اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فصلت:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:26-30].
في هذه الآيات من هذه السورة الكريمة يبين الله عز وجل مشاهد للكفار وللمؤمنين، فبين حال الكافر في الدنيا كيف كان يصنع، وفي الآخرة كيف جوزي، وكذلك المؤمن ما الذي صنع في الدنيا، وكيف جازاه الله عز وجل يوم القيامة؟
هؤلاء الكفار قال بعضهم لبعض: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26] نظروا إلى القرآن أنه معجز وعظيم فخافوا على أنفسهم أن تضيع منهم الدنيا باتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا في حماقة وجهل وغباء وبعد عن الله سبحانه، حيث فضلوا الدنيا على الآخرة، ونظروا إلى رئاستهم ومنازلهم في الدنيا ولم ينظروا إلى ربهم سبحانه وتعالى الذي أمرهم أن يعبدوه.
فقوله تعالى عنهم: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت:26] أي: تكلموا باللغو وبالكلام الباطل الفارغ، واللغو: كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح ويلقى مهملاً، من الأقوال والأفعال، فكأنه نصح بعضهم بعضاً وتواصوا فيما بينهم أنه إذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا أي كلام أمامه ويرفعوا أصواتهم بحيث لا يقدر على أن يتكلم ولا يسمعه أحد، فإذا كان المجلس على هذا الحال خرج منه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجلس آخر يدعوهم إلى الله فيقفون له بالمرصاد، باللغط واللغو والكلام الباطل حتى يشوشوا عليه فلا يقدر على إبلاغ رسالة ربه صلوات الله وسلامه عليه، يكيدونه ويكيد الله عز وجل له وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، فحاولوا جهدهم أن يمنعوا النبي صلى الله عليه وسلم من أن يبلغ رسالة الله يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
وقوله: عَذَابًا شَدِيدًا [فصلت:27] أي: عذاب النار.
قال الله تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت:27] ولنجزينهم في الآخرة جزاء قبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وأسوأ الأعمال التي عملوها الشرك، فيجازيهم الله عز وجل على شركهم فما دون ذلك من الأعمال، ويجزي على الأقبح ثم على غيره.
جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:28] جزاءً وفاقاً؛ لأنهم جحدوا في الدنيا وأنكروا مع اعترافهم في قلوبهم وفيما بينهم أن ذلك هو الحق الذي جاء من عند الله سبحانه، ولكن جحدوا أمام النبي صلى الله عليه وسلم، والجحود إنكار ما هو معلوم أنه حق وصواب.
قال الله عز وجل عنهم: رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا [فصلت:29] اللذين أي الاثنين، وقرأها ابن كثير بتشديد النون فيها، وبالقصر والتوسط والمد في الياء.
وقوله: نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا [فصلت:29] أي: ندوسهم بأقدامنا في نار جهنم، لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ [فصلت:29] في أسفل نار جهنم وفي قعرها تشفياً؛ بسبب ما صنعوا فيهم! هذا الكلام يقوله الذين كانوا يستضعفون في الدنيا عند الأكابر الذين كانوا يأمرونهم بفعل المنكر وارتكاب المعاصي ويعدونهم بالدفاع عنهم، فكان هؤلاء المستضعفون من الكفار يأمرهم كبراؤهم بالمنكر، وهم بما في قلوبهم من حقد على دين الله عز وجل، واتباع للهوى وللشيطان، وبما في قلوبهم من فتنة وحب لما هم فيه من مناصب وغيرها يطيعون هؤلاء الكبراء طاعة عمياء في معصية الله سبحانه فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [الزمر:26]، فالكفار يبحثون عمن أضلهم من الكبراء الذين اتبعوهم وأطاعوهم في الدنيا، فقالوا: رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ [فصلت:29] هذا مشهد من حال الكفار في النار.
وإذا وقع في المعصية فالاستقامة أن يبادر إلى طاعة الله سبحانه وتعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) ولم يقل: إنهم لم يخطئوا، بل إنهم وقعوا في الذنوب، ولكن سرعان ما يفيئون ويعودون إلى ربهم سبحانه وتعالى تائبين.
جاء سفيان بن عبد الله الثقفي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، أو أحداً غيرك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم) ومقتضى هذه الآية العظيمة: قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] أنهم استقاموا على طريق الهدى.
والطريق المستقيم أقصر الطرق إلى الجنة، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى، ومتابعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه وإخلاص العمل لله.
يقول الله تعالى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، لما استقاموا على الدعوة إلى الله سبحانه، فدعو الناس إلى توحيد الله، فاقتدى الناس بهم في أقوالهم وأفعالهم، متابعين لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال الله عنهم: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] عند الموت تتنزل عليهم الملائكة وتقول لهم: لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.
إن المؤمن تخرج روحه بعرق الجبين، فقد يشدد عليه عند الموت حتى يكفر عنه ما بقي عليه من سيئات، ولكن مع ذلك فالملائكة تطمئنه وتقول له: لا تخف ولا تحزن فإنك قادم على رب غفور رحيم، اخرجي أيتها النفس الطيبة في روح وريحان، إلى رب غير غضبان، فتخرج روح المؤمن بسهولة، وإن كان قد يعاني ويرشح جبينه عرقاً من شدة الموت فإن ذلك يكفر عنه سيئاته؛ وعندما تخرج الروح تتلقاها ملائكة الرحمة، وتصعد بها إلى السماء ثم تعاد إلى الأرض، ويثبت الله المؤمن بالقول الثابت وهو في قبره، فإذا سئل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك عليه الصلاة والسلام؟ قال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلوات الله وسلامه عليه، لقد استقام على ذلك في الدنيا فثبته الله عليه في قبره، ففي الدنيا كان يقول: ربنا الله، فثبت على ذلك في قبره؛ لأنه استقام على دين الله، وأخذ بالدين كله بقوة، واتبع نبيه صلى الله عليه وسلم، فعرف الإسلام بحق، وعمل به، وعرف نبيه صلى الله عليه وسلم، فلما كان في قبره كان جزاؤه من جنس عمله، فقد عرف ربه وحده، فثبت الله لسانه وهو في قبره.
قال تعالى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت:30] فالخوف دائماً من المستقبل، والحزن غالباً على الماضي، وهنا لا خوف ولا حزن، فالذي يموت وله عيال صغار تقول له الملائكة: لا تخف إن الله سبحانه وتعالى هو الولي الحميد.
أما من كان فاجراً عاصياً لله إذا قيل له في قبره: من ربك؟ قال: هاه هاه لا أدري، وإذا قيل له: من نبيك؟ قال: لا أدري، وإذا قيل له: ما دينك؟ قال: لا أدري، فإذا بين له أن النبي محمد والدين الإسلام يقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فلم يكن يعرف معنى: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بعيداً عن الله يسخر من عباده المؤمنين.
هذا هو الفرق بين المؤمن التقي والفاجر الشقي، فالمؤمن يذكر الله عز وجل أن الملائكة تثبته: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا[فصلت:30] أي: لا تخافوا مما أنتم قادمون عليه، إنكم قادمون على رب غير غضبان عليكم، وعلى رب غفور رحيم سبحانه، ولا تحزنوا على ما تركتم في الدنيا، وعلى ما وقعتم فيها من معاص، فسيغفرها الله عز وجل لكم باستقامتكم في الدنيا.
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ[فصلت:30] البشارة: الإخبار بما يسر الإنسان مما سيقدم عليه، فالمؤمن لا يخاف مما سيقدم عليه، ولا يحزن على ما مضى، ويبشر بما يسره وهي الجنة التي كان ربه يعده بها في الدنيا.
قال الله عز وجل: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ[فصلت:31] إن الله ولي الذين آمنوا، والملائكة تتولى من تولى الله سبحانه وتعالى، فتطمئنه وتقول له: لا تخف فالله معك سبحانه وتعالى، فتولت المؤمن في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ[فصلت:31] في الدنيا، وكذلك في الآخرة أي: في الآخرة، وما تشتهي أنفسكم أي: كل ما تتمنونه عند الله عز وجل يعطيكموه.
وقوله تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ[فصلت:31] أي: ما تطلبونه من الله عز وجل يعطيكم إياه.
نسأل الله عز وجل أن يغفر لنا وأن يرحمنا، إنه هو الغفور الرحيم، وأن يجعلنا من أهل جنته وأن ينجينا من عذابه ومن ناره.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر