اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة السجدة:
بسم الله الرحمن الرحيم: الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السجدة:1-3].
هذه هي السورة الثانية والثلاثون من كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى وهي سورة السجدة, وهي من السور المكية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ما عدا آيات ذكر أهل العلم أنها نزلت بالمدينة، وهذه الآيات هي: قول الله عز وجل: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.. [السجدة:18-19] إلى آخر ثلاث آيات أو إلى خمس آيات. وقوله عز وجل: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ.. [السجدة:16] إلى قوله: الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة:20]. وأغلب آياتها مكية، وفيها خصائص السور المكية، والتذكير باليوم الآخر، والتفصيل لما يكون في يوم القيامة، وهي مناسبة جداً ليوم الجمعة، ويوم الجمعة هو اليوم الذي تقوم القيامة فيه، وفيه خلق آدم، وفيه أنزل إلى الأرض، وهو يوم عيد للمسلمين.
وهذا واضح في سورة الإنسان من أول السورة، قال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1] -أي: هذا الإنسان الذي يستكبر ويتعالى على ربه سبحانه تبارك وتعالى هلا تذكر أنه أتى عليه يوم من الدهر لم يكن شيئاً ولم يكن حتى تراباً؟! فقد كان عدماً ثم أوجد الله عز وجل هذا التراب، وخلق منه الإنسان. فهلا تذكر الإنسان ذلك فانتفع بهذه التذكرة؟
ثم ذكر الله عز وجل في سورة الإنسان أمر الكافرين، وكيف يفعل الله عز وجل بهم، فقد أعد لهم سلاسل وأغلالاً وسعيراً.
وذكر كيف يفعل بالمؤمنين، وأنه يدخلهم جنات، وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ [الإنسان:15]. وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ [الإنسان:19]. إلى آخر ما ذكره الله سبحانه في هذه السورة.
فهاتان السورتان مناسبتان ليوم الجمعة، فيقرؤهما المصلي في صلاة الفجر أو يسمعهما، لما فيهما من التذكير بأن يوم الجمعة وإن كان عيداً للمسلمين الآن إلا أن الساعة ستقوم فيه، ومن التذكير بأن بدء خلقه كان في هذا اليوم، وأن إنزالهم من الجنة إلى الأرض كان في هذا اليوم، فيتذكر يوم الجمعة وما يكون فيه.
وقد حاول العلماء أن يعرفوا لماذا ذكر هنا ألف لام ميم؟ ولماذا ذكر هنا ص؟ ولماذا ذكر كذا؟ وذكروا أنه من ضمن ما وصلوا إليه: أن الحرف الذي يأتي في أول السورة أو الأحرف التي تأتي في أول السورة تكون أكثر الحروف تكراراً في هذه السورة، وليس معنى ذلك أن أكثرها تكراراً في السورة لابد أن يكون هو الأكثر، لا، ولكن هو من أكثر ما يكون في السورة. فمثلاً الذي يعد الحروف في هذه السورة سوف يجد أن الألف وهو أول حرف بدأه الله عز وجل في السورة تكرر مائتين وتسعين مرة تقريباً، فهو أعلى حرف تكرر في هذه السورة، واللام تكرر فيها مائة وواحداً وخمسين مرة، فهو من أعلاها وليس الأعلى؛ لأن حرف النون تكرر فيها حوالى مائة وثمانية وخمسين مرة، فهو أعلى منه, والميم أيضاً من أعلا الحروف التي تكررت في هذه السورة. فكأنه إذا افتتح السورة بأحرف معينة فإن هذه الحروف تكون من أعلا ما يتكرر في هذه السورة. فكأنه يقول: هذه الحروف من جنس ما تنطقون به، وقد ألفنا منها هذا القرآن، وجمعناه منها، فأتوا بقرآن مثله إن كنتم تقدرون على ذلك، فلم يقدروا على ذلك.
والغالب في كتاب الله عز وجل أنه إذا بدأ بأحرف مقطعة فإنه يذكر بعدها مباشرة أو بعدها بقليل إشارة إلى هذا القرآن العظيم. فهنا قال: الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ [السجدة:1-2]، فذكر هذا الكتاب الذي هو حروف من جنس ما تنطقون به وأنه منزل من عند رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى.
وأيضاً ذكر العلماء أن هذه الحروف في بداية السور تسمى بها السورة، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يقرأ الم تنزيل ). فسميت سورة السجدة بسورة الم تنزيل السجدة. وذكروا غير ذلك من الحكم التي أنزل الله عز وجل هذه الفواتح فيها.
ومما ذكروه أنها لجذب الانتباه؛ لأن العرب لم يكونوا معتادين عليها. فإذا أراد أحد أن يكلم أحداً فإنه يكلمه بكلمة، وأما أن يكلمه بحرف فهذا نادر. فعندما يأتي القرآن يقول لهم: الم ، ويقرؤها آية، والقرآن له طريقة في القراءة بالتجويد وبالترتيل، فعندما يسمعونه يتسألون: ماذا يقول؟! فينتبهون لما يقول، فيقول بعدها: تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة:2]، فكأن من ضمن الحكم جذب الانتباه، وشد الناس الذين ليسوا معتادين على هذا الشيء، فيستمعون له.
وأيضاً ذكروا من ضمن الحكم أنها نزلت إشارة إلى أسماء الله الحسنى. فقالوا: (الألف) من اسم الله، و(اللام) من اسم الله اللطيف، و(الميم) من اسم الله المجيد. وهذا محتمل. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه مثل ذلك. ولكن لا نقدر أن نقول هذا هو السبب الذي من أجله أنزل الله عز وجل هذه الأحرف في أوائل السور. وغاية ما يمكن أن يقال: إن هذه أحرف مفرقة مقطعة في أوائل السور، والغرض منها تعجيز الخلق، وهي من أسرار كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى.
وأما لحديث الذي جاء مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (لي عند ربي عشرة أسماء، فذكر منها: طه وياسين). فلا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (تنزيل) أي: منزل من السماء من عند رب العالمين، وفيه إشارة إلى أن الله سبحانه فوق سماواته سبحانه تبارك وتعالى، فنزل الكتاب من عنده سبحانه على النبي صلى الله عليه وسلم، فهو ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من كلام الملائكة، وإنما هو كلام رب العالمين نزله سبحانه كتاباً إلى السماء الدنيا، ثم نزله منجماً على النبي صلى الله عليه وسلم، ففي كل حادثة من الحوادث ينزل من القرآن ما يحكم الله عز وجل فيه بين خلقه.
قال تعالى: تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ أي: لا شك في هذا التنزيل ولا شك في أنه كتاب رب العالمين سبحانه.
وجمهور القراء على عدم المد في اللام، ووجه عند حمزة أنه يمده مداً متوسطاً، فيقول: (لآ ريب فيه). وهذا المد المقصود منه المبالغة في النفي, وكأن مده مبني على حكمة من الحكم، مثل كثير من القراء الذين ينقصون في مد الهمز المنفصل فإذا جاءوا عند كلمة: لا إله إلا الله يمدونها، ليس من أجل المد المنفصل، وإنما مبالغة في التعظيم الله سبحانه تبارك وتعالى، ونفي الشريك عنه سبحانه تبارك وتعالى، وحمزة العادة في المد عنده أنه يمد مداً طويلاً ست حركات، ولكنه هنا يمد مداً متوسطاً على أحد الأوجه عنده، فيقول: (لآ ريب فيه من رب العالمين).
وأيضاً كلمة (فيه) يقرؤها ابن كثير بإشباع كسرة الهاء التي في آخرها، ويقرؤها باقي القراء بالكسر فقط من غير إشباع.
والرب سبحانه هو الخالق المالك المدبر سبحانه تبارك وتعالى، الذي يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، وهو المشرع الذي يشرع لخلقه. فله الخلق وله الأمر وهو الرب سبحانه تبارك وتعالى.
والفرق بين الإله والرب أن الإله بمعنى: المعبود، والرب بمعنى: الخالق والصانع والفاعل سبحانه تبارك وتعالى. ومقتضى الرب أن يعبد سبحانه تبارك وتعالى؛ لكونه يخلق ويرزق ويفعل أفعالاً يستحق بها أن يعبده الخلق فيؤلهوه. والألوهية مقتضاها عبادة الخلق للرب سبحانه تبارك وتعالى؛ لأنه مستحق لذلك، فالربوبية مقتضاها أفعال من الرب سبحانه من أنه يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويدبر الأمر، وينبني على ذلك أنه يستحق أن يؤلَّه وأن يعبد وحده لا شريك له.
قال تعالى: رَبِّ الْعَالَمِينَ والعالمين: كل ما سوى الله سبحانه تبارك وتعالى، فالإنس عالم، والجن عالم، والدواب عالم، والحشرات عالم، وعالم علوي، وعالم سفلي، فكل واحد منها عالم من العوالم، والله سبحانه هو الرب للجميع، وهو ملك الملوك سبحانه تبارك وتعالى، ورب العالمين.
قال تعالى: تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة:2]. وهذه إذا وقف عليها يعقوب ومثلها الأسماء المجموعة جمع مذكر سالم يقول: العالمينه، بهاء السكت. ومثلها في الفاتحة: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، إذا وقف عليها أبو جعفر ويعقوب فيقرآنها بهاء السكت في آخرها.
وقوله تعالى: تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة:2] يرد على من يقول: إنه سحر أو إفك مفترى أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين، فهو يرد عليهم ويقول: إن هذا كتاب رب العالمين سبحانه.
قال تعالى: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [السجدة:3]. فالقرآن كلام حق، وهو كلام رب العالمين نزل من عنده. قال تعالى: (بل هو الحق من ربك لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ [السجدة:3]. وتنذر: تعلن مخوفاً. والنذير: المعلن الذي يأتي ليخبر ويهدد ويخوف. وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً، مبشراً أهل التقوى وأهل الطاعة والإيمان بالجنة، ومنذراً ومخوفاً ومهدداً لأهل المعاصي والكفر والشرك بعذاب الله سبحانه. قال تعالى: مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [السجدة:3]. فمن أيام المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم حوالى ستمائة سنة لم يأت نذير في خلال هذه الفترة. فاندرس دين إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولم يعلم هؤلاء الكفار عنه شيئاً، فكانوا أهل فترة، فنزل القرآن ليهديهم إلى سبيل الله سبحانه. قال تعالى: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السجدة:3].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر