وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
وها نحن مع سورة محمد صلى الله عليه وسلم المدنية، ومع هذه الآيات، فلنصغ مستمعين تلاوتها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:24-28].
ها هو ذا تعالى يعتب ويلوم وينكر على هؤلاء المنافقين في المدينة من اليهود والعرب، ما لهم لا يتدبرون كتاب الله؟ والله! لو تدبروا تدبراً حقيقياً لآمنوا وعملوا الصالحات، ولتركوا الشرك والكفر والنفاق، ولكنهم معرضون عنه.
فلهذا ينبغي لأهل البيت أن يجتمعون على آية أو آيتين في بيتهم يتدبرون ويتفهمون، أهل القرى في مساجدهم، أهل الأحياء في مساجدهم يتدارسون كتاب الله متدبرين ما فيه، فيفهمون الحق ويعرفون الطريق المستقيم، وينجون من ظلمة الجهل المؤدية إلى الفسق والعياذ بالله تعالى.
والقلب إذا كان عليه قفل فمن يفتحه إلا الله، لكن اقرع باب الله واطرح بين يديه وتضرع واسأله أن يفتح هذا القفل فسيفتحه، أما مع الإعراض والإدبار والإعراض عن ذكر الله فمن يفتحه؟ سيبقى مغلقاً.
يقول تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] ما قال: على قلوبهم؛ ليشمل هذا قلب كل إنسان من رجل أو امرأة، إذا لم يتدبر القرآن فقلبه مغلق عليه ومحكم، ما يفهم ولا يعي ولا يتدبر.
ومن ثم حول المجوس واليهود والنصارى المعبر عنهم بالثالوث الأسود؛ حولوا قراءة القرآن من الأحياء إلى الموتى من أندونيسيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً، ما يجتمعون على دراسة آية هكذا، وإنما يقرءون على الموتى سبع ليال، ثلاث ليال، أربعين ليلة إذا كان غنياً، أما أن يجتمعوا عليه تحت ظل شجرة، تحت ظل جدار من دار، في بستان، في المسجد، في البيوت؛ فلا، حتى يبقوا عمياناً لا يعون ولا يبصرون ولا يرون شيئاً، هذا كيد أعدائنا وما زلنا معهم.
فربنا تعالى يقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] بل على قلوب أقفالها، هذا هو السبب، والأقفال: جمع قفل، وهو ما يغلق به الباب، فهيا لنزيل هذا القفل ونبعده، باطراحنا بين يدي الله وسؤالنا الله عز وجل، والدعاء والضراعة والرجوع إلى كتاب الله تعالى.
إن الذين آمنوا ثم انتكسوا وارتدوا وأظهروا للمؤمنين بأنهم مؤمنون وهم منافقون في قلوبهم ظلمة الكفر، وما آمنوا برسول الله ولا بلقاء الله، هؤلاء اسمع خبر الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ [محمد:25] بعدما قالوا: آمنا انتكسوا ورجعوا يجارون الكفار ويساعدونهم، وينتظرون متى يموت محمد صلى الله عليه وسلم وتنتهي الدعوة.
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى [محمد:25] ما سبب ذلك؟ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ [محمد:25] ذلك، والله العظيم! لا ينتكس منتكس ويخرج من طاعة الله إلا والشيطان هو الذي زين له ذلك إلى يوم القيامة، سواء ارتد بعد الإيمان أو فسق بعد الطاعة وعدم العصيان، الشيطان هو الذي يزين له الباطل ويحسنه له؛ لأن هذه مهمة الشيطان، أليس هو عدواً للإنسان؟ يريد أن يكون الناس كلهم مثله في جهنم.
الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ [محمد:25] ومناهم الأماني: سوف يموت محمد، سوف تنتهي هذه الدعوة، الآن ينتصر أهل مكة على محمد، وهكذا حتى يبقوا على كفرهم الخفي الباطن، فماذا قال تعالى بعد ذلك في بيان سبب ذلك؟
هكذا يقولون لهم، حاربوا وتعالوا فستجدوننا معكم وسنطيعكم في بعض الأمر، لا في كل الأمر؛ لأنه ليس ممكناً، لكن في بعض الأمر، ومن ثم ينقلون الأخبار إليهم ويتجسسون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتصلون بهم ويشجعونهم على حرب رسول الله وقتاله والمؤمنين، من هؤلاء؟
إنهم المنافقون، يصلون الصلوات في المسجد، ويدعون أنهم مؤمنون، وفي نفس الوقت لا إيمان في قلوبهم، وكلهم كفر كما كانوا قبل نزول القرآن وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهم يوجدون في كل زمان ومكان، لو وجد مسلمون أقوياء تجد المنافقين ينقلون أخبارهم إلى المشركين وخصومهم وأعدائهم، هذه سنة الله تعالى.
قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا [محمد:26] أي: بسبب أنهم قالوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:26]، وهنا قراءتان سبعيتان: (إسرارهم) و(أسرارهم)، الإسرار: مصدر، والأسرار جمع سر، هم يقولون هكذا في الخفاء أو لا؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:26] وأسرارهم؛ لأنه معهم لا يخفى عليه شيء من أمرهم، وبهذا تتحطم قلوبهم ويزدادون كرباً وهماً.
هذه الآيات تساوي الملايين، لما سمعوها فضحوا، لأنهم يتصلون بالمشركين ويطلبون منهم العون والمساعدة ويساعدونهم على ذلك ويمنونهم به، ففضحهم الله عز وجل وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:26].
هكذا القرآن الكريم ينزل والرسول والمؤمنون أحياء يتلقون هذه المعارف فينمون ويكملون ويسعدون، هكذا قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:26].
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [محمد:27] بالحديد وإن كنا لا نراه، لكن هم يتلقون -والله- آلام من يضرب على وجهه وفي دبره بالحديد، فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [محمد:27] والقرآن حمال الوجوه، وهذه الآية تحمل ثلاثة معان:
المعنى الأول: عند قبض أرواحهم كسائر المجرمين والخبثاء تعذبهم الملائكة -ملك الموت وأعوانه- بالضرب على وجوههم وأدبارهم.
ثانياً: قد يقع هذا يوم تعلن الحرب، ويدخلون المعركة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ويهزمونهم.
ثالثاً: يكون هذا يوم القيامة، وهو والله واقع، فيوم القيامة يضربون وجوههم وأدبارهم ويقولون لهم: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الأنفال:50-51] سبحان الله! فكيف حالهم إذا توفتهم الملائكة؟ وهم ملك الموت وأعوانه، أليس كذلك؟
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا [محمد:28] ماذا؟ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ [محمد:28]، ما غضب الله منه ولم يرده، واتبعوا أهواءهم وشياطينهم، بمعنى أنهم ما آمنوا ولا أطاعوا الله ورسوله، وعاشوا على الفسق والفجور.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا [محمد:28] ماذا؟ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ [محمد:28] من الديانات الباطلة اليهودية والمجوسية والشرك وما إلى ذلك، وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [محمد:28] ما أحبوا أن يرضى الله عنهم، فلهذا ما عبدوه، ما أطاعوه، ما أحبوه، ما أحبوا ما أحب ولا كرهوا ما كره والعياذ بالله، وهذا شأن كل كافر إلى يوم القيامة، وكل فاجر كذلك.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ [محمد:28]، ما اتبعوا ما رضي الله ألا وهو الدين الإسلامي، ما آمنوا بالله ولقائه ورسوله، وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [محمد:28] رضوان الله ما أحبوه، بل كرهوه، لو أحبوه لقاموا بين يدي الله يبكون ويتضرعون، لصاموا ولصلوا، لرابطوا ولجاهدوا، ولكن ما يريدون رضوان الله.
قال تعالى: فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28] تلك الصلاة التي كانوا يصلونها وتلك الأموال التي كانوا ينفقونها رغم أنوفهم والله! لا يثابون عليها، أبطلها الله، مسحها وأبطل أعمالهم، حتى الأعمال الشريرة الخبيثة أبطلها أيضاً وانهزموا وهلكوا والعياذ بالله، ونصر الله رسوله ودينه والمؤمنين، والحمد لله رب العالمين.
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: وجوب تدبر القرآن الكريم عند تلاوته أو سماعه، وهو تفهم معانيه في حدود قدرة المسلم على الفهم ].
هذا الذي بدأنا به الدعوة، ينبغي على المؤمنين، يجب عليهم أن يقرءوا كتاب الله وأن يتدارسوه، وأن يجتمعوا عليه وأن يتفهموا ما فيه؛ إذ هو مفتاح السعادة، إذ هو سلم الرقي، إذ هو النجاة، أما الإعراض عن كتاب الله بدون تفكر ولا تدبر ولا تفهم -كما هو الواقع- فهو والعياذ بالله حال العذاب والشقاء، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [محمد:24]؟
[ ثانياً: الارتداد عن الإسلام كالرجوع عن الطاعة إلى المعصية سببهما: تزيين الشيطان للعبد ذلك وإملاؤه له بالتمني والوعد الكاذب ].
من هداية هذه الآيات: أن الارتداد عن الإيمان إلى الكفر كترك الطاعة والانقلاب إلى المعصية، كل هذا من وسواس الشيطان وتزيينه، الذي يرتد عن إيمانه بعدما كان مؤمناً ويصبح منافقاً كافراً كالذي كان براً فاجراً ويصبح فاسقاً فاجراً، سواء بسواء، بسبب تزيين الشيطان وتحسينه.
[ ثالثاً: من الردة التعاون مع الكافرين على المؤمنين بأي شكل من أشكال التعاون ضد الإسلام والمسلمين ].
هذه حقيقة: من الردة، من الكفر والخروج من الإسلام أن نساعد الكافرين وأن نعينهم على المسلمين، والله! لا شك في ذلك، فمن الردة والكفر أن نعاون الكافرين على المسلمين ليهزموهم أو يضروا بهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:26]، فأي فرد أو جماعة أو أمة أو دولة توالي الكافرين من أجل هزيمة المسلمين ونصرة الكافرين فهم مرتدون وليسوا من الإسلام في شيء بهذه الآية الكريمة.
[ رابعاً: تقرير عقيدة عذاب القبر وأنه حق ثابت، أعاذنا الله منه، آمين ].
من هداية هذه الآيات: تقرير عقيدة عذاب القبر، والله العظيم! إن في القبر لعذاباً للكافرين والفاجرين، كأنما تشاهدونه، وسينزل بكل من يوضع في قبره، إلا أن يكون زكي النفس طاهر الروح طيب القلب من الصالحين والصالحات فلا عذاب، ولكن النعيم الدائم، فاللهم اجعلنا من الصالحين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر