أما بعـد..
فيا عباد الله: اتقوا الله الذي خلقكم ورزقكم وأنعم عليكم، ومن أعظم نعمه سبحانه وتعالى أن عرفَّنا من شرعه ما نعبده به، وعرفَّنا أسباب غضبه فنتقيها لننجو من عذابه.
أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي قال لنا في حديثه، وقد مر بقبرين قال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة).
وعذاب القبر ثابتٌ في هذه الشريعة جاءت به لتحذير المسلمين من أهوال القبر وما فيه من الفتن، وهو مما حذر منه الأنبياء من قبلنا؛ ولذلك جاءت امرأة يهودية إلى عائشة رضي الله عنها فقالت لها: أعاذكِ الله من عذاب القبر. قالت عائشة : فعجبت من قولها! وسألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدَّق ما قالت اليهودية، وأخبر أن الناس يفتنون في قبورهم مثل أو قريباً من فتنة الدجال: و(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف عند قبره واستغفر له، وقال للناس: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل) فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم فتنة القبر، والسؤال الذي يكون فيه، كما أثبت عليه الصلاة والسلام عذاب القبر والنكال الذي يكون فيه.
وأول شيءٍ يحصل في ذلك المقام: الضغطة التي يضغط بها القبر على صاحبه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عند دفن طفلٍ أنه (لو نجا أحد من هذه الضغطة لنجى ذلك الطفل) وعند موت سعد بن معاذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو نجا أحد منها لنجا p=1000017>سعد بن معاذ
) ولكن هذه الضغطة عامة لجميع من يدخل القبر، فإذا كان من أهل الصلاح روخي عنه وانفرج القبر واتسع عليه، وإن كان من أهل الكفر والفجور ازداد عليه ضيقاً حتى تختلف أضلاعه، ثم يكون بعد ذلك السؤال، وبناءً عليه يكون النعيم أو العذاب.لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أسباب عذاب القبر، وذكر منها في هذا الحديث سببين:
الأول: النميمة، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (لا يدخل الجنة نمام)، وفي رواية: (قتات) فالنمام الذي ينقل الكلام بين الناس بقصد الإفساد بينهم، فيسمعهم يتحدثون حديثاً فينم عليهم، وقيل: إن القتات هو الذي يتسمع عليهم دون أن يشعروا ثم ينقل خبرهم. فهذا الذي ينقل للإيقاع والإفساد بين المسلمين يكون متعرضاً مباشرةً لسببٍ من أسباب العذاب في قبره.
وينبغي للإنسان إذا بلغه خبر من نمام أن يرده عليه وأن يعظه وينصحه، وقد قال الحكماء: من نمَّ لك نمَّ عليك.
احفظ إخوانك، وصل أقاربك، وآمنهم من قبول قول ساعٍ أو سماع باغٍ يريد الإفساد بينك وبينهم، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تعبهم ولم يعيبوك، وينبغي على الناس أن يسدوا الطريق على النمامين، فلا يذكروا إخوانهم في المجالس إلا بخير.
إن بعض النمامين يجلسون في المجالس، فيجاملون الذي يتكلم على فلان وعلان ليوهموه أنهم معه، فإذا قاموا نقلوا كلامه للإفساد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن شر الخلق عند الله ذو الوجهين وذو اللسانين) وذو الوجهين هو الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
وكذلك فإننا إذا تأملنا في المجتمع وجدنا أن كثيراً من الحبال قد انقطعت بسبب هذه الفتنة العظيمة.. فتنة النميمة؛ لأن الفسق الذي صار بالنمام والقبول الذي حصل من الآذان لكلام النمام هو الذي أوجب القطيعة، وأوجب العداوة بين كثير من المسلمين.
ولذلك ينبغي التوقف في قبول خبره، والاحتياط والتحرز.
ومن النميمة: إيغار صدور الآباء والأساتذة بما ينقل بعض الأبناء والتلاميذ عن بعض، فيصبح الولد البار والتلميذ الصالح بغيضين ممقوتين، وهما يستحقان من الوالد ومن المعلم الشكر والتقدير.
أما النميمة في البيوت وبين العائلة فحدث عن الابتلاء بها، ولئن كانت الضرة تنم على ضرتها لبعض الغيرة بينهما؛ فإنك تجد في كثير من الأسر النميمة تنقل من أم الزوج إلى ابنها عن زوجته، ومن الزوجة إلى زوجها عن أمه، وكذلك تنقل من الأقارب والأباعد، وكثيراً ما كانت النميمة سبباً للطلاق، وتهديم الأسر وتخريبها؛ فلا تستغرب -يا عبد الله- إذا علمت بعد ذلك أن النميمة سببٌ مباشر من أسباب عذاب القبر، وتنقل زوجة الأب لزوجها عن أبناء ضرتها، أو عن أبناء زوجته المطلقة أو الثالثة ما تنقل، وقد يكون جاهلاً ينخدع، أو مستمالاً إليها فيطيعها.
وكذلك ما يذهب به بعض الناس إلى الكهان، ويسمعون منهم كلاماً في بعض الناس فيصدقونه، فيكون الكاهن قد أضاف إلى جرمه بالشرك نميمة أيضاً.
وكذلك فإن بعض المدراء في الشركات، أو المسئولين في الدوائر لا يكونون حكماء، فيفتحون المجال للموظفين لنقل الأخبار في بعضهم البعض، وربما يريد أن يفرق ليسود، وأن تجتمع عنده الأخبار، زعماً بأنه من طبيعة وظيفته أن يعرف ما يدور، ولكن الشريعة فوق هذه الأمور الإدارية التي يظنها بعض المدراء مصلحة، وإنما المفسدة فيها كل المفسدة، فبعض الموظفين قد فصل أو اضطر إلى مغادرة عمله بسبب نميمة موظفٍ آخر، وكل واحدٍ يريد أن يتزلف إلى المدير بكلامٍ ينقله عن موظفٍ آخر تكلم على هذا المدير أو ذمه أو نحو ذلك، ويظن هذا الموظف النمام أنه يتقرب إلى سيده، وأنه يزداد حظوة عنده، وأنه عينه على بقية الموظفين، وما درى أنه نمام معذبٌ في قبره، وأنه سببٌ لإيذاء الآخرين، فينبغي على الإنسان أن يكف لسانه عن عيب الناس، وينبغي على من سمع العيب ألا ينقله.
ومن الأسباب: البول في مجتمعات الناس، وفي طرقهم العامة، فإن ذلك من أسباب عدم اتقاء النجاسة، وتلويث الثياب بها.
وكذلك فإن بعض الناس ربما لا يهتم بطريقة الغسل لكي تكون منقية، فتختلط الثياب النجسة بغيرها، ولا يكون الغسل مذهباً للنجاسة.
وينبغي أن نعلم أطفالنا التحرز من النجاسات من الصغر، وهذه قضية تنمو مع الولد إلى الكبر، وبعض الآباء والأمهات يهملون تعليم أطفالهم الاستنجاء والاستجمار؛ فينشأ الولد ويترعرع والنجاسة في ثيابه، لا يهتم بغسلها؛ لأنه لم يعود على ذلك، وهذه قضية خطيرة، ربما يشارك الأبوان في وزرها بسبب إهمالهم لتعليم الأطفال.
والجواب: أنه قد ورد في السنة فيما رواه الترمذي -رحمه الله تعالى- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) رواه الترمذي ، وقال: هذا أصح شيءٍ في الباب. ولأنه أستر له -إذا بال قاعداً- وأحفظ له من أن يصيبه شيء من رشاش بوله، ولكن قد ورد في حديثٍ آخر عند البخاري ومسلم عن حذيفة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قومٍ فبال قائماً) والسباطة: موضع الزبالة ورمي القمامة، فكيف نجمع بين هذين الحديثين: أنه لم يبل قائماً، وحديث حذيفة أنه قد بال قائماً؟
الجواب: نقول: إن الأكثر من فعله صلى الله عليه وسلم والأعم الأغلب أنه كان يقضي حاجته قاعداً، ولا شك أن ذلك أمكن وأحسن وأعون على قضاء الحاجة وعلى التطهر منها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بال قائماً مرات قليلة؛ لبيان الجواز، فتكون السنة البول قاعداً، والجواز البول قائماً؛ بشرط أن يكون مستوراً عن الناس، وألا يصيبه رشاش بوله، وألا يرتد عليه، وكثير من الذين يبولون قياماً يحصل من جراء فعلهم رشاشٌ وتلويث لثيابهم، ولذلك إذا كان الإنسان لا يأمن من تلويث ثيابه بالنجاسة إذا بال قائماً فلا يفعل ذلك، أما إذا أمن فإنه يفعل ولا حرج عليه، والشريعة لا تضيق واسعاً، ولله الحمد والمنة.
وقد جاءت الشريعة بالاستجمار أيضاً تخفيفاً ورحمةً -ولو وجد الماء على الصحيح من أقوال العلماء- ثلاث مسحات منقيات بالورق أو الحجر وغير ذلك كافية -ولله الحمد والمنة- إذا لم تتجاوز النجاسة الموضع، فإذا تجاوزت الموضع المعتاد وانتشرت على الجلد، فلابد أن يغسل بقية المكان الذي أصابته النجاسة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من التوابين، وأن يجعلنا من المتطهرين، وأن يخلصنا من الغيبة والنميمة والكذب، إنه أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
أما بعد..
فيا عباد الله: اتقوا الله وخذوا من تجاربكم وتصرم الأيام والأعوام أمامكم عبراً ودروساً، فكم في ممر الأيام والأعوام من عبر! وكم من تصرم الأزمان والأحوال من مدكر! كم في ذلك مما يذكر بأن لكل شيءٍ من المخلوقات نهاية، فجمعتكم هذه هي آخر جمعة في هذا العام الهجري، وبعد أيامٍ قلائل سيطوى سجله، ويختم عمله، ويبقى عامنا شاهدٌ علينا بما أودعناه من خيرٍ أو شر، وإذا كان أهل الأموال يعملون لتصفية حساباتهم والجرد في آخر كل سنة مالية أو تجارية؛ لينظروا الطرق التي استفادوا منها فيكثرون منها، والطرق التي خسروا فيها فيجتنبوها.
فما أحرى بالمسلم أن يقف مع نفسه في مثل هذه المناسبة مذكراً لها ومحاسباً عما حصل منه في العام الماضي!
ليقف كلٌ منا مع نفسه محاسباً لها: ماذا أسلفت فيه من خير؟ وماذا أسلفت فيه من شر؟
وإذا كان خيراً فليزدد، وإن كان شراً فليتب إلى الله عزَّ وجلَّ، وإن كان من حقوق المخلوقين رد المظلمة إلى صاحبها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلل منه قبل ألا يكون درهماً ولا ديناراً) وإنما القصاص بالحسنات والسيئات.
عباد الله: تلك أيامٌ قد خلت، ولكن أحصاها الله عزَّ وجلَّ وأحصى ما عُمل فيها، وسيأتي الناس يوم القيامة عملوا أعمالاً بعضهم نسيها وأحصاها الله عزَّ وجلَّ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6].
وينبغي أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، ونحن اليوم أقدر على الحساب منا عليه غداً، وما ندري ما يأتي به الغد، فليكن ختام العام مناسبة حسابٌ لنا، ووقفة نصحح بها مسارنا، ولحظة صدقٍ مع أنفسنا، نأخذ من يومنا لغدنا، ونستعد لما سيأتي، والمؤمن بين مخافتين: أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليتخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الصحة قبل المرض، ومن الغنى قبل الفقر.. يبادر الأعمال قبل أن تهدم عليه الأعراض فتمنعه من العمل.
أيها الإخوة .. يقول المحللون الاقتصاديون: إن الشهر القادم سيكون شهر التنفيذ الفعلي والتخطيط العملي لإجازات الناس السنوية، وفيه سيحجزون للأسفار، ويقررون ماذا يعملون في الإجازات، ولابد أن تكون هذه المسألة تابعة للمحاسبة التي أسلفنا الكلام عنها قبل قليل، وأن يكون نهاية العام استعداد لطاعة الله عزَّ وجلَّ في العام الذي يليه، وليس استعداداً للمعصية، ويتوقع الفرنسيون أن أربعين ألفاً منا سيذهبون إلى بلاد الكفر لينفقوا الأموال في معصية الله ودعم الكفرة واقتصادهم، وبعض الناس لما ضاقت بهم الأموال شيئاً ما وجاء موسم الحج، قالوا: لا يجتمع عندنا المونديال والحج، فقرروا تأخير الحج، وقالوا: هذا المال المتوفر سنذهب به إلى المونديال، أخروا فريضة الله تعالى لأجل الكرة، وليت شعري ماذا تفعل العوائل والبنات والنساء وربات البيوت بشأن الكرة؟! وإلى أي مذهبٍ سيذهبون؟!
وكذلك -أيها الإخوة- الذين ينوون الذهاب إلى بلاد الكفر لأي غرض غير مشروع، ليس لحاجة شرعية ولا لعذر شرعي ندعوهم لأن يتقوا الله تعالى في أنفسهم، وبعض الذين قرروا الذهاب إلى بلاد الفجور فقد لا تكون كفراً، ولكن فجور متناهٍ في الفجور لا يقل عن فجور الكفرة، فعليهم أن يتقوا الله أيضاً، وأن يجعلوا من تخطيطهم للإجازة ما يرضي الله عزَّ وجلَّ.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأن يجعلنا من القائمين بحقوق أنفسهم وأولادهم على الوجه الذي يرضيه عنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم اجعل بأس أعداء الدين بينهم، واجعل تخطيطهم تدميراً عليهم.
اللهم إنا نسألك الأمن لهذه البلاد، وسائر بلاد المسلمين يا رب العباد، اللهم إنا نسألك الأمن يوم الفزع الأكبر، اللهم إنا نسألك أن تبيض وجوهنا وتثقل موازيننا يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر