الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول رحمه الله تعالى: [كتاب الوصايا]
الوصايا: جمع وصية، وهي: عهد بالتصرف مسنداً لما بعد الموت.
وقد عبر رحمه الله بالكتاب؛ لأن هذه الأحكام والمسائل ليست مبنية على ما تقدم؛ بل إنها منفصلة عن الأبواب والكتب السابقة.
ونظراً لاختصاص هذا العهد بجملة من المسائل والأحكام أفرده العلماء رحمهم الله بكتاب مخصوص، فقالوا: كتاب الوصايا.
وأصل الوصية: الوصل، يقال: وصَّى بالشيء ووصَّى الشيء إذا وصله.
والوصية في الأصل: عهدٌ من الإنسان للغير، وقد تكون بالأموال وقد تكون بغير الأموال، وفي اصطلاح العلماء: هي التصرف في الشيء بما بعد الموت، أو التصرف بالشيء مسنداً لما بعد الموت.
فخرج بذلك التصرف في حال الحياة.
وهذا الكتاب يبين العلماء رحمهم الله فيه مشروعية الوصية للإنسان، وما يجوز له أن يوصي به، ولمن يُوصَى، وما يترتب على الوصية من الآثار والأحكام والمسائل.
يقول المصنف رحمه الله: (كتاب الوصايا) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالوصايا.
وقد جمعها المصنف رحمه الله لاختلاف أنواعها، فهناك وصية مشروعة، وهناك وصية ممنوعة، وهناك وصية موقوفة، وكل من المشروعة والممنوعة والموقوفة تشتمل على عدد من الأنواع من الوصايا؛ فلذلك جمعها المصنف رحمه الله إشارة إلى تعدد أنواعها واختلافها.
فقد كانت الوصية مفروضة في أول التشريع، والله عزّ وجل جعل الوصية للإنسان، يوصي لأقربائه؛ سواءً كانوا أصولاً كالوالدين، أو فروعاً كالأولاد، أو ما يتصل بذلك من القرابة والحواشي.
فكان الأمر في أول الإسلام أن المريض مرض الموت يصرف ماله إلى قرابته، فيقول: أَعطوا فلاناً كذا وكذا، وأعطوا فلاناً كذا وكذا من قرابته، فيبدأ بوالديه، ثم الأقرب فالأقرب، ولم تكن هناك مواريث، فكان كلٌ يوصي لقرابته بما يراه.
ثم إن الله تعالى تولَّى قسمة المواريث من فوق سبع سماوات، فلم يكلها إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل، فنسخت فرضية الوصية، وبقي استحبابها لغير الوارث، وتكون هذه الآية: كُتِبَ عَلَيْكُمْ [البقرة:180]، أي: فُرِض، ثم قال الله في خاتمتها: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180].
وهذا يدل على الوجوب واللزوم، لكن هذه الآية منسوخة حكماً لا تلاوةً، فهي مما بقيت تلاوته، ونُسخ حكمه، فهي محكمة تلاوةً لا حكماً. وقد بيّن الله سبحانه وتعالى في آيات المواريث في مواضع عديدة من الكتاب استحقاق كل وارث؛ سواءً كان من ذوي الفروض من الأصول أو من الفروع، وبينت السنة أيضاً أحكام العصبات وما يستحقون في الإرث.
وبعد هذا البيان للفرائض نُسخت فرضية الوصية، وبقيت على الاستحباب بالنسبة لغير الوارث.
وأما السنة فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية الوصية، لكن السنة فصّلت في حكم الوصية:
فالشخص لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن تكون عليه حقوق لله عز وجل، أو لعباده، أو لهما معاً.
الحالة الثانية: أن لا تكون عليه حقوق.
فإن كانت عليه حقوق واجبة لله عز وجل، أو لعباده أو لهما؛ فإن الوصية فرضٌ عليه، فيكتب الوصية ويبيّن حق كل ذي حق، وقدر ذلك الحق الذي وجب عليه؛ وذلك كشخص حضرته الوفاة وعليه كفارات، فيكتب في وصيته أن عليه إطعام ستين مسكيناً من كفارة ظهارٍ مثلاً إذا كان لم يستطع الصوم، ولم يستطع العتق، أو جماع في نهار رمضان، أو يكتب إن عليه دماً واجباً جبراناً لواجبٍ في حج، وهكذا بالنسبة لبقية الحقوق، فيكتب في وصيته ما هو حق عليه لله سبحانه وتعالى.
والوصية فرض عليه في هذه الحالة؛ لأنه يجب عليه الوفاء بحق الله، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلما كان الوفاء بهذا الحق متوقفاً على أن يعهد إلى ورثته من بعده أن يقوموا بأداء هذه الكفارات وإيصالها إلى أهلها؛ وجبت عليه الوصية بهذا.
إذاً: الوصية بالحقوق لله سبحانه وتعالى واجبة؛ لأنه وسيلة للقيام بالواجب.
وكذلك إذا كان عليه حقوق للناس، مثل ديون لأشخاص، فإنه يكتب في وصيته أن فلان ابن فلان علي كذا وكذا، أو في ذمتي كذا وكذا، ويبيِّن في وصيته اسم ذلك الشخص كاملاً وعنوانه، خاصة إذا خُشي التباسه بغيره، أو صعُبت معرفته إلا عن طريق ذلك، فيجب عليه بيانه.
كذلك أيضاً تجب عليه الوصية في غير الأموال.
الشاهد: أن السنة بينت أن الوصية لها حالتان: فإذا كانت هناك حقوق وواجبات مالية على العبد، فالوصية واجبة عليه، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في حديث ابن عمر في الصحيحين: (ما حق امرئٍ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي به إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه).
فهذا الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم لزوم ووجوب الوصية، لكن إذا كان هناك شيء، بمعنى: إذا تعلقت ذمته بحقوق للناس، أو بحقوق لله عز وجل، فليس من حقه أن يضيِّع هذه الحقوق، أو يتعاطى أسباب تضييعها بالتفريط في الوصية.
وأما إذا كان الإنسان خُلواً من الحقوق والواجبات التي لله عز جل وللناس، وذمته بريئة من هذا كله، فقد تكون الوصية واجبة عليه من حقوق غير مالية، مثل أن يكون عنده أولاده، وهؤلاء الأولاد دون البلوغ، ولا شك أن الإنسان عرضة للموت في لحظاته فضلاً عن دقائقه، فضلاً عن ساعات عمره، فضلاً عن أيامه، فهو عرضة للموت بين العشية والضحى، فالواجب عليه إذا كانت عنده ذرية ضعيفة، كالقُصّار والأولاد الصغار، أن يكتب وصية يعهد فيها إلى شخصٍ يثق بدينه وأمانته وعقله وحسن نظره في أمر ذرِّيته من بعده؛ لأن هذا من النصيحة للولد، وأعظم الحقوق بعد حقوق الوالدين حقوق الأولاد؛ لأن الله حمّل العبد مسئوليتهم، وألزمه أمانتهم، فالواجب عليه أن لا يدّخر وسعاً إذا علم أمراً فيه صلاح دينهم أو دنياهم أو آخرتهم أو مجموع ذلك كله إلا ووصى به، فيوصي بذريته الضعيفة، كما أمر الله سبحانه وتعالى وأشار إلى ذلك بقوله: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9].
فوصى الله سبحانه وتعالى من ابتلي بالذرية الضعيفة؛ كالأيتام والقُصّار من بعده، والنساء -ولو كن بالغات فهن يحتجن من يزوجهن ومن ينظر في أمورهن ومصالحهن- أن يكتب وصيته إلى من يثق بدينه وأمانته وعقله من قرابته، فيبدأ بالأقرباء لأنهم أستر وأكثر حفظاً للعرض، وأكثر حفظاً للسر، فإذا لم يجد في القرابة من تتوفر فيه الصفات وتبرأ به الذمة، عهِد إلى من يثق به من إخوانه المسلمين.
وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الوصية، وقد فعل ذلك أئمة السلف وخيار الناس من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، فقد وصى أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم، ووصى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصى التابعون لهم بإحسان، والأئمة، ولذلك فلا يُشك في مشروعية الوصية، وأنها من أعظم الخير الذي يُسديه الإنسان لأهله وولده من بعد موته.
وهذا أصلٌ عند العلماء: أن الأمور التي فيها تذكير بالله عز وجل، وذكر لله سبحانه، تُستفتح باسمه؛ لأن اسم الله مبارك، كما قال تعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرحمن:78]، فاسم الله فيه البركة والخير، وما كان في قليل إلا كثره، ولا يسير إلا باركه، فليس هناك أبرك من اسم الله عز وجل.
فيبدأ وصيته ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم يحمد الله ويثني عليه بالذي هو أهله، ثم يبدأ بأعظم الوصايا وأجلها وهي الوصية بتوحيد الله عز وجل، كما أخبر الله عن أنبيائه وصفوته من خلقه صلوات الله وسلامه عليهم، فقد وصى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب بنيهم أن لا يشركوا بالله شيئاً، وأن يُفرِدوا الله بالعبادة، وأن يقوموا بحق الله عز وجل، وأعظم تلك الحقوق توحيده سبحانه وتعالى.
فيُوصِي أولاده بتوحيد الله أولاً، وإخلاص العبادة لله عز وجل، والقيام بحقوقه الواجبة من إقامة الصلوات، وإيتاء الزكوات، وصوم رمضان، وحج البيت، وغيرها من فرائض الإسلام، فيُجمِل أو يفصِّل تفصيلاً مناسباً لا إطالة فيه.
ثم بعد الوصية بحق الله عز وجل يبدأ بالأهم فالأهم من أموره؛ فيبدأ أول ما يوصِي به بعد ذلك أن يوصي بتجهيزه وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه على وفق السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُحذّر ذريته من البدعة والحدث، وإحداث الأمور التي لم يأذن الله عز وجل بها في تغسيله، أو تكفينه، أو الصلاة عليه، أو تشييعه، أو دفنه، فيحذرهم من البدع في ذلك كله، ويأمرهم بما أمر الله ورسوله به، ويذكرهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويأمرهم بالرجوع إلى العلماء ومن يوثق بدينه وعلمه؛ لكي يقوم بذلك على وجهه المعتبر.
ثم بعد ذلك يوصي بما يتبع ذلك من العزاء وغيره من الأمور، ألا يُحدث فيها شيء من البدع، ويوصيهم بالصبر واحتسابه عند الله عز وجل، وأن في الله خلفاً من كل فائت، فالله عِوض للعبد من كل ما يفوته من الدنيا وما فيها، ومن كانت سلوته بالله عز وجل جبر كسره، وأعظم أَجره، وأخلف عليه بأحسن الخلف سبحانه وتعالى، ويوصيهم بالدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم في المصائب من الاسترجاع وسؤال الله الخلف، وهو حديث أم سلمة الثابت في الصحيحين.
ثم بعد ذلك يوصيهم بحقوق القرابة التي هي أعظم الحقوق بعد حق الله عز وجل، فيوصهم ببر الوالدين، فإن كان والداً وصاهم ببره من بعد موته؛ بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له، وسؤال الله عز وجل أن يُفسح له في قبره، وأن يحسن له فيما يكون من آجل أمره.
ويوصيهم ببر والدتهم إن بقيت من بعده، فيوصيهم بوالدتهم خيراً، وفاءً لزوجه وحفظاً لحقها، وكذلك أيضاً يوصيهم ببعضهم خيراً إن كانوا إخوة؛ أن يحفظوا حقوق الأخوة، وأن يجتمعوا ولا يفترقوا، وأن يتواصلوا ولا يقطع بعضهم بعضاً، وأن يتقوا الله عز وجل في بعضهم فيُحسنوا ولا يسيئوا.
كذلك أيضاً يوصيهم بأضعفهم، فيوصي الذكور بالإناث خيراً؛ لأن المرأة ضعيفة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم حقها فقال عليه الصلاة والسلام: (إني أحرج حق الضعيفين المرأة واليتيم)، فيوصي الذكور بأخواتهم خيراً؛ أن يحسنوا إليهن، وأن يكونوا على أحسن ما يكون الأخ لأخته، خاصة أن الأنثى بعد فقد الوالد تشعُر بفراغ كبير، وعجز عظيم، فإنها تفقد حناناً عظيماً، والله عز وجل إذا أراد بها خيراً بارك لها في أخيها، فكم من أخ مبارك قام على إخوانه مقام والده! فيُوصِي الإخوان بأخواتهم خيراً، ويذكِّرهم بصلتهم وزيارتهم وتفقد أحوالهم من بعد موته، ودائماً يكون الأخ حافظاً لهذه الوصية حتى ولو لم يوصِ بها الوالد، فإن للأخت على أخيها حقاً عظيماً، وتحتاج إليه ولو كانت مزوجة؛ بل قد تكون الأخت بعد زواجها أحوج ما تكون إلى عطف أخيها وبره وصلته، أكثر مما لو كانت غير ذات زوج.
فتحتاج إلى أن تستشيره، وتحتاج إلى معونته ومواساته، وتحتاج إلى كلمة منه تثبتها في همومها وغمومها، فهذا مما يُوصَى به -حقوق الإخوان والأخوات- ويوصي الأخوات بإخوانهن خيراً كذلك.
ثم ينظُر إلى الأمور التي يحتاج إليها من بعد موته، فيوصيهم أن لا تُفرق الدنيا بينهم خاصة في أمور الإرث؛ فيوصِي الذكور بحفظ حقوق الإناث، ويوصي القوي أن يحفظ حق الضعيف، وأن يتقي الله جل جلاله في حقوق إخوانه القُصّار كالأيتام والضعفة، فلا يأكل أموالهم بناءً على أنهم صغار ويقول: إذا كبروا أعطيهم المال، فهذا من التفريط؛ لأنه لا يأمن أن تتغير أموره، ولا يأمن الفقر، فيحفظ أموالهم كاملة تامة غير منقوصة، ويحرص على حسن النظر فيها إذا كانت المتاجرة بها فيها خير ومصلحة، ويوصيهم بحفظ حق العاجز والمحتاج، مثل المتخلف في عقله، أو الذي فيه سفه في تصرفه، فيوصي بعضهم ببعض خيراً على هذا الوجه.
ويُفضّل أن يجعل أحدهم قائماً عليهم، ويكون كالخليفة من بعده في ولده، وبالأخص إذا كان أكبرهم سناً، فإن الأكبر له حق على الأصغر وهو مقدَّم عليه، ولذلك ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة القَسَامة أنه لما أراد حويصة أن يتكلم قال عليه الصلاة والسلام: (كبر كبر)، فيقدِّم الكبير إذا كان أكثر عقلاً، وأكثر نظراً، وأكثر رحمة وشفقة.
وينظر إذا كان الكبير ليس بهذه المثابة، وعلم أن أصغر أولاده، أو الأوسط، أو أحدهم ممن هو أصغر منه أكثر ديانة، وتقوى لله عز وجل، وحفظاً للحقوق، فإنه يجعل العهد إليه، ويسلّي من هو أكبر؛ فيعتذر له بالتي هي أحسن، ويقول له قبل موته: إني كنت سأوصي إليك، ولكن يعتذر إذا استطاع حتى ولو بالتورية، ويقول: أراك مشغولاً، ولا أريد أن أحملك، أو نحو ذلك، مما يكون فيه جبر لخاطره، وإطفاء لنار الفتنة أن يوغر صدره على أخيه.
فيوصي بالأرشد فالأرشد من أولاده، والأتقى لله عز وجل؛ لأن التقي يخاف الله عز وجل، ويرجع إلى العلماء حتى يسعى في فكاك نفسه من النار، فيحرص على أن يولي أمرهم من يخاف الله عز وجل ويتقيه فيه.
وإذا كانت هناك أمور يحتاجها، مثل أن يتصدق بصدقات أو هبات فيُسمِّي هذه الصدقات، ويقول: أخرجوا من مالي كذا وكذا في سبيل البر، أو في سبيل الخيرات، أو أخرجوا من مالي كذا وكذا إفطاراً للصائمين، أو أضحية، أو نحو ذلك من الوصايا التي يجعلها من بعد موته في حدود الثلث فما دونه كما سيأتي.
كذلك أيضاً إذا أراد الوصية ينتبه لحقوق الناس، فيوصي أولاده بالأقرباء من الأعمام والعمات والأخوال والخالات، فيوصيهم بالقرابة خيراً، ويوصيهم بأهل وده ومحبته من بعد موته، أن يُوصلوا ولا يُقطعوا، وأن يُحسن إليهم ويبرّوا ويكرموا؛ إنفاذاً لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم ببر الوالدين في ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه).
فإذا كان له إخوان وأصدقاء فيهم حاجة، وهو غني ثري وترك لورثته مالا، ًوكان يتفقد إخوانه وأصدقاءه بالمال، فيوصي أولاده أن يتفقدوا هؤلاء الإخوان والخلان؛ لأن هذا من حفظ العهد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان)، فإذا كانت بينك وبين أخيك محبة ومودة ولو مجلساً واحداً جلسته معه على ذكر الله وطاعة الله فأحببته في الله، فإنه يربطه بك حق عظيم.
فهذا من حفظ العهد، أن توصي بإخوانك وأصدقائك وخلانك أن يُزاروا، فربما زارهم ابن من أبنائك ففرّج الله به كرباتهم، فكان سبباً في الترحم عليك والدعاء لك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه)؛ لأنه إذا جاء الابن بعد وفاة أبيه لزيارة صديقه تذكّر الصديق ما كان عليه صديقه من المحبة، ولربما بكى فخشع قلبه فترحم عليه، ولربما سامحه في حقوقه التي هي عليه، فهذا كله فيه خير كثير للميت.
ولم تأت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم به من فراغ، فيحرص على وصيتهم بأصدقائه وإخوانه، ووصيتهم بالجيران، وغير ذلك مما وصى الله به من الأعمال الصالحة.
فإذا كانت الوصية مستجمعة للخير أعظم الله الأجر للموصي، وكتب ثوابه، وختم له بخاتمة الحسنى؛ لأنه عمل صالح من بعد موته يأجره الله عليه، فكم من أبناء وبنات صلُحت أحوالهم بالوصايا! فالوصايا لها وقعٌ بليغ في القلوب والنفوس.
ومما وقع أن رجلاً كان له أولاد، وكانوا على أشر ما أنت راءٍ من الفرقة والعداوة والتقاطع والتهاجر، فكتب وصيته، فأوصاهم بتقوى الله عز وجل، وذكّرهم بحقوق الأخوة من بعد موته، فلما مرض مرض الموت اجتمعوا عنده، وأمرهم أن يقرءوا وصيته من بعده، فلما توفي تأثروا جميعاً، وانكسرت قلوبهم، فلما فتحوا وصيته وقرءوها بكوا جميعاً، وأقبل بعضهم على بعض، وسامح بعضهم بعضاً، وكانوا على خير ما يكون الأخ مع أخيه، فالله يكتب له ثواب إصلاح ولده من بعده، فالوصايا لها أثر عظيم في القلوب.
ويُستحب أن تُقرأ الوصية قبل تجهيزه وتكفينه؛ لأنه ربما كانت فيها أمور كأن يوصِي لشخص معين أن يغسله، كأن يكون عالماً، أو طالب علم، فيُحسن تغسيله على السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما وصّى بشيء يُخرج عنه، أو حق يُؤدى عنه، فهذا كله فيه احتياط، وهو كونها تقرأ قبل تجهيزه وقبل الصلاة عليه؛ لأنهم إذا فعلوا ما فيها آجره الله وأعظم ثوابه.
والوصية إذا جَمعت هذا الخير الكثير؛ لا شك أنها تحقق الهدف الذي من أجله شُرعت، فالله عز وجل فتح أبواب رحمته لعباده، ولم يجعل الإحسان للعبد في حال حياته فقط؛ بل جعل له أبواب الخير بعد موته من صدقات فيُوصِي بها مثل الأوقاف، فإذا رأى من المصلحة أن يكون هناك وقف أوقف، ووصَّى من يراه صالحاً بالنظارة وعهد به إليه، كما فعل الخلفاء الراشدون كـعمر رضي الله عنه وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا استجمعت الوصية هذه المقاصد العظيمة تحقق الهدف من شرعيتها، وكان فيها خير كثير وأجرٌ عظيم، ولن تكون الوصية كما أمر الله إلا إذا كانت على علم وهدىً، بسؤال ومراجعة ومذاكرة العلماء.
والدليل على ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أصبت مالاً هو أنفس ما أصبت بخيبر فما تأمرني فيه؟) فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أمر استحباب بالوقف، أن يُوقف هذه الأرض، فأوقفها رضي الله عنه، ووصَّى في وصيته أن تلي نظارتها بنته أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وأرضاها.
فالمقصود: أن الوصية ينبغي أن تقوم على السنة واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، ويكون فيها أمورٌ كما ذكرنا تذكِّر بالله، وتدُل على الله، فإنك إن وقفت بين يدي الله حافياً عارياً فيسألك عن ذرِّيتك: ماذا تركت لهم؟ فإذا قلتَ: يا رب! أوصيتهم بتقواك، وأمرتُهم بما أمرت، ونهيتُهم عما نهيت. فقد أبرأت ذمتك، فتلقى الله عز وجل بأمر عظيم قد يكون سبباً في فكاك رقبتك وخلاصك من النار في يوم لقاء الله جل جلاله.
فإذا اخترت لها جوامع مقاصد الإسلام العظيمة فقد أعذرت إلى الله عز وجل، وأيضاً حركتهم للخير، فقد تجد الرجل العاقل الحكيم يقول كلمة في وصيته فيفتح بها -بفضل الله- أبواب الخير لذريته، فيقول في وصيته مثلاً: أوصي أولادي بمحبة العلماء والرجوع إلى العلماء، فيمكن أن تكون هذه الوصية سبباً في سعادة ولده في الدنيا والآخرة؛ لأنه لما ربطهم بأهل العلم، ووصاهم بأهل العلم، فقد وصاهم بما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم.
وتجد الآخر يقول: أوصيهم بلزوم السنة ومحبتها، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيصبح الولد كلما سمع شيئاً فيه سنة وهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حرص على تطبيقه واتباعه ولزومه.
والكلمات الجامعة والوصايا العظيمة المؤثرة البليغة هي التي تصل إلى المراد وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء:63]، ولذلك فإن الله عز وجل اختار للمواعظ وللوصايا ما يؤثر، وقال في الوصية في الذرية الضعيفة: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9].
ولن يكون القول سديداً إلا إذا وافق الحق، وسُدد صاحبه، فأصبح لسانه يقول ما قال الله، وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، ويوصي بما وصّى به الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويقرأ المسلم وصايا السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ويهتدي بهذا الهدي المبارك.
كذلك أيضاً يضعها في مكان أمين بحيث إذا احتيج إليها بعد وفاته يُعرف مكانها، فيقول: يا أولادي! وصيتي في هذا المكان، أو في هذا الدرج، أو مكتوبة عند رأسي، فإذا توفِّيت فخذوا هذه الوصية، وليس المراد أن يضعها تحت رأسه كما يفعل البعض؛ لأنه قد يكون فيها ذكر الله عز وجل وأسمائه وآياته، إنما عند رأسه يعني قريبة منه، ولأن الإنسان إذا توفي في نومه يبحث عن الأشياء القريبة منه فتوجد وصيته، وهذا يدل على أنه ينبغي أن تكون قريبة منه، ولذلك يحرص الوالد، وتحرص الوالدة، ويحرص كل مسلم على وضع الوصية في مكان تُحفظ فيه.
كذلك أيضاً في بعض الأحوال خاصة إذا كان الشخص عنده مال وافتُتِن بكثرة المال، وافتُتِنَت ذريته، ويكون في أولاده -لا قدر الله- من فيه جرأة على تغيير الوصية، أو التلاعب فيها، فينبغي أن يحتاط.
فإذا علم أن هناك من ورثته من يتلاعب ويغير في الوصية؛ كتب الوصية وعهد بها إلى قريب من أقربائه، أو إلى رجل أمين، ويجعل الوصية عنده إذا خاف من أولاده أن يتلاعبوا في الوصية، أو يضيعوا، كما يكون في بعض الأحيان فقد يعتدي الذكور على حقوق الإناث، فيحتاط بذلك، أو يعلم أن الكبار لا يرضون بوصيته للصغير، فيحتاط بكتابة الوصية وإعطائها من يحفظها، بحيث إذا احتاج ولده إليها من بعد موته فتكون محفوظة، إلى غير ذلك من الأمور التي يتحقق بها المقصود في الوصايا.
وإذا اتقى العبد ربه جعل له من أمره يسراً، فشرح صدره، ويسر أمره، ورزقه التوفيق والسداد في أموره كلها.
الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمريض مرض الموت أن يتصدق بثلث ماله، وقال: (الثلث والثلث كثير)، لكن هذا على سبيل الإباحة، ثم يُفصَّل في الناس، فإذا كان الشخص غنياً، وماله كثير، وهناك أقرباء لا يرثونه، وهم محتاجون، فإنه حينئذٍ يُستحب له أن يُوصِي لمثل هؤلاء؛ لما فيه من الصلة والبر، ولأنه لا يضر ورثته.
أما لو كان قليل المال، أو المال الذي يتركه ليس بذاك، أو ترك مالاً ولكن ترك عيالاً كثيرين، وهم محتاجون لهذا المال، فحينئذٍ يبدأ بأقربائه، فيترك ورثته على غِنَىً أفضل من أن يتصدق، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، فمن أفضل ما تصدق به الإنسان بعد موته أن يترك ورثته أغنياء لا يحتاجون إلى الناس؛ فإن من أعظم البلاء والكرب حاجة الإنسان إلى الغير.
فنسأل الله العظيم أن لا يجعل لنا ولا لكم إلى لئيم حاجة، فالذل والفاقة تكسر الإنسان، ولربما كذب الصادق وخان الأمين بسبب الفقر والعياذ بالله! والفقر قد يهلك الإنسان، وقد يجرُّه إلى ما لا تُحمد عقباه، فيعد ولا يفي، ويقول ولا يصدق، وكل ذلك تحت الضرورة، وتحت وطأة الفقر وشدته.
فلذلك لو ترك الورثة على غِنَىً وكفاف، وعدم حاجة، فلا شك أن هذا أفضل، أما إذا كان المال كثيراً، وهناك قرابة محتاجون، ولا شك أنه إذا أوصى لهم يجبر كسرهم، ويكون له فيه أجر كثير، فحينئذٍ يُستحب له أن يوصي، ويكون له في ذلك الأجر من الصلة والبر، والله تعالى أعلم.
الجواب: هذا الأمر في الحقيقة فيه تفصيل: فإن كان الشخص يخاف من المال الحرام، ومن الكفن بمال حرام؛ فإنه يحتاط، وله الحق أن يُوصي، ولذلك وصى أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه في كفنه ألا يكون فيه مال فيه شبهة، فإذا كان الإنسان يخاف من المال الحرام، أو هناك أقرباء له، وأعمالهم مشبوهة، وتجارتهم فيها حرام، وفيها كسب حرام، واحتاط فاشترى كفنه، فلا شك أن هذا فيه خيرٌ كثير له، وفيه سلامة له وعافية، فمثل هذا لا بأس به.
وأما إذا كان الأمر على سعة فالأمر فيه على سعته، فلا داعي أن يضيق على نفسه، أو يُعين له كفناً معيناً، لكن ليس هناك من بأس، وقد أُثر حتى عن بعض السلف الصالح رحمهم الله في قضية الكفن أنهم اختاروا لأنفسهم أكفانهم وألزموا بها، ولا بأس في ذلك، لكن المُعَوَّل أن يكون كسب الكفن من حلال لا من حرام، والله تعالى أعلم.
الجواب: الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نَهى عن الزينة بالنسبة للمرأة المحتدة، ولمّا اخبرته المرأة أن ابنتها تشتكي عينيها قالت: (أفنضمدها بالصبر؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا)، ومنعها من ذلك؛ لأنه فيه زيادة التجمل، واغتفر بعض العلماء الدواء الذي لا زينة فيه، فإذا تيسرت القطرة التي لا زينة فيها فلا إشكال؛ لأنه يوجد البديل الذي لا زينة فيه، وأما إذا كان الدواء يشتمل على تزيُّن، ويوجد هناك دواء لا زينة فيه، فلا شك أنه يتعين ما لا زينة فيه، ومن هنا وجود القطرات التي يمكن وضعها والتداوي بها تغني عن مثل هذا، والله تعالى أعلم.
الجواب: أما من حيث الأصل فالكتب أموال، وتأخذ حكم التركة، فلو ترك كتباً من بعده فتقيم هذه الكتب، فلو كانت بستة آلاف وأوصى بثلثها؛ فإن وصيته تنفذ في الثلث، ولا تنفذ فيما زاد إلا بإذن الورثة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، أما الكتب فإنها مال، ومن أفضل المال وأطيبه.
لكن بالنسبة لقضية وقفية الكتب ينبغي أن يكون الإنسان بعيد النظر في الوصية، فإذا كانت الوصية بكتب فينبغي أن يضع في حسبانه أن الكتب تحتاج إلى أماكن توضع فيها، وتحتاج إلى قيم يقوم عليها، وهذا أمر يحتاج إلى احتياط، فلا يُحمّل الورثة ما لا يطيقون من بعد موته، ولا يلزمهم بشيء يعلم أنهم لا يقومون به، أو لا يستطيعون القيام به فيُدخِل عليهم الإثم، ولا ينصح لهم.
فإذا كانت الكتب يمكن وقفيتها، ووضعها في أوقاف عامة، مثل المدارس التي يُحتاج فيها إلى وجود المكتبات، أو الجامعات والمكتبات العامة، فهو أفضل، والمهم أنه يحتاط ويضع في حسبانه الأمور اللازمة لوقفية المكتبات، ولا يحرج ورثته، ويحملهم ما لا يطيقون، الأمر الذي قد يفضي بهم إلى الإثم والعقوبة، والله تعالى أعلم.
الجواب: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: فقالت طائفة من أهل العلم: يجب الترتيب، ولا تصح العشاء إذا لم يصل المغرب، وبناءً على هذا القول: يلزمه أن يعيد الفجر ثم الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وهذا القول هو الذي دل عليه دليل الكتاب والسنة.
أما دليل الكتاب: فإن الله تعالى يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، فنص سبحانه على تأقيت الصلاة، والتأقيت هو التحديد.
وبناءً على ذلك: لا تصح الظهر إلا بعد الفجر، ولا تصح العصر إلا بعد الظهر، ولا تصح المغرب إلا بعد العصر، ولا تصح العشاء إلا بعد المغرب، كما رتبها الله عز وجل.
وأما السنة: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: أنه لما شُغِل يوم الخندق -قبل شرعية صلاة الخوف- عن الصلوات، ففاتته صلاة العصر؛ صلى العصر ثم المغرب ثم العشاء، فراعى الترتيب عليه الصلاة والسلام، مع أن الوقت الذي صلى فيه كان محتاجاً إلى تدارك وقت المغرب؛ لأنه أتاه عمر رضي الله عنه وقد غربت الشمس فقال: (يا رسول الله! والله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها، قوموا بنا إلى بطحان...).
يقول: (حتى كادت الشمس تغرب)، ومعناه: أنه بعدها صلاها غابت الشمس مباشرة، فاحسب حساب وضوئه وصلاته للعصر -أعني عمر - ثم مجيئه للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (قوموا بنا إلى بطحان).
ومن يعرف المدينة يعرف أن الثغر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يناضل فيه المشركين، ويرميهم بالنبل، بعيد عن بطحان، فهناك مسافة بين الجبهة التي كان فيها الرمي وبين بطحان بما لا يقل عن ربع ساعة تقريباً، إذا نزل الإنسان من طرف الثغر الذي كان يرامي ويراشق فيه المشركين -صلوات الله وسلامه عليه- وهو سفح جبل سلع الشمالي الغربي، فنزل عليه الصلاة والسلام وقال: (قوموا بنا إلى بطحان)، فنزل إلى بطحان، وتوضأ من بطحان ثم صلى، قال الراوي: (فصلى العصر والمغرب والعشاء).
فلا شك أنه كان محتاجاً إلى تدارك وقت المغرب؛ لأن أقل ما فيه أنه سيدرك آخر وقت المغرب؛ فكونه عليه الصلاة والسلام يبدأ بالعصر قبل المغرب، مع أن المغرب يُخشى فواتها، يدل على لزوم الترتيب، وهذا هو الأصل، وهو القول الصحيح إن شاء الله في هذه المسألة، أن من نسي صلاة فإنه يعيدها ويعيد ما بعدها من الصلوات؛ لأنه لا تصح صلاة إلا وهي مرتبة على التي قبلها.
وهناك قول يَغتفر الترتيب ويصحح الصلاة البعدية إذا نسي القبلية، فيصلي القبلية ولو صلى بعدها الصلوات، والصحيح ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.
الجواب: أولاً: تعزية المسلم لأخيه المسلم جبرٌ لخاطره، ومواساة له في مصابه، يثبت الله بها قلبه، ويسدد بها لسانه، ويشرح بها صدره، فكم من كلمات طيبات مباركات من المؤمنين والمؤمنات، في الحوادث والملمات، دفعت عن أهلها هموماً وغموماً، لا يعلمها إلا الله عز وجل، فالمسلم يحتاج إلى تعزية أخيه ومواساته.
وخاصة في حال فقد العزيز من والد أو والدة أو أخ أو أخت أو ابن أو بنت، فيواسي المسلم أخاه المسلم، فيذكره بما عليه السنة في المصيبة من الاسترجاع، وسؤال الله عز وجل حسن الخلف، وحسن العِوض.
ويذكِّره بأن الله سبحانه وتعالى فيه عوض عن كل فائت، فلو زالت الدنيا عن العبد، فإن الله تعالى إذا تأذن له بحسن الخلف سيعوضه خيراً منها عاجلاً أو آجلاً، وكم من مصائب وكوارث ومتاعب عادت على أهلها بكل خير في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فأول ما ينبغي عليه أن يثبت قلب أخيه.
ثانياً: إذا جاء في التعزية يراقب حال أخيه فإن رآه على سنة ثبّته عليها، وإن رأى منه خطأً أو تقصيراً أو بدعة أو ضلالة ذكره بالله، ونصحه، فأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر، وحذره من معصية الله عز وجل في عزائه من إحداث القُرّاء وإحداث البدع في البيوت، والمبالغة في وضع الكراسي ووضع الأنوار على البيوت، مما قد يكون في بعض الأحيان من أموال اليتامى والقُصّار، ففيه اعتداء على الأموال التي أمر الله بحفظها لأهلها، أو الإتيان بالقُرّاء أو الذبائح، أو إطعام أهل العزاء، ونحو ذلك من الأمور المنكرة التي ما أنزل الله بها من سلطان، التي أحدثها الناس بمحض أهوائهم، وجارى بعضهم بعضاً محاباةً.
فينبغي تذكير الناس في مثل هذا، وينبغي على طلاب العلم أن ينصحوا، وعلى أئمة المساجد أن يذكروا، فكلمة الحق منهم غالباً مسموعة، وألا يجامل الناس في مثل هذا، فإذا كان المبتدع لم يجامل في بدعته، ولم يخف منك، فينبغي عليك وأنت على الحق وعلى السنة ألا تجامل، وألا تخاف منه؛ بل تبدي له الحق وتقول له: يا أخي! هذا لا يجوز، وهذا فيه اعتداء على السنة.
ولو أن العزاء يذكِّر فيه الناس بعضهم بعضاً بالسنة، ويحذر بعضهم بعضاً من البدعة؛ لأحيِيَت سنن المرسلين ولأميتت بدع المضلين، ولكن السكوت على مثل هذه المنكرات، ومجاراة الناس فيها، كل ذلك جرّأ أهل الباطل على باطلهم، فلا ينبغي لطلاب العلم، ولا للأخيار ولا للصالحين أن يسكتوا عن مثل هذا.
وكذلك يُسن في التعزية أن يتفقد الإنسان ما يحتاج إليه الميت بعد موته؛ فإذا كانت هناك أمورٌ يوصي ورثته بها مما فيه خير في أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم فإنه يأمرهم بها.
وليس هناك لفظ معين في العزاء، فكل شيء قاله مما يَجبُر به كسر أخيه المسلم فلا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُلزم الناس بكلمة معينة.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب)، فهذا وقع قبل موت الغلام، كما هو معلوم ومعروف من سياق القصة، قاله لأنها أرسلت إليه أن اشهد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (.. فمرها فلتصبر ولتحتسب).
فهذا ليس بإلزام بلفظ العزاء، لكن لو قاله الإنسان لأخيه فهو على سنة وخير؛ لأنه لفظ يتضمن المعاني المقصودة: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب)، وهذا شيء طيب، وكلام مناسب، يناسب الصدمة ويناسب الحال؛ لكن لا نستطيع أن نفرضه على الناس، ونقول: لا يقول أحد عند العزاء إلا هذا، بحيث لو جاء أحد يقول لأخيه: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، فنقول له: هذا بدعة.
ولو كان هناك لفظ مخصوص لما سكت الكتاب والسنة عنه؛ لكن لما تُرك الناس لما يكون فيه جبر للخاطر، ومواساة له، فكل كلام تقوله تجبُر به خاطر أخيك، وتجبر به كسره؛ فإنه مما فيه الخير له ومن البر والصلة، وأنت مأجور عليه.
وإذا اخترت الوارد -كما ذكرنا- فهذا أفضل، لكنه ليس بلازم وفرض على الإنسان أن يقوله، وأياً ما كان فينبغي الحرص على السنة، وأمر الناس بها، ودلالتهم عليها في التعزية وغيرها، والأمور التي يفعلها الناس مما يكون منها في مقام العبادات يُتوقف فيه على الوارد، وما يكون منها خارجاً عن العبادات فإنهم لا يُلزمون بما ليس بلازم.
فإذا أراد أن يعزِّي القرابة فيبدأ بكبيرهم وذي الحق منهم، ويبدأ بمن هو أعظم مصيبة؛ كأولاد الميت ونحو ذلك، يبدأ بهم لأن الحق لهم آكد، وقد جاء لحقٍ فيبدأ به، قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح من حديث عتبان حينما قال له: (إني أريدك أن تأتي إلى بيتي فتصلي في مكان أتخذه مصلىً) فلما دخل البيت -بيت عتبان -، كان أول ما كلمه قال: (أين تحب أن أصلي لك؟).
فقالوا: إن في هذا الحديث دليلاً على أن من جاء لأمرٍ فيبدأ به قبل كل شيء، وكان عتبان قد ذبح وأعدّ طعاماً، وصنع طعاماً، فقبل أن يطعم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه بدأ بالشيء الذي جاء من أجله.
فلمّا كان المقصود هو التعزية وجاء من أجل التعزية، فإنه يبدأ بأحق الناس بالتعزية، وهم أقرباؤه كالوالدين، والمرأة تبدأ بالوالدة، وأولاد الميت، فيبدأ بذي الحق، ثم بعد ذلك الأقرب فالأقرب.
وما يحدث من الناس في بعض الأحيان أنك ترى الكبير يرتب بعضهم بعضاً، فيقف الكبير ثم من بعده الصغير، فإن هذا قد اغتفره العلماء والمشايخ، وقد أدركنا أهل العلم لا يُنكرون في مثل هذا؛ لأنك لا تستطيع أن تأتي بين أمة على القبر في بعض الأحيان يَصِلُون إلى ألف شخص فتظل تبحث عن قرابة الميت.
فلابد أن تعرف قرابة الميت، فحينما يصطفون ويُعرف كبيرهم، ويُعرف ذو الحق منهم، فهذا أمر وسَّع فيه العلماء، وما أدركنا أحداً من مشايخنا رحمة الله عليهم يُشدِّد في هذا؛ لأنهم لا يقصدون به العبادة، ولا يُقصد به شيء معيَّن للتعبديات.
لكن من البدعة والحدَث وضع الأيدي على الأكتف، فإن هذا شيء ليس له أصل، بل تسلم عليه وتصافحه، فالمصافحة هي السنة، وتأمره بالصبر واحتساب الأجر، وكذلك تعزِّي أكثرهم ألماً، ومن ترى فيه الحزن أكثر تشد عليه وتذكره أكثر، فهذا أمر ينبغي مراعاته أثناء العزاء.
أما كونهم يَجتمعون في بيت الميت فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يعدون الجلوس في بيت الميت من النياحة، وهذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان الناس قليلين، ويمكن أن تعزي الرجل وتراه في المسجد.
ولكن في زماننا توسع العلماء رحمهم الله من المتأخرين في مسألة حضورهم في بيت واحد؛ لأن ذلك أرفق على الناس، ومن الصعوبة بمكان -خاصة في الأزمنة المتأخرة- أن تنتقل بين عشرة أو عشرين بيتاً -وهم قرابة الميت- في مدينة واحدة، وهذا لا شك أن فيه صعوبة عليهم، فإذا اجتمعوا في بيت أكبرهم، أو في بيت القريب الأقرب، وجاء الناس وعزّوهم جميعهم في مكان واحد، فهذا لا بأس به، وقد خفّف فيه بعض العلماء. ولكن الجلوس لغير الحاجة، مثلما يقع من بعض الناس من الإتيان إلى أهل الميت وإطالة الجلوس عندهم، كل هذا من البدع والمحدثات، ولا شك أنه يترتب عليه ضرر لقرابة الميت، والمنبغي هو التخفيف عليهم والتوسعة عليهم.
وكذلك إحضار الطعام، والتكلف في الولائم، كل هذه من الأمور التي أحدثها الناس، إلا ما وردت به السنة عند الصدمة الأولى من صُنع الطعام في اليوم الأول، فإن وافق الموت ظهراً صُنْع لهم طعام الغداء، وفي الحقيقة الذي يظهر هو جواز صنع طعام الغداء، أما طعام العشاء ففي النفس منه شيء، ويكون ذلك مرة واحدة؛ لأنه قال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً)؛ لأن الإنسان يطعم في يومه.
والذي يظهر أنه في حدود الحاجة كالغداء، وأما أن يُصنع الغداء ثم العشاء ثم الغداء في اليوم الثاني ثم العشاء، ويُرتِّبون على ذلك ثلاثة أيام، فإن هذا من البدع والحدث، وما أنزل الله بها من سلطان، ولذلك شدّد الناس على أنفسهم، وضيّقوا على أنفسهم في هذا، فكلفوها ما لا تطيق من الذبائح والولائم.
نسأل الله العظيم أن يرزقنا التمسك بالسنة، وأن يعيذنا من البدعة، والله تعالى أعلم.
الجواب: إذا نذر المؤمن أو المؤمنة شيئاً، وكان في ملكه ذلك الشيء؛ لزمه الوفاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، فأمر عليه الصلاة والسلام الناذر إذا كان نذره نذر طاعة أن يَفِي بنذره، فدل على لزوم النذر إذا التزمه الإنسان.
وإذا عجزت المرأة عن إتمام الصوم، ولم تستطع ذلك؛ فإنه لا وفاء في نذر لا يملكه الإنسان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا عتق فيما لا يملك، ولا نذر فيما لا يملك)، فإذا كان يتعذر عليها الصوم، أو حصل ما علقت عليه النذر بعد عجزها عن الصوم؛ فإنه يسقط عنها الصوم، وحينئذٍ يرى بعض العلماء أنه يسقط كليّة، وبعضهم يرى أنه يلزمها أن تُكَفِّر؛ لأن نذرها انعقد.
ولا شك أنها إذا عجزت بالكلية، أو وافق وقت الوفاء عجزاً كلياً فإنه يسقط النذر على ظاهر السنة التي ذكرنا.
أما بالنسبة للصوم الذي تركته حينما كانت تحيض، فالصوم الذي تركته يجب عليها قضاؤه، وهو مقدّم على نذرها، فتبدأ أول شيء بالصوم الذي فرضه الله عز وجل عليها وتُبرئ ذمتها منه.
وأما الجهل فليس لها فيه عذر؛ لأن هذا مما يمكن السؤال عنه، والعذر بالجهل يكون في أحوال مخصوصة، ومسائل ضيقة جداً، أما شخص يأتي في ركن من أركان الإسلام، أو في أمر من أمور دينه فرض عليه أن يسأل عنه ويتعلمه، ثم لا يسأل ولا يتعلم، ثم يقول: كنت جاهلاً؛ ثم نعذره بالجهل أبداً.
وذلك مثل شخص يأتي للحج والعمرة، فيفعل ما يشاء في عمرته، ويفعل ما يشاء في حجه، ثم يقول: لم أكن أعلم، فلا يُقبل من ذلك؛ فإن الله قد فرض عليه أن يتعلم، وفرض عليه أن يسأل، وفرض عليه أن يرجع إلى أهل العلم: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فيقصِّر في الرجوع ثم نعطيه الرخصة، حاشا وكلا!
ومثل هذا ليس بمعذور؛ بل هو مفرِّط، ومن فرَّط أُلزم بعاقبة تفريطه، ومثل هذه المرأة تلزم بقضاء ما كان عليها من الصوم، وإن لم تستطعه تحديداً بنت على تقديرها، وحسبت كم أيام عادتها، ثم بعد ذلك تحسب السنوات التي كان عليها صيام من رمضان فيها، فتقضيها جميعها، والله تعالى أعلم.
الجواب: من حيث الأصل حق الأم أعظم من حق الأب، وهذا لا إشكال فيه، ولذلك اختار جمع من العلماء أنه لو مات والداه ولم يَحُجا وأراد أن يحج عنهما، فيبدأ بالأم قبل الأب؛ لعظيم حقها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لما سأله الرجل: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك).
فجعل حقه بعد حقها مرتباً ثلاثاً، وعظم حقها بالتكرار ثلاثاً، ولذلك جعلوا لها من الحق أضعاف ما للوالد، والواقع يصدق ذلك؛ فإنها حملته وهناً على وهن، وتحملت في حمله ووضعه وإرضاعه وفصاله ما لم يتحمله الأب، فعظم الله عز وجل حقها، فالأم أحق من هذا الوجه.
لكن ولاية الأب على البيت، وولايته على الأسرة، قد يكون هذا خاصاً، بمعنى: أنك إذا دخلت في مكان فتنظر إلى ذي الحق، فالوالد في البيت حقه أقوى من حق الأم من جهة الولاية، ولذلك جعل الله الولاية للرجل على أهله، قال عليه الصلاة والسلام: (الرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته)، أي: مسئول عن زوجته وأولاده؛ لأن الله جعل المرأة تبعاً للرجل تقوم على شأنه، كما قال تعالى: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، فالرجل له حق الولاية، ومن دخل في مجلس، أو دخل في مكان ابتدأ بذي الحق.
ولذلك إذا دخلت في مجلس؛ فالسنة أن تبدأ بذي الحق فتسلم عليه، وكذلك في الطعام والشراب تبدأ بذي الحق أولاً؛ لأن إكرامه واجب، وحقه آكد، ثم تأخذ عن يمينه، فتجمع بين الفرض والسنة، أما أن يأخذ الإنسان مثلاً بحديث خاص في قوله: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك)، فهذا من ناحية الإحسان والبر والقيام والرعاية، لكن في الدخول في المجالس يُبدأ بذي الحق، ولذلك ابتُدئ به عليه الصلاة والسلام في المجالس، وكان يُبتدأ بالتحية، وبالإجلال والإكرام صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن له حقاً.
فإذا كان في مجلس فيه الوالد فحقه في الولاية آكد، وهذا الحق بالمناسبة، فإذا جئت إلى مجلس وسألت: من الذي يُبدأ به السلام؟ فإنك تبدأ بمن له الولاية في المجلس، فإن كان مجلس علم فالولاية للعالم، وإن كان مجلس ولاية وسلطة، فتبدأ بصاحب تلك الولاية والسلطة، وإذا كان في مجلس سفر مثلاً لثلاثة ركب فأكثر، وعليهم شخص هو المسئول عنهم، فالولاية له.
وقد أعطى الإسلام كل شي حقه، فتبدأ بذي الولاية، وتشرفه وتكرمه، وتقدمه على غيره، ثم بعد ذلك تسلِّم على الأم، وتأخذ بخاطرها، وتبرها كما أمرك الله عز وجل ببرها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر