الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى حث على الاعتصام والتمسك بحبله المتين، وأمر الله جل وعلا أهل الإيمان بالأخذ بأسباب ذلك على سبيل الجزم والتأكيد, وقد جاء في ذلك آيات كثيرة من كلام الله جل وعلا، وفي ذلك نصوص كثيرة عنه عليه الصلاة والسلام.
ومن ذلك قوله جل وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فأمر الله جل وعلا الناس على سبيل العموم بالتمسك بحبله المتين، وجاء تفسير حبل الله جل وعلا بعدة معانٍ, منها القرآن, ومنها التوحيد وغيرها, ولكن هذا التمسك ليس على سبيل الانفراد وإنما على سبيل الجماعة؛ وذلك أن الشيطان إنما ينفر من الجماعة ويقرب من الفرد, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في السنن وغيرها: ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا يؤذن فيهم ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان, وعليك بالجماعة؛ فإن الذئب يأكل من الغنم القاصية )، والمراد من ذلك أن الإنسان إذا كان مع جماعة فإنه يتهيب من سلطان يريد أن يعتدي عليه, سواء كان من هوى النفس وطغيانها, أو كان ذلك من شياطين الإنس والجن الذين يريدون فرصة سانحة للوصول إلى الشيطان بإغوائه حتى ينحرف الإنسان يمنة ويسرة عن الصراط المستقيم.
وقد أمر الله جل وعلا بالأخذ بأسباب الجماعة, ومن أسباب الجماعة: صلة الأرحام التي أمر الله جل وعلا بها وحث عليها في كتابه العظيم في مواضع عديدة، ولهذا جاء التشريع في كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لجملة من الأحكام التي فيها اجتماع الناس وتآلفهم؛ كصلاة الجماعة, وكذلك ما جاء من التشريع لصلة الأرحام, وكذلك ما جاء من اجتماع الناس في الجمعة والأعياد وغير ذلك، وقد حث على هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سفر الرجل وحده، ونهيه عن مبيته وحده، وإنما يبيت إذا كان معه غيره؛ وهذا لكي يكون الإنسان أقرب إلى الجماعة وأبعد من الشيطان.
وإنما حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلة الأرحام وأمر بالدنو منها حتى يكون الإنسان له ركن يأوي إليه، وهذا فيما يتعلق بمصالح الدين ومصالح الدنيا, وقد جاءت الشريعة بجمع الشمل ولمه, وكذلك جمع المصالح وتتميمها ودرء المفاسد وتنقيصها, وهذا أصل متقرر في الإسلام لا خلاف فيه.
حث الشارع على صلة الأرحام وبين فضلها, وبين جل وعلا خطر القاطع لرحمه؛ وذلك تحقيقاً لهذا الأصل العظيم, ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
وفي قوله جل وعلا: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1]، قال غير واحد من المفسرين: اتقوا الله بصلتكم لأرحامكم, وقال غير واحد: اتقوا الأرحام فصلوها؛ كما جاء تفسير ذلك عن غير واحد من السلف كما رواه ابن جرير الطبري وغيره عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه قال في قول الله جل وعلا: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1]، قال: اتقوا الأرحام وصلوها، وجاء عن مجاهد بن جبر وغيره أن المراد بذلك اتقوا الله جل وعلا بأرحامكم وأدوا الواجب إليها, وروي هذا المعنى عن غير واحد من المفسرين كـالحسن البصري و قتادة وغيرهم من أئمة الإسلام.
وقد بين الله جل وعلا خطورة حال من قطع الرحم, وكذلك مقامه أنه مقترن بمن نقض الميثاق وعهد الله جل وعلا، الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ [البقرة:27]، والمراد بما أمر الله جل وعلا به أن يوصل هو صلة الأرحام, وإذا لم يصلها الإنسان كان قاطعاً.
وبين الله جل وعلا على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام أن من لم يصل رحمه لمتوعد بدخول النار وعدم دخول الجنة، كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لا يدخل الجنة قاطع )، يعني: قاطع رحم، والمراد من هذا أن الإنسان إذا لم يأخذ بظواهر الأوامر الشرعية بصلة الأرحام واجتناب القطيعة كان مرتكباً لكبيرة من كبائر الذنوب.
والمتقرر عند العلماء أن الإنسان إذا فعل فعلاً قد توعد الشارع ذلك الفاعل لأجل فعله بالنار أو وُصف باللعن والطرد والإبعاد من رحمة الله أو شرع حكم له في الدنيا؛ كالحدود والتعزيرات المقدرة بقدر معين أن ذلك دليل على أنه ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب.
بين الله جل وعلا حال الجاهليين وأن قطيعة الأرحام قد انتشرت فيهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوائل ما دعا إليه بمكة أن يصل الإنسان رحمه، وأن يبتعد عن قطيعة الأرحام, وهذا ما نادى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول مبعثه بمكة وكذلك في أول قدومه إلى المدينة, فقد روى الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث جعفر بن أبي طالب لما هاجر إلى الحبشة وذكر خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه رضوان الله تعالى للنجاشي ؛ قال: ( كنا في الجاهلية نقطع الأرحام ونعبد الأوثان ونأكل الميتة ونقع في الفواحش, فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا بكسر الأوثان وصلة الأرحام )، والمراد من هذا أن الشريعة جاءت بتكميل مصالح الدنيا وتتميمها, ودفع المفاسد الطارئة على هذين الجانبين, وهي تمام الحياة وسلامة معيشة الناس في دنياهم, كذلك إتمام المصالح الدينية التي لا تنفك بالجملة عن مصالح الدنيا, وهذا من كمال شريعة الله جل وعلا أن جعل الإنسان مفطوراً على ما يحبه الله سبحانه وتعالى مما يأمر الله جل وعلا به في أمور الدين والدنيا، ولهذا كان من علامات شر المجتمعات إذا انتشر وفشا فيهم خلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بابتداء أمره بقطيعة الأرحام.
وقد تقرر عند العلماء أن أول ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء في أول مبعثه إذا زال من الأمة فإنه زوالها بتمامها من جهة الاسم ومن جهة الأحكام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ به هو أنه كان يدعو إلى التوحيد وإلى كسر الأوثان والأصنام, وكان يدعو إلى عدم قطيعة الأرحام, ويدعو عليه الصلاة والسلام إلى صلتها, فلما كان هذا هو أول ما دعا إليه عليه الصلاة والسلام؛ فإذا انتهى من الأمة وفشا في المجتمعات فإن هذا علامة على كون المجتمع مقترناً بمجتمع الجاهلية من جهة استحكام الشر.
ومن علامات الساعة في آخر الزمان انتشار قطيعة الأرحام كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك جملة من الأخبار من حديث عبد الله بن مسعود و أبي هريرة وغيرها، من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث السيار عن طارق بن الشهاب أن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بين يدي الساعة قطيعة الأرحام, وتسليم الخاصة, وفشو التجارة, حتى تعين المرأة زوجها على التجارة, وشهادة الزور, وكتمان شهادة الحق, وظهور القلم )، والمراد من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن من علامات الساعة وقيامها قطيعة الأرحام وعدم صلتها, أي: أن حال الناس في آخر الزمان سيشابه حال الجاهليين عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قطيعتهم للأرحام وعدم صلتهم لها, وهذا الوصف حينما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدة أخبار هي صحيحة بمجموعها دل على أن الخيرية قد انتفت من ذلك المجتمع، وشابه ذلك المجتمع الجاهلي.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجل الأحكام المتعلقة بالأخلاق والقيم، وأفرد منها صلة الأرحام مع صلتها الوثيقة بأمور الآداب والمكارم، وجعلها مقترنة بالتوحيد والنهي عن الشرك إلا لكونها بهذا المقام من علامة الخيرية وقوة الأمة, وهذا يعتضد بالأصل العام من جهة الأمر بالاجتماع والنهي عن الفرقة، ولهذا لا يمكن أن تتحقق للأمة نصرة وتمام وقوة إذا لم تكن على جماعة وكانت الأمة أوزاعاً, فإذا كانت الأمة أوزاعاً متفرقة، وإن كان قد تحقق في ذوات الناس التوحيد على سبيل الكمال وتحققت فيهم العبادة، إلا أن الله جل وعلا لا ينزع عنهم العقاب الذي لا يستثني منهم خاصة بل يأتي على عامتهم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما دعا إليه في ابتداء أمره يتحقق فيه وصف الجماعة.
وكثير من الأحكام الشرعية إذا أراد الإنسان أن ينظر إليها وجد أنها على نوعين: أحكام شرعية لازمة لا تتعدى الإنسان إلى غيره، وأحكام شرعية متعدية. وهذه الأحكام إذا نظرنا إليها في ذاتها وجدنا أنها على نوعين:
النوع الأول: منها ما يتعلق بأمور تعبدية محضة لا يقترن معها شيء من الأمور المتعدية مما يتعلق بأحوال الناس من أمور العقود والمعاملات والفسوخ وغيرها.
وإذا أردنا أن ننظر للأمور اللازمة للإنسان غير المتعدية وجدنا أن الشارع لا يستثني منها في ابتداء الدعوة إلا التوحيد, فإن التوحيد من جهة الأصل يلزم أن يتحقق في الإنسان لازماً, وأما تعديه إلى غيره فإن ذلك ليس بلازم, ولما استثني من هذا الأصل العام المتأكد وجُعل متقدماً في أصل الشريعة من جهة البلاغ والدعوة دل على عظيم أمره.
والأصل أن الأمور المتعدية من العبادات المقترنة بشيء من الآداب والأخلاق والمكارم إذا كانت متعدية فالأصل في حقها الابتداء من جهة البلاغ والدعوة, وأن ما كان لازماً الأصل فيه التأخير, فلما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان لازماً في الإنسان لا يتعدى إلى غيره من جهة الإيجاب واللزوم إلا ما يدخل في ضمن أبواب الدعوة وبلاغها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بلغوا عني ولو آية )، فهذا تستوي فيه سائر الأحكام، فلما استثنى الشارع من الأمور اللازمة أمر التوحيد، واستثنى الشارع كذلك من الأمور المتعدية التي حقها التأخير من جهة البلاغ وقرنه بالتوحيد كصلة الأرحام دل على تأكيدها وقوتها من هذا الباب.
والشارع قد حرص على جملة من الأحكام في ابتداء الدعوة كما كان يهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحذير من جملة من المحرمات منها الإشراك مع الله جل وعلا, وكذلك قطيعة الأرحام, وكذلك الوقوع في الفواحش, وهو أصل المحرمات, التي تعلم من جهة العقل والحس بالضرورة, ولا تحتاج لإنكارها إلى نظر إلا من مسخ الفطرة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )، فإذا علم هذا علم أن تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر صلة الأرحام على غيره من الأمور المتعدية دليل على عظم منزلتها في الإسلام ولها علاقة بقوة الإسلام وتمامه, مع كون الإنسان إذا كان من أهل الإسلام فهذا الوازع وهذا الوصف آكد من غيره من أي صلة أخرى.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل ذوي أرحامه من الكفرة ممن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم يتبع قوله من أعمامه وغيرهم، ويدل كذلك على تأكيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشفع لأحد ممن كان من أهل الإحسان في سابقة أمره ممن كان من أهل الكفر إلا من له صلة به في رحمه؛ كعمه أبي طالب , فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم شفع له، فكان في النار على نعلين يغلي منهما دماغه كما جاء في الصحيح, وما يقترن بذلك مما له نوع من استحباب الصلة وتأكيدها من أبواب الرضاعة كما في مسألة شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي لهب ؛ وذلك أنه قد أعتق مرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكان في النار يسقى بقدر هذه، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما كان في أسفل إبهامه, يعني: يسقى بقدرها في نار جهنم، وما عدا ذلك فإنه لا شفاعة لأحد من أهل الكفر والعناد.
أمر الله جل وعلا بصلة الأرحام والعناية بها, وأمر الله جل وعلا كذلك بمعرفة مراتب الرحم وتحقق ذلك, وأكثر الناس عند الكلام على مسائل الأرحام وأهميتها ووجوب وصلها لا يدرك معرفة المراتب إلا ما عرف من جهة كمال العقل من معرفة أولوية الأبوين ونحو ذلك, ولا يعرف مسألة مراتب الأرحام من جهة الصلة, وما الذي يجب على الإنسان من جهة أرحامه أن يصلهم, وما عدا ذلك فإنه يستحب له ولا يجب عليه، وهذا مع كونه متأكداً في شريعة الإسلام، والنصوص قد تواترت بالتأكيد عليه إلا أن جهل كثير من الناس في هذا الأمر من علامات الشؤم وعدم الخيرية, فإن الإنسان إذا لم يعرف حد الأحكام الشرعية ووصفها، وكان ليس من أهل الصلة في ذلك فهذا نوع قصور في معرفة الحدود الشرعية وامتثال أوامر الشرع, وإذا كان من أهل المعرفة لحدود الشريعة وضوابطها كان من أهل الاتباع في الأغلب.
الشارع أمر بصلة الأرحام، وحذر من القطيعة, والأرحام إذا أردنا أن نعرفها فهي مشتقة من الرحم, وهي مجمع ومنبت الأولاد من البنين والبنات, وهي غرس الرجل, ووعاء واحتواء المرأة لأبنائها, وقد جعل الله جل وعلا ذلك علامة للمودة والرحمة, وهي شبيهة بالصنو الذي يذكر العرب أن الصنو هو من النخل الذي له ساق واحدة وينفصل عنه فسيلتان، أي: أن الإنسان كان أصله واحداً ثم انفصل وبدأ يتعدد شيئاً فشيئاً؛ كحال النخلة التي لها ساق واحدة ثم انفصلت وأصبحت اثنتان, وأصبح في كل واحدة جذع من النخل, وأصبح في كل جذع من النخل من أعواد العرجون ما يمسك التمر, وهذا دليل على تشعب الأرحام.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر عمه العباس كما جاء الصحيح قال: ( العم صنو الأب )، يعني: في مقامه، أي: أن الساق واحدة وهي الجد، ثم تفرع عنه الأب، وتفرع عنه كذلك العم.
والأرحام إذا علم اشتقاقها علم أصلها, وأنه يخرج من ذلك ما يتعلق بمسألة الرضاع, وأن الرضاعَ لا يدخل في مسائل الأرحام إلا على سبيل الإكرام والوفاء بالعهد والإحسان إلى الغير ببذل المعروف, والمعروف إذا بذل للإنسان فإنه في حال استحكام العجز يعظم الأجر عند الله جل وعلا، والحق كذلك بالوفاء وأداء المعروف. وكذلك من جهة الأذية للإنسان، فإذا آذى الإنسان غيره، فإن الأذية لا ينظر إلى نوع الأذى الذي أصاب الإنسان، وإنما ينظر إلى محله, فإذا كان محل ذلك الأذى الذي نزل بالإنسان في حال عجز تام فإنه أعظم إثماً عند الله جل وعلا.
وأعظم مراتب القتل أن يقتل الإنسان صبياً أو غلاماً لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولهذا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح: ( أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك, قيل: ثم أي؟ قال: إن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك )، وإذا علم هذا من جهة بذل الإحسان كذلك في إنزال الضراء, فإن الإنسان إذا بذل إحساناً وكان محله في حال عجز تام فإن الوفاء في حقه أعظم, وكذلك الأثر فيه أشد.
وكذلك الأذية إذا استحكمت في الإنسان، وكان ممن يعجز عن صدها من قوي، فإن هذا الأذى إذا حل في الإنسان أعظم إثماً عند الله جل وعلا ممن يلحق الأذى بشخص يستطيع أن يدفع الأذى عن نفسه, فإن قتل الناس ليس على السواء، والإنسان إذا قتل صبياً في مهده ووأده فهو أعظم إثماً ممن قتل رجلاً يستطيع أن يدفع وينكأ العداوة عنه، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل الصبي الصغير في مرتبة بعد الإشراك مع الله جل وعلا غيره.
ومعلوم أن القتل من جهة الأصل هو داخل في كبائر الذنوب, ولهذا فإن الإنسان إذا بُذل إليه إحسان في حال ضعف وعجز تام فإن الوفاء والذمة في حقه من جهة إعادة الإحسان لمن بذله أولى، فإن الإنسان إذا كان في مهده يحتاج إلى رضاع فأرضع من أم، فالوفاء من جهة الإحسان أعظم ممن أغدق عليه من جهة المال في حال قدرته على التكسب.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم شفع لـأبي لهب وهو في النار, وقد أنزل الله جل وعلا فيه سورة تتلى إلى قيام الساعة؛ وذلك لأنه قد أعتق مرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية, ومعلوم أنه أعتقها ولم يعلم أنها سترضع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يعلم أن حال النبي صلى الله عليه وسلم سيؤول إلى ما آل إليه من عداوته لما يعبده أبو لهب , ومع ذلك تحقق فيه نوع من الشفاعة في النار كما رواه البخاري وغيره: ( أن أبا لهب يكون في النار، ويرضع فيها بقدر هذه ).
ولما علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشفع إلا لذي رحم وهو عمه أبو طالب ولـأبي لهب بسبب الرضاع دل على اقتران الرضاع بنوع من الإكرام مع الرحم.
ولما كان كذلك فلا بد من تأصيل أمر، وهو أن مسألة الرضاع لا تدخل في أبواب الرحم؛ لأنها من جهة الوصل لا تتأتى، فليس هو برحم، وأما من جهة الإكرام والوفاء بالعهد فإنه من أولى ما ينبغي للإنسان أن يفي بالعهد والإحسان؛ لأنه من وجوه الإحسان التي لحقت الإنسان في حال عجز تام.
والإنسان في الأغلب أنه لا يلجأ إلى مرضعة غير أمه إلا عند عجزه التام وعدم وجود أمه, سواء بوفاة أو بعجز من مرض مقعد وغير ذلك، وبه نعلم أن كلام العلماء إذا تكلموا على مسألة حدود الرحم أن ما يصل إليه الحد من جهة الوجوب يلحقه من جهة الاستحباب والتأكيد مسألة الرضاع, وأولى ذلك هي الأم ثم بعد ذلك الأب, ثم بعد ذلك الإخوة, وثم بعد ذلك الأبناء, وغير ذلك مما يأتي بيانه بإذن الله.
والأصل في الأرحام عند العلماء أنها على نوعين:
النوع الأول: رحم محرم, والمراد من ذلك أن الإنسان إذا كان له رحم محرم, أي: يحرم عليه لو كان رحمه أنثى أن يتزوجه، فهذا آكد الأرحام التي يجب على الإنسان أن يصل, وأعظم ذلك وأقواه الأبوان.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيم الأمر في الوقوع على ذات المحارم, ففي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام قال: ( من أتى ذات محرم فاقتلوه )، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نهيه مقترن بالرحم؛ وذلك لحق الإكرام والإحسان.
وينبغي أن تغلب نظرة الإكرام والإجلال على نظرة الغريزة, وهذا النوع هو آكد ما يجب أن يوصل, وأعلاه كما تقدم الكلام عليه هما الأبوان، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة: ( أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك, قيل له: ثم ماذا؟ قال: أمك, قيل له: ثم ماذا؟ قال: أمك, قيل: ثم ماذا؟ قال: أبوك, ثم أدناك فأدناك )، يعني: أنه لا ينتهي إلى حد الأب, وإنما ينبغي للإنسان أن ينظر إلى الأرحام على حسب التسلسل.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (ثم أدناك فأدناك) دليل على أن الأمر في صلة الأرحام ينبغي أن يُنظر إليها من جهة القرب والدنو، ولهذا قال: (أدناك فأدناك), يعني: ما كان قريباً منك من جهة الرحم, وأن ما كان بعيداً لا ينبغي أن تقدمه على من كان قريباً منك لحظ من حظوظ النفس.
وبه نعلم أن كثيراً من الناس الذين يصلون أرحامهم الأبعدين ويقصرون في الأقربين ودوافعهم في ذلك شيء من نزوات النفس الباطنة, سواء لحظ من حظوظ الدنيا من المال والجاه وغير ذلك، أن هذا عمل من الأعمال الصالحة مدخول, وينبغي للإنسان أن يبتعد عنه وأن يحذر منه.
وبه نعلم أيضاً أن المتقرر في الشريعة أن الأحكام الشرعية إذا دل الدليل على كونها من عظائم الأعمال من الأمور في الطاعات مما تقدم الكلام عليه من أمر التوحيد وصلة الأرحام، وأدخل الإنسان شيئاً من ذلك لغير الله جل وعلا في نيته كان الأثر والعاقبة في حقه أعظم, بخلاف الأمور التي حث الشارع عليها حثاً ليس على سبيل الإلزام, فدخول النية فيها لغير الله جل وعلا أخص, وهذا من نظر إليه وجد أنه مطرد, فكل ما شدد فيه الشارع العزم فيجب فيه على الإنسان الإخلاص, وأن يتحرى فيه على سبيل الاحتياط والقوة؛ لأن الخروج من ذلك ضرب من ضروب الشرك وإحباط العمل وسوء العاقبة عند الله جل وعلا.
ويلي بعد ذلك إذا قلنا: إن الأول الأم, ولها مراتب متباينة، الأم ثم الأم ثم الأم, ثم بعد ذلك يكون الأب, يلي بعد ذلك أدنى الناس وأدناه من الأرحام, وأولى ما يكون بعد ذلك هم الأبناء.
والأبناء أولى من الإخوة وهم يلون الآباء, فإن الإنسان ما استحق أبوه من جهة بره له إلا لكونه أباً وهو ابن, ولما كان كذلك وجب أن يكون متبادلاً من جهة الابن لأبيه ومن جهة الأب لابنه, فلما دل الدليل في الشرع على أحقية الأبوين في الصلة يجب عليه أن يصل، وأن يقدم أمه وأن يقدم أباه؛ وجب عليه كذلك أن يعلم أنه لما كان الحق منصرفاً منه إلى أبيه وصادراً منه إلى أبيه، وجب أن يُعلم أن المرتبة الثانية أن يصدر من أبيه إلى ابنه, فيجب عليه أن يصل ابنه، والحق في ذلك متنازع، والكمال في ذلك أن يصل الابن أباه, ثم بعد ذلك أن يصل الأب ابنه في حال القطيعة.
وإذا قطع الابن أباه فليس للأب أن يقول: إن الواجب لي عليه، وليس له علي حق, وهذا نوع من القصور في الفهم, وإن كان يجب على الأب أن ينفق على ابنه حتى يشتد عوده، وإن كان فقيراً بعد ذلك حتى بعد قدرته الجسدية، وإن كان عاجزاً يجب عليه أن ينفق عليه باتفاق العلماء، ولا خلاف عندهم في ذلك.
وكذلك في مسألة العكس بالنسبة للابن لأبويه, وهذا لا خلاف فيه عند العلماء إلا في بعض فروعه إذا طلب الأب أو الأم من الابن شيئاً زائداً عن الحاجة على سبيل الكمال والترف أو الإسراف، وهذه أمور تقدر بقدرها.
ثم يلي الأبناء بعد ذلك الإخوة والأخوات, وأيهما أولى الذكور أو الإناث من جهة التأكيد؟
قال بعض العلماء: لما قدم الشارع الأم على الأب دل على تقديم الإناث على الذكور على الإطلاق, وهذا أمر مشترك، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثم أدناك فأدناك)، وهذا هو الأولى وهو الأظهر لقرائن متعددة، والقرينة هذه التي تقدم الكلام عليها من تقديم الأم على الأب وبمراتب ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في حديث أبي هريرة .
والأمر الآخر أن الحاجة في الأنثى أعظم من الحاجة في الذكر, فإن الأنثى تحتاج إلى قيم يقوم عليها ويقوم بشأنها, والأصل فيها أنها تقر في بيتها, والنفقة يجب على الذكر أن ينفق عليها, فلما كانت أحوج إلى النفقة والمعونة من الذكر فإن الحق ينصرف إليها أكثر من غيرها, وهذا من نظر إليه وجد أنه مطرد فيما يتعلق في مسألة الأصول بالنسبة للأمهات كذلك بالنسبة للفروع، بالنسبة للأبناء والبنات, وكذلك بالنسبة للأخوات.
والأمر الثالث في هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في البخاري من حديث أبي إسحاق عن البراء، قال عليه الصلاة والسلام: ( الخالة بمنزلة الأم )، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الخالة بمنزلة الأم، ولم يجعل الخال بمنزلة الأم, مما يدل على أنه أقرب مشابهة في حال اتحاد الدرجة فيمن كان شبيهاً أو فرعاً من جهة الوصل إلى الشخص به هو ما كان أنثى.
وكذلك بالنسبة للأعمام, وقال بعض العلماء: إن العم يستثنى من هذا، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نص على أن العم بمنزلة الأب, وهذا محتمل بخلاف لو كانت العمة، فإن من كان فرعاً عنها يكون بمنزلتها، وإذا كان الفرع أنثى يقدم على الذكر وهكذا.
وهذا مما يتعلق بمسألة المحرمات، فإنا إذا علمنا أن الله جل وعلا قد حرم من الأرحام أن يتزوج الإنسان الأصول وكذلك الفروع والأخوات والعمات والخالات, وكذلك ما دل الدليل على تحريمه على سبيل الاقتران؛ وذلك أن يتزوج الرجل المرأة وابنة أخيها؛ وذلك لأنه يتسبب بقطيعة الرحم كما جاء عند أبي داود وغيره، ولهذا نهى الشارع أن يتزوج الرجل المرأة وعمتها والمرأة وخالتها لكون هذا يتسبب بقطيعة الرحم.
النوع الثاني من أنواع الأرحام هي: الأرحام من غير المحرم, يعني: مما لا يحرم على الإنسان أن يتزوجها؛ كبنت العم.
وأبناء العم على سبيل العموم لو كانوا إناثاً هل يحرم على الرجل أن يتزوج ابنة عمه؟ لا يحرم عليه, وابنة خاله كذلك لا يحرم عليه.
لكن هل هؤلاء يدخلون في الأرحام الذين يجب على الإنسان أن يصلهم؟
أما الرحم المحرم فيدخل في ذلك باتفاق العلماء، ولا خلاف عندهم في ذلك، أما الرحم الذي لا يحرم على الإنسان هل يجب عليه أن يصله أم لا؟
اختلف العلماء في هذه المسألة، فذهب جماعة من الفقهاء -وهو قول الجمهور- إلى أنه يجب عليه أن يصل الرحم غير المحرم؛ كأبناء العم وأبناء الخالة, ويستدلون لذلك بما جاء في قصة أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى في حادثة الإفك، لما وقع مسطح في الإفك، وهو ابن خالة أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى, وحلف أبو بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى ألا يصله بعدما كان ينفق عليه، وكان رجلاً فقيراً, وكان من المهاجرين, ومن القدماء في الإسلام, وممن شهد بدراً، فنهى الله جل وعلا أبا بكر عليه رضوان الله تعالى أن يقطعه.
وقال غير واحد من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: في هذا دليل على أن ابن الخالة هو الحد الذي يتوقف عنده من جهة الإيجاب بصلة الرحم، وما بعد ذلك فهو من الأمور المستحبة, وهل هذا يكون وإن نزل الإنسان كابن الخالة وإن نزل، ابن الخالة وابنه، وكذلك ابن العم وابنه ونحو ذلك؟ يقال: نعم وإن نزل.
ومن جهة النفقة فإن النفقة تجب على الأبناء للأبوين بالاتفاق, كذلك في العكس.
وأما بالنسبة لبقية الأرحام المحرمين من الإخوة هل يجب على الإنسان أن ينفق عليهم أم لا؟
اختلف العلماء في هذه المسألة، فذهب جمهور العلماء -وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة- إلى أنه يجب أن ينفق عليهم في حال الحاجة, وذهب المالكية إلى أنه لا يجب عليهم.
ومن العلماء من قال: إنه يجب أن ينفق على ذوي الأرحام على سبيل العموم, وذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء من الحنفية والحنابلة, بل توسع جماعة من الفقهاء من الحنابلة فقالوا: يجب على الإنسان أن ينفق عند الحاجة على كل من يصل له برحم ولو كان بعيداً, وتوسعوا في ذلك، وهذا فيه نظر, ولكن يقال: إنه يقيد بمن نص الشارع على كونه من الورثة, وإن علوا وإن نزلوا, وكذلك من الحواشي, فإنه يجب على الإنسان أن ينفق عليهم عند الحاجة, وهذا لا صلة له بمسألة الرحم, وإنما كما تقدم الكلام عليه أن الراجح في مسألة صلة الأرحام أنه يتأكد فيمن حرم على الإنسان أن يتزوجه لو كان أنثى, ويتأكد بعد ذلك في غير ما يحرم على الإنسان من الأرحام.
وهل يجب في غير الأرحام أم لا؟
هما قولان كما تقدم الكلام عليه, والصواب في ذلك أنه يجب إلى حد أبناء الخالة وأبناء العم وإن نزلوا, وما عدا ذلك فإنه لا يجب على الإنسان أن يصلهم، وإنما يستحب.
وأما الصلة التي حث الشارع عليها فإن الأرحام حينما تقدم وصلها بقي مسألة الصلة من جهة معناها, فمن أراد أن ينظر إلى كلمة الصلة؛ يعلم أنها انتقال شيء إلى موضع آخر، وإيصاله إليه بواسطة الإنسان, سواء كان ذلك من المحسوسات أو كان من المعاني، أي: أن الإنسان ينبغي أن ينقل معروفاً إلى غيره, سواء كان من المال أو كان من المعروف ونحو ذلك, وهذا يختلف بحسب حال الناس.
ولهذا يقول غير واحد من الفقهاء من الشافعية وغيرهم, يقولون: إن الغني إذا أراد أن يصل فقيراً من أرحامه لا يكفي في صلته السلام, وإنما يكفي في صلته لهم المال, وهذا عند الحاجة, وأما في حال الاستواء فإنه يكفي في ذلك أن يصلهم بالإحسان وكف الأذى.
وإذا أردنا أن ننظر من جهة الآداب والأخلاق والمكارم التي حث عليها الشارع على سبيل العموم نجد أن صلة الأرحام على مراتب متنوعة:
أولها: وهو أكملها، أن يجمع الإنسان بين بذل الإحسان وكف الأذى, وهذا هو أتم أنواع صلة الرحم, أن يصل الإنسان رحمه بالإحسان, سواء بالمال, وبذل المعروف, والإعانة عند الحاجة, وأن يكف أذاه عنهم, وهذا هو التمام والكمال, وهذه فيها مراتب بحسب توفر البذل وتوفر كف الأذى.
ويليها بعد ذلك مرتبة: أن يجمع الإنسان بين صلته للرحم من بذل الإحسان, وأن يصل أرحامه لكن مع نوع من الأذى، ولكن الإحسان غالب.
والمرتبة الثالثة في ذلك: هو أن يكف الإنسان إساءته ولا يصل رحمه, فلا يصل إليهم منه سوء، ولا يصل الرحم.
المرتبة الرابعة: أن يمتزج مع صلة الرحم الإساءة، وتكون الإساءة غالبة إلا أنه صاحب بذل وإحسان, وهذا إذا كانت الإساءة غالبة فيقال: إن كف الشر عن الناس أولى من بذل الإكرام إليهم, وهذا يختص إذا كان الأرحام أهل قوة ومنَعَة يستطيعون أن يتكسبوا, وأما إذا كانوا أهل حاجة فقد ترتفع هذه مرتبة على التي قبلها من أنها أولى من أن يقطع الإنسان خيره وشره عن الناس.
وأدنى الوصل مرتبة هو: بذل السلام، أن يبذل الإنسان السلام سواء كان بجسده فيمشي إلى أرحامه أو أن يكتب مكتوباً أو أن يهاتف مهاتفة، فإن هذا من صلة الرحم، وقد جاء عند الطبراني و البزار من حديث أبي جمرة عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بلوا أرحامكم ولو بالسلام )، والمراد بقوله: (بلوا أرحامكم), من البلل, وهو الماء, وفي هذا تشبيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بليغ, من أن صلة الرحم هي أشبه بالماء الذي يوضع على الأرض التي تفتقر إلى الماء حتى تنبت وتصل غيرها, وهذا فيه إشارة إلى حاجة الناس إلى صلة الرحم بري النفوس بالسلام والإحسان إلى الغير, وكذلك بذل المعروف، وكذلك كفاية الحاجة عند الإعواز؛ فإن هذا من أعظم أعمال البر التي ينبغي للإنسان أن يحرص عليها.
وتقدم معنا الكلام على مسألة وجوب صلة الرحم, وتقدم أن القطيعة كبيرة من كبائر الذنوب, وهذا لا خلاف عند العلماء فيه, ولهذا توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قاطع الرحم أنه لا يدخل الجنة, كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح وغيره.
يجب على الإنسان أن يأخذ بأسباب صلة الرحم, وأن يعتني بذلك.
ومن الأسباب الموصلة إلى صلة الرحم تعلم الأنساب، أي: أن يعرف الإنسان النسب, فإن كان له خالة يعرف زوجها ومن هم أبناؤه, ويجهل كثير من الناس النسب خاصة في أبواب النساء باعتبار أن الناس ينسبون إلى آبائهم, فربما يجهل الإنسان أن ذلك ابن خالة له أو ابن عمة له ونحو ذلك، وهو من ذوي الأرحام، وقد جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى كما رواه المروزي وغيره من حديث محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن عمر قال: (تعلموا أنسابكم ثم تصلوا أرحامكم, وإن الرجل ليقع بينه وبين الرجل شيء, ولو علم ما بينه وبينه من الرحم لأمسك عنه)، وهذا فيه إشارة إلى أن أعظم ما يكبح الإنسان عن الأذى والإحسان إلى الناس هو مسألة صلة الرحم ومعرفة النسب؛ لأن هذا وازع طبعي في الإنسان غرس فيه.
وقد أمر الله جل وعلا الناس بالإحسان إلى الغير والإحسان إلى ذوي القربى ولو كانوا كفاراً, وهذا الدليل على أهمية هذا الأمر مع كون الشارع الحكيم قد جعل في مسألة الكفر والإيمان عداء, ولكنه ليس بتام إلا في بعض الجوانب من المودة والرحمة بين الزوجين في حال زواج الرجل من كتابية ونحو ذلك, وكذلك للرجل قرابة ولو كانوا كفاراً, يجب عليه أن يصلهم كما جاء ذلك عن غير واحد من السلف، وقد روى المروزي في كتابه البر والصلة من حديث جامع بن أبي راشد عن ميمون بن مهران قال: (ثلاث تؤدى إلى البر والفاجر: الرحم توصل برة كانت أو فاجرة، والأمانة تؤدى إلى البر والفاجر، والعهد يوفى للبر والفاجر)، وإذا كان من أهل وجوب الجمعة فيجب عليه أن يقوم ببدنه أو يشتري دابة لإيصاله لصلاة الجمعة، فإنه يجب عليه أن يصل رحمه, وهذا قد حرص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يصل أرحامه ويحسن إليهم إحساناً بالغاً في هذا, وقد جاء في ذلك جملة من الأخبار.
وأعظم أنواع القطيعة التي تحدث بين الأرحام هي الخصومة لدى السلاطين في المحاكم وغيرها، إذا قلنا: إن الإنسان في أعلى مراتب الصلة هو أن يبذل الإحسان ويكف الإساءة, وهذا هو أعلى المراتب, وإذا قلنا: إن الإنسان إذا بذل إساءته وأمسك إحسانه هو أدنى مراتب الإساءة إلى ذوي الأرحام, فإذا كان بذله للإساءة كان هذا من قطيعة الرحم, فالمخاصمة بين ذوي الأرحام في مجالس القضاء وعند السلاطين ونحو ذلك فإن هذا من أعظم القطيعة.
يقول الحسن البصري كما رواه المروزي وغيره: أعظم القطيعة للوالدين أن يجازي الرجل أبويه عند السلطان خصومة, يعني: أن يجلس مع أبويه عند القاضي يتخاصم على مال، أو يتخاصم على حظ من حظوظ الدنيا من أمور الجاه ونحو ذلك، وهذه إن وجدت في الناس أو وجدت في مجتمع أو في بيئة أو في عائلة أو في أسرة فإن هذا من علامات الحرمان وعلامات البعد عن الله جل وعلا, فيجب على الإنسان أن يحرص على الأخذ بالأسباب بالاجتناب عن الدنيا ونحو ذلك.
كذلك من الأسباب التي تعين على صلة الرحم وعدم القطيعة الابتعاد عن حظوظ الدنيا المشتركة مع ذوي الأرحام من الشراكة في المال قدر الإمكان والشراكة في شيء من حظوظ الدنيا, فإن هذا مجلبة للخصومة, فليبتعد الإنسان وليحسن إلى غيره بالإنفاق بالمال, وأن يكتفي بنفسه وإن قل نصيبه حتى لا يكون ثمة قطيعة رحم, خاصة في الأزمنة التي يغلب عليها الماديات كما في زمننا هذا, حيث غلبت الماديات على كثير من الناس, فأصبح كثير من الناس يقطع الأرحام بسبب المال والإجحاف فيه, وربما تخاصم الإخوة أو تخاصم الابن مع أبيه وتقاضيا في المحاكم لأجل شراكة مالية أو حظ من حظوظ المال أو قسمة من لعاعة الدنيا ونحو ذلك، فوقعت القطيعة وقطعت الأرحام، ووقع في كبيرة من كبائر الذنوب بسبب ذلك.
وهل يقال: إن الإنسان يدع حقه في مثل هذا؛ والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بألا يؤذي الإنسان نفسه وهو أن يتحمل من البلاء ما لا يطيق؟ وهل يجوز للإنسان أن يتخاصم في حقه مع ذوي الأرحام عند سلطان ونحو ذلك؟
نقول: إن الإنسان لا يجوز له بحال أن يتخاصم مع أبويه في المال على الإطلاق؛ وذلك أن الشارع قد بين أنه لا يقاد الوالد بولده, يعني: أن الأب إذا قتل ابنه لا يقتل به، وإنما يعزر بذلك سواء بالسجن أو الغرامة المالية إن رئيت المصلحة في ذلك ونحو ذلك, أما أن يقاد فلا يقاد في ذلك، فإذا كانت النفس أزهقت وهي أولى صوناً وتبذل أموال لحفظها فإنه لا يجوز للإنسان أن يقاضي أبويه بسبب المال, وهذا هو المترجح.
أما إذا كان دون ذلك من المخاصمة مع بقية الأرحام؛ مخاصمة الأخ لأخيه أو الأخت لأخيها أو مخاصمة الأب لابنه ونحو ذلك فإنه إذا كان الحق متمحضاً وواضحاً, يعني: أن المال قد أخذه خلسة منه وغصباً، وليس من الأمور المتنازعة، وليس من الشبهات، فإنه يجوز للإنسان أن يخاصم عليه بلين ورفق من غير تعدٍ وبغي وظلم وعدوان, أي: لا يتعدى ذلك إلى بقية أسباب الوصال لصلة الرحم ونحو ذلك، فكثير من الناس حينما تدخل المادة فيما بينهم تكون القطيعة من جهة الأقارب الذين يدنون قرباً مع أحد الخصوم موالاة له, فتجد الابن لا يصل عمه لخصومة أبيه لأخيه, وتجد ابن العم لا يصل عمه لخصومة أبيه وهكذا, وذلك أن الإنسان إذا عدل مع نفسه في أبواب الخصومة وأنصف في ذلك كان من أهل الإنصاف.
وأما إذا كانت الشبهة في ذلك قائمة، ولم يكن من الحقوق البينة، فإنه لا يجوز للإنسان أن يتخاصم مع ذي رحم، لأن صلة الرحم وعقدها أوثق وآكد, فإذا غلب على ظن الإنسان أنه بخصومته تلك تقطع الأرحام ولا توصل فيحرم عليه المخاصمة على شيء من أمور المال, وأما إذا غلب على ظنه -وهذا ما يستثني منه الأبوان عن غيرهم- أنه إذا طلب من الابن مالاً أو طلب منه حظاً لازماً له من غير حاجة أنه يجب عليه أن يجيب عليه؛ كأن يطلب الأب من ابنه مالاً، ويعلم أن هذا من أمور الزيادة، فإنه يجب عليه أن يعطيه ما لم يصل إلى درجة السرف, فإن مسألة السرف هذه من الأمور المنهي عنها، فإن الضرورة تقدر بقدرها, ويحجم الإنسان عن ذلك بحسب المفسدة الواردة على أعطياته في مثل هذا. وكذلك إذا أمراه بالإتيان بالإقدام أو الذهاب فإنه يجب عليه أن يقدم؛ كأن يكون في بلد من البلدان بعيداً عن أبويه، ثم يأمراه بالقدوم إلى بلد الأبوين فإنه يجب عليه أن يقدم إلى ذلك البلد، وأن يسكن في بلدهم إلا إذا كان ثمة مصلحة راجحة متيقنة وليست ظنية، فإن صحت هذه المصلحة فإنه يقدم مع الإحسان إليهما وعدم التأفف والتأذي منهما أو من قولهما أو من طلبهما أو رأيهما, فإن الإحسان إليهما مع التأفف عقوق وليس بإحسان، وكذلك عدم الإجابة لقولهم عند المصلحة الراجحة مع عدم الأذية لهما نوع من أنواع البر والبذل.
ومن المسائل المهمة المتعلقة بالوالدين أن الإنسان ينفق على الوالدين نفقة واجبة عند الحاجة، ولا يجوز له أن يعطيهما من الزكاة, يعني: أن الإنسان إذا كان لديه زكاة مال لا يجوز أن يعطي الوالدين من زكاته, بل هي نفقة واجبة كما ينفق على أبنائه؛ وذلك أن أبويه أوجب من جهة الحق.
وأما غير الوالدين كالإخوة فهل إعطاؤهم عند الحاجة يكون من الزكاة أم من الإحسان والبر؟
هذا من مواضع الخلاف عند العلماء، وقد ذهب جمهور العلماء إلى جواز إعطاء الإخوة والأخوات من الزكاة، وأن الإنسان إن أعطاهم من ماله إحساناً وبذلاً وصلة أن هذا هو مرتبة الكمال, وإن أعطاهم من الزكاة بتسديد ديونهم وسد حاجتهم من مطعم ومشرب وملبس وغير ذلك فإن هذا من الأمور المستحبة، وإن كان من الزكاة كذلك فإن هذا جائز.
وذهب بعض العلماء إلى أن إعطاء الإخوة لا يجوز من الزكاة، وإنما يجب عليه أن ينفق, وذهب إلى هذا جمهور الفقهاء من الحنابلة وغيرهم، وأولى ما تكون النفقة أو الصدقة والصلة أن تكون على ذوي الأرحام أولى من الأبعدين؛ فإذا وجد صاحب رحم محتاجاً واشترك معه في الحاجة واحد من الأبعدين فالنفقة على ذي الأرحام أولى، وإن كان الأبعد أحوج ما لم يكن ذلك يفضي إلى هلاك بدنه أو فساد عقله من إزهاق نفسه، فإن ذلك مرتبة أخرى ترتبط بإحياء النفس؛ وذلك أن الشارع قد بين أن من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً, وإحياء الناس جميعاً يدخل فيه الأرحام, فدل على أن إحياء النفس البعيدة أولى من إعطاء وسد حاجة ذي الرحم القريب، وقد دل الدليل في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أن الصدقة والنفقة على ذوي القربى أنها صدقة وصلة )، فاجتمع فيها الأمران, ومن ذلك ما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث إسحاق بن أبي طلحة عن أنس بن مالك: ( أن أبا طلحة كان أكثر أهل الأنصار مالاً، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إني أكثر أهل الأنصار مالاً، وإن أحب مالي إلي بيرحاء، وإني أريد أن أتصدق بها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلها في الأقربين بخ بخ! مال رابح، فجعلها أبو طلحة عليه رضوان الله تعالى في أقاربه وبني عمه ), وهذا دليل على أن الإنسان إن اقتصر في نفقته على الأقربين ولو كان في غيرهم النفع متعدياً فإنه في الأقربين هو أولى؛ وذلك لأنه يتضمن صلة للرحم وصلة الرحم واجبة, فكأن الإنسان يؤدي قدراً واجباً؛ وهذا كحال إخراج الإنسان للزكاة؛ وذلك أن الإنسان إذا كان من أهل اليسار والقوة، واحتاج أقاربه من أعمامه أو أخواله أو بني أعمامه ونحو ذلك، على الخلاف المتقدم فيه، فأعطاهم من ماله من بذل إحسان، فكأنه قد أسقط الواجب عليه بهذا الإحسان, وإسقاط الواجب بشيء من الأسباب يرفع ذلك السبب من كونه من جملة المستحبات إلى بعض الفرائض التي أسقطها الإنسان عن نفسه.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر