بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.
الحديث في هذه الليلة عن شخصية من عباد الله الصالحين وأوليائه المقربين، أجرى الله على لسانه الحكمة، وأنطقه بالصواب، وأعلى ذكره، وسمى باسمه سورة في القرآن كاملة ذلكم هو لقمان عليه السلام.
وجمهور العلماء على أنه ما كان نبياً وإنما كان رجلاً صالحاً من فضلاء العلماء وأجرى الله على لسانه الحكمة وأنطقه بالصواب، متى كان؟ الله أعلم!
ثم ما هي ملامح شخصيته؟ ليس في القرآن ما يدل على ذلك، لكن قال بعض أهل التفسير: كان رجلاً نوبياً من أهل أيلة، بعضهم قال: كان حائكاً، خياطاً، وبعضهم قال: بل كان حبشياً نجاراً، وبعضهم قال: بل كان قاضياً في زمان داود عليه السلام، وأياً كان، فليس في القرآن ما يدل على ذلك.
وقد ذكروا أن هذا الرجل المبارك عليه السلام ما كان يقول هجراً ولا ينطق زوراً، حتى إنه لو استغضب ما كان يغضب.
وبينما كان مع الناس يحدثهم ويعظهم ويذكرهم، إذ مر به أحد الناس فقال له: ألست لقمان ؟ قال: بلى، قال: ألست عبد بني فلان؟ قال: بلى، قال: ألست أنت راعي الغنم الأسود؟ فقال له: أما سوادي فظاهر، فما يعجبك من أمري؟! قال له: غشيان الناس بابك، ووطئهم بساطك، ورضاهم بقولك! يعني يقول له: أنا أعجب منك، أنت رجل أسود، راعي غنم، كنت عبداً لبني فلان، فما بال الناس قد أقبلوا عليك، يطرقون بابك، ويطئون فراشك، ويستمعون لحكمتك، ويرضون بحكمك! فقال له لقمان عليه السلام: يا ابن أخي! أمور إن التزمتها صرت كما كنت، قال له: وما ذاك؟ قال له: غضي بصري، وحفظي فرجي، وكفي لساني عما لا يعنيني، وصدقي حديثي، وطيبي طعمتي، وتكرمتي ضيفي، ووفاءي بعهدي، إن التزمت بهذه صرت كما صرت.
أيها الإخوة الكرام! هذا الرجل أنطقه الله عز وجل بالحكمة، قالوا: ومن حكمته التي نطق بها: أنه كان يقول: إن الله تعالى إذا استودع شيئاً حفظه، فلو أن الإنسان استودع الله عز وجل شيئاً فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، كما قال يعقوب عليه السلام.
ومن حكمته أنه قال لولده: يا بني! إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك، يعني: أن الإنسان المسكين، المدفوع بالأبواب، الذي لا يؤبه له ولا يهتم به لو أنه صار عالماً ينطق بالحكمة فإن الملوك فمن دونهم يرغبون في مجالسته والاستماع إليه.
وهذا المعنى هو الذي قاله الإمام الألبيري رحمه الله، لما أوصى ولده وقال له:
أبا بكر دعوتك لو أجبت إلى ما فيه حظك لو عقلت
إلى علم تصير به إماماً مطاعاً إن نهيت وإن أمرت
ويجلو ما بعينك من عشاها ويهديك السبيل إذا ضللت
وتلبس منه في ناديك تاجاً ويكسوك الجمال إذا اغتربت
وكنز لا تخاف عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث كنت
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددت
فهو يوصي ولده بأن يطلب العلم وأن يحرص عليه، فإن هذا العلم يكون ذخراً له في الحياة وبعد الممات.
ومن الحكمة التي نطق بها عليه السلام أنه قال له: يا بني! إذا أتيت نادي قوم فأدمهم بسهم الإسلام، يعني: أن تلقي عليهم السلام.
ثم اجلس بناحيتهم ولا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا في ذكر الله عز وجل فأجل سهمك معهم، وإن أفاضوا في غيره فتحول عنهم إلى غيرهم.
يا بني! تخير لمجالسك، فإن كنت مع قوم يذكرون الله عز وجل إن كنت عالماً ينفعك علمك، وإن كنت غبياً أزالوا غباءك وعلموك، وإن يطلع الله عليهم برحمة يصبك ما أصابهم، وإذا جلست مع قوم لا يذكرون الله، إن كنت عالماً لم ينفعك علمك، وإن كنت غبياً زادوك غباءً، وإن يطلع الله عليهم بسخط يصبك معهم.
يا بني! لا تغبطن امرأً رحب الذارعين، يسفك دماء المؤمنين، فإن له عند الله قاتلاً لا يموت.
وكان من حكمته عليه السلام أنه يقول: يا بني! اتخذ طاعة الله تجارة، تأتي الأرباح من غير بضاعة، إن عملت بطاعة الله عز وجل فأنت من الرابحين.
ومن حكمته: يا بني! لا يأكل طعامك إلا الأتقياء، وشاور في أمرك العلماء، يا بني! إن رأيت الشر فانته، فإن الشر للشر خلق.
ثم يقول له في حكمة نحفظها جميعاً: يا بني! إني ما ندمت على السكوت قط! إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، يقول له: السكوت لا يندم عليه الإنسان قط! وإنما يندم إن تكلم، فإنه قد يصيب الحق وقد لا يصيبه.
والله عز وجل في هذه الآيات يذكر ما كان من شفقة لقمان على ولده، ورحمته إياه، ويعامله كالأب الرحيم، الذي يريد لولده رحمة الله وجنته.
وكان من حكمته عليه السلام أنه كان يقول: كما ترحمون ترحمون، وكما تزرعون تحصدون، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )، ( من لا يرحم لا يرحم ).
وكما تزرعون تحصدون، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( اعمل ما شئت، كما تدين تدان )، يعني ما تفعله مع الناس يفعل بك.
حصادك يوماً ما زرعت وإنما يدان الفتى يوماً كما هو دائن
وفي هذه الآيات يجمع لقمان عليه السلام لولده وصية في كلمات معدودات، فيها صحة المعتقد، وفيها الحرص على العبادة، وفيها حسن المعاملة مع الوالدين، وفيها حسن الخلق مع الناس واجتناب مساوئه.
يقول له: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، أظلم الظلم وأقبح القبح أن تجعل لله نداً وهو خلقك، بأن تدعو غيره، أو تسجد لغيره، أو تنظر لغيره، أو تستغيث بغيره، أو تعبد معه سواه، جل جلاله.
ثم يذكره بحق والديه، وأن أمه حملته وهي تعاني ضعفاً، ثم وضعته وهي تعاني ضعفاً، وأن الواجب عليه أن يقوم بحق والديه: أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ[لقمان:14]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ثلاث في كتاب الله مقرونة بثلاث: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ[النساء:59]، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[البقرة:43]، أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ[لقمان:14]، والحديث في مسند البزار : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يحمل أمه ويطوف بها حول الكعبة، فقال له: يا رسول الله، أتراني وفيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة ).
ولذلك خص لقمان عليه السلام الأم بالذكر بعدما عمم، وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ[لقمان:14]، ثم بعد ذلك قال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ[لقمان:14].
ثم إن طاعة الوالدين ليست مطلقة، فلو أن الوالدين أمرا بالشرك أو أمرا بالمعصية فلا طاعة لهما، لكن نصحبهما بالمعروف، وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً[لقمان:15].
ثم يذكره بسعة علم الله عز وجل: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ[لقمان:16]، كما قال: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59].
ثم يأمره بالعبادة: يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ[لقمان:17]، وإذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، لا تحسبن الناس جميعاً سيقولون لك: جزاك الله خيراً، بل سيشتمك الشاتمون ويقدح فيك القادحون، ويجرحك المجرحون، وتتعرض لما لا قبل لك به، لكن هذه هي الضريبة، وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17].
ثم يقول له: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ[لقمان:18]، والصعر: داء يصيب الإبل يجعلها ترفع أعناقها، فهكذا الإنسان المتكبر والعياذ بالله! يصعر خده للناس، فلا يرى أحداً مثيلاً له أو نداً، بل يرى نفسه فوق الناس عياذاً بالله! لأنه يعيش وهماً كبيراً، وما يدري أنه مسكين، أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو ما بين هذا وذاك يحمل في جوفه العذرة.
ثم يقول له: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]، واقصد في مشيك: أي: لا تمش مشية المتكبرين المتغطرسين، كما قال ربنا: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء:37]، وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً [النساء:28]، لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57].
ثم يقول له: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ[لقمان:19]، أي: إن تكلمت، فتكلم بحيث يسمعك المخاطب، ولا تبالغ في رفع صوتك، ثم مثل له بمثال قبيح، وهو أن أعلى المخلوقات صوتاً هو الحمار، وما أقبح صوته وما أشنعه! إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19].
وخلاصة أن الوالد الرحيم، الشفيق لا يدع ولده وما يشتهي، وإنما يأطره على الحق أطراً، ويتعاهده بنصحه، ويواليه بتوجيهه، كما قال ربنا جل جلاله: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا[طه:132]، وكما قال: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ[التحريم:6].
أسأل الله أن يصلح ذرياتنا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر