الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلا زال المصنف رحمه الله في معرض بيانه للشروط التي ينبغي توافرها للحكم بصحة شركة العنان، ومن ذلك: مسألة الربح، فإن الشريكين إذا دفع كل واحد منهما مالاً واتفقا على المتاجرة بالمال الذي اشتركا فيه، فإنه ينبغي أن يحددا نسبة ربح لكل منهما، وذلك لأن أصل عقد الشركة يقتضي المشاركة في الربح.
وبناءً على هذا: لا يجوز أن يكون الربح كله لواحد منهما، فلو دفع كل واحد منهما عشرة آلاف -مثلاً- واتفقا على أن الربح لأحدهما لم يصح؛ لأن مقتضى الشراكة أن يكون لكل منهما نصيب من هذا الربح.
وقد بيَّن المصنف رحمه الله أن لكل واحد من الشريكين حظاً من الربح، ثم هذا الحظ من الربح، لابد أن يكون مشاعاً معلوماً، فلما قال: [مشاعاً] دل على أنه لا يجوز أن يستبد به أحدهما دون الآخر، كما يقول رجل لآخر: أعطني عشرة آلاف وأدفع أنا عشرة آلاف وتكون الشركة بيننا، والربح كله لي أو الربح كله لك، فإنه غير مشاع، ولا يجوز.
كذلك ينبغي أن يكون هذا المشاع معلوماً، فلو قال له: ادفع عشرة آلاف، وأنا أدفع عشرة آلاف، ونشترك في تجارة العود -مثلاً-، على أن لي جزءاً من الربح، ويسكت، ولا يحدده، ولا يبين كم قدر ذلك الجزء من الربح، فإنه لا يجوز؛ لأنه مشاع غير معلوم.
فلابد أن يكون الربح مشاعاً ومعلوماً.
ومشاعاً: أي: لا يستبد به أحدهما دون الآخر.
ومعلوماً: أي: غير مجهول، والجهالة في الربح تكون بالنصيب نفسه، كقوله: نشترك بعشرين ألفاً، تدفع عشرة آلاف، وأدفع عشرة آلاف، ولك جزء من الربح نتفق عليه لاحقاً، أو سوف نتراضى على الربح، أو نقتسم الربح بيننا بعد ذلك بما يُرضي كل منا الآخر، كل هذا من الجهالة، وقد قال جماهير السلف والخلف بعدم جواز هذا النوع من الشركة، وهو أن يكون نصيب كل واحد منهما مجهولاً في الشركة.
إذاً: تكون الجهالة بعدم تحديد النسبة -نسبة كل واحد منهما من الربح- وتزول هذه الجهالة بالتحديد، كقوله: لي نصف الربح ولك نصفه، أو لي ثلثا الربح ولك ثلث، أو لي ثلاثة أرباع الربح ولك الربع، وهكذا.
فقوله: النصف، أو الثلثان، أو الثلاثة أرباع والربع، كله مشاع معلوم؛ لأن نسبة النصف معلومة، ونسبة الثلث والربع معلومة، على خلاف بين العلماء: هل ينبغي أن يكون الربح متعلقاً برأس المال؟
فمثلاً: إذا دفعنا رأس مال مشترك بيننا بالسوية، فهل ينبغي أن يكون الربح بالسوية؟ فمن دفع النصف من رأس المال يكون له النصف من الربح، ومن دفع الثلثين، يكون له الثلثان من الربح؟ هذا لا شك أنه أحوط الأقوال وأولاها -إن شاء الله- بالصواب، وهو أن الربح يتعلق برأس المال، وذلك لأن شركة العنان لا تشبه شركة المضاربة كما يقول بعض الفقهاء، فيجيز تفاضل النسبة في الربح بتفاضل العمل.
والأقوى والأشبه بالأصول: أنه لابد أن تكون نسبة الربح على نسبة رأس المال، فإذا اشتركا بعشرين ألفاً ودفع كل واحد منهما عشرة آلاف، فالربح ينبغي أن يكون مناصفةً بينهما، وإذا كان المبلغ أربعين ألفاً دفع أحدُهما ثلاثين ألفاً، ودفع الآخر عشرة آلاف، فالربح يكون بينهما أرباعاً، ثلاثة أرباع لِمَن دفع ثلاثين، والربع يكون للآخر.
وإن كان بعض العلماء يجيز التساوي في رأس المال مع التفاضل في الربح، كأن تدفع خمسين ألف ريال، ويدفع الآخر خمسين ألف ريال، ويكون لأحدكما ثلثا الربح، فقد تفاضل الربح مع تساوي رأس المال، وإن كان الأوجه والأقرب -إن شاء الله- للصواب التساوي؛ لأن القياس هنا مُعْتَرَضٌ عليه، وسنبين -إن شاء الله- في باب المضاربة أنه قياس على الخارج من الأصل، ولا يستقيم على هذا الوجه.
والسبب في هذا أن العلماء رحمهم الله يقولون: إن الربح محل العقد في الشركة، ومعنى قولهم: (محل العقد) أي: أن العقد ورد عن الربح، فمثلاً: حينما تتفق مع شخص على التجارة في السيارات، وتقول: نشترك في شركة بخمسين ألفاً، تدفع نصفها، وأدفع أنا نصفها، ونتاجر في السيارات، نشتري السيارات ونبيعها ونستثمر، فإنكما إذا اتفقتما على الخمسين ألفاً أن تتاجرا فيها، فإن محل العقد ومورد الصيغة (نشترك) على الخمسين ألفاً وعلى ربحها ونتاجها.
إذاً: محل العقد منصب على الربح، ومنصب على رأس المال، قالوا: وإذا كان العقد منصباً على محله، وهو الربح، فلا يجوز أن يكون الربح مجهولاً، كما لا يجوز في البيع أن يكون الثمن والمُثْمَن مجهولاً، وقد بينا في البيع أنه لا يصح أن يتعاقد الطرفان في المعاوضة على شيء مجهول، كذلك هنا لا يصح أن يتعاقد الشريكان بدفع كل منهما لمال، وهو لا يدري كم ربحه من ذلك المال، ثم إن وجود الجهالة في الربح تفضي إلى الخصومة والنزاع، وتفضي إلى الأذية والإضرار؛ لأن كلاً منهما سيحاول بعد ذلك أن يكون له الأحظ من الربح، وحينئذٍ يظلم أحدهما الآخر، ولربما وقعت في ذلك الشحناء، وقد بينا أن الشريعة لا تجيز الوسائل المفضية إلى المفاسد المحرمة، كالشحناء ونحوها من الخصومات والنزاعات التي تترتب على الجهالة، وقد فصلنا هذه المسألة، وبيناها وبينا مقاصد الشريعة حينما تكلمنا على بيع المجهول.
مثل أن يقول: لي شيء من الربح، فالشيء من الربح مجهول، ما يُدرَى أهو كثير أو قليل، فهذا لا يجوز.
وقوله: [أو ربح أحد الثوبين، لم تصح]:
إذا حدد أحد الشريكين شيئاً من الشركة على أن يأخذ ربحه، فإنه محرم ولا يجوز؛ لأنه قد لا يربح إلا هذا الثوب، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على تحريم هذا النوع من الاشتراط.
فقوله: [فإن لم يذكرا الربحَ، أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً، أو دراهم معلومة، أو ربح أحد الثوبين، لم تصح]:
والدراهم المعلومة في زماننا كقوله: نشترك بعشرين ألفاً، ويكون لي كل شهر -مثلاً- ألف ريال، أو يكون لي في نهاية الشركة عشرة آلاف؛ لاحتمال ألَّا تربح الشركة إلا هذه، فإنه لو قال لي: أشاركك بعشرين ألفاً، منك نصفها، ومني نصفها، على أن آخُذَ عشرةَ آلافٍ من الربح، أو آخُذَ عشرين ألفاً، أو آخُذَ خمسةَ آلافٍ، أو آخُذَ ألفاً، فإنه إذا حدد شيئاً معيناً من المال فإنه غرر، وقد نص جماهير العلماء حتى إن ابن المنذر رحمه الله يحكي الإجماع على أنه إذا اشترط مالاً معيناً كألف ريال أو عشرة آلاف درهم أو نحو ذلك أن الشركة باطلة، ولا يجوز أن يحدد مالاً معيناً أو جزءاً معيناً؛ لأنه يحتمل أن الشركة لا تربح إلا هذا الشيء.
ومن أمثلة هذا النوع في زماننا: أن يشتركا -مثلاً- في تجارة العود، فيقول له: نشترك في تجارة العود خشباً ودهناً، ويكون رأس المال خمسين ألف ريال، اتفقا ودفعا الخمسين ألفاً، هذا خمسة وعشرون، وهذا خمسة وعشرون، فلما أرادا التعاقد على إتمام الشركة قال أحدهما: أشترط أن يكون لي ربح عود الخشب، ويكون لك ربح عود الدهن. فهذا لا يجوز؛ لاحتمال ألَّا يربحا إلا عود الدهن، فيُظلم أحدهما بنصيبه، ويستفيد الآخر من نصيب صاحبه دون أن يعاوضه بحق الشركة، والعكس: فلو قال له: لي ربح الخشب، فإنه يحتمل ألَّا يربح إلا الخشب، فحينئذٍ يُظلم الطرف الثاني الذي يكون له ربح الدهن.
وعلى هذا قال العلماء: يدخلان في الشركة ويكون الربح مشاعاً بينهما، فلا يحددان نسبةً معينةً، ولا ربحاً من جزء معين، ولا من نتاجٍ معينٍ من الشركة، بل يكون على أصل الشيوع الذي ذكرناه.
وقد حكى ابن المنذر رحمه الله الإجماع على أنه لو ذكر مع النسبة شيئاً معيناً كقوله: لي ألف ريال كل شهر، أو لي خمسمائة كل شهر، كأن يقول له: أدخل معك، ونشترك في تجارة العود، أو تجارة السيارات؛ ولكن أشترط أنني آخذ كل شهر ألف ريال، أو آخذ كل شهر خمسمائة ريال، فإنه لا يجوز؛ لأن فيه غرراً، ولذلك خرج عن مقتضى الشركة بالتميز عن صاحبه بهذا القدر.
والمسألة ليست في الثياب، إنما المسألة أنه لا يجوز أن يعطيه ربحاً مجهولاً.
وفي حكم الجهالة: التغريرُ، كأن يدخلا في الشركة في تجارة الأقمشة -مثلاً-، فيشتريا بنصف المال أقمشة من القطن، وبالنصف الآخر أقمشة من الصوف، فيقول أحدهما للآخر: الآن اشترينا القماش، فتأخذُ أنت ربح الصوف، وآخذُ أنا ربح القطن، فلا يجوز، فكما أن الجهالة تكون في الأول، كذلك تكون أيضاً في الأخير، وتكون في الأثناء. فإذا قال له: تأخذُ ربح كذا، وآخذُ ربح كذا، فلا يجوز.
وفي زماننا: لو أنهما اشتركا بمائة ألف ريال ودخلا في الشركة، وكان من عادتهما أن يسافر أحدهما إلى الخارج ليجلب التجارة، فالشركة بينهما تستلزم بضائعَ تستورَد ثم تُباع، فقال أحدهما: السفرة الأولى لي ربحُها، والسفرة الثانية لك ربحُها، تسافر أنت وتأخذ الربح، أو أسافر أنا وآخذ الربح، أو لي ربح السفر إلى المشرق، ولك ربح السفر إلى المغرب.
إذاً: ليس مراد العلماء في مسألة (لي ربح أحد الثوبين) القصر على الثياب أو على مسألة البضائع إذا كانت من الثياب، لا. إنما هي قاعدة: أن الشركة تستلزم دخول الشريكين مستويين، من بداية العقد إلى نهاية العقد.
وبناءً على ذلك: فلو اشترط أحدهما على الآخر نصيباً معيناً، مثل: لي ربحُ أحدِ الثوبين، أو لي ألفُ ريالٍ كل شهر، أو لي عشرةُ آلافٍ كل سنة، أو لي من الربح صافياً خمسةُ آلافٍِ، ثم نقسم الربح بيننا، كل ذلك مما يوجب الجهالة، ومما يغرر بالطرف الآخر الذي فرض عليه الشرط.
وعلى هذا لا يجوز أن يحدد ربحاً من أحد المبيعات، ولا يجوز -كما في زماننا- أن يحدد ربح سَفْرة من السَّفْرات، أو يقول له: إذا كانت السَّفْرة إلى جهة كذا كان لي ربحها، وأنت إلى جهة أخرى يكون لك ربحها، أو تكون التجارةُ صيفيةً شتويةً، فيقول: لي ربح الصيف، ولك ربح الشتاء، كتجارة الرطب والتمر -مثلاً-، فيقول له: ندفع مائة ألف ونشتري التمر ونبيعه، ونشتري الرطب ونبيعه، فما كان من نتاج الرطب فلك ربحه، وما كان من نتاج التمر فلي ربحه.
وهكذا لو أن الشريكين دخلا في الشركة، على أن يتاجرا -مثلاً- في العطورات عموماً، وكان أحدهما أعرف بالعود، والآخر يعرف بقية الأصناف، فشاء الله أن الذي يعرف العود قال: أسافر وأجلب العود وأبيعه ولي ربحه، وأنت تسافر للأنواع الأخرى ولك ربحها. هذا كله لا يجوز. لماذا؟
أولاً: لأن مقتضى عقد الشركة يستلزم دخولهما سوياً في الربح، وأن يكون أحدهما حاملاً لكسر الآخر.
ثانياً: لأننا لو أجزنا هذا النوع لغرر أحدهما بالآخر؛ لاحتمال ألَّا يربح إلا الوجه الذي حدده، واحتمال ألَّا يربح إلا الصفقة أو العَرَض الذي خصه، وفي ذلك ضرر على الطرف الثاني.
المساقاة: من السقي.
والمزارعة: من الزرع.
والمساقاة: أن يدفع رب الأرض التي عليها النخل وما في حكمه -وسيأتي إن شاء الله بيان ما الذي يلتحق بالنخل- أن يدفع النخل إلى العامل على أن يقوم بسقيه وإصلاحه ورعايته، والثمرة بينهما على ما اشترطا.
ومثال ذلك: عندك بستان ووقتك لا يسمح لك بالعمل فيه، أو ليست عندك خبرة بإدارة هذا البستان، فتأتي إلى عامل وتقول له: اشتغل في هذا البستان، واسقِ زرعه -يعني: النخل الموجود فيه- وأصلح النخل، ثم الثمرة الموجودة في النخل بيني وبينك مناصَفَةً، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بيهود خيبر، كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها)، فكانوا -أي: اليهود- يعملون في النخل، ويصلحونه، ويرعونه بالسقي، ويقومون على رعايته حتى تخرج الثمرة، فتُقسم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمر ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في عهد أبي بكر، وفي عهد عمر رضي الله عنه، أخرجهم وأجلاهم، كما هو مشهور.
الشاهد: أن المساقاة أن يدفع رب الأرض للعامل الأرضَ على أن يعمل فيها، ويقول له: خذ جزءاً من الثمرة.
كيف نقدر المساقاة على مسألتنا؟
مثال ذلك أن يقول رب المال أو رب الأرض للعامل: اسقِ الأرض وأُرْضِيكَ.
فيقول: كم لي؟
فيقول له: لا يهمك، نتفق.
إذاً: يدخل المساقاة على جهالة، وهذا لا يجوز.
وإذا بطُلت ينقلب العامل إلى أجرة المثل، فيقدر تعبه، ويأخذ أجرة المثل، وسوف نبين ذلك إن شاء الله.
هذه هي جهالة النسبة.
ومن جهالة النسبة: إدخال المجهول على المعلوم، كقوله: اسقِ الأرض، ولك نصف ما يخرج، وهدية من عندي، أو رَضْوَة من عندي، فالرَّضْوَة مجهولة، وصحيحٌ أن نصف الثمرة معلوم. وإذا قال: أعطيك نصف الثمرة، فهذا معلوم؛ لكن إذا قال: أعطيك هديةً أو رَضْوَةً، صيَّرت المعلوم مجهولاً، والقاعدة تقول: (دخول المجهول على المعلوم يُصَيِّر المعلومَ مجهولاً)، فصحيحٌ أنه حدد النصف أو الربع؛ لكنه حينما أدخل الهديةَ والرَّضْوَةَ المجهولة أصبح المعلوم مجهولاً، ولذلك لا يجوز هذا النوع.
فنحن ذكرنا أن يجهل النسبة، أو يُدخل مجهولاً على النسبة المعلومة، أو يُدخل معلوماً مفروضاً أو معيناً من الأرض: معلوماً مفروضاً: يقول له: اسقِ الأرض ولك نصف الثمرة، وأعطيك كل شهر مائة، أو أعطيك خمسين، أو نحو ذلك.
أو يقول له: اسقِ نخلي وزرعي وأعطيك الثمرة التي في النوع الفلاني، فقد يكون نخله -مثلاً- سكرياً أو برحياً، فيقول للعامل: إن سقيت المزرعة فلك ثمرة البرحي، ولي ثمرة السكري. فهذا لا يجوز؛ لاحتمال ألَّا تخرج إلا ثمرة السكري، فيُظلم رب الأرض؛ لأن هذا ماله، وله الحق أن يأخذ منه، واحتمال ألَّا يخرج إلا البرحي، فيُظلم العامل، فيكدح طيلة عامه بدون ثمرة وبدون نتيجة، فهذا مما فيه غرر وفيه ضرر، وكما ذكرنا في الشركة أنه إذا حدد جزءاً معلوماً فلا.
وقد قيل في حديث رافع بن خديج رضي الله عنه والذي وقعت فيه الخصومة بين الصحابة رضوان الله عليهم والخلاف في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شراء المزارع، وعن إجارة الأراضي، حتى إن زيد بن ثابت رضي الله عنه استغفر لـرافع وقال: (أنا أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه)، وكذلك جاء عن رافع ما يدل فعلاً على أن النهي المراد به أن يقول: اسقِ الأرض وآخذُ الذي هو قريب من الماء، وتأخذ البعيد من الماء. وهذا فسره رافع كما في الصحيحين؛ يقول: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذِيانات، وأقبال الجداول) فمن المعلوم أن القناطر كانت من التراب، وكانوا يزرعون، وبطبيعة الحال كان الثمر الذي يُزرع أو البذر الذي يُزرع بجوار القنطرة أجود وأفضل، وغالباً ما يسلم، فيقول رب الأرض: أنا آخذ الذي يلي الجدول، وأنت أيها العامل تأخذ الذي هو بعد الجدول، قال رضي الله عنه: (كانوا يؤاجرون على الماذِيانات -في القناطر- وأقبال الجداول -يعني: التي تجري فيها المياه- فيسلم هذا -أي: الذي عند الماء-، ويهلك هذا -البعيد عن الماء للعطش أو يخرج ضعيفاً-، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: وأما ما كان بشيء معلوم فلا بأس) يعني: ما كان لا غرر فيه ولا ضرر ويدخل الطرفان فيه فلا بأس، مثلاً: حينما يقول له: ولك نصف الثمرة، دخل الاثنان، الصالح منها وغير الصالح، ودخل الاثنان في غُنْمها وغُرْمهما.
وعلى هذا ذكر المصنف رحمه الله أنه لا يجوز للشريكين أن يغرر أحدهما بالآخر؛ لأن مقتضى عقد الشركة قائم على نصيحة كل منهما للآخر، ولا يمكن أن تصلح الشركة وأحدهما يستفضل نفسه على الآخر، ولا يمكن لشريك أن يعامل شريكه بأمانة ونزاهة ونصيحة وحرص على المصلحة للشركة إذا كان يعلم أن شريكه قد غبنه؛ لأنه يحس أنه مظلوم، ولربما تأثُّره بظلم شريكه يضر بمصالح الشركة، ولذلك لابد أن يدخلا وهما مستويان في الغُنْم والغُرْم.
وهذا على الأصل الذي ذكرناه، فلا يغرر رب المال، ولا يغرر الشريك بشريكه بتعيين ربح شيء معين، ولا نسبة مجهولة على الصفة التي بيناها وقررناها.
كذلك المزارعة، كأن يكون عندك أرض زراعية ولا تحسن زراعتها، فتسلمها لرجل عنده خبرة، وهذا من سماحة الإسلام، وإن تبجح المعاصرون الذين لا يدينون بدين الإسلام أنهم نظموا أمورهم، فكم في الإسلام من تنظيمات وشرائع حكيمة عالية سامية؛ ولكن من الذي يفقهها؟! ومن الذي ينظر إلى هذه الشريعة نظرة تأمل، فيدرك فيها العدل والإنصاف، وإقامة الأمور على أتم الوجوه وأكملها؟!
فانظر إلى العامل العاطل الذي ليس عنده عمل، إذا بالشريعة تؤمِّن له ذلك عن طريق هذه العقود الشرعية، فالعامل الذي تكون عنده خبرة في الزراعة، قد يبقى هكذا بدون عمل؛ لأنه لا يملك أرضاً يزرعها، فإذا بالشريعة تجيز للرجل الذي عنده أرض؛ وربما كانت الأرض لأيتام لا يحسنون زراعتها، ولربما كانت لمعتوه أو نحو ذلك، أو كانت لإنسان كثير الشغل، أو لطالب علم، أو لعالم لا يتفرغ لزراعتها، ولا يحسن زراعتها، فإذا بهذه الأعمال تؤمَّن، وتقول الشريعةُ لرب الأرض: ادفع أرضك لهذا العامل، ليستثمرها، فاستَغَلَّت طاقات الناس، وأمَّنت المجتمع من البطالة، فدعت إلى أن يدخل مع رب المال في هذه الأرض، فيزرعها وله جزء مما يخرج منها.
وهل البذر على رب الأرض أو على العامل؟
هذا على تفصيل سيأتي -إن شاء الله- في باب المزارعة.
فالشاهد: أن الأرض أصبحت شراكة بين الطرفين في ما يخرج منها، وليس في الرقبة ذاتها، إنما يشتركان في ما يخرج منها، فيقول له: خذ الأرض وازرعها، وما كان من نتاجٍ فبيني وبينك -الذي هو المناصفة-
فإذا قال له: خذها وازرعها، ولي الزراعة التي بجوار الماء، أو لي الزراعة أو الثمرة التي تخرج من شرقيِّ الأرض ولك غربيُّها، أو لي قِبْلِيُّها ولك جنوبيُّها، أو نحو ذلك، لم يصح ولم يجُز، على التفصيل الذي ذكرناه في الشركة.
وكذلك المضاربة، مُفاعَلةٌ من الضرب في الأرض للتجارة، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على عقد المضاربة وحقيقته ومشروعيته وأحكامه ومسائله إن شاء الله تعالى.
لكن مراد المصنف بقوله: [ومُضارَبةٌ] أي: مثل الذي مضى من الحكم بالتحريم في حال إعطاء نسبة من الربح مجهولة ينطبق على عقد المضاربة كما ينطبق على عقد الشركة، فلو قال له: خذ مائة ألف واضرب بها في الأرض للتجارة، وما كان من ربح فسأرضيك منه، أو سأعطيك ما يسرك، فهذا مجهول؛ فإنه لا يدري ما الذي يسره، فقد يكون الذي يسر العامل ثلاثة أرباع الربح، والذي يسره عند رب المال ربع الربح، وقد يسره النصف بالكثير، فهذا يُدخل المفاسد والشرور؛ وقد ذكرنا هذا في مقدمة البيوع حينما بيَّنَّا أن بيوع الجهالة تفضي إلى النزاع والخصومة، كذلك أيضاً لو قال له: اضرب بمالي في الأرض، فاشترى عشرين سيارة -مثلاً-، وأراد أن يتاجر بها، فقال له: هذه العشرون، لي منها فقط ربح سيارتين، والباقي لك ربحه، فهذا لا يجوز؛ لأنه يحتمل ألَّا تربح إلا هاتان السيارتان، واحتمال ألَّا تربح السيارتان وتربح بقية السيارات، ولذلك يدخل على غرر، فلابد أن يشتركا في الغُنْم والغُرْم، وعلى هذا فلابد أن يحددا نسبةً مشاعةً معلومة، كما قلنا في الشركة.
ولو قال له: اضرب بمالي في الأرض، والربح بيني وبينك -يعني: مناصفةً- وأعطيك مع الربح إكرامية، أو هدية، أو أرضيك بزيادة، لم يجز.
[والوضيعة] أي: الخسارة.
[على قدر المال] أي: على قدر ما دفعه الطرفان، فمن دفع النصف فعليه الخسارة بالنصف.
وهذه المسألة تتعلق بالنكسة والمصيبة التي تحدث للشركة، فالطرفان دفعا مائة ألف، ودخلا في تجارة قماش أو طعام أو سيارات أو غير ذلك، ولما دخلا في التجارة اشتريا وخسرا في البيع، ووقعت الخسارة (بخمسين ألفاً)، سلمت خمسون وبقيت خمسون، فالسؤال الآن: هذه الخمسون ألفاً التي وقعت فيها الخسارة، وحصلت فيها النكسة للشركة، هل نجعلها على أحد الشريكين، أو نجعلها على الشريكين؟ وإذا جعلناها على الشريكين هل نجعلها بنسبة الربح أو بنسبة رأس المال؟
الجواب: أن الوضيعة تكون على نسبة رأس المال، في قول جماهير العلماء رحمهم الله، فمن دفع نصف مال الشركة يتحمل نصف الخسارة، ومن دفع ثلاثة أرباع مال الشركة يتحمل ثلاثة أرباع الخسارة، فلو أن الشركة بأربعين ألفاً، وهم أربعةُ أشخاص فقط، وكلُّ شخص دفع عشرة آلاف، وخسرت الشركة أربعة آلاف ريال من الأربعين، فإن ما بقي من رأس مال الشركة -وهو ستة وثلاثون- يقسم بينهم -أي: الأربعة-، وبعد ذلك تُجَزَّأُ الخسارة، وكلُّ واحد منهم يغرم ألف ريال؛ لأنه دَفَعَ رُبُعَ رأسِ المال، فيتحمل رُبُعَ الخسارة، فالأربعةُ آلاف ريال رُبُعُها ألف، فكل واحد منهم يتحمل ألف ريال، فتصبح حينئذٍ الخسارة مقسمة على الرءوس بحسب النسبة التي دخل بها الشركاء في شركتهم.
(فلا يشترط خلط المالين):
في شركة العنان إذا دفع أحدهما مالاً والآخر دفع مثله، كأن يكون خمسين بخمسين، فللعماء قولان:
- القول الأول: يجب أن يخلط الشريكان ماليهما حتى يصيرا كالمال الواحد، وأكَّدوا هذه الخلطة بأن يختلط المالان على وجه لا يمكن تمييز مال أحدهما من الآخر.
إذاً: لا بد عندهم من شرطين:
- الخُلطة، وهو أن يجتمع المالان في مكان واحد، ويُخلَطان مع بعضهما.
- ثانياً: ألَّا يكون أحد المالين متميزاً عن الآخر.
فمثلاً: لو اشترك الاثنان فدفع أحدهما ريالات، والآخر دفع دولارات، فإن الدولارات متميزة عن الريالات، فعند هؤلاء لا يصح، بل لا بد أن يدخلا بالريالات فقط أو الدولارات فقط.
ولو دخلا بالدراهم القديمة، مثل: الدرهم الإسلامي والدرهم البغلي، فالدراهم البغلية نوع، والدراهم الإسلامية نوع، فلو خلطت عُرف أن الدراهم البغلية لفلان، والدراهم الإسلامية لفلان، فالواجب أن تكون بدراهم معينة.
فيشترطون الخُلطة على أتَمِّ الوجوه وأكملِها، وهذا هو أشد المذاهب، وهو مذهب الشافعية.
وأكدوا هذا بأن:
- لفظ الشركة وصورة الشركة وحقيقتها في الأصل تقتضي المشاركة، بحيث لا نستطيع أن نميز مال هذا من مال هذا، فإذا كان أحد المالين مميزاً لم تقع الشركة (هذا الوجه الأول).
- قالوا: لو أن المالين دخلا مع بعضهما فإن ذلك أدعى لنصيحة كل من الطرفين للآخر، فإن الذي دفع ماله خمسين ألفاً حينما يراها مع خمسين ألفاً أخرى لا يستطيع أن يميزها ويحس أن ماله مع مال أخيه كالشيء الواحد، وهذا أدعى للحفظ، وأدعى لقوة النصيحة للمال؛ لكن لو أن المال تميَّز وعرفت الدولارات من الريالات، والدراهم من الدنانير، والدراهم بعضُها من بعض، والدنانير المشرقية من الدنانير المغربية -كما في القديم-، فإنه حينئذٍ لا يبعُد أن يضر أحدهما بمصلحة الآخر. (هذا الوجه الثاني).
- القول الثاني: الجمهور: على أنه لا تشترط الخُلطة، وهذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة.
إلا أن المالكية رحمهم الله يشترطون وجود نوع من الخلطة تكون فيه إطلاق اليد، كما لو كان المالان في صندوق واحد أو حانوت واحد، وكلا الشريكين يعملان في المتاجرة به واستثماره.
وهذا المذهب توسط بين المذهبين.
والمذهب الثالث يختلف في هذا.
ولعل مسألة الشركة بالعروض لها تأثير في هذه المسألة.
قال رحمه الله: [ولا يشترط خلط المالين] قلنا: الأصل: الخلط؛ ولا شك أن الشريكين إذا أرادا أن يخرجا من الشبهة فليخلطا ماليهما خلطاً لا يتميز. هذا هو الأفضل والأكمل.
أي: لا يشترط كون المالين من جنس واحد، فيمكن أن يكون أحدهما من الدراهم، والثاني من الدنانير.
وقد فصلنا في هذه المسألة حينما تكلمنا عن الشروط، وبينا أن الصحيح أن يكونا إما ذهباً وإما فضة، وأنه ينبغي إذا كانا من الذهب أن لا يكون مما يدخله الصرف، وبينا الشبهة في كون أحدهما من الدراهم، والثاني من الدنانير؛ لاحتمال اختلاف الصرف، وبينا أن من الأسباب التي تدعو إلى خوف الضرر: أنه -مثلاً- لو كان مال أحدهما من الدولارات -كما في زماننا-، والثاني من الريالات، وكان العرف الموجود -مثلاً- عندنا هنا بالريالات، فلربما دخلا في الشركة والدولار قيمته ثلاثة ريالات، وإذا تفاصلا وفسخا الشركة صارت قيمة الدولار أربعة ريالات، فيدخل الشريك على الربح بنسبة زائدة في قيمة الدولار؛ لأنه سيُرد له رأسُ ماله، ورأس ماله من الدولارات، وهذا يضر بمصلحة أحد الشريكين، إن كان الدولار غالياً أضر بالربح، وإن كان الدولار رخيصاً أضر بالشريك، فإذا كانت قيمة الدولار ريالين فإنه في هذه الحالة سيخسر ريالاً؛ لأنه دخل وقيمة الدولار ثلاثة ريالات، ويخرج من الشركة وقيمة الدولار ريالان، وحينئذٍ يتضرر.
وعلى هذا قلنا أنه لا بد من اتحاد العملة، واتحاد النقدين على وجه يؤمَن فيه الضرر والغرر.
الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
أما بعد:
فإذا كانت الخسارة بسبب تفريط من أحد الشريكين، فإنه يتحمل مسئولية ذلك التفريط، وبينا ذلك بالأمثلة، منها: أن يقول الشريكان: نتفق على أن البيع لا يكون إلا بالنقد، فباع بالأجل، وباع بالنسيئة والتقسيط، ثم شاء الله أن الذي بِيْعَ له مفلس، وهذا فيه ضرر على الشركة؛ لأن الدفع يتأخر وتدخل الشركة أسوة للغرماء في مال المفلس، وهذا فيه مماطلة وفيه تأخير وإجحاف بمال الشريكين، فحينئذ هذا الضرر أدخله أحد الشريكين دون رضا الآخر.
فنقول للشريك الآخر: هل ترضى بما فعل؟
فإن قال: أرضى، فحينئذٍ يثيبه الله على صبره، وهذا من الإحسان.
أما لو قال: لا أرضى، فحينئذٍ يتحمل الشريك عاقبة هذه الخسارة، ويصبح الدين في مال الشريك، ويغرم لشريكه قيمة المال وربحه، واختلف العلماء:
فقال بعضهم: يغرم قيمة المال والربح نقداً، فمثلاً: باع سيارة بعشرة آلاف ريال نسيئةً الذي هو التأخير بالتقسيط، والسيارة لو بيعت نقداً فستباع بخمسة آلاف، ورأس مال الشركة في السيارة أربعة آلاف ريال، فمعنى ذلك أن الربح للشركة سيكون ألف ريال.
فبعض العلماء يقول: يغرم الأربعة آلاف فقط، بمعنى أنه يرد لشريكه ألفين، دون الربح؛ لأن الصفقة ألغيت من أصلها ولأن البيع لم يكن بيع ربح، فقالوا: يرد الأصل فقط.
وبعض العلماء يقول: لا. البيع تمت فيه صفقةُ ربح رضي فيها الشريك، وكان بالإمكان أن تكون بربح معجل، ففرَّط الشريك، فأدخل الربح المؤجل بالضرر، فيضمن الخمسمائة التي هي نصيب شريكه، فيدفع لشريكه ألفين وخمسمائة، التي هي قيمة البيع بخمسة آلاف نقداً، وهذا هو الأصح والأوجه، أنه يضمن لشريكه -في مثل هذه الصورة- الألفين التي هي جزء الشريك من رأس مال الشركة في الصفقة، ويضمن له الربح من نفس العين المباعة نقداً، وأما بالنسبة للشريك فيكون وجهه على المشتري ويتحمل مماطلته وتأخيره.
والله تعالى أعلم.
الجواب: مال المضاربة تجب فيه الزكاة، والمال المعد للتجارة الأصل وجوب الزكاة فيه، حتى يدل الدليل على إسقاطها، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] وهذه الآية احتج بها أئمة السلف رحمهم الله، كـمجاهد ومن تبعه من الأئمة الأربعة، وفقهاء المدينة السبعة كـسعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وغيرهم على أن عروض التجارة تجب فيها الزكاة؛ لأن الله عمم وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267]، والكسب كان بالتجارة.
فالأصل في هذه الآية أن تكون في التجارة؛ لأن الغالب عندما يقال: إن الشخص اكتسب، إنما هو في الشيء الذي يكون فيه الكسب والربح، فهذه الآية من أقوى الحجج على إثبات الزكاة في عروض التجارة.
وعلى ذلك: الفتوى عند أئمة السلف وجماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم على أن عروض التجارة تجب فيها الزكاة، وضُعِّف خلاف مَن خالف في هذه المسألة؛ لأن الأدلة فيها قوية، والأصل أنه مال، فكيف لا نوجب في عروض التجارة الزكاة وقد أوجبنا الزكاة على من حدث ماله بدون تجارة؟! فمن تاجر بماله فإنه من باب أولى وأحرى أن يزكي، وأقل ما نقول: إنه يجب عليه زكاة رأس المال؛ لأن رأس المال في حكم المال المدخر.
وعلى هذا تجب الزكاة في المضاربة تفريعاً على مسألة عروض التجارة؛ لأن مال المضارب مال قد دخل فيه صاحبه من أجل أن ينميه، ويقصد منه الربح والنتاج، كعروض التجارة سواءً بسواء، وعلى هذا تجب عليه الزكاة.
وللعلماء تفصيل في هذا:
- بعض العلماء يرى أنه من الدَّين الذي إذا أراد أن يفسخه فسخه، فيقوّم ما عنده على رأس الحول ويزكيه، ويقومه كتقويم عروض التجارة.
- ومنهم من يرى أن الربح غير مضمون، فيزكي رأس المال، ولا يزكي الربح.
على تفصيل عند العلماء، سيأتي -إن شاء الله- عند بيان مسائل المضاربة.
الجواب: سبحان الله! إذا اتفقوا على قيمة السلعة، فماذا بقي في البيع؟!
يعني: إذا اتفقوا على أن السلعة بخمسمائة فهذا أتم ما يكون به البيع، وإذا لم يكن هذا بيعاً فأي شيء يكون البيع؟!
فلا شك أنه يدخل في البيع، وهذه من الغفلة عن الله؛ لأن المساجد بنيت لذكر الله عزَّ وجلَّ، ولا شك أن النهي عن البيع وحديث الدنيا -أعني: كراهية حديث الدنيا في المساجد- خاصةً إذا غلب مقصود الشرع، وقد قرر الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات أنه ينبغي أن يكون المكلف في أموره وشئونه على وفق قصد الشرع.
فماذا قصد الشرع من المساجد؟
قصد الله عزَّ وجلَّ من بناء المساجد وعمارتها ما بينه في كتابه: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (مَن سمعتموه ينشد ضالته في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك) الله أكبر! مكروب، مفجوع في ماله، حلت به المصيبة، والشريعة شريعة رحمة وتيسير، يقوم يناشد الناس: مَن رأى ضالتي، كما في الحديث: (مَن رأى البعير الأحمر)، (فقولوا: لا ردها الله عليك) يعني: لا يقال له فقط: اسكت، بل يقال له: لا ردها الله عليك، وهذا يدل على عِظَم خطر الحديث في أمور الدنيا في المساجد، وإخراج المساجد عن مقصودها، بل ينبغي أن تعظم وتجل، والله إذا أحب عبداً من عباده قذف في قلبه حب المسجد وإجلاله وتعظيمه؛ لأنه لا يُعَظِّم المسجد إلا من يخاف الله جلَّ جلالُه، ولا يعظم المسجد إلا من يتقي الله سبحانه، كما قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
وإذا أردت أن تنظر إلى الرجل الذي يحب الله عزَّ وجلَّ صدق المحبة، ويعَظِّمه كمال التعظيم فانظر إليه -ليس عند دخول مسجده- ولكن منذ أن يخرج من بيته، وهو خاشع متخشع، متذلل متضرع، ذاكر لربه، مقبل على الله عزَّ وجلَّ، لا تلهيه تجارة، ولا تلهيه شئون الدنيا، قد أقبل على الله ورمى بالدنيا وراء ظهره، فإذا دخل بيت الله عزَّ وجلَّ دخله بصدر منشرح، وقلب مطمئن، مقبل على الله عزَّ وجلَّ بكليته، وكأنه أسعد الناس في المسجد، وهذه نعم ينعم الله بها على من يشاء، والمحروم من حرم، فما جعل الله السنن الرواتب، والتبكير إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة إلا من أجل عمارة هذه المساجد.
ومن تعلق قلبه بها، فأحبها وأكثر من غشيانها، وأصبح قلبُه معلقاً بها صدق التعلق فقد تأذَّن الله أن يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
فالمساجد ما بنيت للقيل والقال، وهذه وصية خاصة لطلاب العلم: إذا أردت أن تعْظُم منزلتك عند الله سبحانه وتعالى فأعطِ كل عبادة حقها وقدرها، سواءً في الزمان أو في المكان، فمثلاً: إذا كان الزمان زمان عبادة، كعشرٍ من ذي الحجة، والعشر الأواخر، وقيام الأسحار، ونحو ذلك من الأوقات المفضلة، فإن استطعت أن تري الله منك الجد والاجتهاد فافعل، فإن الله يُعلي قدرك، ويُعْظِم أجرك، ويفتح عليك من واسع فضله.
وإذا أردت أن تعرف منزلتك عند الله، ومكانتك عند الله، فانظر إلى مقدار حرصك على هذا الخير، فإن كنتَ كلما دخلت المسجد وجدت في قلبك تعظيماً لبيوت الله، ووجدت أنك تطمئن، وأنك تنشرح، وأن هموم الدنيا كلها وراء ظهرك، وأنك في أنس وسعادة وغبطة، وتحس إذا خرجت من باب المسجد أنك في عذاب وشجى.
فإذا بلغت هذه المنزلة فاحمد الله، فإن الله قد أعطاك من فضله شيئاً عظيماً، وإن الله لا يعطي الدين إلا لمن أحب، وأما الدنيا فيعطيها لمن أحب وكره.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر حظ ونصيب.
ومما كان يوصي به بعض المشايخ رحمة الله عليهم أنه إذا دخل الإنسان المسجد فمن الأمور التي تعين على تعظيم هذه المساجد:
- أن يتذكر المحروم من هذه المساجد.
- أن يتذكر المريض الذي حُبس عن بيت الله في مرضه، فهو يتأوَّه ويتألَّم ويتمنى أنه في بيت الله جلَّ جلالُه.
- وأن يتذكر مَن حُرِم من الطاعة كليةً، زاغ قلبه فأزاغ الله فؤاده.
فيحمد الله أن الله شرح صدره للإسلام، وأن حببه للطاعة والقيام، فيدخل هذه المساجد وهو يحس أن الفضل كله لله وحده لا شريك له.
كذلك مما يعين على تعظيمها: أن يحس الإنسان أنه ربما تكون هذه هي آخر صلواته وطاعاته، فيدخل إلى المسجد وهو منكسر القلب لله جلَّ جلالُه لعل الله سبحانه وتعالى أن يجبر كسره، وأن يُعْظِم أجره، فيحسن في عبادته وذكره وشكره، وهذا في معنى قولهم: (صلِّ صلاة مودِّع)، فإن الإنسان إذا أحس كأنها آخر صلاة يصليها، ولربما تكون آخر صلاة يصليها في المسجد، فكم من صحيح سوي قوي خرج من المسجد فأصابه الشلل فلم يعد إليه أبداً، وكم من صحيح سوي صلى عشاءه وأصبح وهو في لحده وقبره، فالمسلم الصالح الموفق يجعل مثل هذه الأمور والعبر والعظات أمام عينيه.
ثم إذا عَظَّمْتَ شعائر الله -وهذا من الأمور التي يبارَك فيها للعبد- لوجدتَ الانشراح في المسجد، في حلق الذكر، في بيوت الله، ولأحسست أن هذه هي الدنيا، وأن هذه هي السعادة، ولا تحس أن غيرك أفضل منك، فمن عَظَّم نعمة الله تأذن الله له بالبركة فيها.
فكم من طالب علم في مجلس علم لا يشعر بنعمة الله عليه، حتى يتأذن الله -والعياذ بالله- بزوال نعمته عنه.
فالشعور بمكانة المساجد، وما فيها من الخير مطلوب.
فهنيئاً ثم هنيئاً لمن عفَّر جبينه بالسجود بين يدي الله.
وهنيئاً لمن رزقه الله عزَّ وجلَّ حب الآخرة والشوق إليها، فأقبل إلى بيوت الله يعمرها بذكره وشكره، وهو يحس أنه أسعد الناس بربه جلَّ جلالُه.
ما الذي يجعل المصلي بمجرد انتهائه من الصلاة مع الجماعة ينطلق كالسهم وكأنه مسجون في مسجده؟!
لأنه ما عرف قيمة هذه النعمة التي هو فيها، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (لَغَدْوَةٌ أو رَوْحَةٌ في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) في الطاعات يستشعر الإنسان أنه لربما هذه اللحظة من رضوان الله عزَّ وجلَّ تكون سبباً في سعادة لا يشقى بعدها أبداً.
والله يا أيها الأحبة! ما قَدَرْنا اللهَ حق قدره، ولو شعر الإنسان بعظيم ما يعده الله لأوليائه وأحبائه وأهل طاعته من رحمته وبركاته ومنِّه وكرمه لأصبح العبد معلقاً بالله جلَّ جلالُه لا يفتر عن ذكر الله طرفة عين، لكنا ما شعرنا بقيمة الطاعة، والمسلم لو تأمل حاله وهو موسد في قبره، وحيد فريد، لا مال ولا بنون، لا ينفعه جاه ولا سلطان، ولا أحد يغني عنه من الله شيئاً، وإذا بهذه الصلاة في ذلك الضيق، وفي تلك الظلمة تتفتح بها أركان القبر فتصبح نوراً له في قبره.
في ظلمة القبر لا أمٌّ هناك ولا أبٌ ولا صديقٌ ثَمَّ يؤنسني
فامنن علي بفضل منك يا أملي ما لي سواك إلهي من يخلصني
من شعر أن هذه العبادة في هذا البيت من بيوت الله تكون نوراً له في الدنيا والآخرة، ونوراً له في قبره، حَسَّنها وأتمها، وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].
فلنقدر نعمة الله، ولنشعر أننا أسعد الناس بالله جلَّ جلالُه، وليشعر كل من دخل المسجد أنه ليس بحاجة إلى أن يضيع وقته في البيع والشراء والأخذ والعطاء، وإنه لمن العار على طالب علم وفقه الله فعلم الحلال والحرام وشرائع الإسلام، وأصبح قدوة أمام الناس والأنام أن يُنظر إليه وهو جالس في المسجد يضحك مع هذا ويلهو مع هذا، ولربما وقع ذلك في المواسم المفضلة، كالعشر الأواخر ونحوها.
وقد كان السلف الصالح إذا دخلوا المساجد دخلوها بقلوب مطمئنة، خاشعة متخشعة، كما روي عن عبد الله بن عمر .
فقد كان ابن عمر من أخشع الناس في طوافه، وكان رضي الله عنه وأرضاه ربما بقي في الشوط الواحد قدر خمسمائة آية، وهذا من طول ما كان؛ لأنه كان لا يجاوز الحجر حتى يقبِّله رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الصحابي الجليل روى عنه أبو نعيم أن عروة بن الزبير دخل عليه وهو يطوف فسأله عن بنته رمانة ، وكانت بنت عبد الله بن عمر ، ويُثني عليها بالخير، فأراد عروة أن ينكحها، والنكاح للنفس جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكح الواهبة نفسها من الرجل، وقال له إنه يخطب رمانة إليه، فلم يلتفت إليه ابن عمر ولم يرد عليه شيئاً، وإنما أعرض وانصرف في ذكره وعبادته، فظن عروة أنه لا يأبه به، وأنه لا يريد إنكاحه وتزويجه، ثم مضى ابن عمر وسافر إلى المدينة؛ لأن ابن عمر كان في المدينة، وكان قد أتى إلى مكة إما في حج أو عمرة، فلما مرض ابن عمر إبان قدومه من المدينة، جاء عروة يعوده، فلما دخل عليه قال له ابن عمر رضي الله عنه: لقد ذكرت لي أنك تريد رمانة أكما أنت؟ أي: هل أنت على رغبتك وطلبك؟
قال: نعم، فقام فزوجه إياها، وقال له يعتذر: إنك قد سألتنيها في مقامٍ يتراءى للعبد ربُّه.
والمراد بذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث عمر : (أن تعبد الله كأنك تراه) وهو مقام الإحسان.
لا يحب أن يراه اللهُ وهو يلتفت إلى القيل والقال، ولا يحب أن يرى اللهُ منه ما لا يرضيه، وطلاب العلم وأهل الفضل خاصة، يتوجب عليهم أن يدخلونها -المساجد- بقلوب مطمئنة شاكرة ذاكرة تثني على الله بما هو أهله، فإذا بالناس ينظرون إليهم قدوةً، وكم من طالب علم سوي تقي نقي ذكي هدى الله به مَن نظر إليه في بكائه وخشوعه، فدله على ربه.
وهذا كله من توفيق الله.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يجعلنا وإياكم هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر