إسلام ويب

شرح سنن أبي داود [598]للشيخ : عبد المحسن العباد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله تعالى هو المتصرف في الكون، فما من صغيرة ولا كبيرة تحصل فيه إلا وهي بعلمه سبحانه وإذنه؛ لذا كان من الخطأ أن يسب الدهر (الليل والنهار) فما هما إلا مصرّفان يقلبهما الله تعالى كيف يشاء، وليس لهما من الأمر شيء حتى يسبا، وساب ذلك في الحقيقة هو ساب لله تعالى؛ لأن المؤثر والمتصرف في ذلك هو سبحانه.

    1.   

    ما جاء في الرجل يسب الدهر

    شرح حديث (يقول الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في الرجل يسب الدهر.

    حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان وابن السرح قالا: حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار).

    قال ابن السرح : عن ابن المسيب مكان سعيد ، والله أعلم ].

    قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [ باب في الرجل يسب الدهر ].

    وهذا الباب هو آخر باب في كتاب سنن أبي داود ، وهو مشتمل على هذا الحديث، وهو آخر حديث في سنن أبي داود .

    خطاب الشرع للرجال خطاب للنساء في عموم النص

    التعبير بالرجل في النصوص ليس له مفهوم؛ لأن الأصل أن الرجال والنساء لا فرق بينهم في الأحكام، ولا يميز بين الرجال والنساء ولا يفرق بينهم إلا بدليل، فالدليل الذي يميز أن الرجال لهم حكم كذا والنساء لهن حكم كذا، وأما الأمور التي لا تميز فيها بين ما يخص الرجال وما يخص النساء فإنها مشتركة بين النساء والرجال، وعلى هذا فقول أبي داود هنا هو نظير ما تقدم كثيراً أن الغالب أن الخطاب والكلام يكون مع الرجال، وكذلك المرأة قد تسب الدهر فلا فرق بين الرجل والمرأة، وإنما ذكر الرجال لأنهم الذين يكون معهم الخطاب غالباً، وقد جاءت كثير من الأحاديث والخطاب فيها للرجال وهذا لا يخص الرجال، وإنما هو مشترك بين النساء والرجال، لكن لمقتضى الحال، مثل قوله: (لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين، إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه) وكذلك المرأة، وقوله: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من الغرماء)، وكذلك المرأة إذا كانت مفلسة والمبيع عندها، فالحكم يشمل الرجال والنساء إلا إذا وجد التفريق بينهما كما جاء في حديث (الغسل من بول الجارية والنضح من بول الغلام)، وحديث: (الوقوف عند رأس الرجل ووسط المرأة في صلاة الجنازة)، وكذلك الأمور الخمسة التي تكون النساء فيها على النصف من الرجال، وهي: الميراث، والدية، والعقيقة، والعتق، والشهادة، فهذه أمور خمسة جاءت الشريعة بالتفريق والتمييز بين الرجال والنساء، وأن النساء على النصف من الرجال.

    خصائص الحديث القدسي

    أورد أبو داود حديث أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر)، وهذا حديث قدسي، والحديث القدسي هو الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مضيفاً إياه إلى ربه، وذلك بأن تكون الضمائر فيه لله عز وجل وليست للرسول صلى الله عليه وسلم.

    فقوله: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر) ضمير المتكلم هو لله عز وجل، وهو مثل قوله: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي) فالذي يقول: يا عبادي! هو الله عز وجل، ولا يصح أن يقول ذلك إلا هو سبحانه وتعالى، فالضمائر فيه تعود لله عز وجل، وهو مثل قوله: (الصوم لي وأنا أجزي به)، فكل تلك الضمائر ترجع إلى الله عز وجل.

    والحديث القدسي له صيغتان: الأولى: قال الله عز وجل، أو يقول الله عز وجل، والثانية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه.

    والحديث النبوي غير الحديث القدسي، فالقدسي معناه من الله وكلامه من الرسول صلى الله عليه وسلم، والشريعة كلها من الله، إلا أن القرآن متعبد بتلاوته والعمل به، وأما السنة فمتعبد بالعمل بها.

    والحديث القدسي من كلام الله سبحانه وتعالى، كما هو موجود في الضمائر، (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي) ولا أحد يقول: يا عبادي! إلا الله سبحانه وتعالى، فحتى الرسول لا يقول: يا عبادي! وإنما يحكي كلام الله عز وجل.

    وهل اللفظ من الله عز وجل كما أن المعنى منه؟ إن لم تكن هناك رواية بالمعنى، وكان اللفظ لم يأت بعدة صيغ، فهذا الكلام مضاف إلى الله سبحانه وتعالى، لكن إذا دخلت الرواية بالمعنى فعندها لا يقال: إن اللفظ من الله عز وجل، لكن الكلام مضاف إلى الله عز وجل؛ لأن الضمائر إنما هي له، والمتكلم هو، لكن هل هذا الكلام نفسه كلام الله؟ لو لم تدخل الرواية بالمعنى يصير اللفظ والمعنى من الله عز وجل، وإن دخلت الرواية بالمعنى فإن اللفظ لا يقال: إنه من الله، فقد عبر الراوي بالمعنى الذي فهمه عندما لم يتمكن من ضبط اللفظ.

    فهذا هو معنى الحديث القدسي.

    معنى قوله (يؤذيني ابن آدم)

    قول الله عز وجل في هذا الحديث: (يؤذيني ابن آدم) ابن آدم هنا عام مراد به الخصوص، ولا يقال: إن كل بني آدم يصدر منهم هذا الإيذاء، وإنما يحصل هذا من البعض، فهو عام يراد به خصوص بعض بني آدم الذين يضيفون الأمور إلى الدهر ويسبون الدهر، فهذا إيذاء لله عز وجل.

    والإيذاء يحصل من العبد بأن يفعل ما لا يسوغ كمحرم، فإن هذا يقال له: إيذاء لله عز وجل، وهو سبحانه لا تضره معاصي العاصين، ولا تنفعه طاعات المطيعين، بل هو سبحانه وتعالى النافع الضار، ولكن كونه يحصل ما يسخطه ويغضبه فإن هذا يقع من العبد، لكن الله جل وعلا لا يتضرر بهذا الإيذاء الذي صدر من العبد، فهو لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة المطيعين، ولهذا ينسب إلى العبد فيقال: إنه آذى الله أو يؤذي الله، ولكن لا يقال: إن الإنسان أضر الله عز وجل أو نفع الله، فلا يضاف النفع أو الضر إلى العباد، ولكن جاء في القرآن وفي السنة ذكر الإيذاء، وأنه يصدر منهم الإيذاء لله عز وجل، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، وقد فسر معنى ذلك بأنهم يحصل منهم الأذى بارتكابهم المعاصي وتركهم الأوامر، فهذا هو الإيذاء، لكن لا تضره هذه المعصية كما أن الطاعة لا تنفعه، وإنما تضر المعاصي أصحابها، وتنفع الطاعات أصحابها، والله عز وجل لا يصل إليه ضر ولا نفع، فلا تنفعه طاعة المطيعين، ولا تضره معاصي العاصين سبحانه وتعالى، بل هو النافع الضار.

    معنى قوله (يسب الدهر)

    قوله: (يسب الدهر وأنا الدهر) الدهر هو: الزمان (الليل والنهار)، ولهذا جاءت السنة بعدم جواز صيام الدهر، والنهي عن صيامه أي: صيام السنة باستمرار.

    إذاً: هو أن يسب الإنسان الدهر ويضيف الأمور إليه فيقول قائلهم: يا خيبة الدهر، أو يقول: عضنا الدهر بنابه، أو يقول: عادت علينا عوائد الدهر، أو غير ذلك من العبارات التي يضيفونها إلى الدهر، مع أن الدهر -وهو الزمان- ليس متصرفاً ولا فاعلاً، بل الفاعل والمتصرف هو الله عز وجل، فهو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأما الدهر فهو زمان، ولهذا جاء بعد ذكر الدهر (أقلب الليل والنهار)، فإذاً الدهر هو الليل والنهار وهو المقلَّب، ومعلوم أن من سب المقلَّب فإنما ترجع مسبته إلى المقلِّب وهو الله سبحانه وتعالى.

    مثلاً: لو أن إنساناً سب جداراً فإن الجدار لم يبن نفسه، وإنما بناه إنسان، فترجع المسبة للباني الذي بناه، فكذلك إذا سب الدهر والدهر زمان ليس فاعلاً ولا متصرفاً، ترجع مسبة الساب إلى الله عز وجل، ولهذا قول الله عز وجل: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر) يعني: من سب الدهر فقد سبني؛ لأن الدهر ليس فاعلاً.

    وقوله: (أنا الدهر) ليس معناه أن الله عز وجل يقال له الدهر، أو أن من أسمائه الدهر، فهذا غير صحيح، وإنما أسماء الله عز وجل كلها مشتقة، وليس فيها اسم جامد، وهذا اسم جامد، فأسماء الله مشتقة تدل على معان بألفاظها، مثلاً: الرحمن يدل على الرحمة، والعزيز يدل على العزة، والحكيم يدل على الحكمة، واللطيف يدل على اللطف، والسميع يدل على السمع، والبصير يدل على البصر.. وهكذا أسماء الله عز وجل يشتق منها صفات، وتدل على معاني في الصفات، وأما الدهر فهو اسم جامد، فليس من أسماء الله، وقد قيل: إن ابن حزم قال: إنه من أسماء الله بدليل هذا الحديث، ولكن هذا الاستدلال غير صحيح كما ذكر ذلك العلماء، وقالوا: إن الدهر ليس من أسماء الله، وإنما قوله: (أنا الدهر) يعني: من سب الدهر فقد سبني، ومن سب المقلَّب فقد رجعت مسبته إلى المقلِّب، ومن سب البناء رجعت مسبته إلى الباني؛ لأن الجدار لم يبن نفسه، وإنما الذي بناه إنسان، وهذا الإنسان هو الذي يصل إليه سب من سب الجدار، فمن سب الزمان -والزمان ليس فاعلاً ولا متصرفاً- فمسبته ترجع إلى الله عز وجل؛ لأن الله عز وجل هو الذي يقلب الليل والنهار، ولهذا قال: (بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)، فكل شيء بيد الله عز وجل، وكل شيء بقضاء الله وقدره، وكل شيء تحت تصرفه سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

    وقوله: (أقلب الليل والنهار) يوضح معنى كون الله عز وجل هو المقلب للدهر، والدهر هو الزمان، ولهذا قال: (أقلب الليل والنهار) أي: الدهر، فمن سبه فقد سب الله عز وجل، ومن حصل منه الذم له رجع ذلك الذم وذلك السب إلى الله سبحانه وتعالى.

    معاني أسماء النبي صلى الله عليه وسلم

    كما أن أسماء الله مشتقة ليس فيها اسم جامد كذلك أسماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مشتقة ليس فيها اسم جامد، فمحمد وأحمد كلاهما يدل على معاني الحمد، وأما ما يذكر أن من أسمائه (يس وطه) فهذا غير صحيح؛ لأن هذه حروف مقطعة في أوائل السور، وقد جاء بعدها الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام، لذا فإن وبعض الناس قد يظن أنها من أسماء للرسول صلى الله عليه وسلم، وليس الأمر كذلك، بل (يس وطه) حرفان من الحروف المقطعة، فقد جاءتا في أول هاتين السورتين كما جاءت حروف مقطعة في سور أخرى أحادية وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية، وطه ويس هي مما جاء على حرفين، وقد جاء في طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2]، وربما بعض الناس لما رأى أن الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم بعد (طه) ظن أن (طه) اسم للنبي صلى الله عليه وسلم، طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ يعني: يا طه ما أنزلنا عليك، وهذا غلط ليس بصحيح، وكذلك (يس) ليس بصحيح، وإنما هي حروف مقطعة، وقد جاء أيضاً خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد حروف أخرى مقطعة مثل: المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ [الأعراف:1-2]، وكذلك إبراهيم: الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [إبراهيم:1]، ففيه خطاب للمسلمين بعد: (الر)، وخطاب بعد المص .

    إذاً: فأسماء الله عز وجل كلها مشتقة وليس فيها اسم جامد، والدهر ليس منها، وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم مشتقة وليس فيها اسم جامد، وما جاء من ذكر (طه ويس) فليس من أسمائه وإنما هي حروف مقطعة في أوائل السورة.

    وبالانتهاء من الكلام على هذا الحديث نكون قد انتهينا من شرح هذا الكتاب العظيم الذي هو أحد كتب السنة المشهورة، وأحد الكتب الستة المعروفة، وهي: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وجامع الترمذي، وسنن ابن ماجة، فهذه كتب اشتهرت بأنها الأمهات والأصول؛ وذلك لأنها جمعت من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير، واختصت بالتأليف فيما يتعلق برجالها ومتونها وأطرافها، وذلك لاشتمالها على الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، اللهم إنا نحمدك ونشكرك على ما وفقتنا لإتمام شرح هذا الكتاب العظيم في مسجد رسولك الكريم صلى الله عليه وسلم، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل ما علمنا حجة لنا لا علينا، وأن يوفقنا جميعاً لتحصيل العلم النافع، والعمل به، إنه سبحانه وتعالى جواد كريم.

    تراجم رجال إسناد حديث (يقول الله عز وجل يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر...)

    قوله: [ حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان ].

    محمد بن الصباح بن سفيان صدوق أخرج له أبو داود وابن ماجة .

    [ وابن السرح ].

    هو أحمد بن عمرو بن السرح ، ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

    [ قالا: حدثنا سفيان ].

    هو ابن عيينة ، وهو مهمل، وإذا جاء سفيان يروي عن الزهري فالمراد به ابن عيينة؛ لأن سفيان ليس معروفاً بالرواية عن الزهري بحيث يأتي مهملاً، فإذا روى عن الزهري فالمراد به ابن عيينة ، وسفيان بن عيينة المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [ عن الزهري ].

    هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [ عن سعيد ].

    سعيد بن المسيب ثقة أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

    [ عن أبي هريرة ].

    أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.

    وقد جاء في أحد الطريقين ذكر سعيد باسمه فقط، وجاء في الطريقة الثانية عن الشيخ الثاني ابن المسيب بدل سعيد ، أي: أن أحد الشيخين جاء في الإسناد عنده سعيد ، وجاء في إسناد الثاني ابن المسيب .

    [ قال ابن السرح : عن ابن المسيب مكان سعيد . ]

    يعني: أن أبا داود ساق الحديث على رواية ابن الصباح، ولهذا لما ساقه قال: سعيد ، ثم نبه على أن ابن السرح قال: ابن المسيب بدل سعيد .

    وهذا من أمثلة دقة العلماء في المحافظة على الألفاظ التي يأتي بها الرواة، وأنهم يأتون بها كما جاءت ولا يزيدون ولا ينقصون، ولو حصلت زيادة من أجل التنبيه والتوضيح لما قد يكون مهملاً فإنهم يأتون بكلمة تبين ذلك مثل: يعني ابن فلان، أو هو ابن فلان، وإلا فإنهم يحافظون على الألفاظ.

    ولهذا أبو داود رحمه الله في هذا الإسناد ساقه على لفظ ابن الصباح وقال: سعيد، وأشار إلى لفظ الشيخ الثاني وهو ابن السرح فقال: قال ابن السرح : ابن المسيب بدل سعيد .

    1.   

    فوائد متفرقة في شرح سنن أبي داود

    فوائد من دروس الشيخ العلامة عبد المحسن بن حمد العباد البدر حفظه الله تعالى ومتع المسلمين به وبأمثاله في سنن أبي داود السجستاني رحمه الله تعالى، جمع وترتيب محمد محمدي بن محمد جميل النورستاني .

    فوائد متفرقة في الرواة

    فائدة: أبو عبيد القاسم بن سلام ثقة إمام، ومع ذلك لم يخرج له الشيخان، مما يدل على أنهما لم يرويا لكل ثقة، كما أن الشيخين لم يلتزما بإخراج جميع الأحاديث الصحيحة في صحيحيهما، وعلى هذا فلم يستوعبا جميع الأحاديث الصحيحة، ومن أوضح الأدلة على ذلك صحيفة همام بن منبه ، فقد اتفق الشيخان على إخراج أحاديث منها، وانفرد البخاري منها بأحاديث، وانفرد مسلم منها بأحاديث أخر، وتركا معاً إخراج ما بقي منها، فلا يستدرك عليهما عدم إخراجهما كثيراً من الأحاديث الصحيحة، ولا عدم روايتهما لكثير من الثقات.

    فهذه الفائدة تتعلق بكون الشيخين لم يخرجا لكل ثقة، ولا كل حديث صحيح، بل رويا أحاديث صحيحة كثيرة، ورويا عن ثقات كثيرين، ولم يخرجا لكل ثقة، ولم يخرجا كل حديث صحيح، ولا يعني ذلك أن الشيخين إذا لم يخرجا الحديث فإنه يكون فيه كلام، ولا أن الراوي يكون فيه كلام؛ لأنهما لم يلتزما أن يخرجا لكل ثقة، ولا أن يخرجا كل حديث صحيح، ومن أوضح الأدلة على هذا فيما يتعلق بالثقات: أبو عبيد القاسم بن سلام، وهو رجل عظيم ومن كبير المحدثين، وليس له رواية عند البخاري ومسلم ؛ لأنهما لم يلتزما أن يخرجا لكل ثقة، كما أن هناك أحاديث صحيحة كثيرة جداً لا توجد في الصحيحين، ولا يقدح فيها لكونها غير موجودة في الصحيحين؛ لأن الإمامين البخاري ومسلم ما التزما أن يخرجا كل حديث صحيح، ومن أوضح الأدلة على هذا صحيفة همام بن منبه فهي تشتمل على مائة وأربعين حديثاً تقريباً، وهي بإسناد واحد، وقد أوردها الإمام أحمد رحمه الله في مسنده بكاملها في مسند أبي هريرة ، وبين كل حديث وحديث يقول: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها هكذا مائة وأربعين مرة، لكي تفصل بين حديث وحديث وهي بإسناد واحد.

    و البخاري رحمه الله من طريقته أنه ينتقي الحديث الذي يريده ثم يأتي بالإسناد الأول، ويركب الحديث على ذلك الإسناد، وأبو داود كذلك أيضاً، وأما مسلم رحمه الله فإنه يسوق الإسناد حتى نهايته ثم يقول: وذكر أحاديث عن أبي هريرة ، قال: هذا ما حدثنا به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: وذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فيكون معنى ذلك أن الحديث الذي أتى به ليس هو الذي يلي الإسناد، وهذا من تفنن الإمام مسلم رحمه الله وعنايته في المحافظة على الألفاظ، ولهذا يقول الحافظ ابن حجر في ترجمة الإمام مسلم في تهذيب التهذيب: وقد حصل له حظ عظيم مفرط، وهي محافظته على الألفاظ وسياقها، وحسن ترتبيها، وعدم الرواية بالمعنى، وأثنى عليه وذكر جملة محاسن صحيح الإمام مسلم ، وهذا من دقته ألا يأتي بالمتن المتأخر ويجعله تالياً للإسناد الذي سيقت به الصحيفة كلها، وإنما إذا جاء إلى نهايتها قال: فذكر أحاديث منها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.

    إذاً: فهذه من الفوائد التي تتعلق بالصحيحين وتتعلق بالرواية عن الثقات، وبتخريج الأحاديث الصحيحة، وأن الشيخين لم يخرجا كل حديث صحيح، ولم يخرجا لكل ثقة.

    فائدة: أبو بكر بن أبي شيبة أكثر عنه الإمام مسلم ، وهو الأول من حيث كثرة الرواية عن شيوخه، فقد روى عنه ألف وخمسمائة حديث، ويليه في الترتيب من حيث كثرة رواية الإمام مسلم : عنهم زهير بن حرب أبو خثيمة، فقد روى عنه مسلم ألف ومائتي حديث.

    وهذا مما يتعلق بشيوخ مسلم ، أن مسلماً رحمه الله روى عن أبي بكر بن أبي شيبة أكثر من ألف وخمسمائة حديث وهو أكثر الشيوخ الذين روى عنهم، وهناك عدد من الرواة أكثر عنهم الإمام مسلم ، وقد ذكرتهم في مقدمة كتاب عشرون حديثاً من صحيح مسلم ، وذكرتهم بالترتيب على حسب الكثرة.

    ومما ينبغي أن يعلم: أن الحافظ ابن حجر في كتابه تهذيب التهذيب ينقل من كتاباً يقال له الزهرة عدد الأحاديث التي رواها البخاري ومسلم واتفقا عليها أو انفرد أحدهما بها، فعندما يترجم لكثير من شيوخ الشيخين يقول: روى عنه البخاري ومسلم كذا حديث، اتفقا على كذا، وانفرد البخاري بكذا، ومسلم بكذا، وهذا يأتي غالباً في آخر ترجمة الراوي من تهذيب التهذيب، وقد أشرت إلى هذه الفائدة المتعلقة بكتاب الزهرة في كتاب الفوائد المنتقاة، وهي آخر فائدة في كتاب الفوائد المنتقاة برقم ستمائة وخمسة وخمسين.

    فائدة: حكم الإمام النسائي على عبد الرحمن بن يزيد بن تميم بأنه متروك، ومع ذلك روى له في سننه، واستغربه منه الإمام الذهبي في الميزان في ترجمة عبد الرحمن المذكور، والفائدة مذكورة في الفوائد المنتقاة من فتح الباري وكتب أخرى.

    فهذه فائدة تتعلق بسنن النسائي ، فقد روى عن شخص قال عنه: متروك، وهذا عجيب أن يروي عن متروك!!

    فائدة: ليس في الكتب الستة سليم بفتح السين إلا سليم بن حيان وما سواه سُليم بضم السين، وهو كثير، وهو الجادة كما يقال.

    فائدة: مالك مقدم على سفيان بن عيينة في الحفظ، وطريقة التعرف على ذلك بين الحفاظ عد الأغلاط.

    وينبغي التحقق من ذلك من كتاب الحازمي؛ فهو الذي ذكر هذا في شروط الأئمة الخمسة، وذكر أن طريقة المحدثين في معرفة الأوثق، وأنهم إذا أرادوا أن يميزوا بين شخصين كل منهما في غاية الثقة: فإنهم يحسبون أغلاط هذا وأغلاط هذا، والأغلاط هنا قليلة، لكن من كان غطه أقل جعلوه مقدماً، وجعلوه أوثق من الثاني، وكل منهما في غاية الثقة، وأنا الآن لا أتذكر بالضبط هل هو سفيان بن عيينة أو سفيان الثوري لكن يرجع إلى كتاب شروط الأئمة الخمسة للحازمي .

    وبالمناسبة فالإمام الحازمي هذا هو صاحب كتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، وقد توفي وعمره خمسة وثلاثون عاماً، وقد ذكره الذهبي في كتابه من يعتمد قوله في الجرح والتعديل وقال: مات شاباً طرياً، عمره خمس وثلاثون سنة، وهذا يبين لنا أن من العلماء من كان سنه صغيراً ولم يعمر طويلاً، ومع ذلك نفع الله تعالى به، وخلف من العلم والتأليف ما نفع الله تعالى به، ومن أمثلة ذلك في هذا الزمان: الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله فقد مات وعمره خمس وثلاثون سنة، ومع ذلك ألف كثيراً في العقيدة المص لح والحديث والفقه شعراً ونثراً، فله مؤلفات كثيرة منها المنظوم والمنثور، وكتاباته قيمة ومفيدة، وشعره جيد، ومثل ذلك النووي، فقد مات وعمره خمس وأربعون سنة، ومع ذلك له مؤلفات كثيرة ضخمة منها كتاب المجموع، وهو أوسع كتب الفقه التي تعنى بفقه الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، وكذا المغني لـابن قدامة ، فهذان كتابان واسعان عظيمان في الفقه.

    وكذلك الاستذكار لـابن عبد البر فهو من أحسن الكتب ولكنه دونهما، وقد سبق لي أن سألت شيخنا الشيخ الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه، وكان يذكر هذين الكتابين وسعتهما، فقلت له: ما هو الكتاب الذي يماثلهما من كتب المالكية؟ قال: لا أعرف إلا كتاب الاستذكار، فيمكن أن يكون أحسن شيء فيما يتعلق بهذا الموضوع.

    فائدة: يرى المنذري أن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد رد عليه ابن القيم رحمه الله تعالى عند الحديث رقم خمسة آلاف وثلاثة عشر.

    وهذا مر بنا قريباً في تهذيب السنن لـابن القيم، والحقيقة أن تهذيب السنن لـابن القيم كتاب نفيس يشتمل على درر وفوائد، ومع ذلك لم يوجد من يخدم هذا الكتاب ويعتنى به؛ لكي يبرز ويستفاد منه الفائدة الكبيرة، ولكن لو أبرز وخدم خدمة تناسبه فإنه مشتمل على علم وفوائد جمة، وبعض الأحاديث يصلح أن تكون جزءاً؛ لأنه يتوسع ويستطرد فيها ويجعل البحث فيها مستفيضاً، ولا يستغني عن الرجوع إليها طالب العلم، ولكنه لا يهتدى إليها، ولا يتفطن لها، وسبق أني عرضت هذا على كثير من طلبة العلم أن يعنوا به، وبإخراجه وبتحقيقه وبإبرازه، ولكني ما رأيت حتى الآن من اعتني به، وهو كتاب نفيس، وفيه درر وفوائد، ومنها هذه الفائدة التي مرت بنا قريباً.

    فائدة: من كبار مشايخ أبي داود : أحمد بن منيع، فهذا من كبار مشايخه الذين روى عنهم في أواخر حياتهم، وهو في أول عمره، أي: أنه أدركهم وهم كبار وهو في صغره، فهو من كبار شيوخه، وأما صغار الشيوخ فهم الذين أدرك مدة طويلة من حياتهم مثل ما مر بنا في شيوخ البخاري، فثلاثة من شيوخ البخاري هم من صغار شيوخه، وماتوا في سنة واحدة، وقد ماتوا قبله بأربع سنوات، وهم: محمد بن بشار الملقب بندار ، ومحمد بن المثنى الملقب بـالزمن ، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، فهؤلاء ثلاثة هم من صغار شيوخ البخاري، وقد ماتوا قبله بأربع سنوات، فهو توفي في سنة ست وخمسين ومائتين، وأما هؤلاء الثلاثة فقد ماتوا سنة مائتين واثنين وخمسين، وهؤلاء الثلاثة أيضاً هم شيوخ لأصحاب الكتب الستة.

    فائدة: من منهج الإمام البخاري رحمه الله تعالى أنه يسوق لفظ الأخير إذا روى عن شيخين، ولا يبين ذلك، فقد ذكر ذلك الحافظ ابن حجر ، وأفاد أنه علم ذلك بالاستقراء، وأما منهج الإمام أبي داود فيختلف، فأحياناً يسوق اللفظ للأول، وأحياناً للثاني، وأما الإمام مسلم فيبين ذلك.

    فإذا روى الإمام أبو داود رحمه الله عن شيخين فإنه ليس له طريقة ثابتة، بمعنى: أن اللفظ قد يكون للأول وأحياناً يكون للثاني، مثل حديث: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر) فقد ساقه على لفظ شيخه الأول وهو ابن الصباح، فإنه لما ذكر الزهري عن سعيد ، أشار بعد ذلك إلى أن شيخه الثاني أحمد بن السرح قال: ابن المسيب بدل سعيد ، فساقه على لفظ الشيخ الأول، وأشار إلى لفظ الشيخ الثاني، وفي بعض الأحاديث يأتي به على لفظ الشيخ الثاني، ويشير بعد ذلك إلى لفظ الشيخ الأول، فليست له طريقة ثابتة، وأما الإمام البخاري فقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري -وعلم ذلك بالاستقراء والتتبع- أن اللفظ يكون للثاني من الشيخين، فـ البخاري يذكر الأحاديث في عدة مواضع، فهو يأتي به في مكان آخر باللفظ الأول، وهو يختلف عن اللفظ الذي جاء به في الموضع الذي ذكر فيه الشيخين؛ لأنه يسوقه بلفظ الأول، ويختلف عن اللفظ الذي ساقه وذكر فيه الاثنين، يقول الحافظ ابن حجر بأنه عرف بالاستقراء من صنيع البخاري أنه إذا روى عن شيخين فاللفظ للثاني منهما، لأنه البخاري عندما يأتي به في موضع آخر ليستدل به على مسألة أخرى فإنه يسوقه بلفظ الشيخ الأول، ويكون مخالفاً لهذا اللفظ الذي ساقه عن الشيخين ولم يميز.

    فائدة: ويذكر من له اللفظ عقب سياق الإسناد مباشرة أحياناً كما في حديث تسعمائة وأربعة وتسعين، ويذكر ذلك بعد سياق المتن أحياناً كما في حديث تسعمائة وستة وتسعين، وألف وتسعة وعشرين، وثلاثة آلاف ومائتين وثلاثة عشر.

    فهو أحياناً يذكره قبل المتن، وأحياناً يذكره بعد المتن، وأحياناً يقول اللفظ لفلان، واللفظ لفلان، ويأتي به بعد المتن، وأحياناً يأتي به قبل المتن، وأحياناً يأتي به في الأول: حدثنا فلان وفلان، واللفظ لفلان.

    فائدة: يطلق المنكر على الشاذ وعلى ما تفرد به الضعيف، فالشاذ مثل حديث رقم سبعمائة وخمسة وثمانين، وعلى ما تفرد به الضعيف مثل حديث رقم مائتين وثمانية وأربعين.

    وكلمة المنكر المعروف أنها في اصطلاح العلماء: ما يرويه الضعيف مخالفاً به الثقة، وأما ما يرويه الثقة مخالفاً للثقات فيقال له: شاذ.

    ويطلق المنكر على الشاذ، والشاذ هو الذي خالف فيه الثقة الثقات، ومعلوم أن العبرة بالمحفوظ الذي رواه الثقات، وليس الذي رواه الثقة، أو رواه الأوثق مخالفاً من هو دونه، فالأوثق يقال له: المحفوظ، وهذا يقال له: الشاذ، والشاذ مردود -كما أن الضعيف مردود- وإن كان إسناده صحيحاً؛ وذلك لأنه حصل فيه غلط، وهذا مثل الحديث الذي فيه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف في كل ركعة ركوعين)، فهذا رواه عدد من الثقات، وروى بعض الثقات أن كل ركعة فيها ثلاث ركوعات، وهي كلها تتحدث عن صلاة واحدة، وهي يوم مات ابنه إبراهيم ، فلا يمكن الجمع بينهما، فإذاً هذا إسناد صحيح ولكنه شاذ، ومعلوم أن الصحيح: ما روي بنقل عدل تام الضبط متصل الإسناد غير معلل للشك، وقد يكون الإسناد متصلاً، والرجال كلهم ثقات، ولكن يكون شاذاً، وإن كان الإسناد ظاهره الصحة، وذلك لمخالفة الثقة من هو أوثق منه، فإذاً حديث ثلاث ركوعات في ركعة واحدة شاذ غير صحيح، والمحفوظ هو ركوعان في ركعة واحدة.

    فائدة: يجمل أبو داود الإشارة إلى بعض الرواة في بعض المواضع، ويعينهم في مواضع أخرى: مثل الحديث رقم أربعمائة واثنين وستين حيث قال: وقال غير عبد الوارث قال عمر وهو أصح، وقد عين هذا الغير عقب حديث خمسمائة وواحد وسبعين وهو إسماعيل بن إبراهيم بن علية.

    ومعنى ذلك أنه أحياناً يجمل ثم يبين ذلك في موضع آخر.

    فائدة: يقدم أبو داود الأحاديث الناسخة على المنسوخة، انظر الحديث رقم مائة وسبعة وثمانين، وما بعدها، وحديث ثمانمائة وسبعة وستين.

    فعندما تأتي أحاديث ناسخة ومنسوخة فإنه يبدأ بالناسخة ثم يأتي بالمنسوخة، وهذا على عكس طريقة الإمام مسلم ، فإنه يأتي بالمنسوخ ثم يأتي بالناسخ، كما جاء في أحاديث الوضوء مما مست النار والوضوء من لحم الإبل، فإنه أتى بالأحاديث التي فيها عدم الوضوء مما مست النار، ثم أتى بعد ذلك بالأحاديث التي فيها ترك الوضوء مما مست النار.

    فائدة: من منهج الإمام مسلم رحمه الله تعالى أنه كثيراً ما يميز بين حدثنا وأخبرنا، فيقول مثلاً: حدثنا فلان وفلان، قال الأول: حدثنا، وقال الثاني: أخبرنا، وكذلك الإمام أبو داود يرى التفريق بينهما، ومما رصدت من صنيعه في ذلك حديث ثلاثة آلاف ومائة وخمسة وثلاثين، حيث إنه فرق بين شيخيه اللذين يرويان عن ابن وهب؛ لكي يوضح صيغة تحديثهما، وإلا لجمع بينهما كعادته، ومثل ذلك حديث ثلاثة آلاف وستمائة وواحد وخمسين.

    ويتضح ذلك جلياً لمن يقرأ في صحيح الإمام مسلم حيث يقول: حدثنا فلان فلان، فلان قال: حدثنا، وقال فلان: أخبرنا، وهذا هو المعنى الذي ذكره الحافظ ابن حجر والذي ذكرته عنه آنفاً، والذي قال عنه بأنه حصل له حظ عظيم مفرط ما حصل لأحد مثله، وأن جماعة من النيسابوريين ألفوا فما بلغوا شأوه، وما عملوا كما عمله، ويعني كثير في صنيعه رحمة الله عليه، فإنه كثيراً ما يقول: حدثنا فلان وفلان واللفظ له، وحدثنا فلان وفلان، قال فلان: حدثنا وقال فلان: أخبرنا.

    وهذا كله محافظة منه على الألفاظ وعلى سياق الرواة كما جاء، والإمام أبو داود يفعل كذلك لكنه ليس مثل مسلم ، ولهذا يأتي أحياناً بالتحويل من إسناد إلى إسناد قبل أن يذكر شيخ الشيخ، من أجل أن التحويل أتى به ليبين الفرق بين الصيغيتين اللتين عبر بهما شيخاه؛ لأن أحدهما قال حدثنا والثاني قال أخبرنا، وهذا يأتي كثيراً، وقد مر بنا كثيراً في سنن أبي داود أنه يحول قبل أن يذكر اسم شيخ الشيخ، وذلك من أجل التفاوت في صيغة التحديث.

    فائدة: يفرِّق بين حدثنا وحدثني، انظر حديث رقم ثلاثة آلاف وتسعمائة وثمانية وثمانين.

    وهذا هو المشهور، فإذا قال حدثني معناه: أنه حديث سمعه وحده من الشيخ ليس معه غيره، وأما إذا سمع ومعه غيره فإنه يقول: حدثنا؛ لأنه لم يحدثه وحده، إنما حدثه وحدث غيره، وكانت هناك مجموعة عند الشيخ وسمعوا منه، فالواحد منهم يقول: حدثنا، يعني: حدثني وحدث غيري، وأما إذا سمع منه وحده فلا يقول حدثنا، بل يقول: حدثني.

    فائدة: الاستنباط في سنن أبي داود قليل جداً.

    والاستنباط هو التفقه، وكونه يعلق على الأحاديث في مسائل الفقه، أو يذكر أحكاماً فقهية، هذا ليس من شأن أبي داود ، وقليل وجوده في سنن أبي داود، إذ يقل فيه أن يعقب على الحديث بأن يبين حكماً فقهياً أو استنباطاً أو ترجيح مسألة فهذا قليل عند أبي داود ، بخلاف الترمذي رحمه الله، فإن كتابه مبني على الفقه، وذكر أقوال الفقهاء، وذكر ما قال فلان، وفلان وفلان، ويرجح ويبين أن العمل على كذا، وأما أبو داود فلم يكن له عناية في التعليق على الأحاديث ببيان الأحكام الفقهية، ومن ذلك القليل: أنه عندما جاء إلى الجمعة والاغتسال للجمعة قال: من أصبح أو طلع الفجر وعليه جنابة ثم اغتسل ونوى بغسله الجنابة وغسل الجمعة أجزأه ذلك؛ لأنه دخل النهار، فالنهار يدخل بطلوع الفجر، كما أن الإنسان عندما يصوم يبدأ صيامه من طلوع الفجر، فغسل يوم الجمعة يحصل بطلوع الفجر.

    فائدة: يميز أبو داود بين الرواة، فهو ينسب ويميز إذا كان الراوي مظنة الالتباس بآخر أشهر منه، مثل حديث ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانية عشر: (و أيوب ليس هو السختياني ).

    لأن أيوب كما هو معلوم إذا أفرد فإنه ينصرف إلى السختياني، لكن قد يأتي شخص آخر وهو ليس السختياني ولكن الرواية عنه قليلة وذكره قليل في الأسانيد، فيقول: ليس هو فلان، يعني: ليس هذا هو ذلك المشهور الذي إذا أطلق انصرف الذهن إليه، وإنما هذا شخص آخر، وهذا قليل.

    وفي حديث ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانية وعشرين شريك بن حنبل ، وحديث خمسة آلاف واثنين وثلاثين عن أبي بشر ورقاء ، زاد ورقاء لأن أبا بشر يعرف به ابن أبي وحشية ويأتي ذكره كثيراً، فزاد ورقاء لرفع الالتباس، ومثل حديث ثلاثة آلاف واثنين وثمانين هذا يزيد بن قمير اليزني ليس هو صاحب شعبة .

    فائدة: سياق السند على لفظ شيخ والمتن على لفظ شيخ آخر مثل حديث أربع آلاف وثمانمائة وثمانية عشر.

    أي: أن الإسناد يكون على لفظ شيخ، والمتن على لفظ شيخ آخر، وهذا قليل.

    فائدة: قال أبو داود : إذا تنازع الخبران عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينظر بما أخذ به أصحابه.

    وهذا من أحسن ما جاء عن أبي داود رحمه الله؛ لأنه إذا تنازع الخبران ينظر لما عمل به الصحابة، فالذي عمل به الصحابة يكون راجحاً، إذاً: إذا تنازع الخبران فطرق التوفيق بينهما معروفة، فيوفق بينهما إن أمكن، وإن لم يمكن فيبحث عن التاريخ فالمتأخر ناسخ للمتقدم، وإن لم يمكن فترجح بعض الروايات على بعض فينظر إلى ما عمل به أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من الخبرين فيكون أرجح من غيره.

    فائدة: كتاب سنن الإمام أبي داود أقل الستة كتباً، حيث يوجد فيه خمسة وثلاثون كتاباً، ويليه ابن ماجة ففيه سبعة وثلاثون، ويليه الترمذي ففيه خمسون، ويليه النسائي ففيه واحد وخمسون، ثم مسلم ففيه أربعة وخمسون، ثم البخاري ففيه سبعة وتسعون.

    فهذه هي عدد الكتب التي اشتملت عليها الكتب الستة، فالكتب تشتمل على كتب وأبواب، والكتب أكثرها في صحيح البخاري، ففيه سبعة وتسعون كتاباً أولها كتاب الإيمان، وآخرها كتاب التوحيد، وأقلها كتباً سنن أبي داود ففيه خمسة وثلاثون كتاباً، فهو يجمع الأشياء المتقاربة ويجعلها في كتاب واحد، وغيره يجعلها في عدة كتب، ولهذا قلت الكتب عنده وكثرت عند غيره، وهذه الفائدة ذكرتها في المحاضرة التي طبعت بعنوان: كيف نستفيد من الكتب الحديثية الستة، وقد ذكرت عدد كتب الأئمة التي اشتملت عليه الكتب، ومما ينبغي أن يعلم أن الإمام مسلم ليس عنده إلا كتب، وأما الأبواب التي تذكر في بعض النسخ مثل التي خدمها عبد الباقي فهذه الأبواب هي للنووي، ولهذا تجد الأبواب في حاشية النووي على مسلم؛ لأنها من عمل النووي ، وليست من عمل مسلم، فالصحيح الذي فوق ليس فيه أبواب، وليس فيه إلا كتب، ولكن الحاشية تجد فيها الأبواب، ومحمد عبد الباقي أخذ الأبواب من الحاشية ووضعها في وسط الصحيح.

    والإمام مسلم كما ذكرت لم يضع أبواباً لكتبه تحتوي الأحاديث، ولكنه في حكم المبوب؛ إذ تجد الأحاديث التي في موضوع واحد بعضها وراء بعض، ولهذا سهل على من وضعوا الأبواب وضعها حيث أتوا بالعبارة التي تناسب ذلك الموضوع، فهو وإن لم يكن مبوباً فهو في حكم المبوب؛ لأنه يجمع الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد في مكان واحد، فتكون على نسق، ويتصل بعضها ببعض، ولهذا النووي وغير النووي وضعوا لها الأبواب التي خدمها الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي .

    وكما هو معلوم أن صحيح مسلم رحمه الله حسُن الترتيب والتنظيم، وأذكر من الأمثلة التي تدل على حسن ترتيبه أنه ذكر موضوعاً يتعلق بمن سبه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ليس لذلك بأهل، فذكر مثل: (عقر حلقى)، (تربت يداك)، أو (ثكلتك أمك) وغير ذلك من الأشياء التي كان لا يريد الرسول صلى الله عليه وسلم بها الدعاء، وإنما قالها دون أن يكون مريداً لذلك، فذكر الأحاديث المتعلقة بهذا الموضوع، وذكر قصة اليتيمة التي كانت عند أم سليم، فأرسلتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحاجة، فالرسول رآها وكان يعرفها قبل وهي صغيرة، فقال: (أنت هي! كبرت لا كبرت قرنك) أو كذا، فتألمت البنية وجاءت تبكي وأن الرسول دعا عليها وقال كذا وكذا، فجاءت أم سليم مسرعة فقال (ما لك يا أم سليم ؟ قالت: إنك دعوت على يتيمتي فقلت كذا وكذا، قال: أما علمت أنني اشترطت على ربي أن من دعوت عليه بدعوة لم يكن لذلك أهل أن يبدلها الله له زكاء وطهراً ورحمة) بعدما ساق هذا الحديث أورد حديث الحديث معاوية : (لا أشبع الله بطنه) وهذا يبين أن هذا لا يعتبر دعاء عليه، ولا يعتبر ذماً لـمعاوية كما يفهمه بعض الناس الحاقدين على بعض الصحابة، والذين يتصيدون أي شيء يعيبون به بعض الصحابة، والإمام مسلم رحمه الله اعتبره مدحاً، ومن قبيل ما هو جميل إيراده في هذا المكان، ومن حسن تصرفه، ومن حسن صنيعه، ومن دقته، وحسن عنايته التي أثنى عليها الحافظ ابن حجر ثناء عظيماً في ترجمته في تهذيب التهذيب.

    والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755924764