وقوله تبارك وتعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37] يعني: ألهمه الله سبحانه وتعالى كلمات، وفي قراءة أخرى (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) يعني: جاءته كلمات، أما على هذه القراءة (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) يعني: ألهمه الله سبحانه وتعالى إياها.
وقد بين تعالى سورة الأعراف في قوله: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف:23] أنه لما تلقى الكلمات دعا بها.
وقوله: (فتاب عليه) أي: قَبِلَ الله سبحانه وتعالى توبته.
وهل معنى ذلك أن حواء لم تقبل توبتها؟
الجواب: كلا! وإنما لم تذكر حواء في التوبة لأنه لم يجر لها ذكر في سياق هذه الآيات، لا أن توبتها لم تقبل، بل توبتها قبلت.
وقوله: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) يعني: على عباده (الرَّحِيمُ) بهم.
ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:39] (بآياتنا) يعني: كتبنا.
وقوله: (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أي: ماكثون أبداً لا يفنون ولا يخرجون.
قوله: وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41] يعني: من القرآن، مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ[البقرة:41] من التوراة، بموافقته له بالتوحيد، وإثبات النبوة: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ[البقرة:41]، يعني: من أهل الكتاب، فهذه أولية نسبية، وإلا فإن أول من كفر بالكتاب هم كفار قريش، وهذا واضح، لكن المقصود هنا: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ[البقرة:41]، ممن حقهم أن يكونوا أول المؤمنين به؛ لأنهم عندهم خبرة في التوراة من قبل: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ[البقرة:41] كما ذكرنا من أهل الكتاب، فهذه أولية نسبية، بالنسبة لأهل الكتاب كلهم، أي: لا تكونوا أنتم أول كافر به من أهل الكتاب؛ لأن مَنْ خلفكم تبعٌ لكم، فإثمهم عليكم، كل من يأتي بعدكم ويقتدي بكم في هذه السُّنة القبيحة، وهي التكذيب بالنبي عليه الصلاة والسلام، فيبوء بإثمه وإثمكم: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي[البقرة:41] يعني: لا تستبدلوا، استعارة كما يقولون، (بآياتي) يعني: التي في كتابكم، من نعت محمد صلى الله عليه وسلم (ثمناً قليلاً) أي: عوضاً يسيراً من الدنيا، أي: لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من سفلتكم، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ[البقرة:41] أي: خافونِ في ذلك دون غيري.
قوله: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، لا تخلطوا الحق بالباطل، الحق الذي أنزلت عليكم، بالباطل الذي تفترونه وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ[البقرة:42]، عطف يعني: ولا تكتموا الحق، وهو نعت وصفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[البقرة:42]، أي: والحال أنكم تعلمون أنه الحق، الواو هنا (وأنتم تعلمون) واو الحال.
هنا يذكر القاسمي رحمه الله تعالى تنبيهاً يقول: كثيراً ما يستدل مجادلة أهل الكتاب على عدم تحريف كتبهم بهذه الآية وأمثالها، يقول: أنتم ما بين الوقت والآخر -أيها المسلمون- يوجد في كتابكم عبارات أو نصوص أو آيات تؤكد أن التوراة هي كلام الله، وأن التوراة من عند الله كقوله عز وجل: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ[البقرة:89]، وآية: وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ[يونس:37] مع أنه ثبت بالبراهين القاطعة ذهاب قدر كبير من كتبهم، واختلاط حقها بباطلها فيما بقي، كما صنفت في ذلك مصنفات عدة بما يرد استدلالهم بهذه الآية وأمثالها.
يرد استدلالهم بأن معنى كون القرآن مصدقاً لما معهم، لما تحتويه من حقيَّة صدق نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وصحة البشائر عنه؛ لأن التوراة محتشدة بعشرات الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسبق أن تكلمنا فيها من قبل في بحث الإيمان بالرسل، وأدلة صدق النبوة؛ لكن الآن الوقت لا يحتمل التفاصيل، لكن معلوم أن الملائكة منذُ أن أتت بالبشارة إلى إبراهيم وهاجر بشراً أيضاً بخروج هذا النبي من نسل إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ[البقرة:101]، أي: أنه جاء صدق ما عندهم في التوراة والإنجيل، بمعنى: أن أحوالهم جميعاً توافق البشائر.
قوله: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ[البقرة:41]، أي: لا تكونوا أول كافر به من جنسكم أهل الكتاب، بعد سماعكم بمبعثي، فهذه الأولية نسبية، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن، أو هو تعريض بأنهم كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به؛ لمعرفتهم به ولصفته، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحي إليه، وكانوا يستفتحون على الذين كفروا بخروجه صلى الله عليه وسلم يقولون لهم: نحن ننتظر نبياً عندما يبعث ننضم إليه ونهزمكم ونغلبكم، فلما بعث كفروا به عليه الصلاة والسلام، يقول تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ[البقرة:89].
ثم يقول تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[البقرة:42]، هذا تقبيح لحالهم، لأنهم إن كانوا لا يعلمون فربما عُذِر الجاهل، لكن يصبح بمن هو يعلم أن هذا هو الحق، ويعرض عنه، فلذلك وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[البقرة:42]، فإذاً: لا يبقى لكم عذر؛ لأن الجاهل قد يعذر، فماذا عن العالم؟! لا يعذر في جحوده هذا الحق.
ثم قال تبارك وتعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، هذا دليل على أن كل الأنبياء من قبل خوطبوا بالصلاة، ما خلت شريعة من الشرائع من إقامة الصلاة، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ[البقرة:43]، وهنا الأمر متكرر في ظاهره: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ[البقرة:43]، فإذاً دار الأمر أو اللفظ بين التأسيس والتوكيد فيحمل أمره على التأكيد؛ لأن فيه معنىً زائداً.
فإذاً نقول: إن (واركعوا مع الراكعين) ليست تأكيداً لـ(أقيموا الصلاة) وإنما هي أمر زائد على مجرد إقامة الصلاة وهو: أن تكون في جماعة، هذا أمر بصلاة الجماعة، يبقى (وأقيموا الصلاة) تأدية الصلاة، وكما تلاحظون، الأمر بإقامة الصلاة لا يأتي بكلمة (صلوا) ولكن يأتي بـ(أقيموا) يعني: مراعاة حدودها، وآدابها، وخشوعها وحضور القلب فيها، وليس مجرد الصلاة، ودائماً القرآن يمتدح المؤمنين بأنهم يقيمون الصلاة، كما قال تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاة[البقرة:3]، وقال: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ[النساء:162]، وقال: وَأَقَامَ الصَّلاةَ[البقرة:177]، ما ذكر لفظ (صلى) إلا في المنافقين: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ[الماعون:4] * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ[الماعون:5]، إلى آخر الآيات، أما ما جاء في سورة المعارج من قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا[المعارج:19] * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا[المعارج:20] * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا[المعارج:21] * إِلَّا الْمُصَلِّينَ[المعارج:22]، هذه في المؤمنين فما الجواب؟
الجواب: أنه أتبعها بمعاني إقامة الصلاة، فوافقت كل ما ورد في القرآن من التعبير عن ذلك بإقامة الصلاة، فإنه لم يقل: (إلا المصلين) وسكت؛ لكن أتى بمعنى إقامة الصلاة بقوله: إِلَّا الْمُصَلِّينَ[المعارج:22] * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ[المعارج:23]، ثم ذكر جملاً من الصفات وختم بقوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ[المعارج:34]، فأضاف نفس معنى إقامة الصلاة إلى وصف المصلين.
ثم يقول تبارك وتعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ[البقرة:43]، هذا أمر بالصلاة مع المصلين.
يقول الإمام السيوطي هنا: محمد وأصحابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورضي الله تعالى عنهم، ويؤخذ من هذا: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فهنا أمر لهم بصلاة الجماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ونزل في علمائهم، وكانوا يقولون لأقربائهم المسلمين: اثبتوا على دين محمد فإنه دين الحق، كان علماء اليهود يقولون لأقربائهم من المسلمين: اثبتوا على دين محمد صلى الله عليه وسلم فإنه الحق.
ثم يقول تبارك وتعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]، هذا أمر بالاستعانة بالصلاة، غير أن الآيات هنا لم تبين نتائج الاستعانة بالصلاة، لكن بينت آيات أخرى نتائج الاستعانة بالصلاة، مثل قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ[العنكبوت:45]، فمن نتائج الاستعانة بالصلاة: النهي عما لا يليق، ومنها: أنها تجلب الرزق، لقوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[طه:132]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة، فلذلك الصلاة أفضل ما يفزع إليها الإنسان عند الكربات: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[البقرة:45].
يقول: وَاسْتَعِينُوا[البقرة:45] أي: اطلبوا المعونة على أموركم بالصبر، أي: حث النفس على ما تكره، والصلاة: أفردها بالذكر تعظيماً لشأنها، وفي الحديث: كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، وقيل: الخطاب لليهود، لما عاقهم عن الإيمان الشره وحب الرياسة أمروا بالصبر، وهو الصوم؛ لأنه يكسر الشهوة، والصلاة بأنها تورد الخشوع وتنفي الكبر، وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ[البقرة:45] (وإنها) يعني: الصلاة، (لكبيرة) يعني: ثقيلة، إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[البقرة:45] أي: الساكنين إلى الطاعة.
الَّذِينَ يَظُنُّونَ[البقرة:46] يعني: يوقنون، والظن من الأضداد، ما الشاهد من القرآن؟ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ[الحاقة:20]، (إني ظننت) يعني: أيقنت (أني ملاق حسابيه).
ثم قال تبارك وتعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:47] يقول هنا القاضي: محمد بن كنعان في قرة العينين: قوله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ[البقرة:40] قد قصت الآيات من الآية أربعين إلى الآية: (123: من سورة البقرة)، أخبار بني إسرائيل، واليهود منهم خاصة مع موسى عليه السلام، وطرفاً من أخبار النصارى، فالتبس على بعض الناس ما فيها من ثناء على بني إسرائيل، وما في آيات أخرى من ذم اليهود ولعنهم، آيات تمدح اليهود، وآيات تلعنهم وتذمهم، وسبب ذلك عدم التفريق بين بني إسرائيل واليهود، والظن بأنهما شيء واحد، وهذا خطأ واضح؛ لأن القرآن الكريم فرق بينهما، فإذا جمعنا الآيات التي تذكر بني إسرائيل في مقابلة الآيات التي نزلت في اليهود، نرى أن إسرائيل هو لقب نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وأن بني إسرائيل هم أولاده، يوسف وإخوته، وذرياتهم، يعني: يوسف عليه السلام لما انتقل إلى مصر، وكان له مكان من المجد والوزارة والجاه العظيم، واستجلب إخوته ووالديه هنا في مصر، كثروا كثرة عظيمة، فهؤلاء هم بنو إسرائيل، يعني: يوسف وإخوته وذرياتهم، قال تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ[آل عمران:93]، إسرائيل هو يعقوب، وإسرائيل وبنوه كانوا مسلمين، فعندما يذكر الله تبارك وتعالى بني إسرائيل بخبر فالمقصود أولاد يعقوب الصالحون، والطالحون من ذريتهم لا اليهود، أما اليهود فهم الذين عبدوا عجل السامري ثم تابوا، واسمهم هذا مشتق من هادَ بمعنى: تاب ورجع، ولكن توبتهم لم تكن صادقة، قال: (إنا هدنا إليك) يعني: رجعنا وتبنا إليك، ويقول تعالى في أمرهم: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ[البقرة:93]، وهم فئة من بني إسرائيل، وليسوا كل بني إسرائيل، فليس كل إسرائيليٍّ يهودياً، كما أنه ليس كل يهودي إسرائيلياً.
يقول تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ[البقرة:47]، يعني: بالشكر عليها بطاعتي وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ يعني: فضلت آباءكم؛ لأن تفضيل الآباء شرف للأبناء؛ ولذلك مع أنه يخاطب اليهود وبني إسرائيل الذين كانوا موجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ يعني: فضلت آباءكم، عَلَى الْعَالَمِينَ[البقرة:47]، هذا عام يراد به الخاص، ما هو الخاص؟ على عالَمِي زمانهم، فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ[البقرة:47]؛ ولذلك اليهود كثيراً ما يتشدقون بهذه الآيات في المحافل الدولية، حتى كانوا في الأمم المتحدة من قبل يأتون بنصوص من القرآن لتثبت أحقيتهم بفلسطين، وبأن القرآن يمدحهم؛ ولذلك كان بعض العلماء لما كان يتناظر مع واحد من هؤلاء اليهود وأراد أن يلزم العالم المسلم بقوله: أنا أقر بنبوة موسى، وأنت توافقني عليها، وفي نفس الوقت لا أقر بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، يعني: يلزمك أن توافقني أنا ولا أوافقك أنت فأجابه العالم: إن كان موسى الذي بشر بمحمد فهذا الذي أوافقك على نبوته، وإن كان موسى الذي ما بشر به فهذا لا أقرك على نبوته، فالشاهد: أن هذه الآيات أيضاً فيها امتنان على بني إسرائيل: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ يعني: فضلت آباءكم عَلَى الْعَالَمِينَ[البقرة:47] أي: على عالمي زمانهم، وليس على الإطلاق، هذا عام أريد به الخاص؛ لأن الله سبحانه وتعالى فضلهم بأن أنزل عليهم الكتب وجعل فيهم أنبياء، وجعلهم ملوكاً.
قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:48]، (واتقوا يوماً) المقصود: اتقوا عذاب يوم (اتقوا) أي: خافوا عذاب يوم، أو اتقوا يَوْمًا لا تَجْزِي يعني فيه: نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ المقصود هنا: نفس كافرة وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا يعني: لا تجزي نفس كافرة عن نفس شيئاً.
قوله: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ يعني: لا تجزي نفس كافرة عن نفس شيئاً، وهو يوم القيامة، وهنا قراءتان: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [البقرة:48]، أو (لا تقبل منها شفاعة) يعني: لو أن الإمام في الصلاة قال: (ولا يقبل منها شفاعة) لا ترد عليه؛ لأن هذا يدور داخل القراءات المتواترة الثابتة، فلا يرد أحد عليه كما يحصل من بعض الناس الذين لا يعرفون هذه القراءات، وتكون محتملة لقراءة من القراءات، ما ينبغي أن يرد عليه في الصلاة!
قال تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49].
قوله: (وإذ نجيناكم) واذكروا إذ نجيناكم، يعني: آباءكم، نجيناكم أنتم المخاطبون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وآباءكم، والخطاب به وبما بعده للموجودين في زمن نبينا بما أنعم على آبائهم تذكيراً لهم بنعمة الله تعالى ليؤمنوا، وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ[البقرة:49]، نجينا آباءَكم: مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ[البقرة:49]، يذيقونكم سوء العذاب، يعني: أشد العذاب، والجملة حال من ضمير: نجيناكم.
يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ[البقرة:49]، هذا بيان لسوء العذاب، فهو يشرح ما هو سوء العذاب، فأتى بأقسى وأشد مظاهره (يذبحون) بيان لما قبله، (أبناءكم) يعني: المولودين، (ويستحيون نساءكم) يعني: يستبقون نساءكم للإذلال والخدمة، كي يُتَّخذن خادمات فلا يقتلونهن؛ لقول بعض الكهنة لفرعون: يولد في بني إسرائيل مولود يكون سبباً لذهاب ملكه، فكان فرعون يقتل الذكور، ويستحيي النساء، والحقيقة الإمام الزجاج له تعليق طيب جداً على عقلية فرعون.
يقول هنا: فالعجب من حمق فرعون! إن كان الكاهن عنده صادقاً فما ينفع القتل، وإن كان كاذباً فما معنى القتل؟! يعني: فرعون الغبي الأحمق هو الذي يقول في حق موسى عليه الصلاة والسلام: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ[الزخرف:52]، من حمقه أيضاً أنه سمع كلام الكاهن، فإن كانت هذه فعلاً نبوة وخبر صادق من هذا الكاهن، أنه سيولد ولد من بني إسرائيل يكون زوال ملك فرعون على يديه، فماذا فعل فرعون الأحمق؟ قتل الصبيان، الذكور، فإن كان هذا كائناً ولا محال فما فائدة القتل؟ هل سيمنع ما وقع، وما سبق به قضاء الله؟
لا يمنع!
وإن كان الكاهن كاذباً فما معنى القتل؟! فالحالتان تدلان على ضعف عقله تماماً، كما أظلم الله قلبه وأطفأ بصيرته حينما تتبع بجنوده موسى وطارده هو وجنوده، ورأى الآية العظمى من آيات الله سبحانه وتعالى، تخيل أنت أن البحر الأحمر يتحول إلى طرق يابسة، تخيل هذا المنظر!
قال تعالى: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا[الدخان:24]، ما معنى رهواً؟ يعني: ساكناً، يتحول الماء إلى أرض يابسة والناس ينظروا إليها، هذا بقدرة الله سبحانه وتعالى لما فلق موسى عليه السلام البحر بالعصا، انفلق فلقتين، فوقف الماء مثل هذا الجدار، (كالطود العظيم) أي: كالجبل العالي، وسكن الماء، (واترك البحر رهواً) يعني: ساكناً، فجدار من ماء، ممسك بقوة الله وبقدرته سبحانه وتعالى، فإنسان والعياذ بالله عمي قلبه أن يرى هذه الآية، ويرى الماء واقفاً، ويرى فرعون موسى ومن معه من بني إسرائيل ينجون ويمرون، والبحر واقف ولا يلتفت إلى هذه المعجزة القاهرة، وهذه الآية العظيمة، حتى يطمع في مطاردة موسى عليه السلام ويدفعه داخل البحر: (واترك البحر رهواً) يعني: اسلكه ساكناً فإنه سينطبق عليهم حينما يدخلون، وكان ما كان، بعدما كان يقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي[الزخرف:51]، أنزلها الله من فوقه، يعني: كان يسخر بأن مياه الأنهار تجري من تحته، فعاقبه بجنس عمله، فأجرى المياه من فوقه وأغرقه في هذا اليم.
يقول تبارك وتعالى: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ[البقرة:49]، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: فرعون لقب لمن ملك مصر كافراً، كل من يحكم مصر وهو كافر يسمى فرعون؛ فكسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وتبَّع لمن ملك اليمن كاملاً، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وخاقان لملك الترك؛ ولعتو فرعون اشتق منه (تفرعن الرجل) إذا عتا وتمرد، وسبب سومه بني إسرائيل سوء العذاب من تذبيح أبنائهم على ما روي في التوراة خوفه من نموهم وكثرة تواجدهم، وكانت أرض مصرَ امتلأت منهم؛ فإن يوسف عليه السلام لما استقدم أباه وإخوته وأهلهم من أرض كنعان فلسطين إلى مصر، أعطاهم ملكاً في أرض مصر، في أفضل الأرض كما أمره ملك مصر، وكان لهم في مصر مقام عظيم؛ بسبب يوسف عليه السلام، فتكاثروا وتناسلوا، ولما توفي يوسف عليه السلام، والملك الذي اتخذه وزيراً عنده انقطع ذلك الاحترام عن بني إسرائيل، إلى أن قام على مصر أحد ملوكها الفراعنة، فرأى كثرة الإسرائيليين فقال لقومه: أضحى بنو إسرائيل شعباً أكثر منا، فهلم نحتال لهم لئلا ينموا، فيكون إذا حدث حرب أنهم يحاربوننا ويخرجون من أرضنا، فسلط عليهم رؤساء تسخير كي يذلوهم بأثقالهم وكان كلما اشتد تعبدهم ازدادوا كثرة وشدة، فشق على المصريين كثرتهم وخافوا منهم، فجعل أهل مصر يستعبدونهم جوراً، ويمررون عليهم حياتهم بالعمل الشديد بالطين واللبن وكل فلاحة الأرض، وكل الأفعال التي استعبدوهم بها بالمشقة!
وأمر فرعون بذبح أبنائهم كما قص الله تعالى، ولم يزل الأمر من هذه الشدة عليهم حتى نجاهم الله بإرسال موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقوله تبارك وتعالى هنا: وَفِي ذَلِكُمْ أي: في ذلك العذاب أو الإنجاء بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ، كلمة (في ذلك) إشارة إما إلى ذلك العذاب، أو إلى ذلك الإنجاء في قوله: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ .
(بَلاءٌ)، كلمة محتملة معنيين، البلاء إما يأتي بمعنى: النعمة، أو بمعنى: النقمة، فإذا قلنا: (وفي ذلكم) الإنجاء (بلاء) أي: نعمة، وإذا قلنا: (في ذلكم) العذاب، (بلاء) أي: نقمة فبلاء بمعنى: ابتلاء، أو بمعنى: إنعام، حسب ما تترتب عليه الإشارة، تشير إلى الإنجاء أم إلى العذاب.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر