وفي السنة النبوية آداب عظيمة في استقبال هذا الشهر، وكيفية التعامل معه، والاستفادة من أوقاته الثمينة.
وفي هذه المادة بيان لواقع الناس مع هذا الشهر، واختلافهم في الاستعداد له.
فمنهم من يفرح بحلوله ويستعد له بالأعمال الصالحات، ومنهم من يستعد له بأصناف المأكولات، والسهر أمام الفضائيات!
كما احتوت هذه المادة على واجبات الأمة في الاقتداء بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في الاستعداد لرمضان، وقضاء أوقاته في العبادات المختلفة.
أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فهي العدة العتيدة لمن رام خيراً وصلاحاً، ونشد عزاً وفلاحاً، وقصد براً وتوفيقاً ونجاحاً.
أيها المسلمون: أرأيتم بماذا تقاس أفراح أهل الإيمان؟
إنها أفراح علوية، ومسرات روحية، تطلق النفوس من قيد المطامع الشخصية، وتحررها من أسر الأغراض المادية، وتحلق بها في آفاق أسمى وأولى، وتترقى بها في طموحاتٍ أرحب وأعلى، لذلك كانت أفراح أهل الإيمان عن الملذات تتسامى، وعن المشتهيات تترفع وتتعالى، أفراح المؤمنين تتجدد بتجدد مواسم الخير والعطاء، ومناسبات الطهر والصفاء، والمحبة والمودة والإخاء، والبر والسعادة والهناء.
تمر الأيام وما أسرعها! وتمضي الشهور وما أعجلها! ويطل علينا موسمٌ كريم، وشهر عظيم، ويفد علينا وافدٌ حبيب وضيف عزيز، فبعد ساعاتٍ معدودات يهل علينا شهر رمضان المبارك بأجوائه العبقة، وأيامه المباركة الوضاءة، ولياليه الغر المتلألئة، ونظامه الفريد المتميز، وأحكامه وحِكَمه السامية.
هو من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة لما له من الخصائص والمزايا، ولما أعطيت فيه أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم من الهبات وخصت فيه من الكرامات، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وأغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين }.
فيا لها من فرصة عظيمة، ومناسبة كريمة، تصفو فيها النفوس، وتهفو إليها الأرواح، وتكثر فيها دواعي الخير، تفتح الجنات، وتتنزل الرحمات، وترفع الدرجات، وتغفر الزلات، وتحط الأوزار والخطيئات، يجزل الله فيها العطايا والمواهب، ويفتح أبواب الخير لكل راغب، ويعظم أسباب التوفيق لكل طالب، فلله الحمد والشكر على جزيل نعمائه، وترادف مننه وآلائه.
الصيام مدرسة للبذل والجود والبر والصلة، هو حقاً معين الأخلاق ورافد الرحمة، ومنهل عذب لأعمال الخير في الأمة.
فما أجدر الأمة الإسلامية وهي تستقبل شهرها أن تقوم بدورها! وتحاسب نفسها! وتراجع حساباتها! وتعيد النظر في مواقفها.
ما أحوجها إلى استلهام حكم الصيام، والاستفادة من معطياته، والنهل من معين ثمراته ونمير خيراته.
فمنهم: من لا يرى فيه أكثر من حرمانٍ لا داعي له، وتقليدٍ لا مبرر له، بل قد يرفع عقيرته مدعياً أنه قيودٌ ثقيلة وطقوسٌ كليلة تجاوزها عصر الحضارة وتطور الثقافة وركب المدنية الحديثة.
ومنهم من لا يرى فيه إلا جوعاً لا تتحمله البطون، وعطشاً لا تقوى عليه العروق.
ومنهم من يرى فيه موسماً سنوياً للموائد الزاخرة باللذيذ المستطاب من الطعام والشراب، وفرصة سانحة للسمر والسهر واللهو إلى هجيعٍ من الليل، بل إلى بزوغ الفجر، ممتطين صهوة الفضائيات، وما تقذف به شتى القنوات، وما تعج به شبكات المعلومات، يتبع ذلك استغراق في نومٍ عميق نهاراً، فإذا كان من ذوي الأعمال تبرم بعمله، وإذا كان من أصحاب المعاملات ساءت معاملاته وضاق عطنه، وإذا كان موظفاً ثقل عليه الالتزام بأداء مسئولياته، وقلَّ إنتاجه وعطاؤه، وغالب هذا الصنف هم من يملأ الأسواق هذه الأيام تبضعاً وتخزيناً للمواد الغذائية المتنوعة زاعمين أن ذلك يترجم الاستقبال الأمثل لرمضان.
وفي الأمة بحمد الله وهم الأكثرون إن شاء الله من يرى في رمضان غير هذا كله، وأجلَّ منه جميعه، يرون فيه دورة إيمانية تدريبية لتجديد معانٍ عظيمة في النفوس، من الإيمان العميق، والخلق القويم، والصبر الكريم، والعمل النبيل، والإيثار الجليل، والتهذيب البليغ، والإصلاح العام للأفراد والمجتمعات.
والتوبة والإنابة من جميع الذنوب والمعاصي، وأي عبدٍ لم يلم بشيءٍ منها؟ كما يجب الخروج من المظالم، وأداء الحقوق إلى أصحابها، وفتح باب المحاسبة الجادة للنفوس، والمراجعة الدقيقة للمواقف، والعمل على الاستفادة من أيامه ولياليه صلاحاً وإصلاحاً، بهذا الشعور والإحساس يتحقق الأمل المنشود، وتسعد الأفراد والمجتمعات بإذن الله.
أما أن يدخل رمضان ويراه بعض الناس تقليداً موروثاً وأعمالاً صورية محدودة الأثر ضعيفة العطاء، بل لعل بعضهم أن يزداد سوءاً وانحرافاً والعياذ بالله، فذلك انهزام نفسي، وعبثٌ شيطاني، له عواقبه الوخيمة على الفرد والمجتمع، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) ألا فلتهنأ الأمة الإسلامية جميعاً بحلول هذا الشهر العظيم، وليهنأ المسلمون قاطبة بهذا الوافد الكريم.
إنه فرصة للطائعين للاستزادة من العمل الصالح، وفرصة للمذنبين للتوبة والإنابة، كيف لا يفرح المؤمن بفتح أبواب الجنان؟! وكيف لا يفرح المذنب بإغلاق أبواب النيران؟! يا لها من فرصٍ لا يرحم فيها إلا مرحوم، ولا يحرمها إلا محروم! ويا بشرى للمسلمين بحلول شهر الصيام والقيام!
فالله الله عباد الله في الجد والتشمير دون استثقالٍ لصيامه! واستطالة لقيامه، واستبطاءٍ لأيامه! وحذار حذار من الوقوع في نواقضه ونواقصه! أو تعاطي مفطراته الحسية والمعنوية! وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ).
إخوة الإيمان! إن شهر رمضان آتٍ بعد لحظات:
جاء شهر الخيرات بالبركات فأكرم به من زائرٍ هو آت |
فالذين يستقبلونه على أنه شهر جوعٍ ونومٍ، وحرمانٍ نهاري، وشبع وسهر ليلي، وأعمالٍ وأقوالٍ لا تجاوز اللسان، ولا يعمر به جنان، لن يستفيدوا من معطياته، ولن ينهلوا من خيراته.
وأما الذين يستقبلونه على أنه مدرسة لتجديد الإيمان، ومحطة لتهذيب الأخلاق والسلوك، وتقوية الضمائر والأرواح، وانطلاقة جادة لحياة أفضل، ومستقبلٍ أكمل، فهؤلاء هم المستثمرون على الحقيقة، قد أغذوا السير وأعدوا الحياة لتروح نسماته، والنهل من خيراته وبركاته، هؤلاء هم الخليقون بالرحمات، الحقيقون بالخيرات، الجديرون بالعطايا والهبات، المبشرون بروح الجنات، هؤلاء بإذن الله هم المعول عليهم بعد الله في صلاح الأوضاع، واستنزال النصر والعزة، وكسب الجولات، في إسعاد المجتمعات، ومواجهة التحديات.
وما أحوجنا إلى هذا الجيل الإيماني اليوم ونحن نواجه المؤامرات من قوى الشر والطغيان، وإن الغيور ليتساءل بحرقة وأسى: بأي حالٍ يستقبل إخواننا المسلمون في الأرض المباركة فلسطين شهر رمضان المبارك، وهم يواجهون العدوان اليهودي الغاشم ضد مقدسات الأمة ومقدراتها هناك؟! بأي حال يستقبل إخواننا في العقيدة على ثرى كشمير والشيشان وفي بقاعٍ كثيرة من العالم هذا الشهر الكريم؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
اللهم بلغنا بمنك وكرمك شهر رمضان، اللهم أهلَّ علينا شهر رمضان بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحبه وترضاه يا ذا الجلال والإكرام، واغفر اللهم لنا ما سلف وكان، من الذنوب والخطايا والعصيان، اللهم اجعله شهر عزٍ ونصرٍ للإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم وأعنا فيه على الصيام والقيام، واجعلنا ممن يصومه ويقومه إيماناً واحتساباً، إنك خير مسئول وأكرم مرتجى مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واشكروه على ما منّ به عليكم من قرب حلول شهر الصيام والقيام، واعلموا -يا رعاكم الله- أن إدراك شهر رمضان نعمة عظمى ومنة كبرى، فكم من أناسٍ حال بينهم وبينه هاذم اللذات ومفرق الجماعات، ولقد كان رسولكم صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان، يستحث بذلك عزائم المؤمنين، ويشرح صدور المسلمين للإقبال على طاعة رب العالمين، ويشوقهم ويرغبهم فيما عند الله من الفضل العظيم والخير العميم، فقد روى ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبيهقي من حديث سلمان رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يومٍ من شعبان فقال: أيها الناس! قد أظلكم شهرٌ كريم مبارك، شهرٌ فيه ليلة خيرٌ من ألف شهر.. ) الحديث.
وفي الحديث الآخر: (أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل ) رواه الطبراني وغيره، ورواته ثقات من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة ).
فيا أيها المسلمون: أروا الله من أنفسكم خيراً، افتحوا صفحة جديدة من حياتكم، مسطرة بأحرف الخير والبر والتقوى والعمل الصالح.
أتى رمضان مزرعة العباد لتطهير القلوب من الفساد |
فيا أيها المؤمنون: استعدوا لشهر رمضان واستقبلوه بالخير والعمل الصالح.
إذا رمضان أتى مقبلاً فأقبل فبالخير يستقبل |
وأعدوا أنفسكم للتخلق بأخلاقه، والاستفادة من حكمه وأسراره، فيا من يريد تجارة لن تبور، ورزقاً لا ينفد، وربحاً لا يحد ولا يعد! في هذا الشهر تدرك، وبالصيام فيه تلحق بركب الفائزين، هاهي سوق الخير نصبت فأين المتاجرون؟ وساحة العفو اتسعت فأين المتنافسون؟
هيا أيها المؤمنون: قد فتحت أبواب الجنة، فأين الراغبون؟
ويا أيها المذنبون: قد أغلقت أبواب النار، فأين التائبون توبة صادقة نصوحاً شاملة لكل جوانب الحياة؟
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم منهم بمنه وكرمه.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير الورى وأفضل من وطئ الثرى كما أمركم بذلك المولى جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله أبي القاسم، ما تعاقب الجديدان وتتابعت المواسم، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا يا رب العالمين، اللهم انصر به دينك وأعل به كلمتك، وأعز به أولياءك، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين، اللهم ارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لاتباع كتابك وتحكيم سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين يا ذا الجلال والإكرام.
يا قوي يا عزيز! نسألك أن ترينا في اليهود عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك فإنهم لا يعجزونك، اللهم انصر إخواننا في فلسطين عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم فرق جمع اليهود ومن شايعهم، وشتت شملهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم هيئ لهذه الأمة من أمرها رشداً.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كشمير والشيشان وفي كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم أقر أعيننا بإعادة المسجد الأقصى إلى بلاد المسلمين، اللهم أخرج اليهود منه أذلة صاغرين، اللهم اجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر