إسلام ويب

سلسلة السيرة النبوية ما بعد بدرللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أعز الله المؤمنين في غزوة بدر وخذل المشركين، وأصبح للإسلام دولة حقيقية في الجزيرة العربية، الأمر الذي جعل قريش تشتعل حقداً على الإسلام، وحزناً على فقدان أبطالها الشجعان، فكان لغزوة بدر تأثيرات إيجابية على المسلمين، وتأثيرات سلبية على أهل الكفر والضلال، لذلك فكرت قريش في استرداد هيبتها في الجزيرة بأحداث تلت وقعة بدر.

    1.   

    الآثار المترتبة على غزوة بدر

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فمع الدرس التاسع من دروس السيرة النبوية في العهد المدني، وكنا قد تحدثنا في الدروس السابقة عن غزوة بدر وعن الملابسات التي أدت إلى قيام الغزوة وعن صفات الجيش المنتصر، وعن جنود الرحمن سبحانه وتعالى في هذه الغزوة، ووصلنا إلى أن هذه الغزوة فعلاً من أعظم الغزوات في تاريخ المسلمين، وقد سماها رب العالمين سبحانه وتعالى بيوم الفرقان؛ وما ذلك إلا لأنها فرقت بين مرحلتين مهمتين من مراحل الدعوة الإسلامية والأمة الإسلامية، والذي يتذكر الوضع قبل غزوة بدر ويدرس الوضع بعد غزوة بدر يلاحظ الفرق الهائل بين حال المسلمين قبل الغزوة وبعدها.

    إنَّ غزوة بدر كان لها آثار ضخمة هائلة على الجزيرة العربية بكاملها بل وعلى العالم بصفة عامة، وما زال لغزوة بدر إلى يومنا هذا آثار، وسيكون لها آثار إلى يوم القيامة، فهي فعلاً يوم الفرقان.

    أثر غزوة بدر في الميلاد الحقيقي للدولة الإسلامية بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم

    أول آثار غزوة بدر وأعظمها هو الميلاد الحقيقي للدولة الإسلامية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، والجيش الإسلامي الذي ولد في هذه الغزوة هو الذي على أكتافه أنشئت الدولة العظيمة دولة الإسلام، وقد تعرفنا في غزوة بدر على صفات الجيش المنتصر، وعرف الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم هذه الصفات، ودرسوها بإتقان، وبعد هذا طبقوها في كل المعارك التي انتصر فيها المسلمون، وإذا خالف المسلمون نقطة أو بعض النقاط من هذه الصفات أتت الهزيمة والمصائب؛ لذلك فإن غزوة بدر تعتبر معياراً أو مقياساً يجب أن يقيس المسلمون عليه أحوالهم، فإن كانوا يطيقون هذه الصفات فلله الحمد والمنة والفضل، وإن كانوا غير ذلك فلا بد أن يعدلوا مسارهم؛ ليعودوا إلى الطريقة التي سار عليها أهل بدر رضي الله عنهم أجمعين.

    ولدت أمة الإسلام بعد غزوة بدر، وأصبح لها هيبة في الجزيرة العربية بكاملها، وبدأ الناس في كل الجزيرة يتساءلون عن الإسلام والمسلمين، فقد كانوا يتخيلون من قبل أن الأمر مجرد خلاف داخلي داخل مكة، هذا الخلاف هو رجل من مكة خرج بشيء اعترض عليه قومه، وظهر له أتباع، فهي مجرد حرب أهلية في داخل مكة المكرمة، ثم بعد ذلك لفتت أنظار العرب الهجرة إلى المدينة المنورة، لكن اللفت الحقيقي للأنظار كان بعد بدر، فالانتصار الضخم كان له أثر مهول على الجزيرة بكاملها، فبدأ الناس يتساءلون: من هم المسلمون؟ ما هو الإسلام؟ ولا شك أن هذا فتح للإسلام قلوباً كثيرة.

    وهكذا بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام ينظر دولته كدولة مستقرة، لها كيان مستقل ولها احترام ولها سمعة عظيمة في داخل الجزيرة العربية.

    آثار غزوة بدر على أهل المدينة

    كذلك أثرت غزوة بدر على المسلمين في داخل المدينة المنورة الذين لم يشاركوا فيها، فإنه لما وصل خبر نصر الإسلام في غزوة بدر إلى المدينة المنورة اختلطت مشاعر الفرح والسرور بهذا النصر العظيم بمشاعر الندم لعدم المشاركة في هذا النصر العظيم.

    التف المسلمون حول البشير وهو زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه يطمئنون على أخبار الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرجع مباشرة من بدر، بل مكث في أرض بدر ثلاثة أيام كعادة الجيوش المنتصرة، وبعد ذلك عاد إلى المدينة المنورة، لكن الخبر كان قد سبق واستقبلت وفود التهنئة الرسول صلى الله عليه وسلم بمنتهى الترحاب والفرح والسرور، وفي نفس الوقت جاء كثير من الأنصار رضي الله عنه وأرضاهم يعتذرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم مشاركتهم في بدر مع رغبتهم الأكيدة في الجهاد في سبيل الله؛ لأنهم لم يعرفوا أن هناك قتال.

    على سبيل المثال: جاء له أسيد بن حضير رضي الله عنه وأرضاه وقال: (يا رسول الله! الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك، والله يا رسول الله! ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدواً، ولكن ظننت أنها عير، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت، فقال له صلى الله عليه وسلم: صدقت).

    إن مشاعر الندم التي جاءت في قلوب الأنصار والمهاجرين الذين لم يشاركوا في غزوة بدر ستؤدي بعد ذلك إلى بعض النتائج كما سنرى، وسيكون لها أثر واضح إيجابي في مقدمة غزوة أحد كما سيتبين لنا.

    إذاً: كان هناك أثر إيجابي كبير على الجيش المسلم، وعلى الذين لم يشاركوا في غزوة بدر، وقامت الدولة الإسلامية على أكتاف هؤلاء وهؤلاء.

    آثار غزوة بدر على مشركي مكة

    في نفس الوقت كان في غزوة بدر أثر سلبي ضخم جداً على مشركي مكة الذين خرجوا وفجعوا بهذه الفجيعة الضخمة في بدر، فهي ضربة قاصمة هائلة لقريش، وهزة عنيفة لكبرياء قريش وكرامتها وعزتها، فقد كانت قريش أمنع قبيلة في العرب وأعزها وأكبرها، لها تاريخ وكل قبائل العرب تحترمها، لكن الوضع بعد بدر اهتز بشكل مريع، فسبعون واحداً من المشركين الذين شاركوا في بدر قتلوا، وسبعون كذلك أسروا، وقارن بين هذه الغزوة وسرية نخلة، فسرية نخلة انتفضت فيها قريش وقلبت الجزيرة العربية وقامت بحرب إعلامية، وكان المقتول فيها واحداً والمأسور فيها اثنين، من خلال ذلك ستعرف مدى المأساة التي وقعت على أهل قريش بعد هذه الغزوة العظيمة غزوة بدر، كذلك هؤلاء السبعون الذين قتلوا هم عمالقة الكفر وقادته وأئمة الضلال في الأرض، منهم فرعون هذه الأمة أبو جهل ، ومنهم الوليد بن المغيرة ، ومنهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف وغيرهم كثر.

    هؤلاء السبعون قتلوا في يوم واحد وفنوا في لحظة واحدة، فياله من شيء يشيب له الولدان، فيا ترى! كيف كان تأثر قريش لما وصل الخبر؟

    قام الحيسمان بن عبد الله الخزاعي بإيصال الخبر، فما زالت قريش لا تعرف عن أخبار بدر شيئاً، فلما رأوا الحيسمان بن عبد الله الخزاعي قادماً قالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف في رجال من الزعماء سماهم، فاندهش صفوان بن أمية حتى قال: والله إن يعقل هذا، فاسألوه عني، لو سألتموه عني سيقول لكم: قتل كذلك، فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية ؟ قال: ها هو ذا جالس في الحجر، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا!

    كان هذا طبعاً الخبر كالصاعقة على أهل قريش؛ لذلك لم يصدقوا، فانتظروا رسولاً ثانياً، فجاء أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه أبو لهب -وقد تخلف عن غزوة بدر- قال: هلم إلي فعندك لعمري الخبر. فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال أبو سفيان كلمات في منتهى الخطورة، قال: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، فتعجبوا من قوله فقال: لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض والله ما تليق شيئاً -لا تترك أمامها شيئاً ولا تبقي- ولا يقوم لها شيء. وهكذا صرح أبو سفيان بهذه الكلمات أمام المشركين، والمشركون يسمعون ولا يصدقون، ومع كل هذا الأمر إلا أنهم لا يؤمنون.

    وكان أبو رافع رضي الله عنه وأرضاه موجوداً بينهم، وهو غلام للعباس رضي الله عنه، وكان يخفي إسلامه، فلما سمع ذلك قال: تلك والله الملائكة.. تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده وضربه في وجهه ضربة شديدة، وحصل بينهما نزاع، فاعتلى أبو لهب فوقه وبدأ يضربه، فجاءت أم الفضل زوجة العباس رضي الله عنهما وكانت تخفي إسلامها أيضاً، فأمسكت عموداً وضربت أبا لهب على رأسه حتى شجته شجة منكرة، وقالت له: استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام أبو لهب مولياً ذليلاً، ولم يعش بعد هذه الضربة إلا سبع ليال، فقد رماه الله سبحانه وتعالى بمرض يسمى العدسة، وهي قرحة تصيب الإنسان وتقتله في أيام، وكانت العرب تتشاءم من هذه القرحة، فلم يستطيعوا الاقتراب من أبي لهب حين أصيب بها إلى أن مات، ولم يجرؤ أحد من أولاده على الاقتراب منه، وظلَّ مرمياً على الأرض ثلاثة أيام إلى أن انتشرت رائحته في المكان، فخاف أولاده من تعيير العرب لهم بأبيهم، فحفروا حفرة جواره، وأمسكوا عموداً وبدءوا يدفعون به إلى داخل الحفرة، وأخذوا يلقون الحجارة عليه من بعيد حتى سدوا عليه الحفرة. هذه هي النهاية أبي لهب ، وكانت نهايته بعد سبع ليال فقط من غزوة بدر.

    وهكذا فقد المشركون في غزوة بدر كل هذا العدد الضخم من القادة، وبعدها بسبعة أيام فقدوا قائداً كبيراً وهو أبو لهب ، وكانت نهاية أبي لهب في منتهى الخزي والعار والذلة والمهانة، مع أنه كان كبير عائلة بني هاشم بعد وفاة أبي طالب ، ومن المفروض أن جنازته تكون جنازة رسمية في داخل مكة، وتأتي الوفود لتعزية أقاربه فيه، لكن لم يحصل ذلك؛ لأن العرب كانت تتشاءم من المرض الذي مات به أبو لهب .

    إذاً: حدث في بدر أزمات كثيرة جداً، أول هذه الأزمات: أزمة سياسية فقد فقدت قريش مكانتها في وسط العرب، واهتزت هزة كبيرة.

    ثانيها: أزمة اجتماعية، فكل واحد من قريش بكى قتيلاً في بيته، وبذلك تحققت رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب ورؤيا جهيم بن الصلت ، فقد رأيا أن كل بيت من بيوت مكة أصيب، وهكذا صار لكل واحد ثأر، وموضوع الثأر في البيئة القبلية كان منتشراً، فمنهم من مات له أب، ومنهم من مات له عم، ومنهم من مات له ابن، وهكذا أصبحت القضية مأساوية في داخل كل بيت من بيوت مكة.

    ثالثها: أزمة اقتصادية: تعرفون أن مكة تعتمد اعتماداً كلياً على التجارة، تعرف رحلاتها برحلة الصيف ورحلة الشتاء، وإحدى هاتين الرحلتين تكون إلى الشام، هذه الرحلة تمر بالمدينة المنورة، وهي لها من القوة ما يجعلها تسيطر على المداخل والمخارج المؤدية إلى الشام، وهذه القوة بلا شك ستمنع التجارة إلى الشام، وإذا منعت التجارة من الشام سقطت التجارة كلياً في مكة المكرمة، ولا تتأثر تجارة الشام فقط، بل تجارة اليمن كذلك؛ لأنهم كانوا يأتون بتجارة من الشام ويبيعونها في اليمن، ويأتون بتجارة من اليمن ويبيعونها في الشام وهكذا.

    فأحدى الرحلتني ستنقطع، وستكون هناك مأساة اقتصادية حقيقية لأهل مكة المكرمة، كما أن مأساة سرية نخلة التي كانت قبل شهر ونصف من غزوة بدر ما زالت مؤثرة في قريش، فقد كانت قافلة ثرية من قوافل قريش استولى عليها المسلمون، أما قافلة أبي سفيان فقد نجت، ولكن سيبقى من الصعب جداً على المشركين أن يتاجروا مع الشام.

    إذاً: هذا موقف مكة المكرمة، ولا شك أن أهل الكفر في قريش لن يسكتوا على هذا المصاب الفادح الذي أصابهم في بدر.

    أثر غنائم بدر على المؤمنين

    الأثر الرابع لغزوة بدر: كان سلبياً لكن على المؤمنين، ونحن نستغرب كيف يكون هناك أثر سلبي على المؤمنين بعد هذا الانتصار الكبير في بدر.

    كان هذا الأثر نتيجة الغنائم التي حصلها المسلمون من غزوة بدر، فهناك أخطاء للمؤمنين بصفة عامة، ومنها هذا الخطأ الذي حدث في غزوة بدر، وهو خطأ بين؛ لأن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه وصف هذا الأمر فقال: ( فلما جاء أمر الأنفال وساءت فيه أخلاقنا )، فهو يتحدث عن الجيش المنتصر الذي فيه صفات عظيمة كما ذكرنا، إلا أنه في هذه القضية ساءت فيه أخلاقه كما قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه.

    ببساطة شديدة بعد أن انتهت الجولة الأولى من بدر، وبدأ ظهور الانتصار الباهر للمسلمين بدأ المشركون في الفرار، وبدءوا يلقون الغنائم وراءهم، فقسم المسلمون أنفسهم ثلاثة أقسام:

    قسم منهم حول الرسول عليه الصلاة والسلام لحمايته.

    وقسم ثان بدأ يجري وراء الفارين من أرض المعركة، ومعظم هذا القسم من الشباب.

    وقسم ثالث بدأ يجمع الغنائم التي كانت موجودة في أرض المعركة.

    وبعد انتهاء المعركة اختلف المسلمون على توزيع هذه الغنائم، ولم يكن قد نزل حكم الله سبحانه وتعالى في توزيع الغنائم، وقد كان حكم توزيع أربعة أخماس الغنائم على الجيش لم يشرع بعد.

    فقال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها -أي: نحن الذين أخذناها- وليس لأحد فيها نصيب، إذاً: يريدون أن يأخذوا كل الغنائم لهم، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم أحق بها منا، نحن نحينا منها العدو وهزمناه، وقال الذين أحاطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به وبدأ نوع من الخلاف والشقاق بين المسلمين.

    معلوم أن الجيش المنصور فيه صفات النصر الكاملة، لكن ليس معنى ذلك: أنه بلا أخطاء، فكلهم بشر: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون).

    وهكذا حصل الخلاف، وبدأ كل طرف يريد أن يأخذ من الغنيمة، والغنيمة فتنة من فتن الدنيا، وكان المسلمون في المعركة يطلبون الآخرة فتم لهم النصر، فظهرت لهم الدنيا وهم لم يأخذوا درساً من قبل في فتنة الدنيا، فقد عاشوا ( 13) سنة في مكة تحت القهر والتعذيب والبطش والفقر وحالات الأذى المستمر، هذه فترة مكة، وفي أول هجرتهم إلى المدينة المنورة عاشوا سنتين عسيرتين جداً، ولأول مرة يريون هذه الغنائم، وقد كانوا حينما خرجوا من المدينة المنورة إلى بدر في حالة من الفقر الشديد، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرفع يده ويقول: (اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم)، أما الآن فهناك غنائم ضخمة موجودة على أرض الموقعة في بدر، والناس في فقر شديد، لكن هذا كله ليس مبرراً للخطأ، وإنما هي خلفيات الخطأ.

    وهكذا حصل الخلاف والشقاق، ونزل قول الله عز وجل يشرح للمسلمين كيفية تقسيم الغنائم، وقبل أن يشرح كيفية تقسيم الغنائم أعطاهم درساً في منتهى الأهمية، نزلت سورة الأنفال وفي أول السورة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ [الأنفال:1]، يستنكر رب العالمين سبحانه وتعالى على المسلمين الذين حققوا هذا الانتصار في غزوة بدر أن يهتموا بأمر الدنيا اهتماماً ينشأ بسببه خلاف بينهم، قال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1]، ثم بدأ يعرف لهم الإيمان، ويعرض عن الجهاد في سبيل الله والبذل والقتال فيه، وعن الأحداث الضخمة التي حدثت في غزوة بدر، أعرض عن ذلك كله، وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4].

    ثم بدأ يشرح لهم قصة بدر قال تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الأنفال:5-6] إلى آخر الآيات، والآيات فيها نوع من الشدة واللوم على المسلمين، وكأن الله يقول لهم: كيف تفكرون في أمر الدنيا وقد تحقق لكم هذا الانتصار العظيم بسبب تفكيركم في الآخرة؟ فلا تضيعوا النصر إذاً.

    وهكذا نزلت هذه الآيات على المؤمنين برداً وسلاماً، فيجرد سماعهم للآيات عادوا إلى رشدهم جميعاً، واجتمعت القلوب من جديد، وقبلوا أمر الله عز وجل، وهذا فيه فرق كبير بين موقعة بدر وموقعة أحد.

    فالمسلمون في بدر لم يخرجوا عن كونهم من البشر يخطئون، لكنهم عندما ذكروا بالله عز وجل تذكروا.

    أما في غزوة أحد عندما أخطأ المسلمون نفس الخطأ بسبب الغنائم كذلك وذكروا لم يتذكروا فكانت المصيبة، لكن في غزوة بدر بفضل الله عندما ذكر المسلمون جميعاً قبلوا أمر الله عز وجل، وقسم صلى الله عليه وسلم الغنائم على السواء كما يقول عبادة بن الصامت ، أي: وزع أربع أخماس الغنائم على الجيش بالتساوي، واحتفظ النبي صلى الله عليه وسلم بالخمس للدولة، وكان له صلى الله عليه وسلم حق التصرف فيه. هذا هو تشريع الغنائم الذي يسير إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة.

    الآثار المترتبة على وجود أسرى بدر في أيدي المسلمين

    الأثر الخامس لغزوة بدر: أثر الأسرى الذين أسرهم المسلمون في غزوة بدر، تعلمون أن المسلمين أسروا سبعين من المشركين في غزوة بدر، فيا ترى! كيف يتم التصرف فيهم؟ فإن لم يكن بعد تشريعاً وأمراً مباشراً بالوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في التصرف في الأسرى، فكان من اللازم أن يتصرف بطريقة من طرق التشاور كما اعتاد صلى الله عليه وسلم في حياته مع الصحابة، فجمع الصحابة، وكوَّن مجلساً استشارياً، وبدأ يسألهم: ماذا نعمل في الأسرى؟

    فقال أبو بكر المستشار الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً).

    إذاً: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يقدم رأياً يغلب عليه جانب الرحمة يقول: هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، نأخذ فدية، والفدية هي أموال، يأخذونها لحاجتهم الماسة إليها، خاصة وأنهم يؤسسون دولة، وفي نفس الوقت لو عاشوا قد يهديهم الله سبحانه، ولو قتلناهم فإنهم سيموتون على الكفر.

    وكان أبو بكر الصديق له اختيارات شديدة الشبه باختيارات الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت طبيعته قريبة جداً من طبيعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان دائماً يغلب عليه جانب الرحمة، وكان صلى الله عليه وسلم يصفه ويقول: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر الصديق رضي الله عنه)، هذا كان رأي الصديق رضي الله عنه.

    فقال صلى الله عليه وسلم للمستشار الثاني: (ما ترى يا ابن الخطاب ؟! قال: والله ما أرى ما رأى أبو بكر وتمكن علياً من عقيل بن أبي طالب أخيه فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم).

    إذاً: كان رأي عمر بن الخطاب حاسماً شديداً، فقد رأى أن يقتل السبعين وليس ذلك فقط؛ بل كل واحد يقتل قريبه، حتى يظهر كل مسلم لله عز وجل أنه ليس في قلبه حب لأي مشرك حتى ولو كان من أقرب أقاربه، هكذا كان رأي عمر ، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول في عمر : (أشد أمتي في أمر الله عمر) رضي الله عنه وأرضاه.

    إذاً: هذان اختياران، والاثنان مبنيان على حب كامل لله عز وجل، وحب كامل لأمر الدعوة وأمر الدولة الإسلامية، لكن كل واحد له طريقة، والثنان مختلفان تمام الاختلاف، واحد يقول: نأخذ الفدية، والآخر يقول: نقتل الأسرى.

    قال عمر رضي الله عنه: (فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر الصديق) هذه رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: (فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر يبكيان، فقلت: يا رسول الله! أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما، فقال صلى الله عليه وسلم للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، فقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة، وأشار إلى شجرة قريبة) يعني: كاد العذاب يصيب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، لأنهم اختاروا أمر الفداء؛ فالأولى في هذا الموقف ما أوحى الله عز وجل به إلى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بأن يثخن في الأرض، أي: بأن يقتل الأسرى؛ لأن هؤلاء كما قال عمر صناديد الكفر وأئمته وقادته في الأرض.

    وأنزل الله عز وجل قوله: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا [الأنفال:67] أي: أنتم تريدون الفداء والأموال، وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:67].

    ثم قال: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68]، هذا العذاب العظيم كان يقصده الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رآه عمر يبكي هو وصاحبه.

    فإن قيل: ما هو الكتاب الذي سبق؟ الجواب: الكتاب الذي سبق هو الآيات التي نزلت قبل ذلك في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل في حق الأسرى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4]، يعني: أمر الفداء أمر مشروع، وكان الأولى أن يثخن في الأرض كما قال الله عز وجل، لكن أخذ الفداء كان أمراً شرعياً كما ذكر الله عز وجل.

    وكان على نفس رأي عمر بن الخطاب رأي سعد بن معاذ رضي الله عنهما، وقد أدلى برأيه في ساعة مبكرة، قال ذلك حين بدأ المسلمون في أسر المشركين في أرض بدر وقبل الاستشارة، وقد نظر الرسول عليه الصلاة والسلام لـسعد بن معاذ فوجده حزيناً، فقال له: (والله لكأنك يا سعد ! تكره ما يصنع القوم) أي: تكره أن يأسر المسلمون المشركين، (قال: أجل والله يا رسول الله! كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلي من استبقاء الرجال) هذا كان رأي سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه.

    واستقر المسلمون على أمر الفداء، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل هذه الآيات ولم ينكر عليهم هذا الأمر، صحيح أنه قال: إن الأولى قتل الأسرى، لكنه أقر أن يأخذ المسلمون الفداء، وبدأ المسلمون فعلاً بأخذ الفداء، فالذي كان لديه مال يدفع مالاً، والمال يتراوح من (1000) إلى (4000) درهم للرجل حسب الحالة المادية له.

    موقف النبي والصحابة من فداء العباس بن عبد المطلب

    من أروع الأمثلة التي تذكر في أمر الفداء ما دار بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وقد كان أسيراً في يوم بدر.

    أنتم تعرفون أن العباس بن عبد المطلب خرج مستكرهاً إلى غزوة بدر، وقاتل مع المشركين فيها وأسر مع من أسر، وكان العباس غنياً، وليس من المستبعد أن يدفع فدية ليفتدي نفسه، فدار هذا الحوار اللطيف بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الحوار ينقل درجة من أعظم درجات الرقي في قيادة الدولة، ليس فيه أي نوع من الوساطة، ولا نوع من المحاباة للأقارب أو الأهل أو العشيرة.

    قال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! قد كنت مسلماً)، يعني: أنا كنت مسلماً ومخفياً إسلامي، فقال صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علي فافتد نفسك) سبحان الله! يقول له: أنت في الظاهر أنك في أرض الموقعة تحاربنا، وأما باطنك فالله أعلم، وهو الذي يحاسبك عليه، فالذي أنت عليه هذا الوقت أن تدفع الفدية كمشرك، وليس ذلك فقط، بل قال: (فافتد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب وحليفك عتبة بن عمرو) يعني: تدفع فديتك وكذلك فدية ثلاثة معك؛ لأن هؤلاء الثلاثة فقراء وهو غني.

    فقال العباس : (ما ذاك عندي يا رسول الله!) أي: ليس لدي هذا الكم من الأموال التي أستطيع بها أن أدفع فدية للأربعة، (فقال صلى الله عليه وسلم: فأين المال الذي دفنته وأم الفضل ، فقلت لها: إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني: الفضل وعبد الله وقثم)، قال الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك وهو لم يره، لكنه علم ذلك بالوحي، فقد قام العباس قبل أن يخرج إلى بدر بدفن مال كثير في مكة له ولـأم الفضل ، وحكى الرسول صلى الله عليه وسلم له الموقف، فقال العباس : (والله يا رسول الله! إني لأعلم أنك رسول الله! إن هذا الشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل) يعني: اقتنع العباس في هذا الوقت أنه رسول الله وأقسم بذلك، وأخبر رسول الله أنه سيدفع الفدية، لكن قال: (فاحسب لي يا رسول الله! ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي)، أي: كان معي في أرض بدر ( 20 ) أوقية من المال، أخذها المسلمون غنائم فاحسبها من الفدية، فقال صلى الله عليه وسلم: (ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك، لا، لن نحسبها من المال)، أي: لن نحسبها من الفدية، فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:70].

    نزلت هذه الآيات في العباس رضي الله عنه، إن كنت فعلاً كما تقول أنك مسلم فإن الله سيعوضك عما دفعته، وإن كان غير هذا فإنه سبحانه وتعالى سيحاسبك، فقال العباس تعليقاً على هذه الآية بعد ذلك: (فأعطاني الله عز وجل مكان العشرين أوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل)؛ لأن الله قال: وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:70].

    وهكذا يرينا الرسول عليه الصلاة والسلام كيفية تطبيق القانون على كل الناس، يطبق هذا القانون حتى وإن كان على العباس بن عبد المطلب ، وقد تعجب الصحابة رضوا نالله عليهم من هذا الموقف، وكان الأنصار رضي الله عنه وأرضاهم في قلوبهم رقة عجيبة، لما رأوا هذا الأمر أشفقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يأخذ الفداء من عمه وعمه يحبه، خاصة أن العباس رضي الله عنه وأرضاه كان واقفاً مع الرسول عليه الصلاة والسلام في بيعة العقبة الثانية، فمعنى هذا: أنه قريب جداً من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وليس هو كـأبي لهب .

    وجاء الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحاولوا أن يعفوا العباس من الفدية بطريقة لطيفة ومؤدبة جداً، فقد كان الأنصار قمة في الأخلاق والإيمان.

    قالوا: (يا رسول الله! ائذن لنا فلنترك لابن اختنا العباس فداءه)، كانت جدة العباس من بني النجار من الخزرج فقال الأنصار: يا رسول الله! اعف عن العباس لأجلنا، ولم يقولوا له: اعف عن العباس ؛ لأنه عمك، ومعلوم أن العمومة أقرب بألف مرة من أن تكون جدة العباس من بني النجار، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض رفضاً تاماً وأصر على أخذ الفداء، بل وأخذ أعلى رقم من أرقام الفداء من العباس وهو ( 4000) درهم للرجل.

    موقف النبي من سهيل بن عمرو حين أسر في بدر وأثر ذلك في ثباته في أحداث الردة

    كذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم موقف جميل مع سهيل بن عمرو ، فقد كان سهيل بن عمرو من قادة قريش، وكان قد أسر في غزوة بدر، وكان معروفاً بحسن الخطابة وحسن البيان يحمس المشركين على القتال ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فلما أخذه المسلمون أسيراً رأى عمر بن الخطاب أن ينزع ثنية سهيل بن عمرو حتى يمنعه من الخطابة: (يا رسول الله! دعني أنزع ثنية سهيل بن عمرو ، فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً) لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض أن يمثل بالرجل أولاً، ثم قال: (إنه عسى) وهذه نبوءة ومعجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (إنه عسى أن يقوم مقاماً لا تذمه) يعني: قد تجده يقف فيخطب خطبة لا تذمه فيها ولا تلومه، بل تمدحه، وحصل ذلك فعلاً، فإنه لما ارتدت العرب وقف سهيل بن عمرو وخطب في الناس وثبتهم على الإسلام في مكة المكرمة، وقال: يا معشر قريش! لا تكونوا آخر الناس إسلاماً وأولهم ردة، من رابنا ضربنا عنقه. وهكذا ثبت الناس في مكة على الإسلام.

    كيفية فداء الفقراء من أسرى بدر

    كانت هذه صورة من صور الفداء وهي الفداء بالمال، لكن هناك أناس كانوا فقراء، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض هؤلاء الأسرى يعرفون القراءة والكتابة، والأمة الإسلامية في ذلك الوقت لم تكن قد تعلمت بعد، وليس عندها قدرة على القراءة والكتابة إلا القليل، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بفك أسر مثل هؤلاء من المشركين على أن يعلم كل واحد منهم عشرة من غلمان المدينة المنورة، وهذا يرينا بعد نظر، الرسول عليه الصلاة والسلام ودقة فهمه، فالأمة في حاجة إلى القراءة والكتابة، فاستغل صلى الله عليه وسلم هذا الظرف العظيم، وهو ظرف وجود سبعين من المشركين، منهم من لا يقدر أن يدفع الفدية، فاستغل هذا الأمر في تعليم المسلمين القراءة والكتابة.

    هناك بعض الأسرى منَّ الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم بغير فداء وأطلقهم، من هؤلاء أبو عزة الجمحي ، كان فقيراً جداً وقال: (يا رسول الله! لقد عرفت ما لي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال فامنن علي، فمن عليه صلى الله عليه وسلم)، لكن أخذ عليه عهداً ألا يظاهر عليه أحد، وحينها قال أبو عزة بعض الأشعار في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام.

    لكن سبحان الله! ما خشي منه سعد بن معاذ وعمر بن الخطاب حصل، فقد كان أبو عزة بعد إطلاقه شراً على المسلمين وحرباً عليهم، وألب عليهم المشركين في غزوة أحد.

    وقتل صلى الله عليه وسلم بعض الأسرى، قتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث ؛ لأن هؤلاء كانوا من أكابر مجرمي قريش، نسميهم في هذا الزمن بمجرمي الحرب، صلى الله عليه وسلم لهما محاكمة، وقتل الاثنين وهو في الطريق إلى المدينة المنورة.

    التشريع الإسلامي في شأن الأسرى وحقوقهم

    وبعد حل مشكلة الأسرى جاء التشريع الإسلامي بأحكام حول قضية الأسرى، هذه الأحكام بإيجاز أن إمام المسلمين له الحق في الاختيار بين أربعة أمور: إما المن بغير فداء، وإما الفداء، وهذا الفداء قد يكون بمال أو قد يكون بتعليم أو قد يكون بأسير مثله، أي: تبادل أسرى، وإما قتل لمجرمي الحرب أو المعاملة بالمثل إن كان الكفار يقتلون المسلمين الأسارى.

    الأمر الرابع: الاسترقاق: أن يحتفظ بالأسير رقيقاً عنده إلى أجل يحدده الإمام، حسب ما يرى من احتياج المسلمين.

    هذه أربعة أمور يختار الإمام منها ما يريد، ويجوز للحاكم أن يتعاهد مع دولة ما أو مجموعة من الدول على طريقة معينة للتعامل مع الأسرى، آتية كأن يتعاهد مع دولة ما أو مع مجموعة من الدول أنه ليس هناك استرقاق، أو أنه ليس هناك قتل للأسرى، أو أنه ليس هناك كذا أو كذا على طريقة معينة ما دام الشرع يسمح بطرق مختلفة للتعامل مع الأسرى.

    لكن هناك شيء مهم جداً، وهو أنه إذا احتفظت بالأسير فلا بد من إكرامه ورعايته رعاية أخلاقية سامية تليق بدين الإسلام، قال الله عز وجل: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8].

    وقد زرع الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الأخلاق في الصحابة من أول يوم كان لهم فيه أسرى، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام في قضية الأسرى: (استوصوا بالأسارى خيراً)، فلما سمع الصحابة ذلك بذلوا كل ما يملكون في سبيل بذل الخير للأسارى، تخيل! هؤلاء الأسرى كانوا منذ أيام قليلة يحاولون قتل المسلمين، ومع ذلك نسي المسلمون ذلك تماماً وتذكروا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالأسارى خيراً).

    يقول أبو عزيز بن عمير -وكان من أسارى بدر-: (كنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني البر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان عندهم خبز بر، وكانوا يقدمون هذا الخبز على طعام التمر؛ لأنه أفضل عندهم، فكانوا يعطونه الطعام الأفضل ويأخذون الأقل في الفضل تنفيذاً لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم.

    فكان هذا تصرف الأنصار هذا له أثر كبير جداً على نفسية أبي عزيز بن عمير ، فما هي إلا أيام بعد أن أطلق حتى أسلم رضي الله عنه وأرضاه.

    كذلك أبو العاص بن الربيع كان من أسارى بدر، وهو زوج زينب ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان أسيراً من الأسرى، فقال: (كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إلي)، كل ذلك تنفيذاً لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم.

    وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة -أخو خالد بن الوليد رضي الله عنه- من أسارى بدر، وكان يقول مثل ذلك ويزيد، كان يقول: (وكانوا يحملوننا ويمشون)، يعني: لو رأوا واحداً منا متعباً أو مريضاً أو جريحاً حملوه ومشوا، فانظر إلى أي حد بلغ الرفق بالأسير، هذا هو المنهج الذي جعل الإسلام يدخل في قلوب الناس، فأسلم أبو العاص بن الربيع ، وأسلم أبو عزيز بن عمير ، وأسلم السائب بن عبيد ، وأسلم الوليد بن الوليد وهكذا.

    إذاً: كان هذا الأثر الخامس من آثار غزوة بدر، وعرفنا فيه التشريع الإسلامي في قضية الأسارى.

    أثر غزوة بدر في محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم وغزو المدينة

    الأثر السادس: هو أن الأزمة الضخمة التي مرت بها قريش من أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية دفعتها إلى التفكير في غزو المدينة المنورة، بل دفعتها إلى محاولة قتل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وظهرت أكثر من محاولة منها:

    واحدة كانت لـعمير بن وهب الجمحي ، أسر ابنه في غزوة بدر، فأراد أن يرجع ابنه، وفي نفس الوقت كان يكن في قلبه حقداً كبيراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذات يوم جلس مع صفوان بن أمية في الحجر يتذاكران سوياً أمر بدر، وكان صفوان بن أمية قد قتل أبوه وأخوه في بدر، فقال صفوان : (والله إن في العيش بعدهم خير، فقال له عمير : صدقت والله، أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علة ابني أسير في أيديهم).

    إن عمير بن وهب سيدخل المدينة المنورة بسهولة؛ لأن لديه أسيراً هناك يريد أن يفتديه، فإذا دخل قتل الرسول عليه الصلاة والسلام، فاغتنم صفوان الفرصة وقال: (علي دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا) وهكذا دفعه دفعة شيطانية إلى الذهاب لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فقال عمير : فاكتم عني شأني وشأنك. قال: أفعل).

    فقام عمير وأخذ سيفه وأحده جيداً وسمه، وبالفعل أخذ نفسه وانطلق إلى المدينة المنورة، ومر على مجموعة من الصحابة رضي الله عنهم يتحدثون في أمر بدر، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد اشتهر عن عمر بفراسته الشديدة فقال: (هذا الكلب عدو الله عمير ما جاء إلا لشر) ودخل بسرعة على الرسول عليه الصلاة والسلام وقال له: (يا نبي الله! هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحاً سيفه، وقال صلى الله عليه وسلم: فأدخله علي، قال: فلببه بحمالة سيفه) يعني: أمسك بالسيف ووضعه على رقبته وأدخله على الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يكتف عمر بن الخطاب بذلك، بل قال لرجال من الأنصار: (ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به).

    رأى الرسول عليه الصلاة والسلام عمر بن الخطاب ممسكاً بـعمير بن وهب ، فقال له: (أرسله يا عمر ! ادن يا عمير ! فدنا وقال: أنعموا صباحاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير ! ثم قال: ما جاء بك يا عمير ؟! قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: فما بالك السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال صلى الله عليه وسلم: أصدقني ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمل صفوان دينك وعيالك على أن تقتلني، والله حائل بينك وبين ذلك، فلم يجد عمير إلا شيئاً واحداً، قال: أشهد أنك رسول الله! قد كنا يا رسول الله والله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان ، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المكان) سبحان الله! أتى من أجل أن يقتل الرسول عليه الصلاة والسلام فكانت النتيجة أن دخل في الإسلام، وأصبح من أعظم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. (ثم تشهد عمير بن وهب شهادة الحق -شهد أنه لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله- فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: فقهوا أخاكم في دينه، وأقرءوه القرآن، وأطلقوا له أسيره).

    وظل صفوان في مكة المكرمة ينتظر خبر قتل الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان يقول لأهل مكة: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن تنسيكم وقعة بدر، وكان يسأل كل من قدم إلى مكة عن عمير بن وهب حتى أخبره آتٍ من المدينة أنه أسلم، فحلف صفوان ألا يكلمه أبداً.

    واستمر فعلاً مخاصماً إلى فتح مكة، لكن سنذكر أمراً إيجابياً لـعمير بن وهب رضي الله عنه وأرضاه، فمع قلة ما تعلمه بعد إسلامه إلا أنه قال: (يا رسول الله! إني كنت جاهزاً على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة، فأدعوهم إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وإلى الإسلام؛ لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم) فأذن له صلى الله عليه وسلم.

    وهكذا رجع عمير إلى مكة المكرمة، وبدأ يدعو إلى الله عز وجل فيها، وكان عمير من قبيلة قوية تدعى بني جمح، واستطاعت أن تحميه في هذا الأمر، فقد كان سيد قومه رضي الله عنه وأرضاه.

    وجلس يدعو إلى الإسلام حتى فتح الله مكة، وكان له دور بعد فتح مكة في إسلام الصديق القديم له صفوان بن أمية ودخوله حظيرة الإيمان، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

    إذاً: هذه كانت أول محاولة لقتل الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة قامت بها قريش، وفشلت كما ترون، وانتهت بإسلام عمير بن وهب رضي الله عنه.

    المحاولة الثانية كانت محاولة قصيرة قام بها أبو سفيان بن حرب زعيم مكة بعد فقد مكة لكل الزعماء السابقين، فقد قرر أبو سفيان بعد موقعة بدر قراراً، ونذر أولاً ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمد، وكان العرب يغتسلون من الجنابة قبل الإسلام، فأقسم ألا يغتسل مطلقاً حتى يذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم ويغزوه في بلده.

    ثم أخذ أبو سفيان رأي قادة قريش بأن يوقفوا التصرف تماماً في أموال القافلة التي نجت يوم بدر، لكي يجهزوا بها جيشاً كبيراً لغزو المدينة المنورة بعد ذلك، لكن إلى أن يتم هذا الجيش قرر أبو سفيان أن يقوم بعملية قرصنة على المدينة المنورة محاولةً لغزو سريع وتحقيق بعض المكاسب، ولرفع الهمة عند القرشيين، وفي نفس الوقت إرجاع بعض الهيبة للدولة القرشية في الجزيرة العربية، فجمع (200) راكب وذهب إلى المدينة المنورة ليبر بيمينه وقسمه.

    وذهب إلى المدينة المنورة، وخاف أن يدخلها نهاراً، فدخلها ليلاً، واستطاع أن يقتل رجلين من الأنصار، وأخذ بعض الماشية وانطلق في طريقه إلى مكة راجعاً، طبعاً كانت محاولة شبه صبيانية، معه (200) فارس ومع ذلك لم يستطع أن يلقى المسلمين في قتال، بل حينما قتل الاثنين أخذ نفسه وهرب بسرعة.

    عرف الرسول عليه الصلاة والسلام أن أبا سفيان دخل المدينة المنورة بالليل، وجمع الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم وخرج بسرعة يتبع أثر أبي سفيان ، لكن أبا سفيان استطاع الهروب بجيشه، وكان معهم أحمال كثيرة من السويق -نوع من الطعام، خليط من الحنطة والشعير- فألقى الكفار هذا الطعام؛ ليتخففوا من أحمالهم ويستطيعوا الهرب، وجمع المسلمون السويق وأخذوه كغذاء للمدينة المنورة، وعرفت هذه الغزوة بغزوة السويق، وكانت في ذي الحجة سنة 2هـ أي: بعد بدر بشهرين تقريباً، إذاً: كانت هذه محاولة من محاولات قريش كذلك.

    أثر غزوة بدر في الأعراب حول المدينة

    الأثر السابع من آثار غزوة بدر أثر الغزوة على الأعراب حول المدينة.

    كانت حياة الأعراب تقوم في الأساس على السلب والنهب، فهم قطاع طريق ولصوص، وقيام دعوة أخلاقية في داخل دولة قوية مثل دولة الإسلام قد يحجم من السرقات وقطع الطريق الذي يقوم به الأعراب.

    ولما انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر بدأ الأعراب يفكرون في محاولة جمع أنفسهم للقيام بغزو المدينة المنورة؛ لمنع هذه القوة من التنامي، فإن هذه القوة لو كبرت فإنها ستوقف نشاط الأعراب حول المدينة، فجمعت بنو سليم نفسها وبدأت تقرر غزو المدينة المنورة.

    عرف الرسول عليه الصلاة والسلام أن بني سليم تجمع الأعداد لغزو المدينة، فأخذ نفسه والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وانطلقوا بسرعة إلى بني سليم، فلما رأى بنو سليم النبي صلى الله عليه وسلم قادماً فروا إلى الجبال وتركوا كل شيء، وعاد صلى الله عليه وسلم من بني سليم بكمية كبيرة من الغنائم، مقدارها ( 500 ) بعير وزعها على جيش المدينة المنورة، وكان هذا في شوال سنة 2هـ، أي: بعد الرجوع من بدر بحوالي سبعة أيام فقط، وكان فيها نصر كبير للمسلمين، وازدادت الرهبة والهيبة للدولة الإسلامية في الجزيرة العربية، وعلى غرار غزوة بني سليم كان هناك أكثر من غزوة في هذه السنة التي تلت غزوة بدر، إذاً: هذا كان من أهم الآثار لغزوة بدر.

    أثر غزوة بدر في تغير التركيبة السكانية داخل المدينة المنورة

    هناك أثر ضخم جداً وهائل لغزوة بدر، وهو تغير التركيبة السكانية داخل المدينة المنورة.

    قبل موقعة بدر كنا نقسم الناس في المدينة المنورة إلى مسلمين ومشركين ويهود، فالمشركون تغيروا، يعني: إما صاروا مسلمين؛ لأنهم بالإسلام ودخلوا فيه على اقتناع، وإما تحول المشركون إلى منافقين.

    إذاً: ظهرت طائفة جديدة ما كانت موجودة قبل هذا في كل مراحل الدعوة النبوية، لا في فترة مكة ولا في أوائل فترة المدينة، وهي طائفة المنافقين.

    والمنافقون لا يظهرون إلا إذا قويت شوكة الإسلام والمسلمين، فلو رأيت المنافقين يكثرون فهذه علامة صحية، علامة على أن دولة الإسلام أصبحت قوية، وقبل هذا كانت ضعيفة، فلا يفكر أحد من المشركين أن ينافقهم، لكن الآن أصبحت دولة المسلمين قوية، وبدأت تظهر طائفة المنافقين القذرة، وعلى رأس هذه الطائفة كان الرجل الذي كان يكره الرسول صلى الله عليه وسلم كراهية شديدة عبد الله بن أبي ابن سلول ، فبدلاً من أن يكون زعيم المشركين في المدينة أصبح زعيم المنافقين في المدينة المنورة.

    بعد بدر مباشرة أعلن هؤلاء القوم إسلامهم وأبطنوا الكفر في داخلهم، وطبعاً سيكون لهم أثر سيء جداً على المدينة المنورة وعلى المسلمين.

    أثر غزوة بدر في سيطرة المسلمين العسكرية على الجزيرة العربية

    الأثر التاسع: السيطرة العسكرية الكبيرة للمسلمين على الجزيرة العربية، فقد استطاعوا أن يصلوا إلى مناطق واسعة من الجزيرة العربية، ويتضح هذا جيداً في سرية زيد بن حارثة ، هذه السرية لها قصة في منتهى الروعة ونحب أن نقف معها.

    لما حصلت السيطرة الكاملة للمدينة المنورة على منطقة شمال مكة المكرمة منطقة الطريق إلى الشام، بدأت قريش تفكر في حل لطريق التجارة إلى الشام؛ لأن التجارة إلى الشام وقفت، وهي عصب حياة أهل مكة.

    فاجتمعوا اجتماعاً كبيراً، وكان صفوان بن أمية في هذه السنة هو قائد الحملة التي ستذهب إلى الشام، فقال صفوان بن أمية : إن محمداً وصحبه عوروا علينا متجرنا، ولا ندري كيف نصنع بأصحابي وهم لا يبرحون الساحل؟ وأهل الساحل قد وادعوهم، ودخل عامتهم معهم، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء، وإن حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف وإلى اليمن في الشتاء.

    فقام الأسود بن عبد المطلب وقال لـصفوان ولمن معه من المشركين: اترك طريق الساحل وخذ طريق العراق. ومعلوم أن طريق العراق طريق طويل جداً يخترق نجداً إلى الشام، ويمر بشرق المدينة، لكن على بعد كبير جداً منها، وقريش نفسها لا تعرف هذه الطريق، فهي تحتاج إلى دليل ماهر حتى يعبر بها هذا الطريق الوعر ليصلوا إلى الشام.

    ووافقت قريش على هذا الرأي، واختارت لها دليلاً اسمه فرات بن حيان من بني بكر بن وائل، ليوصلهم للشام عن طريق نجد.

    وخرجت عير قريش بقيادة صفوان بن أمية ، وأخذت الطريق الجديد، ونقلت المخابرات الإسلامية الأخبار إلى المدينة المنورة، وبسرعة جهز الرسول عليه الصلاة والسلام سرية على رأسها زيد بن حارثة رضي الله عنه، قوام هذه السرية مائة راكب، وانطلقوا بسرعة لقطع الطريق على القافلة، فهرب صفوان بن أمية ومن معه من حراس القافلة، وتركوا دليل القافلة فرات بن حيان فأخذه المسلمون أسيراً وأخذوا القافلة بكاملها، فكانت غنيمة كبيرة جداً، كانت تحمل الأواني والفضة للتجارة في الشام، وقدرت قيمة هذه القافلة بمائة ألف دينار، وقسمت على أفراد السرية بعد أن أخذ منها الرسول عليه الصلاة والسلام الخمس.

    وبعد ذلك أسلم فرات بن حيان ، فكانت ضربة في منتهى القوة لقريش، وكانت مأساة شديدة ونكبة كبيرة أصابت قريشاً بعد بدر، كان هذا في جماد الآخرة سنة 3هـ، أي: بعد حوالي عشرة شهور من غزوة بدر، معنى هذا: أن سيطرة المسلمين على الجزيرة العربية لم تكن عابرة، بل كانت مستمرة.

    إن هذا الموقف جعل قريشاً تتحرك لهجوم كاسح شامل على المدينة المنورة، وهذه ستكون مقدمات غزوة أحد، بقي لنا أثر عاشر مهم جداً من آثار غزوة بدر، لكن الوقت لا يتسع للحديث عنه، وهو أثر غزوة بدر على اليهود في داخل المدينة المنورة، خاصة يهود بني قينقاع الذين كانوا يعيشون وسط المدينة المنورة، فماذا عملوا كرد فعل لهذا الأمر؟ ويا ترى! ماذا عمل يهود بني النضير؟ وبنو قريظة ماذا عملوا؟ فعلى ضوء رد فعلهم سيكون تصرف النبي صلى الله عليه وسلم.

    هذا أمر يحتاج إلى تفصيل، وسوف نفرد له إن شاء الله حديثاً في الدرس القادم، وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا على الخير دائماً، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767490119