أما بعـد:
في هذه الليلة سوف أبدأ في كتاب جديد نافع مفيد، بإذن الله العزيز الحميد، وهو كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام الحافظ المفسر الفقيه، المجاهد شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الدمشقي الحنبلي، الشهير بـابن قيم الجوزية، المولود سنة [691/751هـ] والطبعة التي سوف أعتمد عليها، هي الطبعة التي حققها شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط, وطبعت في مؤسسة الرسالة، عام (1399هـ)، وسوف نأخذ من كل جزء بعض الفوائد والشوارد التي تستحق أن تقيد ويحتفظ بها، ونبدأ بالجزء الأول.
حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح.
ونقل ابن القيم هاهنا، يشم منه رائحة الموافقة على هذا النقل، وهو تصحيح رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
فتلاحظون تركيز الإمام بن القيم هاهنا على عدم التفريق بين الفضاء والبنيان، وهو قوي ألا يفرق بينهما، لكن! هل نقول بالتحريم فيهما؟
ابن القيم وابن تيمية كما في الاختيارات وغيره، وابن حزم والشوكاني وغيرهم، يرون التحريم مطلقاً كما أسلفت، وقد ذكر المصنف أنه رد التفريق بينهما، ببضع عشر دليلاً ذكرت في غير هذا الموضع، وهو رحمه الله تكلم عن هذه المسألة، أي: مسألة استقبال القبلة واستدبارها في عدة مواضع، فتكلم عنها في الجزء الثاني من زاد المعاد وتكلم عنها في مدارج السالكين في الجزء الثاني أيضاً، وتكلم عنها في مواضع من كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين، وتكلم عنها أيضاً في تهذيب سنن أبي داود، وقد راجعت المواضع التي تمكنت من الرجوع إليها، فلم أجد هذه الأدلة التي ذكرها، وإن كان بسط الكلام بعض البسط، في الجزء الثاني من زاد المعاد وكذلك بسطه بعض البسط في تهذيب سنن أبي داود.
قال: وهو يتكلم عن نسب الرسول صلى الله عليه وسلم " وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما القول بأنه إسحاق عليه السلام؛ فباطل بأكثر من عشرين وجهاً، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، يقول هذا القول -أي أن الذبيح هو إسحاق عليه السلام- متلقى عن أهل الكتاب؛ مع أنه باطل بنص كتابهم؛ فإن فيه " إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفي لفظ وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده... إلى آخر ما ذكر.
إحداها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد ذكر في غير هذا الموضع معنى قوله صلى الله عليه وسلم: {الرؤيا الصادقة جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} وفسره تفسيراً لطيفاً بديعاً فقال: " ذلك لأن مدة الرؤيا الصادقة كانت ستة أشهر، ومدة الوحي كله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاثة وعشرين عاماً، فإذا نسبنا ستة أشهر إلى ثلاثة وسبعين عاماً، ترتب على ذلك أن النسبة واحد إلى ستة وأربعين، يعني: نصف إلى ثلاثة وعشرين".
إذاً: المرتبة الأولى: الرؤيا الصادقة.
المرتبة الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن روح القدس نفث في روعي، أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء طلب الرزق، على أن تطلبوه بمعصية الله، فإنما عند الله لا ينال إلا بطاعته}.
المرتبة الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم، كان يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً.
المرتبة الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، فيتلبس به الملك، حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها.
المرتبة الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكره الله في سورة النجم.
فالمرة الأولى: كما في صحيح مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لم أره على صورته التي خلق عليها إلا هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض} والثانية: عند المعراج.
ولكن -والله أعلم- أن عدها من مراتب الوحي؛ لأن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، وتنـزل الملك على الرسول صلى الله عليه وسلم مع نبوته، كلما رآه كان في ذلك فائدة، ولذلك طلب الرسول عليه الصلاة والسلام، أن يراه على صورته التي خلق عليها.
المرتبة السادسة: ما أوحاه الله إليه وهو فوق السماوات ليلة المعراج من فرض الصلوات وغيرها.
المرتبة السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك؛ كما كلم الله موسى بن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعاً بنص القرآن، وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء.
وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة، وهي تكليم الله له كفاحاً من غير حجاب، وهذا على مذهب من يقول: إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه تبارك وتعالى، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف، وإن كان جمهور الصحابة بل كلهم مع عائشة، كما حكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعاً للصحابة. يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يره.
ثم الكلام في مقدار الواجب منها، مع اختلاف أهل العلم فيه، وترجيح الراجح، وتزييف المزيف -ثم يقول رحمه الله- في أثناء هذا الثناء "ومخبر الكتاب فوق وصفه " ولذلك حري بنا جميعاً أن نقتني هذا الكتاب، ونقرؤه، مادام ثناء الشيخ عليه بهذه الدرجة، مع أنه يقتصد في الثناء عادة رحمه الله.
قال: أبو الفرج ابن الجوزي ولعل أحمد قال هذا قبل أن يقف على مقدار سنه، وقد ذكر مقدار سنه جماعة من المؤرخين كـابن سعد وغيره، وقد قيل: إن الذي زوجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن عمها عمر بن الخطاب، والحديث: {قم يا
يقول ابن الجوزي في هذا الحديث: هو وهم من بعض الرواة، لا شك فيه ولا تردد، وقد اتهموا به عكرمة بن عمار... إلى قول ابن القيم رحمه الله وقد أكثر الناس في هذا الحديث، وتعددت طرقهم في وجهه، فمنهم من قال الصحيح أنه تزوجها بعد الفتح -لهذا الحديث قال-: ولا يرد هذا بنقل المؤرخين، وهذه الطريقة باطلة عند من له أدنى علم بالسيرة وتواريخ ما قد كان، قالت طائفة بل سأله أن يجدد له العقد تطييباً لقلبه، فإنه كان قد تزوجها بغير اختياره، وهذا باطل لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يليق بعقل أبي سفيان، ولم يكن من ذلك شيء.
وقالت طائفة ومنهم البيهقي والمنذري: يحتمل أن تكون هذه المسألة من أبي سفيان وقعت في بعض خرجاته إلى المدينة وهو كافر، حين سمع نعي زوج أم حبيبة بـالحبشة، فلما ورد على هؤلاء ما لا حيلة لهم في دفعه من سؤاله أن يأمره حتى يقاتل الكفار، وأن يتخذ ابنه كاتباً -لأن هذا كله ورد في الحديث- قالوا: لعل هاتين المسألتين وقعتا بعد الفتح، فجمع الرواي ذلك كله في حديث واحد.
ثم ذكر أجوبة كثيرة، وفي آخرها قال: وقالت طائفة: بل الحديث صحيح ولكن وقع الغلط والوهم من أحد الرواة في تسمية أم حبيبة، وإنما سأل أن يزوجه أختها رملة، ولا يبعد خفاء التحريم للجمع عليه، أي على أبي سفيان- فقد خفي ذلك على ابنته وهي أفقه منه وأعلم، حين قالت لرسول الله صلى الله وعليه وسلم: هل لك في أختي بنت أبي سفيان: {قال: أفعل ماذا؟
} قالت تنكحها، قال: أوتحبين ذلك؟ قالت: لست لك بمخلية، وأحب من شركني في الخير أختي، قال: فإنها لا تحل لي} فهذه هي التي عرضها أبو سفيان، على النبي صلى الله عليه وسلم، فسماها الراوي من عنده أم حبيبة، وقيل: بل كانت كنيتها أيضاً أم حبيبة، وهذا الجواب حسن، لولا قوله في الحديث فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سأل، فيقال حينئذٍ: هذه اللفظة وهم من الراوي، فإنه أعطاه بعض ما سأل، فقال الراوي: أعطاه ما سأل أو أطلقها اتكالاً على فهم المخاطب، أنه أعطاه ما يجوز إعطائه مما سأل، والله أعلم.والثاني العقيقة، فإنه عن الأنثى شاة، وعن الذكر شاتان عند الجمهور، وفي عدة أحاديث، صحاح وحسان.
والثالث الشهادة، فإن شهادة امرأتين بشهادة رجل، وهذا أيضاً ليس على إطلاقه، فليس في كل شهادة، لأن النص ورد فيه في موضع البيوع التي يكون الرجال فيها أكثر معرفة من النساء.
قال: والرابع: الميراث، والخامس: الدية".
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في مشيه وحده ومع أصحابه
كان إذا مشى تكفأ تكفؤاً، وكان أسرع الناس مشية، وأحسنها وأسكنها، قال أبو هريرة: [[ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كأنما الأرض تطوى له، إننا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث]] وقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: [[كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا مشى تكفأ تكفؤاً، كأنما ينحط من صبب، وقال مرة إذا مشى تقلع]] قلت -القائل ابن القيم- والتقلع: الارتفاع من الأرض بجملته، كحال المنحط من صبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة، وهي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء، وأبعدها من مشية الهوج والمهانة والتماوت، فإن الماشي إما أن يتماوت في مشيه، ويمشي قطعة واحدة -كأنه خشبة محمولة، وهي مشية مذمومة قبيحة، وإما أن يمشي بانـزعاج واضطراب مشي الجمل الأهوج، وهي مشية مذمومة أيضاً، وهي دالة على خفة عقل صاحبها، ولا سيما إذا كان يكثر الالتفات في حال مشيه يميناً وشمالاً، وإما أن يمشي هوناً وهي مشية عباد الرحمان، كما وصفهم بها في كتاب فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] قال غير واحد من السلف: بسكينة ووقار، من غير تكبر ولا تماوت، وهي مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه مع هذه المشية، كان كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، حتى كان الماشي معه يجهد نفسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكترث، وهذا يدل على أمرين:
أن مشيته لم تكن مشية بتماوت ولا بمهانة، بل مشية من أعدل المشيات.
ثم ذكر المصنف رحمه الله أنواع المشيات، وهي عشر، من شاء أن يراجعها فليراجعها، لكن نذكر عناوينها الرابع: السعي، والخامس: الرمل، ويسمى الخبب، والسادس: النسلان، والسابع: الخَوْزَلى، والثامن القهقري، والتاسع الجَمَزَى، والعاشر: التبختر.
أحدها: بكاء الرحمة والرقة.
والثاني: بكاء الخوف والخشية.
والثالث: بكاء المحبة والشوق.
والرابع: بكاء الفرح والسرور.
والخامس: بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله.
والسادس: بكاء الحزن.
والسابع: بكاء الخور والضعف.
والثامن: بكاء النفاق، وهو أن تدمع العين، والقلب قاسٍ، فيظهر صاحبه الخشوع وهو من أقسى الناس قلباً.
والتاسع: البكاء المستعار والمستأجر عليه، كبكاء النائحة بالأجرة، -يعني إذا مات لهم ميت ولم يوجد من يبكي عليه؛ يعطون امرأة أجرة مقابل أن تبكي عليه- يقول فإنها كما قال عمر رضي الله عنه: [[تبيع عبرتها وتبكي شَجْوَ غيرها]]
والعاشر: بكاء الموافقة: وهو أن يرى الرجل، الناس يبكون لأمر ورد عليهم، فيبكي معهم، ولا يدري لأي شيء يبكون، ولكن يراهم يبكون فيبكي " وقد ذكر تفصيلاً في هذا يراجع في موضعه.
فإننا نسمع اليوم أن كثيراً من أعداء الإسلام يقولون: إن الإسلام إنما انتشر بالسيف وبالقوة فقط! ولذلك فإن الخطيب الإسلامي، يتكئ على سيفه إشارة إلى أن الإسلام، إنما انتشر وتغلب بالسيف، والقوة.
ونحن نقول: نعم الإسلام انتشر بالسيف والقوة، وانتشر أيضاً بالدعوة السلمية، كما هو معروف، وكلاهما له دوره في الفتح الإسلامي، والمصنف يقول: "ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف، وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف، وهذا جهل قبيح من وجهين:
أحدهما: أن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم، توكأ على العصا وعلى القوس.
الثاني: أن الدين إنما قام بالوحي، وأما السيف فلمحق أهل الضلال والشرك، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم، التي كان يخطب فيها، إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف " وقد أعاد هذا المعنى في صفحة [429] من نفس المجلد، قال: "ولم يكن يأخذ بيده سيفاً ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا... ولم يحفظ عنه أنه أعتمد على سيف، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائماً، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف، فمن فرط جهله.
وقال: أما حديث... {من صلى الضحى بنى الله له قصراً في الجنة من ذهب} فمن الأحاديث الغرائب، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وكذلك أعاد المسألة في صفحة [420] من نفس المجلد، فلتراجع.
أحدها: بعد تكبيرة الإحرام في محل الاستفتاح.
الثاني: قبل الركوع وبعد الفراغ من القراءة في الوتر، والقنوت العارض في الصبح قبل الركوع إن صح ذلك فإن فيه نظراً.
الثالث: بعد الاعتدال من الركوع كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن أبي أوفى {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ}.
الموضع الرابع: في ركوعه كان يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.
الخامس: في سجوده وكان فيه غالب دعائه.
السادس: بين السجدتين.
السابع: بعد التشهد وقبل السلام، وبذلك أمر في حديث أبي هريرة وحديث فضالة بن عبيد.
وأمر أيضاً بالدعاء في السجود: قال: وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو مستقبل المأمومين، فلم يكن ذلك من هدية صلى الله عليه وسلم أصلاً، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، أما تخصيص ذلك بصلاة الفجر والعصر؛ فلم يفعل ذلك هو ولا أحدٌ من خلفائه، ولا أرشد إليه أمته؛ وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضاً من السنة بعدهما، والله أعلم".
ولذلك: علم أن رفع اليدين في الدعاء بعد الفريضة بدعة، لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك محافظة الناس على رفعهما بعد السنة والتزام ذلك على اعتقاد أنه وارد ومأثور، فإنه ليس بوارد، فإما أن يقال: إنه غير جائز، أو يقال: إن الأولى تركه لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء في صلب الصلاة أولى من الدعاء خارجها، وإن كان الدعاء بعد الصلاة، أعني الفريضة، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح: أنه كان يستغفر ثلاثاً بعد السلام، وفي حديث معاذ: أنه كان يقول: {اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البخاري والنسائي: {اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد}.
وهذا شيء، والجائز الذي لا ينكر فعله وتركه شيء، فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز، ولما لا يجوز؛ وإنما مقصودنا فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم ... إلى آخر ما قال " وأذكر أنه ضمن كلامه أشار إلى أن القنوت الذي ورد من حديث أنس وغيره: {أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا} ليس معناه القنوت عند الفقهاء -بمعنى رفع اليدين وإطالة الدعاء- وإنما مقصوده: إطالة الركن بعد الركوع، أي أنه يطيل القيام بعد الركوع؛ ولذلك جاء في الصحيحين من حديث أنس: {أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع؛ وقف حتى يقول القائل قد نسي} لأن الناس كانوا يخففون هذا الركن، فأحب أن يخبرهم أن السنة إطالته، فهذا هو المقصود بقنوته صلى الله عليه وسلم حتى فارق الدنيا.
ثم قال: وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي، الاعتقادي" ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر، ونهي وإباحة، والخبر نوعان:
الأول: خبر عن الخالق تعالى، وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة [قل هو الله أحد] الخبر عنه أو الخبر وعن أسمائه وصفاته فعدلت ثلث القرآن، وخلَّصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمي؛ كما خلَّصت سورة [قل يا أيها الكافرون] من الشرك العملي الإرادي القصدي ولما كان العلم قبل العمل، وهو إمامه وقائده وسائقه والحاكم عليه ومنـزله منازله؛ كانت سورة [قل هو الله أحد] تعدل ثلث القرآن، والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر.
وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك كتاباً -عظيم الفائدة نفيساً- اسمه: جواب أهل العلم والإيمان، في أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقد طبع مرات طبعات ناقصة، ثم حقق في جامعة الإمام، قسم العقيدة، حققه الشيخ سليمان الغفيص، تحقيقاً على نسح خطية، ولكنه لم يطبع بعد.
وهنا أشير إلى فائدة ليست بعيدة عما ما ذكره المصنف وهي النوم جهة القبلة، فإن من المشهور عند الناس أنه يشرع للإنسان أن ينام مستقبل القبلة، وهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه شيء يرجع إليه سوى حديث واحد، عند أبي يعلى في مسنده، ذكره ابن كثير في تفسيره؛ في أول تفسير سورة الحديد، وهو حديث ضعيف جداً، فيه السري بن إسماعيل وهو متروك فلا يثبت في استقبال القبلة في النوم حديث صحيح.
فأوتر فلا بأس، وإن لم يوتر، فإنه يشرع له أن يصلي له من النهار ما شاء شفعاً، ركعتين أو أربع أو ست أو غير ذلك.
الأول: أهل القرآن والإيمان، وهم أفضل الناس.
والثانية: من عَدِمَ القرآن والإيمان.
والثالثة: من أوتي قرآنا، ولم يؤتَ إيماناً.
الرابعة: من أوتي إيماناً ولم يؤتَ قرآنا.
قالوا: فكما أن من أؤتي إيماناً بلا قرآن أفضل ممن أوتي قرآناً بلا إيمان، فكذلك من أوتي تدبراً وفهماً في التلاوة، أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر، قالوا: وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وقام بآية حتى الصباح " إلى آخر ما قال رحمه الله.
والثانية طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن، يعني كأنه قال: إن الناس ثلاثة أصناف:
منهم: من يطرح حديث الراوي الضعيف مطلقاً، ومنهم: يقبل حديث الراوي الثقة مطلقاً، والإمام مسلم كأنه توسط، فكان يأخذ من حديث الراوي الذي فيه ضعف ما يعلم أنه ضبطه، ويترك من حديث الراوي الموثوق ما يعلم أنه غلط فيه، فكانت طريقته وسطاً في هذا.
يقول المصنف: "وعندي أن ساعة الصلاة، ساعة ترجى فيها الإجابة أيضاً، وكان قد ذكر موضوع ساعة العصر، فكلاهما ساعة إجابة، وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر؛ فهي ساعة معينة من اليوم لا تتقدم ولا تتأخر. وأما ساعة الصلاة فتابعة للصلاة تقدمت أو تأخرت، لأن لاجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرعهم وابتهالهم إلى الله تعالى تأثيراً في الإجابة، فساعة اجتماعهم ساعة ترجى فيها الإجابة، وعلى هذا تتفق الأحاديث كلها، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حض أمته على الدعاء والابتهال إلى الله تعالى في هاتين الساعتين "والحقيقة أني وجدت كلاماً له علاقة بما ذكرت قبل قليل، حول مسجد قباء ومسجد المدينة، قال: " ونظير هذا، قوله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فقال: {هو مسجدكم هذا، وأشار إلى مسجد المدينة} وهذا لا ينفي أن يكون مسجد قباء الذي نـزلت فيه الآية مؤسساً على التقوى، بل كل منهما مؤسس على التقوى، وكذلك قوله في ساعة الجمعة: {هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة} لا ينافي قوله في الحديث الآخر: {فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر}.
وأي توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟!
ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه، وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله وذكر آلائه تعالى، التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره، الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته، وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره؛ ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم، قال: ثم طال العهد وخفي نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر رسوماً تقام، من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها، وزينوها بما زينوها به، فجعلوا الرسوم والأوضاع سنناً لا ينبغي الإخلال بها، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصعوا الخطب بالتسجيع والفِقَر وعلم البديع؛ فنقص بل عدم حظ القلوب منها، وفات المقصود بها.. انتهى كلامه.
وهذا صحيح، يعني أنه أصبحت خطب كثير من الناس فيها سجع وترتيب وتغنٍ بالقراءة، واعتقدوا أن هذه سنن لا يجوز الإخلال بها، وغفلوا عن المعنى الذي هو المقصود من الخطبة، باختيار الموضوعات المهمة، وتحريك قلوب الناس بها.
إذاً: يؤخذ من ذلك قاعدة، وهي: أن ما انعقد سبب فعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، فالسنة تركه حينئذٍ.
وبناءً عليه: فإن هاتين الركعتين هما تحية المسجد، قال ابن القيم رحمه الله: " وقال شيخنا أبو الحجاج الحافظ المزي: هذا تصحيف من الرواة، إنما هو: {أصليت قبل أن تجلس؟} فغلط فيه الناسخ، وقال: -المزي- وكتاب ابن ماجة، إنما تداولته شيوخ لم يعتنوا به، بخلاف صحيحي البخاري ومسلم، فإن الحفاظ تداولوهما، واعتنوا بضبطهما، وتصحيحهما، قال ولذلك وقع فيه أغلاط وتصحيف يعني: سنن ابن ماجة.
قلت -ابن القيم-: ونظير هذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في حديث أبي هريرة: {لا تزال جهنم يلقى فيها، وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فيزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط: وأما الجنة فينشئ الله لها خلقاً} فانقلب على بعض الرواة فقال: {أما النار فينشئ الله لها خلقاً} فهذا أيضاً من المقلوب، قلت - أيضاً من كلامه- ونظير هذا حديث عائشة {إن
هذا ما تيسر من الفوائد في هذا الجزء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
ومنها: الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، ومحبته بكل القلب، والإقبال عليه والتنعم بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك، حتى إنه ليقول أحياناً: إن كنت في الجنة في مثل هذه الحالة، فإني إذاً لفي عيش طيب! وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر، وطيب النفس، ونعيم القلب، لا يعرفه إلا من له حس به، وكلما كانت المحبة أقوى وأشد كان الصدر أفسح وأشرح.
ثم قال: " ومن أسباب شرح الصدر: دوام ذكره على كل حال، وفي كل موطن".
ومنها: الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه، والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدراً، وأطيبهم نفساً وأنعمهم قلباً، ومنها الشجاعة: فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البطان، منكسر القلب ".
ثم قال ضمن الشجاعة: فحال العبد في القبر، كحال القلب في الصدر، نعيماً وعذاباً وسجناً وانطلاقاً، ولا عبرة بانشراح صدر هذا لعارض، ولا بضيق صدر هذا لعارض، فإن العوارض تزول بزوال أسبابها.
ثم قال: ومنها بل من أعظمها: إخراج دغل القلب من الصفات المذمومة، التي توجب ضيقه وعذابه، وتحول بينه وبين حصول البُرء.
ومنها: ترك فضول النظر، والكلام، والاستماع، والمخالطة، والأكل، والنوم، فإن هذه الفضول تستحيل آلاماً وغموماً وهموماً في القلب، تحصره وتحبسه وتضيقه ويتعذب بها، بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا الله ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم. وما أنكد عيشه، وما أسوأ حاله، وما أشد حصر قلبه! ولا إله إلا الله، ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من تلك الخصال المحمودة بسهم، وكانت همته دائرة عليها، حائمة حولها! إلى آخر ما قال رحمه الله.
إحداها: من قال: إنه اعتمر في رجب، والثانية: من قال إنه اعتمر في شوال، والثالثة: من قال: إنه اعتمر من التنعيم… والرابعة: من قال: لم يعتمر في حجته أصلاً، والخامسة: من قال إنه اعتمر عمرة حل منها، ثم أحرم بعدها بالحج " هؤلاء، خمسة أصناف من الناس غلطوا في عُمَر النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: فصل: ووهم في حجه خمس طوائف الأولى: التي قالت حج حجاً مفرداً لم يعتمر معه.
والثانية: من قال: حج متمتعاً تمتعاً حل منه ثم أحرم بعده بالحج.
والثالثة: من قال: حج متمتعاً تمتعاً لم يحل منه لأجل سوق الهدي، ولم يكن قارناً.
والرابعة: من قال: حج قارناً قراناً طاف له طوافين، وسعى له سعيين.
والخامسة: من قال: حج حجاً مفرداً، واعتمر بعده من التنعيم.
ثم قال: غلط في إحرامه خمس طوائف… وذكرها.
الشاهد أنه بعدما ذكر هذا الغلط قال: " فصل في أعذار القائلين بهذه الأقوال، وبيان منشأ الوهم والغلط " وهذا يعطينا أيها الإخوة درساً مهماً من هذا الإمام الجهبذ الفحل في التماس الأعذار لأهل العلم فيما يخطئون فيه من الآراء والأقوال أو الأعمال أيضاً، وأن الإنسان ينبغي أن يكون عنده أيضاً جرأة وشجاعة على أنه إذا كان الخطأ واضح؛ يقول: هذا خطأ؛ ثم يكون عنده في مقابل ذلك إعذار والتماس ذلك العذر لهذا الإنسان في وقوعه في هذا الخطأ، بحيث لا يلقي عليه باللائمة، أو يضع من قدره وتصبح القضية في ميزاننا كما هي اليوم في ميزان كثير من الناس، إما (100%) أو صفر، إما أن يكون هذا الإنسان كاملاً لا يعرفون فيه عيباً، فإن وجدوا فيه عيباً أسقطوا قيمته بالكلية، ولم يروا له فضلاً، وهذا خطأ! بل يقال للمصيب: أصبت، ويقال للمخطئ -بعد أن يتبين خطؤه بالدليل الصحيح- أخطأت؛ ثم يلتمس العذر لهذا المخطئ في خطئه -فهو أي ابن القيم- بدأ في التماس الأعذار فقال: أما عذر من قال اعتمر في رجب -مثلاً- فحديث ابن عمر: {أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب} متفق عليه، إذاً هذا عذر قوي لهم.
قال: وأما من قال: " اعتمر في شوال فعذره ما رواه مالك في الموطأ …" إلى آخر ما ذكر من الأعذار.
ثم قال فصل في صفحة [127] " فصل: في أعذار الذين وهموا في صفة حجته " ثم قال في صفحة [150] " ذكر الذين غلطوا في إهلال النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عذرهم، إلى آخر ما ذكر، وليس المقصود من ذلك أن الإنسان يمكن أن يراجع هذه المسألة، لكن المقصود: الدرس التربوي في التماس العذر للإنسان إذا أخطأ.
فيقول رحمه الله لما ذكر إحرام النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أحرم قارناً، ومع ذلك فإنه تمنى أنه كان متمتعاً قال: " ولمن رجح القرآن مع السوق أن يقول: لم يقل هذا لأجل أن الذي فعله مفضول مرجوح؛ بل لأن الصحابة شق عليهم أن يحلوا من إحرامهم مع بقائه هو محرماً، وكان يختار موافقتهم ليفعلوا ما أُمروا به مع انشرح وقبول ومحبة، وقد ينتقل عن الأفضل إلى المفضول، لما فيه من الموافقة وتأليف القلوب، كما قال لـعائشة: {لولا أن قومك حديثو عهدٍ بجاهلية؛ لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين} فهذا ترك ما هو الأولى لأجل الموافقة والتأليف، فصار هذا هو الأولى في هذه الحال " أي أن المفضول يصبح هو الفاضل إذا كان فيه جمع للكلمة وتأليف للقلوب والموافقة، وتحصيل مصالح أخرى. ثم قال: " فكذلك اختياره للمتعة بلا هدي، وفي هذا جمع بين ما فعله وبين ما وده وتمناه ".
وما هي؟
قال: تقول بفسخ الحج إلى العمرة، فقال يا سلمة، كنت أرى لك عقلاً، عندي في ذلك أحد عشر حديثاً صحاحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أأتركها لقولك؟!!
فأولاً: لا بد في إدعاء النسخ من وجود نص يفهم منه أن هذا ناسخ، ثم هذا الناسخ: لا بد أن يكون في قوة المنسوخ أو المدعى نسخه، ثم لا بد أن يكون معارضاً له، بحيث لا يمكن الجمع بينهما بحمل هذا على حال وهذا على حال؛ ثم لا بد أن يثبت تأخر الناسخ، وتقدم المنسوخ.
احتياط للخروج من خلاف العلماء.
واحتياط للخروج من خلاف السنة، ولا يخفى رجحان أحدهما على الآخر.
الشاهد أنه قال: " وما حرم تحريم الوسائل، فإنه يباح للحاجة، ويباح للمصلحة الراجحة " طبعاً ومن باب الأولى أنه يباح للضرورة، نقول ما حرم تحريم الوسائل، يباح للضرورة، والحاجة والمصلحة الراجحة، وعلى هذا تنحل إشكالات كثيرة، وهذه القاعدة ذكرها ابن القيم في عدة مواضع، ذكرها أيضاً في إعلام الموقعين، وذكرها في مواضع أخرى من زاد المعاد وبالقاعدة هذه تندفع إشكالات كثيرة على بعض الناس الذين تلتبس عليهم أمور اليوم، فمثلاً قضية التصوير عند من يقول بتحريمه هو محرم تحريم وسيلة، لا تحريم غاية، فهو حينئذٍ يباح للضرورة والحاجة والمصلحة الراجحة، فإذا اضطر الإنسان إلى ذلك، كما يصور الإنسان لاستخراج بطاقة، أو رخصة أو شهادة، أو لحاجة إلى ذلك، ولو لم تصل إلى حد الضرورة، أو لمصلحة راجحة فيها نفع ظاهر يربو ويزيد على المفسدة الموجودة، فمثل هذا الحال يفتي العلماء بجواز ذلك، ولذلك تجد أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز على رغم أنه يشدد في مسألة التصوير، حتى أنه يقول: إنه كبيرة من كبائر الذنوب. بل صدرت بذلك فتوى من هيئة كبار العلماء، تقول: إن التصوير كبيرة من كبائر الذنوب، ومع ذلك فإن الشيخ رحمه الله يجيز التصوير للحاجة والمصلحة، فضلاً عن الضرورة، وقد سئل عن مسائل عديدة، يكون في التصوير فيها مصلحة، لنشر الخير أو تعميمه بين الناس، أو مدافعة الفساد، فقال بأن هذا حسن ولا بأس فيه، وقد سمعت هذا منه بأذني أكثر من مرة.
وفي صفحة [294] ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما انتهى من حجه، نـزل بـالخَيف، خَيف بني كنانة، قال المصنف رحمه الله: " وقد اختلف السلف في التحصيب، هل هو سنة أو منـزل اتفاق؟ -أي: من غير قصد- على قولين:
فقالت طائفة هو من سنن الحج، فإن في الصحيحين عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حينما أراد أن ينفر من منى: { نحن نازلون غداً إن شاء الله بـخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر} يعني بذلك المحصَّب، وذلك أن قريشاً وبني كنانة تقاسموا على بني هاشم وبني المطلب ألاَّ يناكحوهم، ولا يكون بينهم وبينهم شيء حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصد النبي صلى الله عليه وسلم إظهار شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر والعداوة لله ولرسوله، وهذه كانت عادته صلوات الله وسلامه عليه، أن يقيم شعار التوحيد في مواضع شعائر الكفر والشرك، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبنى مسجد الطائف موضع اللات والعزى.
أي: الخيف هو المكان الذي اجتمعت فيه قريش، وكتبوا الصحيفة الجائرة الظالمة، التي بموجبها كان الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه في شعب أبي طالب فترة، بل وبنو هاشم وبنو المطلب، حتى من غير المسلمين، ولا يبايعونهم ولا يبتاعون منهم، ولا يناكحونهم حتى كان يسمع صياح الأطفال من الجوع في هذا الخيف، أي نوع من الحصار الاقتصادي للمسلمين.
فالرسول عليه الصلاة والسلام لما فتح مكة , ودانت له الجزيرة العربية بإذن الله تعالى، أراد أن يظهر شعار الإسلام وعزة الإسلام في المكان الذي ضويق فيه، فنـزل في هذا الخَيف، حيث تقاسموا على الكفر.
قال بعضهم: صلى، وقال بعضهم: لم يصلِّ.
وقال بعضهم: يحمل هذا على تعدد القصة، بأن يكون دخل مرة وصلى، ودخل مرة ولم يصلِّ قال المصنف رحمه الله في صفحة [296]" فقيل: كان ذلك دخولين، صلى في أحدهما، ولم يصلِّ في الآخر، وهذه طريقة ضعفاء النقد؛ كلما رأوا اختلاف لفظ، جعلوه قصة أخرى، كما جعلوا الإسراء مراراً لاختلاف ألفاظه، وجعلوا اشتراءه من جابر بعيره مراراً، لاختلاف ألفاظه، وجعلوا طواف الوداع مرتين لاختلاف سياقه ونظائر ذلك.
وأما الجهابذة النقاد؛ فيرغبون عن هذه الطريقة، ولا يجبنون عن تغليط من ليس معصوماً من الغلط، ونسبته إلى الوهم.
قال البخاري وغيره من الأئمة والقول قول بلال، لأنه مثبت شاهد صلاته، بخلاف ابن عباس، والمقصود: أن دخوله صلى الله عليه وسلم البيت إنما كان في غزوة الفتح، لا في حجه ولا في عُمَرَهِ، وفي صحيح البخاري عن إسماعيل بن أبي خالد قال: [[قلت لـ
فهذا ليس فيه أنه كان في حجته، بل إذا تأملته حق التأمل، أطلعك التأمل على أنه كان في غزاة الفتح، والله أعلم، وسألته عائشة أن تدخل البيت، فأمرها أن تصلي في الحجر، ركعتين.
وروى أبو داود أيضاً من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: {طفت مع
فقال: " اقتضت حكمة الشارع، الرؤوف بأمته، الرحيم بهم؛ أن يمنعهم من أسباب توجب لهم سماع المكروه أو وقوعه، وأن يعدل عنها إلى أسماء تُحَصِِّل المقصود من غير مفسدة، هذا أولى، مع ما ينضاف إلى ذلك من تعليق ضد الاسم عليه، بأن يسمى يساراً من هو من أعسر الناس، ونجيحاً من لا نجاح عنده، ورباحاً من هو من الخاسرين، فيكون قد وقع في الكذب عليه وعلى الله، وأمر آخر أيضاً وهو أن يطالب المسمى بمقتضى اسمه؛ فلا يوجد عنده " أي: ينتظر الناس منه أن يكون على اسمه، وأن يكون اسماً وافق مسماه ولفظاً طابق معناه، فيجدون النقيض، قال: فيجعل ذلك سبباً لذمه وسبه كما قيل:
سموك من جهلهم سديداً والله ما فيك من سداد |
أنت الذي كونه فساداً في عالم الكون والفساد |
فتوصل الشاعر بهذا الاسم إلى ذم المسمى به ولي من أبيات:
وسميته صالحاً فاعتذى بضد اسمه في الورى سائرا |
وظن بأن اسمه ساتر لأوصافه فغدا شاهرا |
وهذا كما أن من المدح ما يكون ذماً موجباً لسقوط مرتبة الممدوح عند الناس، فإنه يمدح بما ليس فيه، فتطالبه النفوس بما مدح به، وتظنه عنده؛ فلا تجده كذلك، فتنقلب ذماً!
ولو ترك من غير مدح لم تحصل له هذه المفسدة، ويشبه حاله؛ حال من ولي ولاية سيئة ثم عزل عنها؛ فإنه تنقص مرتبته عما كان عليه قبل الولاية، وينقص في نفوس الناس، عما كان عليه قبلها، وفي هذا قال القائل:
إذا ما وصفت امرءاً لامرئٍ فلا تغلُ في وصفه واقصِدِ |
فإنك إن تغلُ تغل الظنون فيه إلى الأمد الأبعد |
فينقص من حيث عظمته لفضل المغيب على المشهد |
وهذا معنىً لطيف، يعني أنه: إذا مُدِحَ لك إنسان -وقيل: والله لو رأيت فلاناً لرأيت العقل والخلق والدين والعبادة وكذا وكذا- لعظم في عينك، فإذا رأيته ربما نقص عما كان، لأن المبالغة في المدح أولاً: أورثت النقص عندك، ثانياً: نسبته إلى ما ذكر، ولذلك قال: " وعلى هذا فتكره التسمية بـ: التقي، والمتقي، والمطيع، والطائع، والراضي، والمحسن، والمخلص، والمنيب، والرشيد، والسديد.
وأما تسمية الكفار بذلك، فلا يجوز التمكين منه، ولا دعاؤهم بشيء من هذه الأسماء، ولا الإخبار عنهم بها، والله عز وجل يغضب من تسميتهم بذلك.
ويذكر عنه: أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، فيقول: {الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد} وهذا وإن كان لا يصح إسناده فالعمل عليه... إلى آخر ما قال " والمحقق الله، فقد ذكر حديث البخاري، والترمذي، وأبي داود، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذا الأيام العشر...} ثم ذكر حديث الدارقطني عن جابر وضعفه، قال: " وفي الباب عن علي وعن عمار عند الحاكم في المستدرك ضعفه الذهبي والبيهقي، قال الحاكم فأما من فعل عمر وعلي وابن عباس وعبد الله بن مسعود فصحيح عنهم التكبير من غداة عرفة إلى آخر أيام التشريق.
وأخرج ابن أبي شيبة عن علي {أنه كان يكبر بعد صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق} وإسناده صحيح، وصححه الحاكم، وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن أبي الأسود قال: " كان عبد الله بن مسعود يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، يقول: [[الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد]] وإسناده صحيح " انتهى كلام المحقق وما دام أنه ثبت عن علي وعمر وابن عباس وابن مسعود أنهم يكبرون، فهذا دليل على مشروعيته، واشتهاره عند الصحابة، ويبعد أن يخترعوا هذا الأمر من عند أنفسهم، وهم الوقافون عند حدود الله، وإنما رأوا هذا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فتأسوا به، وبناءً عليه: نقول بمشروعية التكبير المقيد من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق.
وقد اختلف السلف والخلف في ذلك، فقال أكثرهم لا يبدؤون بالسلام، وذهب آخرون إلى جواز ابتدائهم كما يرد عليهم، روي ذلك عن ابن عباس، وأبي أمامة وابن محيريز، وهو وجه في مذهب الشافعي رحمه الله، لكن صاحب هذا الوجه قال: يقال له السلام عليك فقط، بدون ذكر الرحمة وبلفظ الإفراد: وقالت طائفة: يجوز الابتداء لمصلحة راجحة، من حاجة تكون له إليه، أو خوف من أذاه، أو لقرابة بينهما، أو لسبب يقتضي ذلك، يروى ذلك عن إبراهيم النخعي، وعلقمة، وقال الأوزاعي: إن سلّمت، فقد سلَّم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون ".
ثم ذكر الخلاف في وجوب الرد عليهم وقال: " فالجمهور على وجوبه، وهو الصواب -أي أن ترد عليهم السلام- وقالت طائفة: لا يجب الرد عليهم، كما لا يجب على أهل البدع وأولى، والصواب الأول -أي الوجوب- والفرق أننا مأمورون بهجر أهل البدع، تعزيراً لهم وتحذيراً منهم، بخلاف أهل الذمة. "
عليك سلام الله قيس بن عاصمٍ ورحمته ما شاء أن يترحما |
فما كان قيس هُلْكُهُ هُلْك واحدٍ ولكنه بنيانُ قوم تهدَّمَا |
فكره النبي صلى عليه وسلم أن يحيَّى بتحية الأموات، ومن كراهته لذلك؛ لم يرد على المسلم بها " ومثل ما ذكر المصنف هاهنا، قول الشاعر يرثي أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه.
عليك سلام من أمير وباركت يد الله في هذا الأديم الممزقِ |
فمن يسعَ أو يركب جناحي نعامة ليدرك ما أدركت في الأرض يسبق |
فخاطبه بقوله عليه السلام.
فإنه إن قال ذلك؛ جعل فلاناً نداً لله عز وجل، وكذلك أن يقال: مطرنا بنوء كذا وكذا .
ومنها: الحلف بغير الله.
ومنها: أن يقول في حلفه: هو يهودي أو نصراني أو كافر إن فعل كذا.
ومنها: أن يقول لمسلم: يا كافر!
ومنها: أن يقال للسلطان: ملك الملوك، وعلى قياسه قاضي القضاة.. هذا كله لا يجوز.
ومنها: أن يقول السيد لغلامه وجاريته: عبدي وأمتي، ويقول الغلام لسيده: ربي، وأن يقول السيد: فتاي وفتاتي، وأن يقول الغلام: سيدي وسيدتي.
ومنها: سب الريح إذا هبت؛ ومنها سب الحمى؛ ومنها: سب الديك، ومنها: الدعاء بدعوى الجاهلية، والتعزي بعزائهم؛ ومنها: تسمية العشاء بالعتمة؛ ومنها النهي عن سباب المسلم؛ ومنها: أن تخبر المرأة زوجها بمحاسن امرأة أخرى؛ ومنها: أن يقول في دعائه اللهم اغفر لي إن شئت، ومنها الإكثار من الحلف، ومنها: أن يسمي المدينة يثرب، ومنها: أن يسأل الرجل فيم ضرب امرأته، إلا إذا دعت الحاجة؛ ومنها: الإفصاح عن الأشياء التي ينبغي الكناية عنها؛ ومنها: أن يقول: أطال الله بقاءك وأدام أيامك -وطال عمرك- وعشت ألف سنة ونحو ذلك؛ ومنها: أن يقول الصائم: وحق الذي خاتمه على فم الكافر، ومنها: تسمية المكوس حقوقاً -ويقاس عليها الفوائد الربوية المحرمة بإجماع أهل العلم، فقد أصبحوا يسمونها في هذا العصر: فوائد؛ لتهوين شأنها وخطرها على المسلمين، ومنها: تسمية المشروبات الكحولية والخمر وغيره؛ مشروبات روحية؛ ومنها: تسمية الزنا والفجور والعلاقات المحرمة: تبادل الحب والعواطف والغرام وما أشبه ذلك من الألفاظ التي تهون من خطرها على المسلمين والمسلمات، ثم ذكر أن منها أن يقول المفتي: أحل الله كذا وحرم كذا، إلا فيما ورد النص بتحريمه، قال: -واختم بذلك وهي كلمة سبق أن سمعتموها مني أكثر من مرة- " فصل: وليحذر كل الحذر من طغيان " أنا " "ولي" و"عندي"؛ فإن هذه الألفاظ الثلاثة أُبتلي بها إبليس وفرعون وقارون؛ (فأنا خير منه) لإبليس؛ (لي ملك مصر لفرعون؛ و(إنما أوتيته على علم عندي) لقارون.
وأحسن ما وضعت "أنا" في قول العبد: أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر، المعترف، ونحوه، "ولي" في قوله: لي الذنب ولي الجرم، ولي المسكنة ولي الفقر، ولي الذل و"عندي" في قوله: اغفر لي جدي وهزلي وعمدي وكل ذلك عندي.
أحدها: أن الله لم يأذن لهم بـمكة في القتال، ولا كان لهم فيها شوكة يتمكنون بها من القتال بـمكة.
الثاني: أن سياق الآية يدل على أن الإذن بعد الهجرة، وإخراجهم من ديارهم، فإنه قال: [[الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ]][الحج:40].
الثالث: قوله تعالى: [[هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ]][الحج:19] نـزلت في الذين تبارزوا يوم بدر من الفريقين.
الرابع: " أنه قد خاطبهم في آخرها بقوله: [يا أيها الذين آمنوا] والخطاب بذلك كله مدني، فأما الخطاب [يا أيها الناس] فمشترك" يعني بين المكي والمدني.
الخامس: أنه أمر فيها بالجهاد، الذي يعم الجهاد باليد وغيره، ولا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة..
السادس: أن الحاكم روى في مستدركه من حديث الأعمش عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: [[أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن، فأنـزل الله عز وجل: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39]]] وإسناده على شرط الصحيحين.
عقد فصلاً في هديه صلى الله عليه وسلم، فيمن جس عليه، ثم قال: " ثبت عنه أنه قتل جاسوساً من المشركين، وثبت عنه أنه لم يقتل حاطباً، وقد جس عليه، واستأذنه عمر في قتله، -أي قتل حاطب- رضي الله عنه، فقال: {وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} فاستدل به من لا يرى قتل المسلم الجاسوس، كـالشافعي وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله! واستدل به من يرى قتله، كـمالك وابن عقيل من أصحاب أحمد رحمه الله وغيرهما، قالوا: لأنه علل بعلة مانعة من القتل -يعني: علل عدم قتله لـحاطب، بعلة مانعة من القتل، وهي كونه شهد بدراً- منتفية في غيره، ولو كان الإسلام مانعاً من قتله -أي: قتل الجاسوس- لم يعلل بأخص منه؛ لأن الحكم إذا علل بالأعم، كان الأخص عديم التأثير، وهذا أقوى " يعني: أن الشيخ رحمه الله، يذهب كشيخه شيخ الإسلام إلى جواز قتل الجاسوس تعزيراً، لكن قتله إلى السلطان.
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع |
فكيف يقاس ببغيض عدو جاء بكل قبيح، ولم يأتِ بشفيع واحد من المحاسن.
وفي صفحة [218] ذكر كلاماً طيباً في فوائد الهزيمة يرجع إليه.
وفي صفحة [225] ذكر معنى قول الله عز وجل: [[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ]][آل عمران:146] فليرجع إليه.
فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل |
ولا تظنن بنفسك قط خيراً وكيف بظالم جان جهول |
sh= 9904201>وقل يا نفس مأوى كل سوءٍ أيرجى الخير من ميت بخيل
وظن بنفسك السوءى تجدها كذاك وخيرها كالمستحيل |
وما بك من تقىً فيها وخيرٍ فتلك مواهب الرب الجليل |
وليس بها ولا منها ولكن من الرحمن فاشكر للدليل |
ثم ذكر المصنف عن أبي حاتم أن صفوان كان كثير النوم، فكأنه كان ثقيل النوم؛ ولذلك لم يستيقظ إلا متأخراً، وقد جاء في السنن أن زوجته شكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
أولاهما: تقديم المعارض للبراءة الأصلية، أي: إذا وجد عندنا رأيان أو حديثان في مسألة، أحدهما موافق للبراءة الأصلية، أي لأصل الجواز، والآخر معارض للبراءة الأصلية، يقدم المعارض لأنه يدل على النسخ ولذلك قال: " وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب} ولو قُدِّر تعارض القول والفعل هاهنا؛ لوجب تقديم القول، لأن الفعل موافق للبراءة الأصلية والقول ناقل عنها، فيكون رافعاً لحكم البراءة الأصلية، وهذا موافق لقاعدة الأحكام؛ ولو قدم الفعل، لكان رافعاً لموجب القول، والقول رافع لموجب البراءة، ويلزم تغير الحكم مرتين وهو خلاف قاعدة الأحكام " وفي قوله: فيلزم تغير الحكم مرتين، إشارة إلى رأيه -وهو رأي قوي أيضاً- الذي ينكر فيه أن يكون النسخ حصل مرتين، كما يدعيه بعض أهل العلم، في مسائل، من أشهرها: مسألة نكاح المتعة أنه حرم ثم أبيح ثم حرم؛ وقيل مثل ذلك في مسائل غيرها فـابن القيم رحمه الله ينكر أن يكون النسخ يقع في مسألة واحدة مرتين، وما ذهب إليه في نظري قوي والله أعلم.
وفي صفحة [458] ذكر حكم إسناد عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده وقد سبق فائدة مشابهة لذلك.
قال المصنف رحمه الله: " ومنها أن من تمام التوكل استعمال الأسباب… إلى قوله: وكثير مما لا تحقيق عنده، ولا رسوخ في العلم يستشكل هذا، ويتكايس في الجواب، تارة بأن هذا فعله تعليماً للأمة، وتارة بأن هذا كان قبل نـزول الآية " أي قوله تعالى: [[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ]][المائدة:67] إلى آخر ما ذكر" ثم قال: " ولو تأمل هؤلاء! أن ضمان الله له العصمة، لا ينافي تعاطيه أسبابها، لأغناهم عن هذا التكلف؛ فإن هذا الضمان له من ربه تبارك وتعالى لا يناقض احتراسه من الناس ولا ينافيه، كما أن إخبار الله سبحانه له بأنه يظهر دينه على الدين كله ويعليه، لا يناقض أمره بالقتال وإعداد العدة والقوة ورباط الخيل، والأخذ بالجد والحذر والاحتراس من عدوه، ومحاربته بأنواع الحرب، والتورية " إلى آخر ما ذكر.
وفي صفحة [558] أيضاً ذكر حكم الجهاد بالمال والنفس.
وفي صفحة [571] ذكر الجهاد بالقلب وما يتعلق به.
وذكر حديثاً عن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أتاكم أهل اليمن كأنهم السحاب، هم خيار من في الأرض، فقال رجل من الأنصار: إلا نحن يا رسول الله -أي ليسوا خيراً منا- فسكت، ثم قال: إلا نحن يا رسول الله فسكت، ثم قال: إلا أنتم} كلمة ضعيفة وفي ذلك إشارة إلى أن أهل اليمن هم الأشعريون.
ألا هل أتى سلمى بأن حليلها على ماء عفرا فوق إحدى الرواحل |
sh= 9904206>على ناقة لم يطرق الفحل أمها مشذبة أطرافها بالمناجل
يعني بذلك الخشبة التي صلب عليها، وسلمى: هي زوجته.
وفي صفحة [658] ذكر مراتب الضيافة، وأنه حق واجب، وتمام مستحب وصدقة.
وفي صفحة [659/661] ذكر السنة في الشاة الملتقطة، أنه يخير ملتقطها بين ثلاثة أمور:
يخير بين أكلها وغرم ثمنها، أو بيعها وحفظ ثمنها، أو الإنفاق عليها.
مرض القلوب، ومرض الأبدان، وهما مذكوران في القرآن قال: ومرض القلوب نوعان:
مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي، وكلاهما في القرآن، قال تعالى في مرض الشبهة: [[فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ]][البقرة:10] وقال: [[وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ]][النور:48] إلى قوله: [[أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ]][النور:50] فهذا مرض الشبهات والشكوك.
وأما مرض الشهوات، فقال الله تعالى: [[يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ]][الأحزاب:32] فهذا مرض شهوة الزنا. "
فقال في آية الصوم: [[فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ]][البقرة:184] فأباح الفطر للمريض لعذر المرض، وللمسافر طلباً لحفظ صحته وقوته، لئلا يذهبها الصوم في السفر … إلى أن قال: وقال في آية الحج: [[فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ]][البقرة:196] فأباح للمريض، ومن به أذى من رأسه، من قمل أو حكة أو غيرهما، أن يحلق رأسه في الإحرام، استفراغاً لمادة الأبخرة الرديئة، التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر، إلى أن قال: وأما الحمية فقال تعالى في آية الوضوء: [[وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ]] [النساء:43] فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حميةً له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذٍ له من داخل أو خارج.
خلاصة كلامه رحمه الله أنه قال: إن قواعد الطب الثلاث- التي هي: حفظ الصحة، والحمية، واستفراغ المواد الفاسدة، كلها مذكورة في القرآن الكريم.
فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء، بل هاهنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض، ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية، وقوة القلب واعتماده على الله، والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له والصدقة والدعاء والتوبة والاستغفار والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته ولا قياسه.
وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرةً، ورأيناها تفعل ما لا تفعله الأدوية الحسية..." إلى آخر ما قال، وهو كلام مفيد جداً.
فالأول: -أي العام- كعامة خطابه، والثاني: كقوله: {لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها؛ ولكن شرقوا أو غربوا} فهذا ليس بخطابٍ لأهل المشرق والمغرب، ولا العراق، ولكن لأهل المدينة وما على سمتها -كـالشام وغيرها- وكذلك قوله: {ما بين المشرق والمغرب قبلة}.
وإذا عرف هذا، فخطابه في هذا الحديث، خاص بأهل الحجاز وما والاهم، إذا كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس، وهذه ينفعها الماء البارد شرباً واغتسالاً.
الثاني: أنه كان مقيماً.
الثالث: أنه لم يكن به مرض احتاج معه إلى الحجامة.
الرابع: أن هذا الحديث متأخر عن قوله: {أفطر الحاجم والمحجوم}
فإذا ثبتت هذه المقدمات الأربع، أمكن الاستدلال بفعله صلى الله عليه وسلم على بقاء الصوم مع الحجامة، وإلا فما المانع أن يكون الصوم نفلاً يجوز الخروج منه بالحجامة وغيرها، أو من رمضان، لكنه في السفر، أو من رمضان في الحضر، لكن دعت الحاجة إليه، كما تدعو الحاجة من به مرض إلى الفطر، أو يكون فرضاً من رمضان من غير حاجة، لكنه مُبقَّي على الأصل، وقوله: {أفطر الحاجم والمحجوم} ناقل ومتأخر، فيتعين المصير إليه، ولا سبيل إلى إثبات واحدة من هذا المقدمات الأربع، فكيف بإثباتها كلها. "
ثم قال: " وأما جهلة الأطباء وسِقْطهم وسفلتهم، ومن يعتقد بالزندقة فضيلة، فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة الأخلاط هو صادق في بعض الأقسام لا في كلها " انتهى كلامه.
وفي هذا رد على ما قاله عدد من المفكرين والكتاب والصحفيين في هذا الوقت من إنكار صرع الجن والشياطين للإنسان!
ولعلكم سمعتم ما ذكره الشيخ الطنطاوي في فتاويه وكلامه من إنكار ذلك؛ وما تكلمت عنه جريدة المسلمون في مجموعة من أعدادها، حين قابلت بعض الأطباء، وصرحوا بإنكار إمكانية صرع الجن للإنس.
ولذلك أحب أن أنبه إلى أن الناس في هذه المسألة كما يقال طرفان ووسط! فمن الناس من ينكر هذه القضية بالكلية، ومن ينكر فليس معه إلا الجهل كما ذكر الشيخ؛ لأنه لا يستطيع أن ينكر ذلك.
وكون العلم لا يستطيع أن يثبته، فالعلم لا يزال يحتاج إلى وقت حتى يصل إلى منتهاه بل لن يصل إلى منتهاه أبدا، وكما يقال: عدم العلم بالشيء لا يعني العلم بعدمه، فهذا طرف.
الطرف الآخر: وهم جمهور العوام الذين يبالغون في إثبات هذه الحقيقة، فتجد أن الواحد منهم كلما نـزل به مرض قال هذا جن... هذا سحر... هذا عين، فيبالغون في ذلك وهذا لا ينبغي، فمن المعروف أن أسباب الأمراض كثيرة، والمبالغة في الحكايات والقصص والتهاويل التي يتناقلها الناس لا ينبغي الإفاضة بها، لكن نحن ينبغي أن نؤمن بأن دخول الجن في الإنس ممكنة شرعاً وثابتة واقعاً، وهي من الأمور الحقيقية التي لا يمكن أن يجادل فيها إلا من يجادل في البديهيات؛ لأنها من الأمور التي ترى بالعين وتسمع بالأذن وتحس بالواقع.
وكم من إنسان أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا يقرأ القرآن؛ فيدخل فيه جني؛ فيقرأ القرآن عن ظهر قلب، وقد يقرأ القرآن كله! هذا يحصل! ومن الناس من يدخل فيه جني فيتكلم بلغات مختلفة وهو لا يعرف شيئاً منها.
وفي ذلك قصص معروفة في المجتمع، وفي أشخاص بأعيانهم، فلا داعي للإفاضة بها، فلابد من التوسط والاعتدال في ذلك.
فإن فعله يدل على جوازه.
وعدم محبته له لا يدل على المنع منه.
وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل.
وأما النهي عنه: فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه، بل يفعله خوفاً من حدوث الداء والله أعلم.
وكما حرم ربا الفضل سداً لذريعة ربا النسيئة، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العرايا، وقد أشبعنا الكلام فيما يحل ويحرم من لباس الحرير، في كتاب التحبير لما يحل ويحرم من لباس الحرير ".
وهذا الكتاب لا أعرفه، ولا أدري أنه مطبوع أو لا.
وفي صفحة [85 - 87] ذكر أسباب الصداع، وأنها عشرون سبباً، يمكن الرجوع إليها.
فذكر خاصية السبع، فقال: إنها قد وقعت قدراً وشرعاً، فخلق الله عز وجل السماوات سبعاً، والأرضين سبعاً، والأيام سبعاً، والإنسان كمل خلقه في سبعة أطوار، وشرع الله لعباده الطواف سبعاً، والسعي بين الصفا والمروة سبعاً، ورمي الجمار سبعاً، وتكبيرات العيدين سبعاً في الأولى وقال صلى الله عليه وسلم: {مروهم بالصلاة لسبع} وإذا صار الغلام سبع سنين خير بين أبويه... إلى أن قال: وسخر الله الرياح على قوم عاد سبع ليال، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعينه الله على قومه بسبع، كسبع يوسف.
ومثل الله سبحانه ما يضاعف به صدقة المتصدق، بحبة أنبتت سبع سنابل... إلى أن قال: والسنين التي زرعوها دأبا سبعاً، وتضاعف الصدقة إلى سبعمائة ضعف، ويدخل الجنة من هذه الأمة بغير حساب سبعون ألفاً، فلا ريب أن لهذا العدد خاصية ليست لغيره، والسبعة جمعت معاني العدد كله وخواصه، فإن العدد شفع ووتر... إلى آخر ما قال مما يمكن أن يراجع في موضعه.
وهذا ما يسمونه بالعلاج النفسي في هذا العصر، فالإنسان إذا كان عنده قناعة بالعلاج وبالطب نفعه بإذن الله، وإذا لم يكن لديه قناعة فلا ينفع.
ولذلك تجد بعض الناس إذا ذهبوا إلى رجل يثقون فيه، ويطمئنون به، فقرأ عليهم فإنه بإذن الله ينتفعون بقراءته، ليس كله فقط لصلاح هذا الرجل أو لا، ولكن لذلك، ولكون هؤلاء اعتقدوا به فنفعهم هذا الاعتقاد.
ولذلك يحكى أن رجلاً كان في الشام في دمشق جالساً مع بعض تلاميذه، فجاءته امرأة كانت تعتقد به وتعظمه فقالت له: إن بيني وبين زوجي مشاكل وخصومات وأشياء كثيرة، فأريد أن تكتب لي ورقة لعل الله أن ينفعني بها، فكتب لها ورقة جعل فيها آية من القرآن الكريم [[قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّه ]][آل عمران:154] أو نحو ذلك، ثم طواها وأعطاها إياها، على سبيل تطييب خاطرها، فبعد فترة جاءته وهي تدعو له، وقالت: جزاك الله خيراً قد انتفعت بهذه الورقة، وزال ما بيني وبين زوجي من المشكلات …إلى آخره، فكشف الورقة لتلاميذه وأخبرهم ما فيها.
أقول: وقد وقفت على حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ذكر ما لا نفس له سائلة، حديث مرفوع ولعله في الدارقطني إن لم تخنّي الذاكرة، ولكن هذا الحديث ليس بقوي، فينازع في كون إبراهيم النخعي أول من استخدم هذا الاصطلاح.
ولذلك فإن بعض أهل العلم سئل عمن به السكر، فإذا تناول العسل قد يضره ويزيد من مرضه، فهل يتناوله؟
فقال: نعم يتناوله واحتج بقوله تعالى: [[فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ]][النحل:69].
وفي هذا -فيما يظهر لي والله تعالى أعلم- نظر! لأن كون العسل فيه شفاء للناس، هذا لا شك فيه، فهو شفاء؛ لكن لا يلزم أن يكون شفاء لكل دواء، ولكل شخص، وهذا من المعلوم بالضرورة، فإن الرسول ذكر أنواع أخرى من العلاجات غير العسل، ولو كان العسل علاجاً لكل شيء، لما احتاج إلى أن يذكر معه غيره.
وظهر سر قوله تعالى لأعدائه من اليهود: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [البقرة:87] فجاء بلفظ [كذبتم] بالماضي، الذي قد وقع منه وتحقق، وجاء بلفظ [تقتلون] بالمستقبل الذي يتوقعونه وينتظرونه " يعني: آخر نبي قتله اليهود وهو خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
ولذلك فإن كل مسلم يعتبر أن عند اليهود ثأراً له لابد أن يأخذه به يوماً من الأيام، فإنهم هم الذين سموا الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يقول في مرض موته: {مازلت أجد أثر الأكلة التي أكلت بـخيبر وهذا وجدت أوان انقطاع أبهري}.
قال في التعليق: الحارث بن كَلَده ثقفي من الطائف عاش في الجاهلية والإسلام، ورحل إلى بلاد فارس، وأخذ الطب من أهلها ترجمه الحافظ في الإصابة.
ونقل عن ابن أبي حاتم أنه لا يصح إسلامه، وأخرج أبو داود بسند صحيح عن سعد قال: {مرضت مرضاً أتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني، فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي، فقال: إنك رجل مفؤود، ائت
وحكم به أبو بكر الصديق، وكتب به إلى خالد بعد مشاورة الصحابة، وكان علي أشدهم في ذلك.
وقال ابن القصار وشيخنا -يعني ابن تيمية رحمه الله- أجمعت الصحابة على قتله، وإنما اختلفوا في كيفية قتله، فقال أبو بكر الصديق: [[يرمى من شاهق]] وقال علي رضي الله عنه: [[يهدم عليه حائط]] وقال ابن عباس: [[يقتلان بالحجارة]].
فهذا اتفاق منهم على قتله، وإن اختلفوا في كيفيته ".
ثم قال: وهذا الحكم وفق حكم الشارع، فإن المحرمات كلما تغلظت، تغلظت عقوباتها، ووطء من لا يباح بحال أعظم جرماً من وطء من يباح في بعض الأحوال.
يقصد رحمه الله أن الزنا، على أنه كما وصفه الله تعالى فاحشة وجريمة عظمى، إلا أنه أخف من اللواط؛ لأن هذه المرأة تباح إذا كان بعقد شرعي، بخلاف اللواط فإنه لا يباح بأي حال من الأحوال ولذلك كانت عقوبته أعظم، فقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتل اللوطي وإن اختلفوا في كيفية قتله.
اختلفوا أولا: هل الأربعون التي جلد النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حد أم تعزير؟
ثم اختلفوا فيمن تكرر منه شرب الخمر مرة أو مرتين والثالثة والرابعة، فما حكمه؟ هل يقتل أم يكتفى بجلده؟
وقبل أن أذكر قوله أقول: إن الترمذي رحمه الله ذكر حديث معاوية بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { إن شرب فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه}.
وقال الترمذي في آخر كتابه السنن في كتاب العلل في آخر السنن، قال: لم أذكر اتفق العلماء على ترك العمل به، إلا حديثين وذكر ثلاثة أحاديث، وقال بعضهم: تصل إلى أربعة، منها حديث ابن عباس في أن النبي صلى الله عليه وسلم {جمع في المدينة من غير خوف ولا سفر ولا مطر} ومنها: هذا الحديث أنه قال: {فإن عاد في الرابعة فاقتلوه} ذكره ابن القيم رحمه الله وقال: وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتله في الرابعة أو الخامسة واختلف الناس في ذلك، فقيل: هو منسوخ، وناسخه {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث} وقيل: هو محكم، ولا تعارض بين الخاص والعام، ولا سيما إذا لم يعلم تأخر العام، وقيل ناسخة حديث عبد الله بن حمار، فإنه أُتِىَ به مراراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلده ولم يقتله، وقيل: قتله تعزير بحسب المصلحة، فإذا كثر منه ولم ينهه الحد، واستهان به، فللإمام قتله تعزيراً لا حداً، وقد صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: [[ائتوني به في الرابعة: فعلي أن أقتله لكم]] وهو أحد رواة الأمر بالقتل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم معاوية وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وقبيصة بن ذؤيب رضي الله عنهم ".
ثم قال في آخر الكلام رحمه الله في صفحة [48]: " ومن تأمل الأحاديث؛ رآها تدل على أن الأربعين حد، والأربعون الزائدة عليها تعزير اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم؛ والقتل إما منسوخ، وإما أنه إلى رأي الإمام بحسب تهالك الناس فيها واستهانتهم بحدها، فإذا رأى قتل واحد لينـزجر الباقون؛ فله ذلك، وقد حلق فيها عمر رضي الله عنه وغرَّب، وهذا من الأحكام المتعلقة بالأئمة وبالله التوفيق ".
وقد ذكر الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله -العالم المحقق المصري- في تعليقه على مسند الإمام أحمد، كلاماً طويلاً في تعزيز القول بقتل شارب الخمر فليرجع إليه في شرحه وتحقيقه للمسند.
وهذا يدل على فقه الصحابة رضي الله عنهم، فإن من فقههم أنهم يقولون: إذا كثر وقوع الناس في جريمة ضاعفوا العقوبة عليها، بخلاف ما عليه الناس في هذا الزمان؛ فإن الناس إذا كثر وقوعهم في جريمة تساهلوا فيها، وفرطوا وقالوا: صعب أن نجلد الناس كلهم، أو نضربهم أو نسجنهم أو نقتلهم، فرأوا أن كثرة الوقوع في الشيء مدعاة إلى التخفيف، خلافاً لهدي الصحابة رضي الله عنهم؛ فكان رأيهم أن كثرة الوقوع في الأمر مدعاة إلى المبالغة في العقوبة، حتى ينـزجر الناس، وكما قيل: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
فبعضهم قالوا: تؤخذ من اليهود والنصارى فقط، وبعضهم قال تؤخذ من اليهود والنصارى والمجوس، لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، وبعضهم قال: تؤخذ من سائر المشركين والكفار.
قال الشيخ رحمه الله في صفحة [91] ولم يأخذها صلى الله عليه وسلم من مشركي العرب، فقال أحمد والشافعي: لا تؤخذ إلا من الطوائف الثلاث التي أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، وهم اليهود والنصارى والمجوس، ومن عداهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل، وقالت طائفة: في الأمم كلها إذا بذلوا الجزية قبلت منهم، أهل الكتابين بالقرآن، والمجوس بالسنة، ومن عداهم ملحق بهم، لأن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم، فأخذها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين، وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من عبدة الأوثان من العرب، لأنهم أسلموا كلهم قبل نـزول آية الجزية، فإنها نـزلت بعد تبوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرغ من قتال العرب، واستوثقت كلها له بالإسلام، ولهذا لم يأخذها من اليهود الذين حاربوه " إلى آخر ما قال.
وقال: وفرقت طائفة ثالثة، بين العرب وغيرهم، فقالوا: تؤخذ من كل كافر إلا مشركي العرب.
ورابعة فرقت بين قريش وغيرهم وهذا لا معنى له، فإن قريشاً لم يبق فيهم كافر يحتاج إلى قتاله، وأخذ الجزية منه البتة، إلى آخر ما قال.
والظاهر -والله تعالى أعلم- أن القول بأخذها من سائر المشركين، قول قوي، ويشهد له ما رواه مسلم من حديث سليمان بن بريده عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال>} وذكر فيها الجزية، فدل على أن الجزية تؤخذ من كل مشرك؛ يهودياً كان أو نصرانياً أو مجوسياً أو وثنياً، ولعل مما يؤيد ذلك قوله تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256].
أما موافقته لحكمه فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة.
إلى أن قال: وأما موافقته لأمره فإنه قال: {والبكر تستأذن} وهذا أمر مؤكد.
إلى أن قال: وأما موافقته لنهيه، فلقوله: {لا تنكح البكر حتى تستأذن} .
إلى أن قال: وأما موافقته لقواعد شرعه، فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من مالها إلا برضاها، ولا يجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها، فكيف يجوز أن يُرِقَّها، ويخرج بُضعها منها بغير رضاها، إلى من يريده هو.
وأما موافقته لمصالح الأمة، فلا يخفى مصلحة البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصول مقاصد النكاح لها به، وحصول ضد ذلك بمن تبغضه وتنفر عنه، فلو لم تأت السنة الصريحة بهذا القول، لكان القياس الصحيح وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره، وبالله التوفيق".
وهذه مسألة مهمة -أيها الإخوة- فكثير من الآباء اليوم يتساهلون في تزويج البنت البكر، ممن يريدون هم، إما لكونه ثرياً أو لكونه قريباً أو لغير ذلك من الأغراض، وهذا حرام لا يجوز إذا كانت لا ترضى به، ومن حقها أن تطالب بالفسخ.
ونجد في واقع المجتمعات في عصرنا هذا من الآثار السلبية الضارة -من انتشار الزنا والخيانة الزوجية- الكثير بسبب هذه القضية؛ لأن الأب إذا زوج البنت من رجل لا تريده، فالغالب أنه لا يحصل وفاق؛ لأن المرأة إذا دخل عليها الزوج وهي في نفسها لا تقبله، فالغالب أنها تبقى على ما كانت عليه، والمرأة فيها من الشهوة مثل ما في الرجل، فلذلك إذا أصر الأب وأصر الزوج على التمسك بهذه المرأة، ولم يكن عنده وازع من الإيمان والخوف من الله عز وجل يزعه، فقد تفكر في الخيانة، وخاصة حين يكون كبير السن.
وكثير من القضايا التي توجد في الدوائر الرسمية، يكون السبب فيها مثل هذا الأمر، وخاصة أن الزوج يكون مسناً، فلا يعطي المرأة ما تريد، وهي شابة في سن الشباب والفتوة والقوة والحيوية، فلا تجد عنده ما تريد من العواطف، ومن إشباع غريزتها إلى غير ذلك، فيقع ما لا تحمد عقباه، ويحصل أيضاً حالات طلاقٍ كثيرة بسبب هذا الأمر؛ فليس من حق الأب أن يزوج بنته ممن لا تريد، كما أنه ليس من حقه أن يأخذ المهر، فالمهر في الواقع للبنت، وليس للأب، وكون بعض الآباء لا يخافون الله عز وجل، فيزوج ابنته بمبالغ طائلة، ثم يأخذ هذا المال؛ فهذا المال حرام وسحت، يأكله سحتاً، ولا يجوز له أن يأخذ قرشاً واحداً إلا برضاها.
فقال الإمام المصنف رحمه الله في التعليق على هذا الحديث: فتضمن هذا الحكم أموراً:
أحدها: أن الرجل إذا شرط لزوجته ألا يتزوج عليها، لزمه الوفاء بالشرط، ومتى تزوج عليها فلها الفسخ " ثم قال: فيؤخذ من هذا أن المشروط عرفاً، كالمشروط لفظاً، وأن عدمه يُمَلَّك الفسخ لمشترطه.
فلو فرض من عادة قوم أنهم لا يخرجون نساءهم من ديارهم، ولا يمكنون أزواجهم من ذلك البتة، واستمرت عادتهم بذلك، كان كالمشروط لفظاً ".
يعني وإن لم ينطق به أهل المرأة، لكن كان هذا معروفاً عنهم مستفيضا في المجتمع، ثم قال: وهو مطرد على قواعد أهل المدينة، وقواعد أحمد رحمه الله أن الشرط العرفي كاللفظي سواء.
والمقصود بالكفاءة: تكافؤ الزوجين، والفقهاء لهم في ذلك تفصيلات كثيرة في المقصود من الكفاءة.
فالمصنف رحمه الله قال: " فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الكفاءة في النكاح " وذكر آيات وأحاديث ثم قال: " فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم، اعتبار الدين في الكفاءة أصلاً وكمالاً، فلا تزوج مسلمة بكافر، ولا عفيفة بفاجر " ومع الأسف -إخواني الكرام- فإن كثيراً من الآباء يزوجون بناتهم المؤمنات الدينات الصينات من كفار لا يصلون، بل بعضهم ملاحدة وقد يكونوا شيوعيين أو ملحدين أو زنادقة.
فقد تجد بنتاً متدينةً، تصوم النهار وتقوم الليل، في بيت رجل سكير عربيد فاجر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فتلقى منه الويل، لأن المرأة موقعها ضعيف، وقد لا يصلي هذا الرجل، فتجده-في البيت دائماً أوقات الصلوات، وهي مكرهة- يأخذها زوجها بالقوة من بيت أهلها، ثم يأتي بها إلى بيته ويضاجعها ويجامعها بالقوة، وهي لا تملك لنفسها، إلا الدموع والبكاء، وسؤال الله عز وجل.
أفلا يخافون الله عز وجل القائل: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:4-6] فيجعل الواحد ابنته عند رجل كافر، يطؤها حراماً نسأل الله السلامة من ذلك.
يقول المصنف: فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم اعتبار الدين في الكفاءة أصلاً وكمالاً، فلا تزوج مسلمة بكافر ولا عفيفة بفاجر، ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمراً وراء ذلك، فإنه حرم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث، ولم يعتبر نسباً ولا صناعة، ولا غنىً ولا حريةً، فجوز للعبد القنِّ نكاح الحرة النسيبة الغنية إذا كان عفيفاً مسلماً، وجوز لغير القرشيين نكاح القرشيات، ولغير الهاشميين نكاح الهاشميات، وللفقراء نكاح الموسرات.
وقد تنازع الفقهاء في أوصاف الكفاءة… إلى آخر ما قال.
والمهم أن رأي المؤلف رحمه الله أن الكفاءة هي الدين فقط، وبناءً عليه: يُعلم أن ما شاع عند الناس من أن الناس لا يتزوج بعضهم من بعض إذا اختلفت أنسابهم -كما يعبرون بالخطوط- فهذا خط وهذا خط، وهذا قبيلي، وهذا خضيري، وهذا كذا وهذا كذا، وبنوا عليها: أن هذا لا يتزوج من هذا، فهذا من انتكاس القيم والمفاهيم. ومن العجيب أن الناس في هذا الزمان -كما ذكرت لكم قبل قليل- قد يزوج الرجل النسيب من عائلة معروفة ابنته من كافر لا يشهد الصلاة ولا يصلي جمعة ولا جماعة، ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر!! لماذا؟!
لأنه من قبيلة كذا أو من عائلة كذا، ويأتيه إنسان قد يكون في الغاية من الدين والورع والتقوى والصلاح، ليس من نسبه فيرده!
فهكذا يكون انتكاس المفاهيم واختلال القيم، لكن في هذه المسألة ينبغي أن تراعى قضية وهي: أنه إذا كان مثل هذا الأمر يدعو إلى مشاكل عائلية، وافتراق وقطيعة رحم، ونوع من هذه الأمور، وقد يؤدي فيما بعد إلى الطلاق، بسبب ضغوط الأهل، فيحرص الإنسان على تجنبها، لا لأنه غير جائز شرعاً، لكن مراعاة للمصلحة.
فبعد أن ذكر أحاديث قال: " فتضمن هذا الحديث أن الصداق لا يتقدر أقله، وأن قبضة السويق وخاتم الحديد، والنعلين؛ يصح تسميتها مهراً، وتحل بها الزوجة " من يزوج بنته على قبضه سويق أو على خاتم حديد أو على نعلين؟!
قال: " وتضمن أن المغالاة في المهر مكروهة في النكاح، وأنها من قلة بركته وعسره.
وتضمن أن المرأة إذا رضيت بعلم الزوج، وحفظه للقرآن أو بعضه من مهرها؛ جاز ذلك، وكان ما يحصل لها من انتفاعها بالقرآن والعلم هو صداقها، كما إذا جعل السيد عتقها صداقها، وكان انتفاعها بحريتها وملكها لرقبتها هو صداقها ".
فذهب عطاء والحسن وعكرمة ومكحول وجابر بن زيد ومحمد بن المنكدر والشعبي والنخعي والحكم وحماد والزهري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر والإمام أحمد في المشهور من مذهبه، والشافعي في أحد قوليه، إلى أنه ليس دم حيض ".
ثم ذكر من قالوا بالقول الآخر: وأنه دم حيض، والقول الأول: هو مذهب سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز، فإنه يفتي بأنه ليس بحيض فيما أذكر من فتاواه.
وهذه عبرة لبعض الناس الذين يبيعون ما حرم الله، فمن الناس من يبيعون الصور والتماثيل التي قد تعبد من دون الله، ومنهم من يبيعون كتب الكفر والزندقة والإلحاد.
دخلت مكتبة فوجدت فيها كتاباً يباع في سائر المكتبات، وهو ديوان شعر لشاعر تونسي اسمه أبو القاسم الشابي، هذا الكتاب يقول فيه الشاعر:
حدثوني هل للورى من إله راحم مثل زعمهم أواه |
يخلق الخلق باسماً ويواريهم ويرنو لهم بعطف الإله |
إنني لم أجده في هذه الدنيا فهل خلف أفقه من إله |
وهذا الكتاب يباع في كثير من المكتبات، وأناس لا يخافون الله عز وجل، يكسبون أموالاً من وراء بيع هذه أعني كتب الزندقة والإلحاد، ودعك من كتب الجنس، التي فيها كثير من القصص والروايات، وكثير من المجلات المملوءة بصور النساء، والدعوة إلى خروج المرأة وسفورها واختلاطها وسفرها، وتحويلها إلى مغنية أو راقصة أو ممثلة، فلا تكاد تدخل بقالة إلا تجد فيها هذه الأشياء، إضافة إلى بيع الدخان، وبيع الخمر سراً، وبيع أشياء كثيرة، فعلى هؤلاء أن يتقوا الله عز وجل ولا يأكلوا ما حرم الله تعالى.
الطريف في هذه المسألة: أن العلماء لما تكلموا في موضوع التيمم -وقد ذكرته قبل قليل- قالوا: إن وجد الماء بقيمة المثل اشتراه، قال الإمام ابن حزم في كتاب المحلى لا يجوز له أن يشتري الماء، ولو وجده بقيمة المثل أو أقل من ذلك، بل لو اشترى ماءً بقيمة المثل أو أقل ثم توضأ به، فإنه لا يجزؤه ذلك، إلا أن يتيمم، قال: لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حرم بيع الماء، فبيعه حرام وشراؤه حرام، وهذا عقد باطل ولا يجوز له أن يستعمل هذا الماء.
لكن بقي أن يقال -رداً على ابن حزم إن هذا الإنسان وإن كان بيعه حراماً، فلنفترض أنه أخذ الماء وتوضأ به، من غير بيع؛ لأنه يجب على صاحبه أن يبذله له إن لم يكن في حاجته، فيكون وضوؤه حينئذٍ صحيحاً، والله تعالى أعلم.
كنت قد وعدت أنه اعتباراً من هذه الحلقة -إن شاء الله- سوف أبدأ بتقديم بعض الكتب على سبيل انتقاء وانتخاب بعض الفوائد والفرائد، والشوارد التي قد لا يقف عليها الإنسان بسهولة، وذلك أولاً -حتى يستفيد الإنسان من هذه الأشياء، وحتى ينشط إلى قراءة هذه الكتب والاطلاع عليها, وهي فوائد متفرقة ومتناثرة لا يجمعها موضوع ولا عنوان ومن الطبيعي أن تكون إحداها مشرقة والأخرى مغربة، واحدة في الفقه والأخرى في الأصول، والثالثة في التاريخ والرابعة في الأدب، ولكن يربطها رابط عام وهو الفائدة -إن شاء الله-.
والكتاب الذي اخترته هو كتاب العزلة للإمام الحافظ المحدث الأديب اللغوي أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي المولود سنة 317هـ والمتوفى سنة 388هـ، والخطابي له مصنفات كثيرة جداًَ، منها معالم السنن تعليقه على سنن أبي داود، ومنها غريب الحديث، ومنها كتاب الدعاء وغيرها, وهذا الكتاب هو أحد كتبه التي جمع فيها من النقول والنصوص والأشعار، وجمع فيها من الآيات والأحاديث وأقوال العلماء الشيء الكثير حول هذا الموضوع، وهو موضوع العزلة, ومن فوائد هذا الكتاب ومميزاته أنه تعرض لمباحث.
منها: مباحث في موضوع العزلة والخلطة, ومتى تكون العزلة أفضل، ومتى تكون الخلطة أفضل؟
ومنها: الحث على اختيار الجلساء والأصحاب الصالحين.
ومنها: حسن المعاشرة وذكر الصحبة وآدابها، وهو بذلك يذكر قصصاً وطرائف وأخباراً وأشعاراً فيها متعة وفائدة.
ومن مميزات الكتاب: الحديث عن الناس وطبائعهم وما جبلوا عليه إلى غير ذلك، ولكن ينبغي أن يعلم أن هذا الكتاب قد بالغ فيه الإمام الخطابي في الحط من الخلطة والحث على العزلة, حتى قال هو في آخر الكتاب: إني أخشى أن أكون قد بالغت في ذلك أو زدت عليه بما لا ينبغي, ويقول في آخر الكتاب: في باب لزوم القصد -أي: رجع إلى الحديث عن القصد والاعتدال- قال: قد انتهى من الكلام في أمر العزلة، وأوردنا فيها من الأخبار ما خفنا أن نكون قد حسنا معه الجفاء من حيث أردنا الاحتراز منه، وليس إلى هذا جرينا ولا إياه أردنا, فإن الإغراق في كل شيء مذموم وخير الأمور أوسطها, والحسنة بين السيئتين, وقد عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإغراق في عبادة الخالق عز وجل, والحملة على النفس منها ما يؤودها ويكلها, فما ظنك بما دونها من باب التخلق والتكلف, وهذه من أجمل ما في الكتاب فينبغي أن ينتبه لها, لإن منهج الكتاب ليس مرضياً كله في مدح العزلة وذم الخلطة.
إذا كان ود المرء ليس بزائد على مرحباً كيف أنت وحالكا |
ولم يك كاشراً أو محدثاً فأف لود ليس إلا كذلكا |
لسانك معسول ونفسك بشة وعند الثريا من صديقك مالكا |
وأنت إذا همت يمينك مرة لتفعل خيراً قابلتها شمالكا |
وهذه الأبيات رواها غيره، منهم ابن حبان في نـزهة الفضلاء وغيره، وفيها التحذير من قرناء السوء.
خلت الديار فسدت غير مسود ومن الشقاء تفردي بالسؤدد |
أي: أن سفيان بن عيينة يحزن أن الديار خلت من العلماء فيما يقول هو، فصار سيداً هو، مع أنه ليس أهلاً لذلك في ظنه، ولا شك أن سفيان هو من هو في الفضل والعلم، والسؤدد والمكانة، لكن هذا من فضله ونبله وتواضعه وهضمه لنفسه رحمه الله فكيف لو خرج علينا في هذا الزمان؟!
قال: وأنشدني إبراهيم بن فراس في نحو هذا - في نفس هذا الموضوع -قول الشاعر:
وإن بقوم سودوك لحاجة إلى سيد لو يظفرون بسيد |
أي: القوم الذين وضعوك سيداً عليهم يحتاجون فعلاً إلى سيد؛ لأنهم ما وضعوك في هذا الموقع إلا لفقرهم من السادة، وقلة الأكفاء.
قال وفي آخر:
وما سدت فيهم إن فضلك عمهم ولكن هذا الحظ في الناس يقسم |
أي: ما كانت سيادتك لفضلك وكرمك؛ وإنما هو قضاء وقدر.
هذا الزمان الذي كنا نحاذره في قول كعب وفي قول ابن مسعود |
إن دام هذا ولم يحدث له غَيَّر لم يبكِ ميت ولم يفرح بمولود |
هذه الأبيات يحفظها الإنسان ليتمثل بها في بعض الوقائع، خاصة في هذا الزمان المظلم، فكثيراً ما ترى أحداثاً وتسمع أخباراً، أي: تجعلك تردد هذه الأبيات:
هذا الزمان الذي كنا نحاذره في قول كعب وفي قول ابن مسعود |
إن دام هذا ولم يحدث له غيَّر لم يبكِ ميت ولم يفرح بمولود< |
تسامح ولا تستوفِ حقك كله وأبقِ فلم يستوف قط كريم |
ولا تغلو في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم |
قال: عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه قال: [[لا يكون حبك كلفاً، ولا يكون بغضك تلفاً]].
ومن الفوائد التي ذكرها المصنف رحمه الله، أنه ذكر إخوان السراء، الذين يصاحبون الإنسان في حال غناه، فإذا احتاج إليهم هربوا منه، وذكر من ذلك قول بعضهم:
وإن من الإخوان إخوان كثرة وإخوان حياك الإله ومرحباً |
وإخوان كيف الحال والأهل كله وذلك لا يسوى نقيراً مُترباً |
جواد إذا استغنيت عنه بماله يقول إلي القرض والقرض فاطلبا |
فإن أنت حاولت الذي خلف ظهره وجدت الثريا منه في البعد أقربا< |
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأكثروا في الموت ألف فضيلة لا تعرف |
منها أمان لقائه بلقائه وفراق وفراق كل معاشر لا ينصف< |
قال: وعن سفيان قال: " من لم يتفت لم يتقرأ " قال أبو سليمان يشرح هذه الكلمة - إن من عادة الفتيان ومن أخذ بأخذهم، بشاشة الوجه وسجاحة الخلق، ولين العريكة، ومن شيمة الأكثرين من القراء، الكزازة وسوء الخلق، فمن انتقل من الفتوة إلى القراءة؛ كان جديراً أن يتبقى معه تلك الذوقة والهشاشة، ومن تقرأ في صباه، لم يخلُ من جفوة أو غلظة…" إلى آخر ما قال.
والحقيقة أن هذا الكلام وإن كان ليس على إطلاقه، فلا شك أن في صغار طلاب العلم من فيهم من لين العريكة وسجاحة الخلق، والهشاشة والبشاشة الشيء الكثير، إلا أن له رصيد من الواقع، وإنما سقته حتى ينتبه الإخوة إلى هذا الأمر، ويباعدوا أنفسهم عن مثل هذه الخصال.
وذكر أن رجلاً كان في مجلس عبد الواحد بن غياث يقول: سمعت أبي رأى رجلاً من أصحاب الحديث صلى لجنبه، فلما سلم الإمام سلم دفاتره -وكانت قد فاتته ركعة- ولم يصلِّ الركعة التي فاتته، يعني لانشغاله بالطلب غفل عن الركعة التي فاتته، وذكر هاهنا قصة يقول: حدثنا مؤمل بن إيهاب قال حدثني يحيى بن حسان قال كنا عند سفيان بن عيينة وهو يحدث، فازدحمت فرقة من الناس على محمل شيخ ضعيف فانتهبوه، ودقوا يد الشيخ -أي ضروا الشيخ- وأخذوا بعض ما معه، فجعل الشيخ يصيح يا سفيان لا جعلتك في حل مما فعلوا بي، لأن ذلك كان في مجلسه، بسبب الزحام، قال: وسفيان لا يسمع -أي: أن سفيان يسمع صوت الرجل لكن لا يدري ما يقول- قال سفيان: فنظر سفيان إلى رجل من أولئك الذين صنعوا بالشيخ ما صنعوا -رجل ليس من أهل الحديث لكنه ملصق فيهم- فقال له سفيان ماذا يقول هذا الشيخ؟ قال: يقول زدنا في السماع" العكس- الشيخ يريد أن يسكت سفيان، حتى يزول الزحام، فهذا قال: إن الرجل قال يا شيخ يا سفيان: زدنا في السماع.
الأولى: قال: كان الشافعي رحمة الله عليه رجلاً عطراً -أي يحب الطيب- وكان يجيء غلامه كل غداة بغالية، وهو نوع من الطيب، فيمسح بها الأسطوانة التي يجلس إليها الشافعي رحمه الله، وكان إلى جنبه إنسان من الصوفية، وكان يسمي الشافعي بالبطال -أي: يعتبر أن طلب العلم والحديث نوع من البطالة- يقول: هذا البطال هذا البطال.
قال: فلما كان ذات يوم عمد هذا الرجل إلى شاربه، فوضع فيه الأذى، ثم جاء إلى حلقة الشافعي، فلما شم الشافعي الرائحة أنكرها وقال: فتشوا نعالكم، فقالوا ما نرى شيئاً يا أبا عبد الله، قال: فليفتش بعضكم بعضاً فوجدوا ذلك الرجل، فقالوا يا أبا عبد الله هذا.
فقال له: ما حملك على هذا؟
قال رأيت تجبرك، فأردت أن أتواضع لله عز وجل، ولا شك أن الشافعي رحمه الله أبعد الناس عن التجبر، ولكن هذا ظن هذا الصوفي المتعبد على جهل وضلال.
قال الشافعي: خذوه فاذهبوا به إلى عبد الواحد-عبد الواحد مدير الشرطة- فقولوا له: قال لك أبو عبد الله اعتقل هذا إلى وقت ننصرف، قال فلما خرج الشافعي؛ دخل إليه فدعا به، فضرب ثلاثين درة، قال الشافعي: إنما هذا لتخطيك المسجد بالقذر، وصليت على غير طهارة.
وانظر إلى فقه الإمام الشافعي ما قال: لأنك أهنتني، أو لأنك تعمدت إيذائي، إنما لأنه تخطى المسجد بالقذر، وصلى على غير طهارة.
ثم ذكر المصنف قصة ثانية: وهي أعجب من الأولى قال: " أخبرني بعض أهل العلم قال: كان يختلف معنا رجل إلى أبي ثور، وكان هذا الرجل ذا سمت وخشوع، فكان أبو ثور إذا رآه جمع نفسه، وضم أطرافه، وقيد كلامه -أي: من باب الهيبة لهذا الرجل، ألا يلحظ على أبي ثور أمراً يخالف ما ينبغي له من الهدي والسمت والأدب؛ فكان أبو ثور يتحفظ إذا حضر هذا الرجل- قال: فغاب عن مجلسه مدة، فتعرف أبو ثور خبره، فلم يوقف له على أثر.
ثم عاد إلى المجلس بعد مدة طويلة، وقد نحل جسمه وشحب لونه، وعلى إحدى عينيه قطعة شمع قد ألصقها بها، فما كاد يتبينه أبو ثور -أي ما كاد أن يعرفه، لأنه اختلف عليه- ثم تأمله فقال له: ألست صحابنا الذي كنت تأتينا؟
قال بلى، قال: فما الذي قطعك عنا؟
قال: قد رزقني الله سبحانه الإنابة إليه، وحبب إلي الخلوة وأنست بالوحدة واشتغلت بالعبادة- الشيطان يستله من مجالس الذكر والعلم إلى أماكن أخرى يخلو بها فيه، ويملي عليه ما يريد كما سوف يلاحظون - قال له أبو ثور: فما بال عينك هذه؟
قال: نظرت إلى الدنيا، فإذا هي دار فتنة وبلاء، قد ذمها الله تعالى إلينا وعاب فما فيها، فلم يمكنني تغميض عيني كلتيهما عنها، ورأيتني وأنا أبصر بإحداهما نحواً مما أبصر بهما جميعاً، فغمضت واحدة وتركت الأخرى.
فقال له أبو ثور: ومنذ كم هذه الشمعة على عينك؟
قال: منذُ شهرين، قال أبو ثور: يا هذا أما علمت أن لله عليك صلاة شهرين؟
وطهارة شهرين؟
انظروا إلى هذا البائس، قد خدعه الشيطان، فاختلسه من بين أهل العلم، ثم وكل به من يحفظه ويتعهده ويلقنه العلم ".
يعني الشيطان اختلس هذا الإنسان من مجلس أبي ثور وتفرد به، فـأبو ثور نبهه إلى أن عليه وضوء شهرين وطهارة شهرين لأنه توضأ وصلى على غير طهارة هذا المدة، حيث لم يغسل ما تحت هذا الشمعة التي كانت على عينه، ثم وكل أبو ثور بهذا الرجل من يحفظه ويتعاهده ويلقنه العلم؛ لئلا يجتره الشيطان مرة أخرى.
وفي الكتاب فوائد وفرائد كثيرة غير ما ذكرت، ولكن هذا أبرز ما فيه.
أسأل الله أن يعلمني وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر