الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الدخان: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ * فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:9-16].
قبل هذه الآيات من سورة الدخان قال الله سبحانه: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ [الدخان:5-8]، فكأن قوله هنا (بل هم) استدراك على ما قبل ذلك، فهم يقولون: إن الرب هو الذي خلقهم، ويعرفون ذلك، ولكنهم فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدخان:9]، فهم يعرفون أن الله خلقهم، ولكن هذه المعرفة لم تدفعهم لعبادته سبحانه، ولم تمنعهم من الشرك بالله سبحانه، فهم في شك هل الآلهة متعددة أم الإله الذي يستحق العبادة واحد؟ فهم في شك من ذلك، فمهما قالوا من كلام يقنعون أنفسهم به أنهم على الحق، ومهما تعجبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم أن يعبد إلهاً واحداً لا إله إلا هو، فهم يخوضون في لهو وفي لعب، وإن زعموا أنهم على يقين مما يقولون، فالله عز وجل أعلم بما في قلوبهم، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ [الدخان:9]، فهم يعرفون أن هذه الآلهة التي يعبدونها لا تنفع ولا تضر، لكن يقولون مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، وهل هم مستيقنون أنها تقربهم إلى الله زلفاً؟ هم لا يعرفون، ومن أين لهم أن يعرفوا أن هذه الآلهة تقربهم إلى الله؟! هل معهم أثاره من علم؟ هل معهم كتاب؟ هل قال لهم رسول ذلك؟ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ [الدخان:9]، من هذا كله، يَلْعَبُونَ [الدخان:9]، فيما يقولون وإن أظهروا الجد في كلامهم، وإن قاتلوا على هذا الذي يقولونه، ولكن الحقيقة أنهم يلعبون، وكلامهم فارغ ليسوا على يقين منه، ولا فيما يظهرونه من الإيمان بربوبية الرب سبحانه تبارك وتعالى؛ لأنهم لم يعبدوه سبحانه.
وقد جاء حديث عن ابن مسعود رضي الله عنهما يبين أن هذا الدخان في الدنيا، وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري أن هذا الدخان يوم القيامة، وكلاهما صحيح، ولكن المقصود منهما في هذه الآية أحدهما، فالحديث الأول عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10] وأن فلاناً يقول: يكون دخان يوم القيامة، فغضب ابن مسعود رضي الله عنهم وقال: لم يتكلم أحدكم بما ليس له به علم؟ من علم فليقل بعلمه، ومن كان لا يعلم فليقل: الله أعلم، ثم قال رضي الله تبارك وتعالى عنه: إنما كان هذا لأن قريشاً لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف؛ فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله عز وجل: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان:10-11].
وهذا الحديث في البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم لما شددوا على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف)، فكان هذا الدخان من شدة الجوع ومن قلة المياه، فلم يجدوا ما يأكلونه فأكلوا لحوم الكلاب، وأكلوا عظام الميتة وكل شيء وجدوه أمامهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا واستجاب له ربه، فكانوا من شدة جوعهم يرون ما بينهم وبين السماء كالدخان، والجائع يغشى على بصره، فشدة الحر والعطش وقلة الطعام جعلتهم ينظرون إلى ما بينهم وبين السماء كالدخان من شدة ما هم فيه من قحط ومحل وجدب.
فذهب أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال للنبي صلوات الله وسلامه عليه: إنك جئت تدعو إلى صلة الرحم فكيف تدعو علينا؟! فقد عرف أن الله قد استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه ليدعو لهم كما فعل فرعون مع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما ابتلاهم الله عز وجل، قال الله: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف:130-131]، وبعد ذلك يذهبون إلى موسى ويقولون: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف:134]، وكلما يأتيهم عذاب من عند الله يقولون: سنؤمن لك، فيكشف الله عز وجل عنهم العذاب فيرجعون، فهذه سنة الكفار السابقين، فالله عز وجل إذا أخذهم جأروا إليه بالدعاء ورجعوا إليه ليكشف عنهم البلاء، فإذا كشف عنهم البلاء رجعوا إلى كفرهم مرة ثانية، وكذلك هؤلاء المشركون قال رجل منهم: يا رسول الله استسق لمضر، وهذه القبيلة أبوهم الأكبر مضر ، فيقول له: استسق الله لمضر، أي: لقريش التي عدوت عليها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لجرئ) يعني: إنك لجريء في هذا الذي تطلبه، فبدلاً ما تقول لهم: آمنوا بسبب ما أنزل الله عز وجل عليكم من عذاب بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: استسق!
ولكن حنان النبي صلى الله عليه وسلم جعله يستسقي لهم، ودعا لهم أن يكشف الله عز وجل عنهم ما هم فيه، وقد وعدوه أنهم يؤمنون فقالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:12]، فقال الله: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان:15]، أي: ستعودون إلى كفركم مرة ثانية.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: فاستسقى -يعني: طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أن يسقي هؤلاء- فسقوا فنزلت الآية الأخرى: إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان:15]، فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية، فأنزل الله عز وجل: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:16]، قال ابن مسعود : هي يوم بدر، أي: إن رجعتم إلى الكفر فسنبطش بكم بطشة كبرى، وكان ذلك في يوم بدر، حيث أهلك الله عز وجل شيوخ المشركين كـأبي جهل ، وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة وغيرهم.
وجاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري كما في صحيح مسلم قال: (طلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال: ما تذكرون؟ قالوا: نذكر الساعة) يعني: يوم القيامة وما يكون فيه، فقال صلى الله عليه وسلم : (إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات) يعني: العلامات الكبرى لهذه الساعة، قال صلى الله عليه وسلم : (الدخان والدجال ، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم).
فهذه هي العلامات الكبرى للساعة، وهي عشر علامات إذا خرجت كانت متوالية بعضها وراء بعض كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (كعقد انفرط) أي: مثل السبحة إذا انقطع منها الحبل تذهب منها الخرزات واحدة تل الأخرى.
وآخر العلامات نار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر، وهي نار عظيمة تجعل الناس كلهم يهربون ويذهبون إلى الشام، وهي أرض المحشر.
وابن مسعود رضي الله عنه لا ينكر هذا الحديث، ولكن يقول: إن الدخان المقصود في هذه الآية قد حصل وانتهى؛ لأن ربنا يقول: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا [الدخان:15]، وعندما تقوم الساعة لن يكشف الله العذاب.
ولذلك فالراجح قول ابن مسعود رضي الله عنه، والصحيح أن الدخان أيضاً من علامات الساعة، ولكنه ليس متعلقاً بهذه الآية، والله أعلم.
قال سبحانه: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10] أي: بدخان واضح جلي أو مبين.
قال سبحانه: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ [الدخان:13] أي: من أين لهم التذكر؟ فهؤلاء مثل الذين إذا ركبوا في البحر وأصابهم الضر فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65].
وهذه عادة المشركين، فإنهم إذا أصابتهم البلية والمصيبة قالوا: يا رب! ورجعوا إليه، فإذا كشف عنهم البلاء نسوا الله سبحانه، ورجعوا إلى شركهم وعبادة غيره سبحانه، قال: أَنَّى لَهُمُ [الدخان:13] أي: من أين لهم التذكر وعادتهم أنهم يكذبون ويعرضون في وقت الرفاهية والرخاء؟! وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ [الدخان:13]، (مبين) لها معنيان: الأول من بان بمعنى: ظهر، فهو مبين ظاهر واضح جلي صلى الله عليه وسلم، ومعه الآيات والمعجزات من ربه التي تدل على صدقه عليه الصلاة والسلام.
والثاني بمعنى: مفصح صلوات الله وسلامه عليه، من أبانه بمعنى أظهره وبينه وفسره وشرحه، فهو مبين بلسان عربي مبين، وليس كلامه أعجمياً فيدعون أنهم لا يفهمون ما يقوله.
وقالوا عنه أيضاً (مجنون) وافتروا عليه الكذب وحاشا له من الجنون، قال الله سبحانه: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:2] يعني: بفضل الله وبرحمة الله أنك لست كما يقولون -ولعنة الله على الكذابين- : مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدخان:14].
وقوله: يَوْمَ نَبْطِشُ [الدخان:16] بكسر الطاء على قراءة الجمهور، وبضمها (نبطُش) قراءة أبي جعفر إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:16] يعني: من هؤلاء، فنجازيهم على ما صنعوا، وهذا يكون يوم القيامة، فيعاقبهم الله عز وجل على ما صنعوه، وقد يكون العذاب عاماً على الجميع من عصى ومن لم يعص، ويبعثون على نياتهم، فالله عز وجل قد ينزل العذاب على من يشاء من عباده فيهلك الجميع صغاراً وكباراً، ثم يوم القيامة يبعثهم ليحاسبهم كل على نيته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر