وعلى هذا فإن المنكر الواضح أن يستخدم هذا العقل في معارضة الدين والشرع.
وقد تجرأ بعض أبناء الإسلام على معارضة النقل، وتقديم العقل عليه، وهذا أمرٌ قد أنكره السلف بل وتنكره الشريعة عموماً.
وفي هذه المادة بيان لبطلان هذه النزعة المنحرفة، وبيان لطوائف المخالفين للوحي.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس! جميلٌ جداً أن يتحدث المرء المسلم بنعم الله عليه، وبآلائه التي أسبغها على عباده ظاهرة وباطنة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11].
ومما لا شك فيه أن نعم الله علينا تترى، بل كل النعم هي منه وحده لا يشركه معه غيره: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53].
عباد الله: قد لا تختلف أفهامنا جميعاً على أن من أعظم النعم التي أكرمنا الله بها نعمة العقل؛ العقل الذي وهبنا الله إياه لنمتاز به عن الحيوان الأعجم والصخر الصلب، فبالعقل يشرف الإنسان، وبالعقل يكلف المرء، وبه يعرف خالقه جل شأنه، ذلكم العقل الذي يميز به بين الخير والشر والهدى والضلالة، إذا استعمله الإنسان كان سبباً في سلوك طريق الهدى، والبعد عن موارد الردى، العقل الذي يعد من أكبر الطاقات البشرية طرى، إنه لنعمة عظمى وسمة جلى امتن الله بها علينا: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ [الملك:23] إنه لا يعلم قدر العقل إلا من وهبه، وإلا كان هو والعير في الفلاة سواء.
ومن تأمل حكمة الله جل وعلا في أن يكون الطفل الوليد بلا عقل اكتسابي لأدرك أثر هذه النعمة عليه، حينما يوهب شيئاً بعدما منع منه، ليكون الإحساس به أشد وقعاً، وأجدى نفعاً: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78].
يقول ابن القيم رحمه الله: لو ولدت أيها الإنسان عاقلاً كحالك في كبرك لتنغصت عليك حياتك أعظم تنغيص؛ لأنك ترى نفسك محمولاً رضيعاً، عاجزاً مسجوناً في المهد، أو كنت ممن ابتلي بفقد والديه، فكنت كالواله الحيران، ولكنها محض الحكمة والرحمة بك والتدبير.
وجماع ما مضى ذكره عباد الله هو ما ذكره أبو القاسم الأصفهاني رحمه الله بقوله: العقل نوعان: عقلٌ أُعين بالتوفيق، وعقلٌ كيد بالخذلان.
فالذي أعين بالتوفيق يدعو صاحبه إلى موافقة الأمر المفترض بالطاعة، والإنقياد لحكمه والتسليم به، والعقل الذي كيد يطلب بتعمقه الوصول إلى علم ما استأثر الله بعلمه، وحجب أسرار الخلق عن فهمه حكمةً منه بالغة.
فعرضوا الحاكمية في الشريعة على العقل، وعرضوا الحدود والجنايات على العقل، وعرضوا الولاء والبراء في الإسلام على العقل، وعرضوا بعض المسلمات في قضايا المرأة المسلمة وشئونها على العقل، حتى صار ذلك لوثة نعوذ بالله من تبعات قسماتها، وشمالةً نعوذ بالله من غوائلها، بل هي معرة برمتها، لاتتها أفواه المعارضين بعقلانيتهم، حتى لفظتها أسماع أهل الشريعة، ومثل هذا عباد الله ليس ببعيد على من أطلق العنان لعقله يصول به ويجول في شرع الله بلا خطام ولا زمام.
ولا غرو في ذلك، فقد قال ابن القيم رحمه الله: وكل من له مسكت من عقلٍ يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتاب الله ووحيه الذي هدي به رسله، والمعارضة بينه وبين كلام غيره، فأي فسادٍ أعظم من فساد هذا العقل.
فيا للعجب! أيها الناس! كيف يكون الحق قريباً وليس إليه وصول، وكيف يكون أمثال هؤلاء:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول |
وإذا كان يسعى إلى الماء من يغص بلقمةٍ واحدة فإلى أي شيء سيسعى من يغص بالماء ذاته، إن سنن الله جل وعلا وشريعته لا تخاصم، ولا ينبغي لها أن تتبع بالعقل، ولو فعل الناس ذلك لم يمض يوم واحد إلا انتقلوا من دينٍ إلى دين، ولعمر الله إن بعض السنن لتأتي أحياناً على خلاف الرأي ومجانبته خلافاً بعيداً فما يجد المسلمون بداً من اتباعها والانقياد لها، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: [[ لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهر خفه ]].
بل لقد ذهب الشافعي رحمه الله إلى أبعد من هذا حيث جعل ترك السنة، والاعتراض عليها، وعدم الأخذ بها، نوع جنونٍ أو هو جنون وإن لم يكن حسياً، فقد قال رحمه الله: متى عرفت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ولم آخذ به، فأنا أشهدكم أن عقلي قد ذهب.
ومن هنا وصف ابن تيمية رحمه الله العقل بالصنم، إذا غلا فيه المرء وطغى، فقال رحمه الله: والداعون إلى تمجيد العقل، إنما هم في الحقيقة يدعون إلى تمجيد صنمٍ سموه عقلاً، وما كان العقل وحده كافياً في الهداية والإرشاد، وإلا لما أرسل الله الرسل.
ولله ما أجمل كلاماً لـابن القيم رحمه الله يشفي العليل، ويروي الغليل في تقرير هذه المسألة! فيقول: كيف ينقدح في ذهن المؤمن أن في نصوص الوحي المنزلة من عند الله عز وجل ما يخالف العقول السليمة؟! بل كيف ينفك العقل الصريح عن ملازمة النص الصحيح؟! بل هما أخوان لا يفترقان، وصل الله بينهما في كتابه، وإذا تعارض النقل وهذه العقول أخذنا بالنقل الصحيح ورمينا بهذه العقول تحت الأقدام، وحطت حيث حطها الله وأصحابها، فكيف يظن أن شريعة الله الكاملة ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها، أو إلى قياسٍ، أو معقولٍ خارجٍ عنها، ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
وحاصل الأمر عباد الله! أن العقل في هذه العصور المتأخرة قد كبا كبوة خطيرة، وأقحم في أمور ينبغي أن يكون العقل فيها تابعاً لا متبوعاً، والسلف الصالح رحمهم الله قد استعملوا الأقيسة والدلائل العقلية، ولم ينكروها بالإطلاق، وإنما أنكروا ما كان منها فاسداً مما يخالف الشرع، ويعلم فساده، مما يتذرع به من يبطل بعض النصوص الشرعية، أو يحرفها بحجة أنها تخالف القواطع العقلية، وهي في الحقيقة خيالات وأوهامٌ وشهوات، لا يميز فيها بين الشخص والصورة، ولا بين الطيف والحقيقة، حتى ركبت بهم متن عمياء، وخبطت بهم خبط عشواء.
ثم نقول لأمثال هؤلاء: إن أردتم إقحام العقول في فرز الشريعة فعقل من مِن البشر نحكم؟ أهو عقل زيد، أم عقل عمرو؟ أعقل رجلٍ، أم عقل امرأة؟ أعقل متزن، أم عقل صاحب هوى؟
وأما ما يسطره بعض الكتبة، وما يدندنون حوله، من ذكر أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وردت في تعظيم العقل وإكباره، فإنه خلاف الحق، فقد قال ابن القيم رحمه الله: أحاديث العقل كلها كذب. ونقل عن بعض السلف قوله: لا يصح في العقل حديث. فصار فعل أمثال هؤلاء فيما يطرحونه من تحكيم العقل والاستقلال به من القيود كما يقول ابن تيمية رحمه الله: هو أخبث من لحم خنزيرٍ في صينية من ذهب.
فالواجب على كل مسلم -عباد الله- أن يتقي ربه جل وعلا، وأن يعلم أن شريعة الله ليست عرضة للعقول لتخاصم بها، فقد حد الله للعقول حدوداً لا ينبغي تجاوزها ولا الافتيات على الله بها، والله يقول: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140] ويقول: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138] وقال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [الحج:8]
قال بعض أهل العلم: وهذا دليلٌ ظاهر في أن الذي نراه معارضاً للوحي ويقدم العقل عليه، ليس من الذين أوتوا العلم في شيء، كيف لا والله سبحانه وتعالى يقول: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، فانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً إنك أنت العليم الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله بريئان منه، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
أما بعــد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واقدروا الله حق قدره، وإياكم ومحدثات الأمور، والمخاصمة لنصوص الشارع بعقولكم وآرائكم، ولا تجعلوا شيئاً من ذلك مقدماً عليها فما وافق العقول قبلتموه، وما لا فلا؛ لأن هذه بلية عظمى، وهوة كبرى، اتسع نطاقها في بقاع شتى من ديار الإسلام، وأصحابها يصفون أنفسهم بالعقلنة، أو الاستنارة، أو التحرر.
ثم لتعلموا أيها المسلمون! أن الذين يخالفون بعض النصوص بسبب أن عقولهم لا تحتملها أو لا تقتنع بها، أو بأي حجة، رجحوا فيها كفة العقل على كفة الشرع، فإنهم لا يخرجون عن خمس طوائف كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله:
فالطائفة الأولى: عارضت الوحي بالعقل وقدمت عليه العقل، فقالوا لأصحاب الوحي: لنا العقل ولكم النقل.
والطائفة الثانية: عارضته بآرائهم وقياساتهم، فقالوا لأهل الحديث: لكم الحديث ولنا الرأي والقياس.
والطائفة الثالثة: عارضته بأذواقهم وحقائقهم، وقالوا: لكم الشريعة ولنا الذوق والحقيقة.
والطائفة الرابعة: عارضت الوحي بسياساتهم وتدبيرهم، فقالوا: أنتم أصحاب الشريعة ونحن أصحاب السياسة.
والطائفة الخامسة: عارضته بالتأويل الفاسد، وادعوا أنهم يفهمون أكثر مما يفهمه أهل الحديث والفقه.
ثم إنه إذا رد على كلٍ من هؤلاء باطله، رجع إلى طاغوته وقال: في العقل ما لا يقتضيه النقل، وقال الآخر: في الرأي والقياس ما لا يجيزه الحديث، وقال الثالث: في الذوق والحقيقة ما لا تسوغه الشريعة، وقال الآخر: في السياسة ما تمنع منه الشريعة. وهكذا دواليك حتى لا يبقى من الشريعة إلا اسمها، فباطل هؤلاء كلهم لا ضابط له، بخلاف الوحي فإنه أمرٌ مضبوط مطابقٌ لما عليه الأمر في نفسه، تلقاه الصادق المصدوق من لدن حكيمٍ عليم.
وقد قال ابن تيمية رحمه الله: ما علم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع البتة، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط، ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول بل بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته، ويدل لذلك عباد الله، أن الله تعالى ذم المنافقين الذين كانوا يرجعون في نفاقهم إلى عقولهم فقال سبحانه وتعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] أي من بعد ما قالوا: وقفنا على كلام الله تعالى بعقولنا وهم يعلمون بطلان ما أدركوه بعقولهم، ويؤكد هذا الأمر أن الله تعالى قال عن جهابذة كفار قريش وصناديدهم: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا [الطور:32] أي عقولهم، فدل على أن العقل لا يهدي إلى الدين استقلالاً.
فالله الله! أمة الإسلام في دينكم، وحذار حذار! أن يؤتى هذا الدين من قبل تسليط الأفهام والعقول القاصرة عليه! وليكن موقفنا من شريعة ربنا كلها سواء أدركنا ذلك بعقولنا أو لم ندرك أن نقول: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:7-8].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم! اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر