بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
فقد ختمت الآيات في الدرس السابق بقول ربنا جل جلاله: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام:104-105]، وعلمنا أن تأويل هذه الآيات المباركة أن الله عز وجل يخاطب عباده بأنه قد جاءهم بصائر، والبصائر جمع بصيرة، والمراد بها الحجج الواضحات والبراهين الساطعات والأدلة القاطعات، التي أنزلها الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وسميت بصائر لأنه لا يدركها إلا من كان ذا بصيرة، تعقل عن الله عز وجل مراده، كما قال الأول:
إذا أبصر القلب المروءة والتقى فإن عمى العينين ليس يضير
وكما قال ربنا جل جلاله: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا [الأنعام:104]، أي: من أبصر هذه الدلائل الواضحات، فاعتقد أن الله عز وجل حق وأن القرآن حق، وأن البعث حق وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حق، فقد أفلح ونجا، ومن أعرض عن هذه الدلائل وأصر على الضلال فإنما وباله على نفسه، ولا يضر الله عز وجل شيئاً، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس حفيظاً على الناس، وليس مأموراً بأن يخلق الإيمان في قلوبهم، ولا أن يوفقهم للنظر في تلك الدلائل، وإنما هو عليه الصلاة والسلام مذكر كما قال الله له: إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ [الشورى:48].
ثم يقول سبحانه: وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ [الأنعام:105]. نصرف آيات القرآن ما بين وعد ووعيد وأمر ونهي، وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ [الأنعام:105]، وعرفنا أن هذه اللفظة فيها قراءات ثلاث: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ [الأنعام:105]، أي: درست هذا القرآن على غيرك، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103]، وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ [الأنعام:105].
القراءة الثانية في نفس المعنى: (وليقولوا دارست)، أي: تدارست هذا القرآن مع غيرك، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5].
والقراءة الثالثة: (وليقولوا درسَتْ)، درست، أي: تقادم العهد بها، وهذه آيات بالية نحتاج إلى غيرها، كما قال سبحانه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس:15-16].
ثم يقول الله عز وجل موجهاً خطابه لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [الأنعام:106]، أي: يا محمد! واجب عليك اتباع الوحي، الذي أوحيت به إليك، والوحي في لغة العرب: الإعلام في خفاء، ومنه قول الله عز وجل: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68]، ومنه قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112]، والمراد بالوحي هنا: ما أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم بتلك الطرق المختلفة، إما أن يكون مناماً، وإما أن يكون إلهاماً، وإما أن يأتيه الملك في صورة بشر، وإما أن يأتيه كدوي النحل، وإما أن يأتيه كصلصلة الجرس، وإما أن يكلمه ربه جل جلاله كما قال سبحانه: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى:51].
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [الأنعام:106]، وهذه الآية تفيد وجوب اتباع الوحي والإعراض عن ما سواه، فيجب على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتبع ما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يعرض عن ما سوى ذلك مما اخترعه الناس وشرعوه؛ لأن الله جل جلاله بين أن اتباع غير الوحي في التحليل والتحريم هو قرين الشرك، فإننا نقرأ في خواتيم سورة الكهف قول ربنا جل جلاله: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110]، ونقرأ في أواسط السورة المباركة نفسها قول ربنا جل جلاله: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [الكهف:26]، وفي قراءة ابن عامر : (ولا تشرك في حكمه أحداً).
نهى الله عز وجل عن الشرك في العبادة ونهى عن الشرك في الحكم، وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110]، ولا تشرك في حكمه أحداً، فالحكم لله العلي الكبير، إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57].
فالحكم لله عز وجل؛ ولذلك في هذه الآية حصر الاتباع في الوحي، اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [الأنعام:106]، (لا إله إلا هو) جمع جل جلاله بين الربوبية والألوهية، لا إله إلا هو: لا معبود إلا هو، لا حكم إلا هو، لا مشرع إلا هو.
وقد مضى معنا مراراً أن الله عز وجل حكم في هذه السورة المباركة على من يتبع تشريع غيره بالشرك والعياذ بالله، قال سبحانه: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، أي: إن أطعتموهم في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله إنكم لمشركون، وسبب نزول هذه الآية أن المشركين قد أوحت إليهم شياطينهم بأن يجادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الميتة، فقالوا له: يا محمد! هذه الميتة، من قتلها؟ قال: الله، قالوا: فما قتله الله حرام، وما ذبحته بيدك حلال؟! قال الله عز وجل: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ [الأنعام:121]، أي: في تحليل الميتة، إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، وهؤلاء داخلون دخولاً أولياً في قول ربنا: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، وداخلون دخولاً أولياً في قول ربنا جل جلاله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60-61].
وهذا الكلام نحن بحاجة إلى تكراره وإعادته والتذكير به؛ لأن شياطين الإنس ما زالوا يدندنون حول هذه المعاني، الله عز وجل يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم وكل مؤمن بهذه الآية: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [الأنعام:106]، والأمر الثاني: وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:106]، قال جماعة من أهل التفسير: قول ربنا جل جلاله: وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:106]، ومثيلاتها من الآيات منسوخة بآية السيف: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ [التوبة:29]، وقال بعض أهل التفسير: لا حاجة للقول بالنسخ، بل الإعراض عن المشركين معناه الإعراض عن مجادلتهم وسبهم والرد على سفاهاتهم، كما قال ربنا جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]، وكما قال: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف:6]، قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، ونحو ذلك من الآيات.
قال الله عز وجل: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الأنعام:107]، يثبت ربنا جل جلاله أنه لا يقع في هذا الكون أمر إلا بمشيئته جل جلاله، فالكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، والهدى والضلال، والخير والشر، والاستقامة والانحراف، كلها بمشيئة الله عز وجل.
وفي معنى هذه الآية، قول ربنا جل جلاله: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً [هود:118]، وقوله جل جلاله: وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13]، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس:99]، فيقول الله عز وجل: ولو شاء الله ما أشركوا، بيان لنبيه صلى الله عليه وسلم أن الأمر معلق بمشيئته جل جلاله.
وهذه الآيات ومثيلاتها قد ضل بسببها أقوام، وقد عاب الله جل جلاله على المشركين احتجاجهم بالمشيئة في هذه السورة نفسها.
فقال سبحانه: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ [الأنعام:148]، وهناك في سورة النحل، قال: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35].
وهذه الآيات ومثيلاتها قد ضلت فيها فرقتان: الجبرية والقدرية، فالجبرية الذين استدلوا بظواهر هذه الآيات، فقالوا: بأن الله عز وجل قد سبق في علمه الأزلي، بأن فلاناً سيؤمن وأن فلاناً سيكفر، وكتب ذلك كله، كما قال سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]، فكل شيء مكتوب عنده، وكلكم تحفظون حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيحين: ( أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- بأن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه.. إلى أن قال: فيرسل إليه الملك ويؤمر بأربع: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد )، فهؤلاء الجبرية الضلال قالوا: الإنسان قد كتب عليه عمله، فهو مجبور عليه والحساب ظلم، نعوذ بالله من ذلك! سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً!
ومثله أيضاً يستدل به بعض السفهاء، تجد الواحد منهم لا يصلي الخمس ولا يصوم الشهر، ويأتي ما حرم الله عز وجل من الموبقات والفواحش، فإذا قيل له: اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [البقرة:206]، وقال: قد كتبه الله علي وأنا مجبور على ذلك، وكيف تؤاخذونني على أمر قد كتب علي؟! ولربما قال: ألا تؤمن بالقدر؟! فهؤلاء قبحهم الله! يجاب عليهم بأجوبة:
الجواب الأول: أن يقال لأحدهم: يا عبد الله، يا من تسرق، يا من تزني، يا من تقصر في الواجبات، من أين لك أن الله قد كتب عليك ذلك، كما قال ربنا: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [الأنعام:148]، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ [مريم:78]، هل اطلعت على اللوح المحفوظ قبل أن تفعل فعلتك التي فعلت، ووجدت في اللوح المحفوظ أن الله كتب عليك أنك ستسرق أو أنك ستفحش؟! هذه واحدة!
ثانياً: نقول له: يا مسكين! لو كان قولك صواباً في أن الله عز وجل قد أجبرك على هذا الذي صنعت؛ لكان هذا من التكليف بما لا يطاق، وقد قال ربنا في القرآن: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، وقال: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:233]، وقال: وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [المؤمنون:62]، وقال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، فأنت من أين لك هذا؟ ألا تؤمن بالقرآن؟!
ثالثاً: نقول له: لو أن إنساناً اعتدى عليك، ففقأ عينك أو أتلف مالك أو قتل ولدك، هل تقول: بأن الله تعالى قد كتب عليه ذلك وتمكث في بيتك؟! أم أنك ستسعى إلى الانتقام منه أشد الانتقام؟! فلم تحتج على الله عز وجل بقدره فيما تأتي من الموبقات والفواحش، ولا تحتج بالقدر فيما يصيبك أنت في نفسك أو مالك أو ولدك؟!
رابعاً: نقول له: لم تحتال لدنياك، فتضرب في مناكب الأرض، وتذهب يميناً وشمالاً، وتروح وتجيء؛ من أجل أن تحصل الرزق، وتتردد على الطبيب، وتبتاع الدواء؟! لم لا تقول: بأن الله عز وجل قدر علي المرض، وإن قدر لي الشفاء سأشفى، وإن قدر علي الموت سأموت، ولا فائدة من التردد على الطبيب، وإنفاق المال في الدواء؟! لم لا تقول: بأن الله عز وجل كتب الرزق فلا داعي للسعي والسفر والسهر والتنقل في الفجاج، والرزق مكتوب سيأتيني؟! لا يقول أحد ذلك!
كذلك الطالب، تجده يجتهد ويذاكر، بل ربما يصلي في أيام الامتحانات وهو لا يصلي أصلاً! وتجده يكثر من الدعاء والإلحاح، ولا يقول المسكين: بأن الله كتب النجاح أو أن الله كتب الرسوب، وما كتبه الله سيكون، فهذه حجة داحضة، باطلة، لا يحتج بها إلا المفلسون من المشركين وأضرابهم.
وكذلك في المقابل القدرية، الذين يريدون أن ينزهوا الله عز وجل عن القبائح بزعمهم، فينزهون الله عن تلك الأفعال، فيقولون: ما شاءها، ما شاء الله السرقة ولا شاء الزنا ولا شاء الكفر، وإنما العبد يفعل ذلك من تلقاء نفسه، وهؤلاء كان من زعمائهم رجل يقال له: عمرو بن عبيد ، كان آية من آيات الله في الذكاء، وفي سعة العقل، وفي سرعة البديهة، لكنه والعياذ بالله ضل سعيه في الحياة الدنيا، لما جاءه أعرابي قد سرق بعيره، فقال له: يا هذا! ادع الله بأن يرده علي، فبدأ الرجل يدعو، قال: اللهم إن هذا الأعرابي قد سرق بعيره وأنت لم ترد سرقته، فأسألك أن ترده عليه، فقال له الأعرابي: يا هذا! ناشدتك الله أن تكف عني دعاءك الخبيث، فإن الله تعالى لو لم يرد سرقته فسرق؛ لعله يريد رده فلا يرد.
وكذلك عبد الجبار المعتزلي، لما قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء! قال له الإمام أبو إسحاق الإسفرائيني : كلمة حق أريد بها باطل، بل سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فقال له ذلك المعتزلي: أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه؟! فقال له أبو إسحاق : أتراك تفعله رغماً عنه؟! أأنت الرب وهو العبد؟! قال له: إذا سد علي الأبواب ولم يسهل لي الخروج ثم عاقبني، أتراه أحسن إلي أم أساء؟! فقال له الإمام أبو إسحاق رحمه الله: إن أعطاك ما هو له، ففضل، وإن منعك فعدل، ولا يسأل عن ما يفعل، فقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب! وبهت عبد الجبار ولم يستطع رداًّ!
فالله عز وجل يبين أن كل شيء في الكون بمشيئته، لكنه أثبت للعبد مشيئةً واختياراً فقال: وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3]، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]؛ ولذلك نقول للجبري وللقدري: مشيئة الله عز وجل فوق مشيئة العباد، وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، هذا للقدري، ونقول للجبري: يا هذا، إن الله عز وجل قد أعطاك بصائر كالتي أعطاها للمهتدي، والله عز وجل أرسل إليك رسولاً كما أرسل لمن اهتدى، وأنزل عليك كتاباً كما أنزل على من اهتدى، والفرق بينك وبينه أن الله عز وجل قد يسر لذاك الهداية بمنه وفضله، ومنع عنك الهداية بحكمه وعدله، وهو سبحانه لا يسأل عما يفعل، وما بقي عليك إلا أن تقرع أبواب السماء وتلجأ إلى الله وتسأله الهداية. قال أهل العلم: هدى الله عز وجل من شاء؛ لتظهر آثار أسمائه وصفاته، كاللطيف والكريم والرحمن جل جلاله، وأضل من شاء بعدله؛ لتظهر آثار أسمائه وصفاته، كالجبار والقهار والمنتقم.. جل جلاله؛ لئلا يحصل للعباد أمن من مكر الله، ولا قنوط من رحمة الله، يعيشون بين الخوف والرجاء.
فهاهنا الله عز وجل خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام:107]، أي: لست مسئولاً عنهم، كما قال له في سورة البقرة: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119]، لست موكلاً على قلوبهم بأن تخلق الإيمان فيها، وأن تحملهم على الحق حملاً، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ [الغاشية:21-22].
ثم قال الله عز وجل: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108].
هذه الآية ذكر المفسرون في سبب نزولها: أن المشركين قد اجتمعوا إلى أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، وقالوا له: يا أبا طالب ! إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا، واللات والعزى لئن لم ينته عن سب آلهتنا لنسبن إلهه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: وَلا تَسُبُّوا ، نهي. والسب هو القدح والذم والثلب، بذكر ما لا يليق، سواء كان حقاً أو باطلاً، وَلا تَسُبُّوا ، نهي من الله عز وجل، ويقال لمن يمارس هذا الفعل: الساب، والسب، ويقال لمن يرد عليه: السب، بكسر السين، وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، أي: الأصنام، والسؤال هل الأصنام عاقلة أو ليست عاقلة؟!
ليست عاقلة، لكن في القرآن الكريم على ما جرت به عادة العرب في الخطاب أنه قد ينزل غير العاقل منزلة العاقل، كما في قول ربنا جل جلاله على لسان يوسف عليه السلام: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4]، وكما في قول ربنا جل جلاله عن السموات والأرضين: فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]، وقد ينزل العاقل منزلة غير العاقل، كما في قول ربنا جل جلاله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، النساء عاقل أو ليس بعاقل؟ عاقل، ما قال: فانكحوا من طاب لكم، وإنما قال: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام:108]، أي: لا تسبوا هذه الأصنام.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يقولون لهم: هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع، وهذه حقيقة، فهذه الأصنام ليست إلا حجارة؛ ولذلك بعض الصحابة رضي الله عنهم لما أبى أبوه أن يسلم وكان عنده صنم يعتني به عمد الصحابي، ومعه بعض إخوانه، فلطخوه بالأقذار والأوساخ، فلما جاء عابده قال: يا سيدي، يا ربي، يا مولاي، من فعل بك ذلك، وعزتك لو علمت به لجعلته نكالاً، ثم ما زال يمسحه وينظفه ويطيبه.
فجاءوا في اليوم الذي بعده بعدما خرج، فربطوا به جرواً ميتاً، أي: كلباً ميتاً جيفة، فجاء وقال: من فعل بك هذا، وما زال يفك ويطيب ويغسل، وفي اليوم الثالث قبل أن يخرج استراب، عرف بأن شخصاً سيأتي من ورائه، فعمد إلى سيفه فعلقه في الصنم، وقد بدأت العقيدة تهتز، فقال له: إن كان فيك خير فانتقم لنفسك، فجاء الصحابي فبال على رأس ذلك الصنم، فلما جاء أبوه عقل وقال:
أرب يبول الثعلبان برأسه! لقد ذل من بالت عليه الثعالب
وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فهذه الأصنام فعلاً لا تضر ولا تنفع، ولو كان المشركون يعقلون، فهذه اللات والعزى ومناة واقفة منذ مئات السنين، ما تغير فيها شيء، وكما قال إبراهيم عليه السلام لما جاء إلى الأصنام، قال: أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ [الصافات:91-92]، هم لا يأكلون ولا ينطقون، ولا يضحكون ولا يبكون، ولا ينفعون ولا يضرون، لكن الله عز وجل نهى عن السب؛ لأنه سيفضي إلى محرم، إلى شيء فضيع.
قال الله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ [الأنعام:108]، الفاء، فاء السببية، عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، (عدواً) أي: عدواناً وظلماً. وعدواً.. ذكر المفسرون في إعرابها ثلاثة أوجه:
إما أن تكون منصوبة على الحالية، أي: فيسبوا الله حال كونهم معتدين ظالمين، وإما أن تكون نائبة مناب المفعول المطلق، وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً ، أي: سباً، هذا السب عدواً، أي: اعتداء وظلماً، وإما أن تكون منصوبة على المصدرية، صفة لموصوف محذوف: فيسبوا الله سباً عدواً، أي: عدواناً وظلماً.
فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، يصفهم الله عز وجل بالجهل والاعتداء.
وهذه الآية أصل لما يقول به علماؤنا المالكية من سد الذرائع، والذريعة معناها الوسيلة، بمعنى أن الفعل قد يكون مباحاً، لكنه يمنع؛ لأنه يفضي إلى محرم.
والذرائع على ثلاثة أنواع:
ذريعة مجمع على سدها، وذريعة مجمع على إهمالها وطرحها، وذريعة واسطة بينهما.
أما الذريعة المجمع على سدها فهي التي تفضي إلى المحرم، كما في هذه الآية، فسب الأصنام مطلوب، لكن الله عز وجل منعه؛ لأنه سيفضي إلى حرام، وهو سب الله عز وجل.
ومثله أيضاً الحديث المتفق عليه في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من الكبائر شتم الرجل والديه، فقالوا: يا رسول الله! أيشتم الرجل والديه؟! قال: نعم، يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه )، يعني: لو أنك سببت أبا فلان فإنه سيسب أباك، ولو سببت أمه سيسب أمك، فعد النبي عليه الصلاة والسلام من يسب أبا غيره ساباً لأبيه، فسد هذه الذريعة ومنعها.
النوع الثاني الذريعة المجمع على إلغائها وتركها، وهي التي تكون المفسدة فيها قليلة، فهي في حكم المعدوم، الملغى، ومثال ذلك: زراعة شجر العنب، أو زراعة النخيل، ومعلوم أن بعض الناس يتخذ من العنب والنخيل خمراً، يقول تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النحل:67]، لكن ما قال أحد من المسلمين الأولين والآخرين: بأنه يمنع زراعة العنب أو زراعة النخيل؛ لأن الذين يتخذون من النخيل والأعناب سكراً إنما هم قلة قليلة، صحيح أنها تذهب عقولهم وتفسد حياتهم، لكن هذه المفسدة قليلة ملغاة في جانب المصلحة العظيمة، في أن الناس يتخذون من النخيل والأعناب غذاء وفاكهة ونحو ذلك من المنافع.
ومثاله أيضاً: أن الناس منذ الخليقة الأولى وإلى يوم الناس هذا، في سائر البلاد يوجد رجال ونساء، ولم يقل أحد من أهل العلم الأولين والآخرين: بأنه يجب أن يجعل النساء في جانب من البلد والرجال في جانب، ويجعل على جانب النساء باب وعلى الباب قفل ومفتاحه بيد شيخ كبير، عنده زوجات أربع، وأعني بالشيخ الكبير الشيخ الطاعن في السن، مع أن المفسدة حاصلة من اختلاط الرجال بالنساء في البلد الواحد، كما قال ذلك الفاسق:
ليتني في المؤذنين نهاراً إنهم ينظرون من في السطوح
فيشيرون أو يشار إليهم حبذا كل ذات دل مليح
فهذا الخبيث يتمنى لو كان مؤذناً؛ لأن المؤذن قديماً كان إذا أذن يصعد عالياً فوق المنارة، فيشرف على المنازل وينظر وقد يلقي بورقة، وهذا في المؤذنين لا يوجد، لكن: (إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه).
نعوذ بالله من الضلال!
فهذه ذريعة مهملة ملغاة.
والنوع الثالث واسطة بين هذين وهي محل اجتهاد، ونضرب لذلك مثلاً ذكره أهل الأصول: بأنه لو كان جماعة من المسلمين أسرى بيد العدو، فالواجب على جماعة المسلمين وإمامهم أن يسعوا في إطلاق هؤلاء الأسرى، فلو فرض أن الكفار اشترطوا لإطلاق هؤلاء الأسرى أن نعطيهم سلاحاً، فهم لا يريدون مالاً، ولا يريدون مبادلة هؤلاء الأسرى بأسرى من بني دينهم وإنما يريدون سلاحاً، هاهنا أهل الخبرة والدراية من المسلمين يقدرون، لو أعطيناهم هذا السلاح، هل هذا السلاح سيقدرون به على قتل أمثال هؤلاء الأسرى من المسلمين أو أكثر منهم، أو أنهم لا يقدرون على ذلك، فإن كانوا لا يقدرون فإننا نفاديهم، وإذا كانوا يقدرون على قتل أكثر، فإننا نستبقي هؤلاء الأسرى؛ لأن المفسدة أعظم، أما إذا كانوا سيقدرون على قتل أمثالهم، فهاهنا محل اجتهاد.
فأقول: بأن هذه الآية أصل في القول بوجوب سد الذرائع؛ ولهذا أمثلة كثيرة، وهو مطرد في كتب الفقه، خاصة ما يسميه المالكية رحمهم الله ببيوع الآجال، وما يسميه غيرهم ببيع العينة، وهو المذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا تبايعتم بالعينة وتبعتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم ).
قال: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام:108].
وقد تقدم معنا الكلام في أن لفظة (الأمة) من الألفاظ المشتركة في القرآن، وتطلق ويراد بها معان أربعة:
المعنى الأول: أن الأمة هي الجماعة أو الطائفة من الناس، كما في هذه الآية، كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام:108]، ومنه قول الله عز وجل: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص:23].
المعنى الثاني: أن الأمة تطلق على الإمام المقتدى به في الخير، كما قال الله عز وجل: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً [النحل:120].
المعنى الثالث: أن الأمة تطلق مراداً بها المدة الزمنية، وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف:45]، وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ [هود:8]، أي: إلى مدة معلومة.
المعنى الرابع: أن الأمة تطلق مراداً بها الشريعة والدين، كما في قول الله عز وجل: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].
يقول الله عز وجل: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام:108]، والعمل يطلق في دين الله عز وجل على أربعة إطلاقات.
أولاً: يطلق على الفعل الصريح، كالسرقة والزنا والأفعال الطيبة من الصلاة وغيرها.
ثانياً: يطلق العمل على القول، ومنه الآية التي في هذه السورة، قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112]، قال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112]، فسمى القول فعلاً.
ثالثاً: يطلق العمل على الهم المصمم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيحين: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه )، رغم أنه لم يقتله، لكنه لما هم وكان همه مصمماً، فإنه جوزي وحوسب، ولا يشكلن هذا مع قول ربنا: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [يوسف:24]، فشتان ما بين هم يوسف وهم المرأة، فهم يوسف عليه السلام هم خطرة، وهم المرأة هم عزم.
وهكذا فسر الإمام أحمد هذه الآية، أن هم يوسف هم خطرة، يعني: مجرد خطرة، كالصائم الذي يرى كوباً من الماء بارداً، أو كوباً من الليمون فينظر إليه وتشتهيه نفسه، لكن لا يمد إليه يداً، بل لا يقربه إلى فمه أبداً، فهذه خطرة مرت بالقلب، لكن لو أن واحداً آخر بدأ يمد يده ويتحين الرقيب والناظر، فإنه هاهنا محاسب ومؤاخذ.
أو ما مد يداً، لكنه عزم عزماً أكيداً بأنه لو أمن الناظرين فإنه سيعب منه عباً، هذا صيامه بطل؛ لأنه عزم على إبطاله.
إذاً عندنا الإطلاق الأول: يطلق العمل مراداً به الفعل.
ثانياً: يطلق مراداً به القول.
ثالثاً: يطلق مراداً به الهم المصمم.
رابعاً: يطلق العمل مراداً به الترك، قال الإمام ابن السبكي رحمه الله في بعض كتبه: تتبعت القرآن آية آية، فما وجدت الله عز وجل أطلق على الترك عملاً إلا في آية واحدة، وهي قول ربنا جل جلاله: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30]، فسمى الترك: اتخاذاً، والاتخاذ فعل.
ويقول العلامة، المفسر، المحقق، المدقق، الأصولي، الفقيه، الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، أسأل الله عز وجل أن يقدس روحه وأن ينور ضريحه، يقول هذا الإمام المبارك: وقد تتبعت آيات القرآن فوجدت الله عز وجل قد أطلق على الترك: عملاً وفعلاً، في آيات ولو لم يطلع عليها ابن السبكي ، قال: ومن هذه الآيات قول ربنا جل جلاله في سورة المائدة: لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63]، فسمى الله عز وجل ترك الأحبار والرهبان نهي أولئك عن قولهم الإثم وأكلهم السحت، سماه الله عز وجل عملاً. وقال الله عز وجل: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79]، فسمى الله عز وجل تركهم التناهي: صنعاً، إلى غير ذلك من الآيات، فالله عز وجل أطلق على الترك فعلاً، وأطلق عليه عملاً، وأطلق عليه صنعاً.
قال الله عز وجل: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ [الأنعام:108]، هذا المصدر الميمي، المرجع، أي: المصير والمآب، ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:108].
يقول الله عز وجل: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا [الأنعام:109]، فهؤلاء المشركون أقسموا بالله جهد أيمانهم، أي: بأقصى ما يقدرون عليه من اجتهاد في اليمين، أقسموا أيماناً مغلظة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا [الأنعام:109].
والآية في اللغة تطلق مراداً بها معنيان:
المعنى الأول: الآية تطلق على العلامة، ومنه قول ربنا: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ [البقرة:248].
والثاني: الآية بمعنى الجماعة، كما تقول العرب: جاء القوم بآيتهم، أي: بجماعتهم.
وأما الآية في كتاب ربنا جل جلاله فتطلق مراداً بها أيضاً معنيان:
المعنى الأول: آيات الله المقروءة، والمعنى الثاني: آيات الله الكونية.
( فالمشركون جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: يا محمد! سل ربك يحول لنا بطحاء مكة ذهباً، قال: ما أنا بفاعل، قالوا له: يا محمد! سل ربك يحيي لنا قصياً ، فإنه كان رجلاً عاقلاً حكيماً، فنسأله عنك: إن كنت صادقاً أم كاذباً، فقال: ما أنا بفاعل، قالوا له: يا محمد! سل ربك أن يحول لنا مكة جناناً كجنان الأردن، فقال: ما أنا بفاعل، قالوا له: يا محمد، قد علم ربك أنه لا أحد أضيق منا عيشاً، فسل ربك يسير هذه الجبال التي ضيقت علينا فجاج مكة، فقال: ما أنا بفاعل )، وحكى ربنا جل جلاله الآيات التي طلبوها في أواخر الإسراء: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُه [الإسراء:90-93]، قال الله عز وجل: قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ [الأنعام:109]، فالله جل جلاله قادر على أن يفجر لكم من الأرض ينبوعاً، قادر على أن يصير جبال مكة ذهباً، قادر على أن يحولها جناناً كجنان الأردن، قادر جل جلاله على أن يحيي الموتى، قادر على أن يأتيكم بهذه الآيات كلها، لكن معلوم من سنة الله عز وجل أن الآية إذا جاءت ولم يحصل الإيمان فإنه يعقب ذلك حلول العذاب، قال الله: إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ [المائدة:115].
وقوم صالح لما طلبوا الناقة الكوماء، التي لبنها بارد في الصيف، دافئ في الشتاء، فجاءت الآية على الوصف المذكور، ثم بعد ذلك كفروا، قال الله عز وجل: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا [الشمس:14-15] جل جلاله.
فالنبي عليه الصلاة والسلام من رأفته ورحمته ورغبته في هداية قومه ما سأل ربه تلك الآيات.
والله عز وجل يخاطب المؤمنين المتعجلين فيقول لهم: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:109]، وهذه الآية، أو هذا الشطر من الآية فيه وجهان من التفسير:
الوجه الأول -وهو الذي رجحه الزمخشري في كشافه-: أن الآية على ظاهرها، وما يدريكم أيها المؤمنون أن هذه الآيات إذا جاءت لهؤلاء المشركين أنهم سيجحدون ولا يؤمنون؟
المعنى الثاني -ورجحه غيره-: قالوا: (لا) هاهنا صلة، وهذا من أدب كثير من المفسرين أنهم لا يقولون: (لا) زائدة، وإنما يقولون: صلة، جاءت لتوكيد الكلام، والمعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون؟ ما يدريكم أن هذه الآيات إذا جاءت هؤلاء القوم يؤمنون؟ وهذا في القرآن كثير، كما في قوله سبحانه: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1]، مع قوله سبحانه: وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3]، فالله أقسم، ومن هنا قالوا: المعنى: أقسم بهذا البلد، ومنه قول الله عز وجل: مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف:12]، المعنى: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك، ومنه قول القائل:
ما كان يرضى رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر
المعنى: والأطيبان أبو بكر و عمر .
فهاهنا (لا) قالوا: صلة.
قال الله عز وجل: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110]، يبين الله جل جلاله في هذه الآية أن الجزاء من جنس العمل، نسأل الله الهداية، يبين ربنا أن العبد إذا تعمد الضلال وأن يغمض عينيه ويصم أذنيه عن الحق، وعن الآيات، فإن الله عز وجل يزيده ضلالاً إلى ضلال، وخبالاً إلى خبال، كما قال سبحانه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء:155]، أي: بسبب كفرهم.
هاهنا قال: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [الأنعام:110]، أي: نصرفها عن الحق، سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146].
كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ [الأنعام:110]، نتركهم (في طغيانهم) أي: في مجاوزتهم للحد.
يَعْمَهُونَ [الأنعام:110] أي: يضلون ويتيهون، وبذلك يكون ختام الجزء السابع.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم بارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر