من أولها بينت أن الله يكرم أولياءه ويهين أعداءه. فاللهم اجعلنا من أوليائك يا رب العالمين! وأولياء الله كما علمتم هم المؤمنون المتقون، ووالله أنه لا ولي لله إلا من كان مؤمناً تقياً؛ إذ قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. وكأن سائلاً يقول: من أوليائك يا رب؟! فأجاب الله تعالى بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]. فكل مؤمن تقي هو لله ولي.
وأما المؤمن الفاجر فلن يكون لله ولياً، وكذلك التقي الذي ليس بمؤمن لن يكون لله ولياً. بل ولي الله هو المؤمن صادق الإيمان، المتقي الذي ما يخرج عن طاعة الله ورسوله، لا في الواجبات بفعلها، ولا في المحرمات بتركها.
[ ثانياً ] من هداية الآيات: [ إجابة دعاء الصالحين لا سيما عندما يظلمون ] ويضطهدون ويظلمهم الناس، ففي هذه الحال لن تتأخر أبداً إجابة الله عليهم. فقد استجاب لنوح، كما قال تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الأنبياء:76].
[ ثالثاً: فضل الإحسان، وحسن عاقبة أهله ] فقولوا: اللهم اجعلنا من المحسنين. والمحسنون هم: الذين يعبدون الله بما شرع، فلا يزيدون ولا ينقصون، ولا يقدمون ولا يؤخرون. وعلى سبيل المثال: صلاة المغرب لو تزيد فيها ركعة بطلت، ولو تنقص سجدة بطلت، ولو لم تطمئن في الركوع ولا في السجود بطلت. وكذلك كل العبادات تؤدى كما بينها الرسول صلى الله عليه وسلم، فذلك هو الإحسان. وإذا ما أداها الشخص على الوجه المطلوب فقد أساء. ونحن مطالبون بالإحسان أولاً في العبادات؛ لتزكي نفوسنا وتطهرها، ثم نحسن إلى كل الخلق، ولا نسيء إلى مخلوق، بل ولا إلى حيوان. فاللهم اجعلنا من المحسنين.
[ رابعاً: فضل الإيمان، وكرامة أهله عند الله في الدنيا والآخرة ] وليس هناك من هو أفضل من المؤمن، بل والله لمؤمن واحد يعدل ما على الأرض من المشركين والكافرين، ولو جمعت الكفار كلهم في كفة وجعلت مؤمناً واحداً في كفة فإنه يغلب الكفار؛ لأنهم لا يساوون عند الله شيئاً أبداً. هذا فضل الإيمان، وقد نجى الله نوحاً والمؤمنين، وأغرق البشرية كلها أجمعين.
[ خامساً ] وأخيراً: قول: سلام على نوح في العالمين إذا قاله المؤمن حين يمسي أو يصبح يحفظه الله تعالى من لسعة العقرب ] وهذه لطيفة. وقد ذكرها ابن عبد البر في التمهيد وهو من كبار العلماء والفقهاء، وتقبل منه، فمن قال: سلام على نوح في العالمين في الصباح والمساء ما تلدغه العقارب. ومن قال: ( أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق ) ونزل أي منزل يحفظه الله عز وجل من الجن ومن الإنس ومن العقارب.
قال: [ وأصح منه قول: ( أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق )؛ لصحة الحديث في ذلك ] فقد روى مالك في الموطأ عن خولة بنت حكيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من نزل منزلاً فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ فإنه لن يضره شيء حتى يرتحل ). وهذا من أصح الأحاديث، وقد رواه مالك في الموطأ. فإذا نزلت منزلاً أيها المسافر! سواء نزلت بيتاً أو غرفة أو خيمة فقل: ( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ). فيحفظك الله عز وجل. والله هذه لتساوي ألف دينار، وأستغفر الله، بل مليون دولار. فلنحفظها، وهي: ( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ). وعندما تنزل منزلاً قلها، وعندما تدخل بيتاً قلها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر