أما بعــد:
فيا أيها المسلمون! اتقوا الله تبارك وتعالى، وحققوا إيمانكم لربكم بصدق الاعتماد والتوكل عليه، وتفويض الأمور كلها إليه، يحقق لكم ما وعدكم من خيري الدنيا والآخرة.
إخوة الإسلام: يعيش المؤمن في هذه الحياة رغم ابتلاءاتها ومغرياتها؛ قرير العين هادئ البال، مطمئن النفس سليم القلب، مرتاح الضمير عالي الهمة، نقي السيرة صافي السريرة، لا يعرف الوهن إلى نفسه سبيلاً، ولا يجد الهلع عليه مدخلاً وطريقاً، يواجه أعباء الحياة بقوة إيمان، وثبات جنان ومضاء عزيمة، ورباطة جأش، ومعنوية عالية، لا يخاف من المجهول ولا يهتم مما يخبئه المستقبل؛ لأنه متوكل على ربه ومولاه، مؤمن بقضاء الله وقدره، يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، شعاره قول الحق تبارك وتعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].
حياته حياة الواثق بنصر الله، المطمئن لوعد الله، المستقيم على منهج الله، الراضي بقضاء الله، لا يستسلم للشبهات والأوهام، ولا يرضخ لمقولات أهل الزيغ والإجرام، يعتقد يقيناً أن المتصرف في الكون إله واحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، هو سبحانه الذي بيده أزمّة الأمور يخفض ويرفع، ويصل ويقطع، ويفرق ويجمع، يغني ويقني، يضحك ويبكي، يميت ويحيي، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، لا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، لا إله غيره ولا رب سواه، بهذه العقيدة يجب أن يواجه المسلم جميع المخالفات والمنكرات، ويثبت أمام سيل التجاوزات والضلالات.
روى الترمذي وغيره في وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمته ممثلة في ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قوله عليه الصلاة والسلام: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) فيا لها من وصايا عظيمة، وقواعد كلية من أهم أمور الدين وأجلها!
قال الإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله: تدبرت هذا الحديث فأجهشني وكدت أطيش، إلى أن قال: فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث وقلة الفهم لمعناه. ونحن نقول في زماننا هذا: فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث وقلت الفهم لمعناه والله المستعان!
إخوة الإيمان: التوكل على الله مقام عظيم جليل القدر، كبير الأثر، أمر الله به عباده وحثهم عليه، وندبهم إليه في مواضع كثيرة من كتابه، فقال سبحانه: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122] وأمر به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58] وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [الشعراء:217] وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [النساء:81] وقال عن رسله عليهم الصلاة والسلام: وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا [إبراهيم:12] وجعله سبحانه من مقتضيات الإيمان، فقال تعالى وتقدس: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23].
كما جعله سبحانه سبباً لنيل محبته ورضاه، فقال جلَّ وعلا: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159] فيا له من مقام عظيم! يحضى صاحبه بمحبة الرحمن، ويتحقق به كمال الإيمان.
معاشر الأحبة في الله: قد جعل الله التوكل عليه شعاراً لأهل الإيمان، يتميزون به عمن سواهم، فقال في صفاتهم: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] وضمن سبحانه وتعالى لمن توكل عليه كفايته ما أهمه، والقيام بأمره وإصلاح شأنه، فقال سبحانه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] أي: كافيه ما أهمه من أمور الدنيا والآخرة، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية على أبي ذر رضي الله عنه وقال له: {لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم } رواه الإمام أحمد وغيره.
وقال ابن القيم رحمه الله: التوكل نصف الإيمان والنصف الثاني الإنابة، وقد وعد الله المتوكلين عليه الأجر العظيم والثواب الجزيل، ففي الصحيحين في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب { وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتكلون } وفي الترمذي بسند صحيح عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لو أنكم توكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً }.
والواجب على العبد أن يبذل الأسباب دون الاتكال عليها في تحقيق مراده، بل يتوكل على الله وحده مالك الأمر كله، وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو إمام المتوكلين، يحث على بذل السبب والسعي في الرزق، وهكذا كان أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.
أمة الإسلام: إن التوكل على الله وحده، وتفويض الأمور إليه دون غيره، واعتقاد أنه وحده مالك النفع والضر دون سواه، والبعد عن التطير والتشاؤم؛ أمور يجب على المسلم أن يعتقدها ديناً لله الواحد القهار؛ لا يشركه فيها أحد من الخلق قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعراف:188] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107] قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65].
إخوة العقيدة: لقد أعز الله هذه الأمة بهذا الدين؛ عقيدة وشريعة، وجعلها متميزة بثوابتها ومبادئها، وألغى جميع مسالك الجاهلية، وما تتعلق به من أوهام وضلالات، وإنه لما فرط بعض المسلمين هداهم الله في عقيدتهم، وضعف عندهم جانب التوكل؛ أصبحت تلمس كثيراً من المظاهر المخالفة للعقيدة الصحيحة، حتى نسي بعضهم خالقه وبارئه، وتعلقوا بأضراب من الأوهام الباطلة، فهذا يتعلق بالمطالع ويرتب عليها نصيبه وحظه، ويسمي هذا طالع سعد وهذا طالع نحس، وذاك مترقب للأبراج يعلق عليها نجاحه وفوزه، وآخر بالشهور والأيام، ورابع بالأعداد والألوان وهلم جرا.
حتى إنه قد لا يسافر ولا يتزوج وقد يعطل بعض أعماله تطيراً وتشاؤماً، فسبحان الله!
عباد الله! جلَّ الله وتعالى الله عما يشرك به المشركون علواً كبيراً.
أبعد هذا -أيها الإخوة في الله- يبقى مستمسك لأولئك الجهلة ومتعلق للمتخبطين في فهم العقيدة! أي دين بل أي عقل عند من يحادَّ الله في علمه وقدرته وتصرفه، بل أي إيمان وفهم ومسكة عقل عند من يذهب إلى الأفاكين ويصدق المضللين؟! أين الدين والعقيدة؟! أين العقول والأفكار؟!
لقد كان أهل الجاهلية يكفون عن القتال في الأشهر الحرم، فإذا حل شهر صفر كثر القتال وانتهكت الحرمات، فيتشاءمون من هذا الشهر، ويعدونه شهر المآتم والأحزان، وهذا وإن كان ليس غريباً على عُبَّاد الأوثان، فإن الغرابة كل الغرابة أن يوجد هذا الأمر عند أدعياء الإيمان بعد أن أبطله الإسلام.
عجيبٌ -يا أمة العقيدة! وغريب يا أهل الشريعة! ويا أرباب الحجى والعقول والأفهام- أن تعبث الخيالات والأوهام ببعض أبناء الإسلام، فماذا تغني الشهور والأيام من يوم الثلاثاء وشهر صفر وعدد ثلاثة عشر، وما ذنب الحيوانات والطيور من الغراب والبوم وماذا تملك الزهرة وزحل؟!
ولكنها أوهام الجاهلين وألاعيب الشياطين، فأفيقوا -أيها المسلمون- من الغفلة عن هذه القضايا المهمة وقووا يقينكم بالله عز وجل، وحققوا التوكل عليه سبحانه، واحذوا التطير والتشاؤم؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: {لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر }.
أمة الإسلام: إنه حينما يذكر بهذا لأمور -يا رعاكم الله- فإن ذلك يأتي من منطلق الحرص على صفاء العقيدة، والنصح لله ولعبادة، وما لهذه الأشياء من انتشار ورواج في بعض المجتمعات، ويخشى أن ينخدع بها بعض ضعاف الإيمان، ومع أننا في عصر تفتق العقل البشري، ونمو الفهم المادي، والتفجر المعلوماتي، إلا أنه لا تزال مثل هذه الأوهام موجودة في بعض الأوساط والمجتمعات، مما يعقد المسئولية على حملة الشريعة وعلماء الأمة في انتشال الغارقين في لجج هذه الأوهام الباطلة إلى ساحة الإيمان، وبر الأمان وشاطئ الخير والعقيدة والسلام.
قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، وثبتنا وإياكم على الصراط المستقيم، وأجارنا بمنه وكرمه ورحمته من العذاب الأليم، هذا وبعد قولي سلفاً أستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان حليماً غفوراً.
أما بعــد:
عباد الله: اتقوا الله واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله: إن أشد ما ابتليت به هذه الأمة -لا سيما في أعقاب الزمن- دخول النقص عليها في أعز ما لديها؛ في عقيدتها وثوابتها، ومن ذلك ما يعتقده بعض العامة في شهر صفر وغيره من التشاؤم والتطير مما هو مخالف للإسلام، وقد أخرج الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: الكلمة الطيبة ) ولـأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر مرفوعاً، قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أحسنها الفأل ولا تردُّ مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنة إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك ) وعن ابن مسعود مرفوعاً : (الطيرة شرك، وما منَّا إلا قد وقع في قلبه شيء من ذلك، ولكن الله يذهبه بالتوكل ) رواه أبو داود والترمذي وصححه، وروى الإمام أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك، قالوا: وما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: أن يقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك ).
عباد الله فاتقوا الله واعرفوا منة الله عليكم بهذا الدين، وحققوه قولاً وعملاً واعتقاداً.
ثم صلوا وسلموا -رحمكم الله- على من حمى جناب التوحيد، وسد ذرائع الشرك وطرقه، النبي المصطفى والرسول المجتبى، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال جل من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً ).
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأدم الأمن والاستقرار في ربوعنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم انصر به دينك وأعل به كلمتك، وارفع به كلمة الحق والعدل يا حي يا قيوم! اللهم ارزقه البطانة الصالحة، التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم اجعلهم ناصرين لأوليائك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة لرعاياهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك والمضطهدين في دينهم في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وألف بين قلوبهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن يا ذا الجلال والإكرام! رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا ارحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر