بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فمع الدرس الثالث عشر من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.
في الدروس السابقة تحدثنا عن غزوة أحد والمصيبة الكبيرة التي وقع فيها المسلمون، سواء كانت المصيبة نتيجة مخالفة الرماة لأجل الدنيا، أو كانت نتيجة الهروب من أرض المعركة أو الإحباط، أو غير ذلك من الأمور.
وذكرنا الآثار الوخيمة التي أتت على الجيش المسلم نتيجة هذه المصائب المتتالية، وذكرنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعد أن دفن الشهداء المسلمين وعاد إلى المدينة المنورة، استطاع بفضل الله عز وجل وبالمنهج الرباني الحكيم أن يخرج بالمسلمين من هزيمتهم النفسية، وأن يصلح انكسارهم الكبير، وينتقل بهم ليس فقط إلى مجرد تضميد الجراح، بل إلى مرحلة الهجوم من جديد على جيش الكفار، وإعادة الكرة عليهم، ورفع الرأس من جديد، وإعادة الهيبة إلى الأمة الإسلامية، وخرج بعد أقل من أربع وعشرين ساعة إلى غزوة حمراء الأسد يطارد المشركين، وعسكر بالقرب من المدينة المنورة على بعد ثمانية أميال، ولما علم بذلك جيش المشركين فر إلى مكة، ولم يقو على اللقاء الجديد مع المسلمين، هذا ملخص ما قد ذكرناه في الدروس الثلاثة السابقة.
إن قريشاً قبل أن تغادر أرض أحد كانت قد أعلنت للمسلمين أنها على استعداد للتلاقي مرة ثانية، واختارت بنفسها المكان الذي سيتم فيه اللقاء الثالث بينها وبين المسلمين، واختارت موقع بدر، لترد بذلك هزيمة بدر؛ ولترفع من جديد من قيمة قريش وهيبتها في وسط الجزيرة العربية، وقبل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الأمر، وقال: (موعدكم في قابل) أي: في العام القادم في نفس المكان.
إذاً: كان اللقاء الأول بين المسلمين وبين الكفار في بدر في رمضان سنة (2هـ)، واللقاء الثاني كان في شوال سنة (3هـ)، واللقاء الثالث منتظر ومفترض أن يكون في شوال سنة (4هـ)، ووافق الطرفان على ذلك، وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام من موقعة حمراء الأسد إلى المدينة؛ ليعيد حساباته من جديد.
وعلى الرغم من أن غزوة حمراء الأسد أعادت شيئاً من الهيبة إلى الأمة الإسلامية، إلا أنه لا شك أن موقعة أحد هزت سمعة الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية بكاملها.
وقد رأينا بعد غزوة بدر انتشاراً إسلامياً كبيراً في الجزيرة العربية، بل سيطرة عسكرية على مناطق بعيدة جداً عن المدينة المنورة، ورأينا رضوخ كثير من القبائل العربية -على الرغم أنها ما زالت على إشراكها- لسيطرة المسلمين العسكريين؛ لأن وقع بدر على قلوب الناس كان كبيراً فعلاً، فقريش من أعظم القبائل العربية التي هزمت على يد هذه المجموعة الناشئة، ولا شك أن في ذلك مقومات قوة وظهور لا يتخيلها عموم القبائل العربية في ذلك الوقت؛ ولذلك كانت السنة التي تلت بدراً لها وضع ممتاز جداً بالنسبة للمسلمين.
وعاش المسلمون فيها فترة سعيدة من فترات إنشاء الدولة الإسلامية، وعلى النقيض تماماً الفترة التي تلت غزوة أحد كانت فترة صعبة جداً من أشد فترات السيرة النبوية صعوبة.
وقد مررنا بفترات كثيرة وصعبة في السيرة النبوية، وكل فترة لها طابع خاص، لكن الفترة التي أعقبت غزوة أحد بدأت كل القبائل العربية المحيطة بالمدينة المنورة وغيرها من أعداء الأمة تتربص الدوائر بالأمة الإسلامية؛ لأنها مصابة إصابة فادحة، فسبعون من الشهداء، وفرار الجيش الإسلامي من أرض موقعة أحد كان له واقع سيئ على نفوس المسلمين وسمعتهم، فمع أنهم قاموا من جديد في حمراء الأسد، لكن هذا الأمر لم يرد الكثير من السوء الذي أصاب السمعة الإسلامية.
تعالوا لنحلل الموقف بعد غزوة أحد.
إن أعداء الأمة الإسلامية الآن حوالي أربع طوائف: الطائفة الأولى الكبيرة: هي قريش، وقد هدأت بانتصارها في أحد، وقبلت ذلك الانتصار تعويضاً عن بدر، ولا يزال أمامها سنة قادمة للحرب مع المسلمين، بالإضافة إلى أنها ما زالت تتربص الدوائر بالمسلمين؛ لأن المسلمين ما زالوا يسيطرون على الطرق التي تمر منها القوافل التجارية القرشية من مكة إلى الشام، فلا بد لقريش أن تنهي أمر المسلمين، كذلك لم تكن مقتنعة تمام الاقتناع أنها أدت ما يجب أن تؤديه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما زال حياً وأبو بكر ما زال حياً وعمر ما زال حياً، وهؤلاء هم الذين سأل عنهم أبو سفيان ، وهم يعلمون أن الدين الإسلامي نفسه عنده الإمكانية لتغيير الأفراد تغييراً جذرياً، ورأوا مجموعة كبيرة من الصحابة كانوا أناساً عاديين قبل الإسلام، وبعد الإسلام أصبحوا من القادة والمفكرين والمفاوضين.. وغير ذلك من الرموز الإسلامية المبهرة أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهم يخافون من كون هؤلاء القادة ما زالوا أحياء ومعهم هذا المنهج العظيم: الإسلام، فإنهم سوف يقلبون حال الجزيرة العربية تماماً، ولا شك أن قريشاً لن تكون في حال هانئة بوجود مثل هذه القوة المتنامية في المدينة المنورة.
إذاً: قريش هدأت، ولكن هدوءاً نسبياً، ولا شك أنها ستقوم بعد ذلك.
الطائفة الثانية من الأعداء: المنافقون في داخل المدينة المنورة، وكما ذكرنا قبل ذلك أنه بعد مصيبة أحد نجم النفاق في المدينة المنورة، ومن كان يخفي شيئاً في قلبه أظهره، فالذين كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، بدءوا يجاهرون بالعداء للإسلام، وكان على رأس هؤلاء عبد الله بن أبي ابن سلول ، وهم كثير في داخل المدينة المنورة، ويكفي أن نذكر أن ( 30% ) من الجيش الإسلامي في موقعة أحد انسحب وعاد إلى المدينة المنورة، فكان هؤلاء من أشد السهام الموجهة إلى صدر الأمة الإسلامية بعد عودة الجيش الإسلامي مهزوماً في أحد.
الطائفة الثالثة: طائفة تعيش داخل المدينة المنورة وهي طائفة اليهود، رأينا قبل ذلك أن بني قينقاع خرجوا من المدينة المنورة، وبقي فيها بنو النضير وبنو قريظة، وهؤلاء وإن كانوا على العهد، إلا أن اليهود مشهورون بالغدر، والرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه كان معاهداً لهم إلا أنه كان يتعامل معهم دائماً بالحذر التام، ولا ننسى أن أقل من سنة كان كعب بن الأشرف يؤلب القبائل العربية على المسلمين، وتم اغتيال كعب بن الأشرف سيد بني النضير، ولا شك أن بني النضير قد تنتقم لـكعب بن الأشرف ، وقد تنتهز فرصة إصابة المسلمين في أحد، وستقوم بالغدر أو بنقض العهد والميثاق مع المسلمين.
الطائفة الرابعة: طائفة الأعراب، وهي القبائل التي تعيش في البادية حول المدينة المنورة، وهي قبائل كثيرة وقوية، تعيش على السلب والنهب، وقيام دولة الرسول عليه الصلاة والسلام في داخل المدينة المنورة يمنع الكثير من الأعمال الإجرامية التي كانت تقوم بها هذه القبائل، وبالتالي يحرمها من ثروات كثيرة.
فلا شك أن كل هذه الطوائف بعد مصاب أحد ستفكر كثيراً في هدم هذا الكيان الجديد الناشئ في المدينة المنورة، وهذا الذي حصل.
خرجت سرية أبي سلمة في (1) محرم سنة (4هـ) يعني: بعد حوالي شهرين ونصف شهر تقريباً من غزوة أحد، واستطاعت هذه السرية أن تشتت شمل بني أسد، وبالفعل تفرقوا في الجبال ولم يتم الغزو، لكن ظهرت نوايا المؤامرة من قبل القبائل المحيطة بالمدينة المنورة.
وعندما وصل الخبر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام اهتم جداً بالأمر، وأرسل إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، وذكر له قصة خالد بن سفيان الهذلي ، وطلب منه أن يذهب إليه ويقتله؛ لأنه هو الرأس المدبر، ولو قتل فإنه من الصعب أن تتجمع هذه القبائل، وبالتالي يتجنب الرسول عليه الصلاة والسلام مأساة كبرى قد تتعرض لها المدينة المنورة، وظهرت هناك مشكلة، وهي أن عبد الله بن أنيس لم ير من قبل خالد بن سفيان الهذلي ولا يعرفه، فقال: (يا رسول الله! انعته حتى أعرفه)، فأعطاه الرسول عليه الصلاة والسلام علامة غريبة، قال: (إذا رأيته وجدت له قشعريرة) يعني: حين تراه ستصاب بالرعب، فقال عبد الله بن أنيس : (يا رسول الله! ما فرقت من شيء قط) أي: ما خفت من شيء أبداً، فقال له صلى الله عليه وسلم: (بلى، آية ما بيني وبينه أن تجد له قشعريرة إذا رأيته).
ذهب عبد الله بن أنيس ودخل المنطقة التي فيها قبائل هذيل، ومن بعيد رأى خالد بن سفيان الهذلي يقول عبد الله بن أنيس : (فلما رأيته هبته وفرقت منه، فقلت: صدق الله ورسوله).
أخذ عبد الله بن أنيس يفكر كيف يمكن أن يغتال هذا الرجل الضخم، فقرر أن يذهب إليه ليحتال عليه بحيلة، وكان ذلك بعد وقت دخول صلاة الظهر، وخشي أن يفوته وقت صلاة الظهر، ولكنه إذا صلى الظهر قد يراه فيكتشف أمره؛ لذلك اجتهد عبد الله بن أنيس اجتهاداً غريباً، وبعد ذلك أقر الشرع هذا الاجتهاد، وهو أن يصلي وهو يسير إليه، قال: (فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي الركوع والسجود) يعني: يشير برأسه للركوع والسجود وهو يمشي، سبحان الله! وأصبحت هذه الصلاة معروفة في الفقه بصلاة الطالب وصلاة المطلوب، أي: الذي يَطلُب رجلاً للقتل والذي يُطْلَب للقتل.
قال: (فلما انتهيت إليه، قال: من الرجل؟ - أي:
ولما مات عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وأرضاه أمر أن تدفن معه هذه العصا، وبالفعل وضعت معه في كفنه رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: حصل للمسلمين أزمتان: أزمة بني أسد، وأزمة هذيل، وخرج المسلمون بفضل الله من هاتين الأزمتين بسلام.
واختار الرسول عليه الصلاة والسلام عشرة من الصحابة، وأمر عليهم عاصم بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، وذهبت هذه المجموعة لتعليم هؤلاء الإسلام، وفي الطريق غدرت بهم قبيلتا عضل وقارة، واستصرخا عليهم حياً من هذيل، فهذيل ما زالت متوترة لقتل قائدهم خالد بن سفيان الهذلي ، فلما حصل هذا الاستنفار تجمعوا حول هؤلاء العشرة، وطلبوا منهم النزول على العهد والميثاق، وقالوا: إذا نزلتم على العهد والميثاق لا نقتل منكم أحداً، فرفض عاصم بن ثابت رضي الله عنه، وقال: لا أنزل على عهد مشرك، وقاتل في أصحابه هذا القتال أسفر عن قتل سبعة من المسلمين، وبقي ثلاثة منهم فنزلوا على العهد، هؤلاء الثلاثة: هم خبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة وواحد ثالث لم يعرف الرواة اسمه، فلما أمسكوا بالثلاثة أخذوا يكتفونهم، فقال الثالث: هذا أول الغدر. فبدأ يقاوم فقتلوه، وبقي الاثنان، ولما وصلوا بهما إلى بلادهم باعوهما لأهل مكة، فاشترى صفوان بن أمية زيد بن الدثنة وقتله بأبيه أمية بن خلف الذي قتل في بدر، وأما خبيب بن عدي فقد اشترته مكة وأخذوا جميعاً يتجمعون لقتله، وخرجوا به إلى التنعيم حتى لا يقتلوه في البلد الحرام، وأجمعوا على صلبه ليقتل، فقال رضي الله عنه وأرضاه: دعوني حتى أركع ركعتين، فتركوه فصلى ركعتين خفيفتين، ولما سلم قال: والله لولا أن تقولوا: إن ما بي جزع لزدت في الركعتين، ثم رفع يده وقال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ثم بدأ ينشد مجموعة من الأبيات قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي شق كان في الله مصرعي
أي: في أي مكان، وبأي طريقة، مادام في سبيل الله فهذه أمنيتي، ثم قال له أبو سفيان قبل أن يقتل: أيسرك أن محمداً عندنا نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: لا والله ما يسرني أني في أهلي، وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكه تؤذيه، سبحان الله! كان الصحابة جميعاً يفتدون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرواحهم، وكان هذا الكلام يخرج من قلبه رضي الله عنه وأرضاه، ثم قدم للقتل فقتل صابراً محتسباً مقبلاً رضي الله عنه وأرضاه ولم يقر بكلمة واحدة من الذي يريدون.
أما قائد هذه المجموعة عاصم بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه كانت هناك امرأة من بني عبد الدار اسمها سلافة بنت سعد أقسمت أنها إن أمسكت بـعاصم بن ثابت لتشربن الخمر في قحف رأسه؛ لأنه اشترك في قتل بعض من بنيها، هذا المرأة مات زوجها وأربعة من أولادها في موقعة أحد، وهم من بني عبد الدار، وسمع مجموعة من بني لحيان بمقتل عاصم بن ثابت ، فذهبوا بسرعة ليأخذوه ويذهبوا به إلى سلافة بنت سعد فلما ذهبوا إليه وجدوا مجموعة كبيرة من الدبر - ذكور النحل- تغطي عاصم بن ثابت رضي الله عنه، فما استطاعوا أن يقتربوا منه، فابتعدوا عنه وبالليل جاءوا ليأخذوه، فوجدوا أن سيلاً من السيول -يقول الراوي: وليس في السماء سحابة واحدة- قد احتمل عاصم بن ثابت إلى حيث لا يعلمون واختفت الجثة؛ وذلك لأن عاصماً رضي الله عنه كان في حياته بعد أن أسلم يقسم أنه لا يمس مشركاً، وفي قتاله يوم الرجيع قال: اللهم إني قد حميت دينك أول النهار، فاحم لحمي في آخره. فحمى الله لحمه وهو ميت.
ولما كانت هذه القصة تحكى أمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: يحفظ الله عز وجل العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته.
إذاً هذه قصة ماء الرجيع، وكانت مأساة حقيقية للمسلمين، عشرة من خيار الصحابة ماتوا في وقت واحد.
في نفس الوقت الذي خرج فيه هؤلاء العشرة إلى ماء الرجيع حصلت قصة ثانية في وقت متزامن، يعني: قبل أن يصل خبر قتل هؤلاء العشرة حصلت قصة ثانية خطيرة جداً.
وكان هؤلاء السبعون معظمهم من الأنصار، وأخرجهم صلى الله عليه وسلم ليقوموا بدعوة هذه القبائل الكبيرة للإسلام، وخرجوا في جوار عامر بن مالك زعيم بني عامر.
وفي الطريق وبعد أن وصلوا إلى منطقة تعرف باسم بئر معونة عسكروا فيها، وهي بئر بين بني عامر وبين بني سليم، فنزلوا هناك وبعثوا أحد الصحابة وهو حرام بن ملحان برسالة إلى عامر بن الطفيل ابن أخي عامر بن مالك وكان عامر بن الطفيل رجلاً شريراً آثماً غادراً، وبينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم قصة قديمة.
كان قد جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وعرض عليه أمراً قال: (أخيرك بين ثلاث خصال: أن يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أن أكون خليفتك، أو أن أغزوك بأهل غطفان) يعني: يهدده، فرفض الرسول عليه الصلاة والسلام كل هذه المطالب جميعاً وردها.
فلما بعث الصحابة حرام بن ملحان برسالة يدعونه فيها إلى الإسلام، أشار الغادر عامر بن الطفيل إلى أحد رجاله -مع أن الرسل لا تقتل- أن يطعنه من ظهره، فجاء الرجل بحربة كبيرة وطعنه من خلفه فأنفذها حتى خرجت من صدره رضي الله عنه، ولما اخترق الرمح ظهر حرام بن ملحان وخرج من صدره وأدرك أنه ميت -أخذ الدم الذي يتفجر من جسده بيديه، وبدأ يمسح به وجهه ورأسه ويقول: فزت ورب الكعبة .. فزت ورب الكعبة.
سبحان الله! تخيل في هذا الموقف شاباً مثل حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه يُطعن هذا الطعن، وكل الذي يفكر فيه هذا الوقت أنه مات في سبيل الله عز وجل شهيداً، فقال: فزت ورب الكعبة.
إنه لمنظر بديع، منظر يعبر عن صدق النوايا في القلب، يعبر عن الثبات إلى آخر اللحظات حتى في أشد المواقف صعوبة، كثير من الناس تهتز عند لحظات الموت، لكن يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].
وأدهش الموقف كل الحضور، حتى إن جبار بن سلمى الذي طعن حرام بن ملحان في ظهره حين سمع ذلك، قال: فقلت في نفسي: ما فاز؟ ما فاز؟ ألست قد قتلت الرجل؟ فقال له الناس حوله: يقول المسلمون: إن هذه شهادة، فسأل جبار بن سلمى عن ذلك حتى عرف أمر الشهادة في الإسلام، وذهب إلى المدينة المنورة يسأل عن ذلك، وكان ذلك سبباً في إسلامه رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الموقف خطير، ويجعلنا نسأل سؤالاً: هل الشهيد يتألم مثل ما نحن نتألم؟ يا ترى! بعد الطعنة التي دخلت في ظهره وخرجت من صدره يستطيع أن يفكر ويزن الأمور، ويقول كلاماً في منتهى الحكمة مثل هذا الذي قاله؟ يرد علينا الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول في الحديث: (ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة)، لما تقرصك حشرة أو ناموسة أو غيرها من الحشرات هذه القرصة التي تشعر بها أنت يشعر بها الشهيد، حتى ولو كان مطعوناً أو مضروباً بسيبف أو أطلق عليه صاروخاً، لا يشعر الشهيد إلا بمثل ألم القرصة، ونحن نوقن بذلك تماماً كما صور الحديث صلى الله عليه وسلم.
إذاً: كان هذا أول الغدر، قتل حرام بن ملحان رضي الله عنه، ثم قام عدو الله عامر بن الطفيل باستنفار بني عامر لقتال المسلمين في بئر معونة، فرفض بنو عامر وقالوا: لا نخفر ذمة عامر بن مالك ، فإن عامر بن مالك كان قد أجار المسلمين من بني عامر، فقام عامر بن الطفيل باستنفار بني سليم، فأجابته بعض البطون من بني سليم: عصية ورعل وذكوان، وجاءت هذه القبائل وأحاطت بالمسلمين الذين في بئر معونة، وقاتل المسلمون جميعاً حتى قتلوا إلا واحداً منهم أصيب إصابات بالغة، وظنوا أنه قتيل، هو كعب بن زيد رضي الله عنه، وبعد سنة واحدة تقريباً قتل شهيداً رضي الله عنه وأرضاه في يوم الخندق.
فهذه إصابة ضخمة في الأمة الإسلامية، وكل هذا بعد حوالي أربعة شهور من أحد، ففي أحد مات سبعون، وفي ماء الرجيع مات عشرة، وفي بئر معونة مات سبعون، أي: مائة وخمسون صحابياً رضي الله عنهم وأرضاهم فقد تهم الأمة، نحن نتكلم على الأمة في بدء نشأتها، فهذه الأرقام أرقام مؤثرة جداً في جيل الصحابة رضي الله عنهم.
وهؤلاء السبعون الذين استشهدوا في بئر معونة هم مجموعة من خيار الصحابة، من القراء والعلماء، من الذين يعلمون الناس الدين، فكانت إصابة بالغة للدولة الإسلامية.
وصادف مع قتل هؤلاء السبعين مرور عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة رضي الله عنهما، فلما رأوا هذه المأساة نزلا ليساعدا المسلمين في حربهم، فأمسك بهما المشركون وقتلوا المنذر بن عقبة .
أما عمرو بن أمية فقد أمسك به عامر بن الطفيل زعيم هؤلاء المجرمين، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه، نذرت نذراً أن تعتق رقبة، فأخذه كأسير ثم أعتقه، ورجع عمرو بن أمية ليخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بمأساة بئر معونة، وفي الطريق استظل تحت شجرة، وجاء رجلان من بني كلاب -فرع من فروع بني عامر- فجلسا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو بن أمية ، وهو يرى أنه قد أصاب ثأر أصحابه، لكن بعد أن قتلهما وجد معهما عهداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفظ لهما الأمان وهما من المشركين، فلما قدم إلى المدينة المنورة أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بأمر بئر معونة، وأخبره بأمر قتل الرجلين من بني عامر.
انظروا إلى رد فعل الرسول عليه الصلاة والسلام، سبحان الله! لقد كان آية من آيات السمو الأخلاقي، هذه القصة نريد أن نطير بها إلى الآفاق؛ لنتعلم المنهج الإسلامي في التعامل مع الناس، قال صلى الله عليه وسلم: (لقد قتلت قتيلين، لأدينهما) سبحان الله! تخيل. الرسول عليه الصلاة والسلام سيجمع الدية لهذين القتيلين، مع أن نبأ قتل هذين القتيلين جاء مع خبر استشهاد سبعين من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في بئر معونة، ومع هذا الخبر المؤلم إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر في هذين القتيلين اللذين قتلا بغير وجه حق، فلا بد أن يعطي الدية لأهلهما.
كان خبر بئر معونة مأساة ضخمة، فقد مكث الرسول عليه الصلاة والسلام يقنت في صلاته ويدعو على رعل وذكوان ولحيان وعصية شهراً كاملاً، وليس في الفجر فقط، بل كان يدعو في الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ لأنها كانت أزمة خطيرة جداً.
وفي نفس الوقت كان المسلمون في حالة من الفقر الشديد، ليس معهم ما يكفي لدفع الدية، وأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يفي بالعهد ويجمع الدية، فبدأ يجمع من المسلمين قدر المستطاع لكن لم يكف ذلك، فأراد أن يذهب إلى اليهود، فقد كان العهد الذي بين المسلمين وبين اليهود في أول دخول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة يقضي بأنه إذا وقع أحد الأطراف في قضية من قضايا الدية، ولم يستطع أن يدفع الدية، على الطرف الآخر أن يعاونه في دفع هذه الدية، فلم يستطع الرسول عليه الصلاة والسلام أن يجمع من المسلمين، فذهب إلى يهود بني النضير، وكان هذا مقدمة الأزمة الخامسة.
لكن حيي بن أخطب زعيم بني النضير وأبو السيدة صفية رضي الله عنها وأرضاها أصر على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبالفعل اجتمع الملأ على ذلك، وقام عمرو بن جحاش بحمل حجر كبير، وصعد فوق البيت ليلقيه على الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الأثناء وهم يتفقون جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمه بما يدبرون، فترك الرسول عليه الصلاة والسلام المكان، وانتقل مباشرة إلى المدينة المنورة، مضى ولم يقل لأصحابه شيئاً؛ حتى لا يلفت الأنظار، واتبعه أصحابه رضي الله عنهم.
ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أخبر الصحابة بأن اليهود كانت تدبر مكيدة لقتله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا نقض صريح ومباشر للعهد الذي بينهم وبين المسلمين، ومن ثم قرر صلى الله عليه وسلم إجلاء بني النضير من المدينة المنورة.
أرسل صلى الله عليه وسلم لهم رسالة يقول فيها: (اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشراً -أي: عشرة أيام- فمن وجدته بعد ذلك ضربت عنقه).
ومع قوة اليهود وبأسهم وسلاحهم وعتادهم وحصونهم وقع الرعب في قلوبهم عندما قرأوا الرسالة، وقرروا الخروج فعلاً، وبدءوا يجهزون العدة؛ ليخرجوا من المدينة المنورة دون قتال.
وعندما نووا الرحيل جاء إليهم رئيس المنافقين عبد الله بن أبي فقال لهم: لا تخرجوا من دياركم فإن معي ألفين، يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم، وقد كان اليهود على عزم أكيد للخروج، ثم ثبتهم في البقاء مجموعة من المنافقين، فالمنافقون خطرهم شديد جداً؛ لذلك يقول رب العالمين سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، المنافق في الظاهر أنه مسلم؛ لكن سوء أعمالهم لا يفكر فيها اليهود أنفسهم، ذهبوا إلى اليهود وثبتوهم وقالوا: إنهم سيحاربون معهم ضد المسلمين إن حدثت حرب، وأنزل الله عز وجل قرآناً يفضح فيه أفعال اليهود والمنافقين. قال سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [الحشر:11-12].
هذا كلام الله سبحانه وتعالى، المنافقون قلوبهم ضعيفة واهنة؛ لأنها بعيدة عن الحق، قلوبهم في الظاهر مسلمة وفي الباطن تكره الإسلام وتتعاون مع اليهود، لكن إن جاء خطر عليهم تنكروا لعهودهم كما يتنكر اليهود، وكما يتنكر أعداء الأمة بصفة عامة لأخلاقهم ولعهودهم.
فهذا الذي حصل تماماً، ثبت المنافقون اليهود، وثبت اليهود بكلام المنافقين ولم يخرجوا، وأرسلوا رسالة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يقولون فيها: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك.
وكان الموقف في غاية الحرج، فالرسول عليه الصلاة والسلام مصاب في (150) صحابياً في خلال الشهور الأربعة التي مضت، وسيدخل الآن في حرب كبيرة مع بني النضير، لكن إن سكت سيكون هناك هزة كبيرة لسمعة الأمة الإسلامية، فكان لا بد من أخذ قرار حازم مع مثل هؤلاء، سواء كانوا بني النضير أو غيرهم، لا بد أن يحفظ كرامة الأمة الإسلامية.
وبالفعل جهز صلى الله عليه وسلم جيشاً في ربيع الأول سنة (4هـ)، وانطلق لحصار بني النضير، وضرب الحصار عليها من كل مكان حوالي ست ليال، وفي بعض الروايات خمس عشرة ليلة، لكن الراجح: ست ليال فقط، ثم هزم الله عز وجل اليهود.
إن اليهود وهم في داخل الحصون قد يستمرون داخلها سنين، لأن فيها ثماراً ومياهاً وسلاحاً، فقد يعيشون فترة طويلة، لكن مع ذلك انهزموا بشيء لا يستطيعه البشر، لقد قذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب.
والرعب من جنود الرحمن سبحانه وتعالى، فكيف يخاف اليهود وهم بهذه القوة من المسلمين، مع أن المسلمين في مصابهم الفادح يعانون أشد المعاناة، والحصار قد يطول ويطول على المسلمين؟ لكن مع ذلك استسلم اليهود في ستة أيام، ونزلوا على أمر المسلمين ولم ينفعهم المنافقون، انسحب عبد الله بن أبي ابن سلول ولم يقاتل معهم كما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [الحشر:12].
وذكر الله سبحانه وتعالى لنا في كتابه الكريم بعض صفات اليهود استخلاصاً من هذا الموقف. قال: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [الحشر:13-14].
وهذا الشيء ليس خاصاً بيهود بني النضير أو خاصاً باليهود الذين كانوا يعيشون أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، بل هي قواعد ثابتة على كل اليهود، ما داموا على يهوديتهم ولم يسلموا فإن الله عز وجل زرع في قلوبهم الرعب والهلع.
قال الله عز وجل في كتابه الكريم يصف حال اليهود: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة:96]؛ فحب اليهود للحياة أكثر من المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة أصلاً، فقوله: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) أي حياة وإن كانت تعيسة وذليلة ورخيصة، المهم أنه يعيش.
ونزل اليهود على أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وخرجوا من ديارهم بغير سلاح يحملون ممتلكاتهم فقط، وأخذوا يخربون بيوتهم بأيديهم كما وصف الله سبحانه وتعالى في كتابه، ينزعون الأبواب والنوافذ، ويأخذون كل ما يستطيعون أن يحملوه في هذا الخروج.
وبالفعل تركت بنو النضير المدينة المنورة واتجهت إلى خيبر -وخيبر تجمع يهودي كبير في شمال المدينة المنورة- وبذلك انتهت قصة بني النضير من المدينة المنورة.
وخرج زعماء بني النضير حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق إلى خيبر، وسيكون لهما دور بعد هذا، وسنرى ذلك في الحرب مع المسلمين.
ولم يسلم من يهود بني النضير إلا رجلان فقط: يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب ، من خلال ذلك ستعرف معنى كلام الله سبحانه وتعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82].
وبفضل الله خرج المسلمون من أزمة بني النضير وهم أكثر قوةً وأرفع شأناً في الجزيرة العربية بكاملها، واسترد المسلمون كثيراً من هيبتهم بعد انتصارهم على بني النضير، مع أن بني النضير قبيلة كبيرة لها تاريخ طويل في المدينة المنورة، ولها تاريخ في صناعة السلاح والقلاع والحصون، وإنه لأمر عظيم أن الرسول عليه الصلاة والسلام أجلاهم بهذه السهولة والبساطة، حاصرهم ست ليال فقط، ثم نزل اليهود على رأيه صلى الله عليه وسلم.
وبالفعل جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشه، وفي شعبان (4هـ ) أرسل رسالة إلى قريش يتواعد معها على اللقاء في بدر، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيش قوامه (1500) مقاتل، وذهب إلى بدر، وخرج كذلك أبو سفيان من مكة بـ( 2000) من المقاتلين، ووصل المشركون إلى منطقة تسمى مر الظهران قريبة جداً من مكة، وعسكر الجيش هناك، ولا يزال أمامه طريق طويل حتى يصل لبدر، لكن الجيش الذي خرج كان متثاقلاً تماماً، وعنده نوع من التردد الكبير في قتال المسلمين، وفي داخله الهلع والهيبة للمسلمين مع أن الموقعة الأخيرة كانت لصالح المشركين، ووقف أبو سفيان في مر الظهران يخاطب الجيش ويقول لأصحابه: يا معشر قريش! إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا.
هكذا كان أبو سفيان ، يتحجج بحجج واهية، فلو كانوا حريصين على القتال لخرجوا.
فاجتمع القوم على الرجوع، ولم يعارض أحد أبا سفيان في قضية العودة إلى مكة المكرمة، وبذلك تخلفوا عن اللقاء الذي وعدوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يبق الرسول عليه الصلاة والسلام في بدر ثلاثة أيام فقط، بل بقي ثمانية أيام متصلة؛ حتى يثبت للجميع أنه لا يهاب قريشاً ولا يخاف جيوشها ولا عدتها ولا عتادها، وكان في هذا أثر إيجابي كبير للدولة الإسلامية في الجزيرة العربية.
خرج المسلمون من هذه الأزمات في يوم خروج بني النضير، واستطاع المسلمون من جديد أن يستعيدوا الهيبة، واستغل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الموقف في نشر الهيبة والسمعة الجيدة للمسلمين في الجزيرة العربية، فقام بعدة سرايا وغزوات من أشهرها: غزوة نجد، واللقاء الذي كان منتظراً بينه وبين المشركين في بدر، عرفت في التاريخ بغزوة بدر الصغرى تمييزاً لها عن غزوة بدر الكبرى التي كانت في سنة (2هـ)، ثم قام بغزوة دومة الجندل.
وكان لكل هذا نتائج كبيرة في الجزيرة العربية على كل المحاور، سواء كانت نتائج في داخل المدينة المنورة أو في خارجها.
كذلك يهود خيبر رأت أن اليهود يخرجون من داخل المدينة المنورة، وبعد أن ينتهي الرسول عليه الصلاة والسلام من قصة اليهود في المدينة المنورة، لا يستبعد أن يتجه إلى يهود الشمال إلى خيبر، أضف إلى ذلك أن بني النضير هاجرت إلى خيبر، ونقلوا ليهود خيبر كل الكراهية التي حملوها معهم من المدينة المنورة، كذلك زعماء بني النضير انتقلوا إلى خيبر، وفيهم من الشر ما فيهم، منهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وغيرهما من زعماء اليهود، فمن المتوقع أن تكون هناك مشاكل كثيرة تجيء من ناحية خيبر.
إذاً: قريش بدأت تشعر بالقلق الشديد تجاه المسلمين، لكن لا تدري كيف تتصرف؟
إن هذه المتغيرات التي حدثت في الجزيرة العربية وفي المدينة المنورة في خلال السنة السابقة كانت سبباً لحدوث شيء كبير ضد المسلمين في الفترة القادمة، فهناك منافقون داخل المدينة ويهود، وهناك قريش، وهناك قبائل عربية غير مسلمة حول المدينة المنورة.
لقد كان لليهود دور كبير في تجمع القبائل لحرب المسلمين، فقد جمعوا القبائل من هنا وهناك ولم يشتركوا هم في المعركة، وهذا هو دور اليهود المعروف عنهم منذ سنين طويلة، وما زالوا يعملون ذلك باحتراف إلى هذا الوقت، وسيستمرون على ذلك، فهم دائماً يؤلبون غيرهم على حرب الإسلام وحرب دعوة الحق، ويخرجون هم تماماً من الصورة والأحداث.
وهذا ما فعله اليهود أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، خرجت من خيبر مجموعة من يهود خيبر وبني النضير، فيهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق ، وأخذوا يؤلبون القبائل على المسلمين، ويجمعون القبائل المتفرقة لحرب دولة الإسلام في المدينة المنورة.
ذهبوا أولاً إلى قريش وقالوا لهم: الفرصة سانحة في أن نجمع لكم القبائل من غطفان وبني سليم وغيرها لحرب المسلمين، ولم تصدق قريش أنها وجدت مثل هذه الفرصة؛ وذلك لأن قريشاً طعنت في كبريائها يوم أن عادت من بدر الصغرى دون قتال في شعبان سنة (4 هـ)، وبدأ القرشيون يجمعون من القبائل المحيطة بمكة المكرمة ما يستطيعون جمعه من الجنود، حتى جمعوا ( 4000) مقاتل، وانتقل اليهود بسرعة من قريش إلى غطفان في شرق الجزيرة العربية، والتقوا بزعماء غطفان هنا وهناك، وكانت هذه القبائل الغطفانية تنتظر الفرصة كذلك، فقال لهم اليهود: قريش معكم، فقد جمعت (4000) مقاتل، لكن غطفان لم تتشجع كثيراً على القتال لخوفها من المسلمين، مع أن قبائل غطفان كثيرة ومعها قريش، لكن اليهود ما يئسوا، قالوا لهم: إن لم تكونوا متحمسين على القتال فنحن نحمسكم بالمال، فمع بخل اليهود الشديد إلا أنهم ينفقون المال الكثير إذا كان هذا الإنفاق للصد عن سبيل الله، فهم ينفقون ببذخ وكرم كبير لا يتخيله أحد، هذه هي طبيعتهم، فوعدوا زعيم بني فزارة عيينة بن حصن وبقية زعماء غطفان أن يعطوهم ثمار خيبر كاملة لمدة سنة، وكانت خيبر غنية بالثمار، فكل ما ينتج فيها من ثمار يدفع لغطفان ولـعيينة بن حصن على أن يجمعوا جيشاً قوامه (6000) مقاتل.
إذاً: ستة آلاف من غطفان وبني سليم، وأربعة آلاف من قريش، وهكذا اجتمع (10.000) مقاتل، وطارت الأنباء المرعبة إلى المدينة المنورة، فقد كان هذا أخطر الأنباء من أول إنشاء الدولة الإسلامية، فإن العرب كانوا إذا وصل عددهم (1000) يفتخرون، يقول أحدهم: إنا لنزيد على الـ(1000)، ولن يغلب (1000) من قلة، إذاً: تخيل (10.000) مقاتل قادمين باتجاه المدينة المنورة ليحاصروها من كل مكان، وفيهم من الحقد ما فيهم.
ووصل الخبر على المسلمين وكان ثقيلاً، وميز الله بهذا الخبر الخبيث من الطيب، قال تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال:37]، فإنه لما سمع المؤمنون الصادقون بهذا الخبر قالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، فالجيوش والأمم والأعادي كلهم سيتجمعون عليهم باختلاف إستراتجياتهم وأفكارهم، لكن وعدهم الله بالنصر عليهم إن هم تمسكوا بمنهجه سبحانه وتعالى، فها هو الجزء الأول يتحقق: وهو تجمع الأحزاب حول المسلمين، أما الجزء الثاني فلا بد أن يتحقق: وهو النصر عليهم ما داموا متمسكين بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم بفضل الله متمسكون: فالنصر آتٍ إن شاء الله، مع أن الظاهر مختلف تماماً، فالأحزاب (10.000) مقاتل يحاصرون المدينة، فكيف الخروج من هذه الأزمة؟ فما زالوا لا يعرفون، لكنهم متيقنون تماماً في وعد رب العالمين: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22].
أما على الناحية الثانية فارتعب المنافقون، كيف يحاربون عشرة آلاف مقاتل؟ والمنافقون لا يحسبون الأمر إلا بحسابات الورقة والقلم والحسابات المادية فقط، ولا يقتنعون بقدرة رب العالمين سبحانه وتعالى وبحكمته وبإرادته وبهيمنته على الكون بكامله، فلم يستطيعوا أن يعوا هذا الأمر، وأخذوا يحسبون كل شيء بالورقة والقلم، كيف يحارب المسلمون (10.000)، والمسلمون داخل المدينة بكاملها سواء كانوا من الرجال أو من النساء أو من الأطفال أو من الشيوخ أو من الصادقين أو من المنافقين لا يصل عددهم إلى (10.000)؟ فكيف سيحاربون جيشاً مؤهلاً لحرب المسلمين قوامه (10.000) مقاتل؟
وحينما سمع المنافقون الأنباء قال الله عز وجل في وصفهم: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، هكذا بالتصريح، الله سبحانه وتعالى وعدنا بالنصر والرسول كذلك وعدنا بالنصر، لكن كيف؟ لا نستطيع، جيوشنا لا يمكن أن تحارب جيوشهم الكبيرة، فقرروا عدم القتال مع المسلمين، وإن كانوا في الظاهر هم من المسلمين، وهذا يبين لنا أن خطرهم شديد، فهذه أزمة كبيرة آتية على الأمة الإسلامية، ولا بد أن تحل هذه الأزمة الكبيرة، وذلك بأن يوقن المسلمون بنصر من الله عز وجل، هذه سنة من السنن.
ففي بدر بدأت الأزمة تتصاعد وتتصاعد وتتصاعد حتى وصلت إلى أقصاها في شهر شعبان سنة (2هـ) وحصل في شهر شعبان ابتلاءات قصوى وكبرى للمسلمين، فلم يخرج من المسلمين إلا الصادق، وخرجوا إلى لقاء بدر بصفات الجيش المنصور، فتحقق لهم النصر بعد الصدام المروع مع المشركين.
والآن المسلمون في أزمة كبيرة آتية عليهم، وقد فرقت هذه الأزمة الصف وميزته، وظهر المسلمون الصادقون، وظهر المنافقون الكاذبون، وعند هذا الأمر توقع أن يحدث نصر قريب؛ لأننا وصلنا إلى أقصى درجات الأزمة تقريباً؛ لذلك استبشر المسلمون بهذه الأزمة على ضخامتها.
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
عند أشد لحظات الليل يأتي الفجر، وهكذا تجمعت الجيوش من كل مكان، وأحاطت بالمدينة المنورة كما يحيط السوار بالمعصم، ومع ذلك أخرج الله عز وجل المسلمين من أزمتهم منتصرين، كيف كان رد فعل المسلمين تجاه هذه الأزمة الكبيرة؟ وكيف تصرفوا؟ وكيف أخذوا قرارات لم تؤخذ قبل ذلك في تاريخ العرب بكاملهم؟
كيف ظهر أمر المنافقين في كل خطوة من خطوات المعركة؟ كيف رد الله عز وجل الكافرين بغيظهم؟ وكيف رد أهل الكتاب من بني قريظة؟ هذه تفاصيل كثيرة جميلة جداً في السيرة النبوية.
نسأل الله عز وجل أن يجمعنا وإياكم على الخير دائماً، وأن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر