إسلام ويب

تفسير سورة الأحزاب (12)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن عباد الله المؤمنين حين يكثرون من ذكر ربهم فإنهم يحصلون الفضائل الكثيرة والمنافع الجمة، فذكر الله عز وجل يحول بينهم وبين معصيته جل وعلا، ويصرف عنهم كيد الشيطان ووسوسته، ويجعلهم مستحقين لذكر الله لهم في الملأ الأعلى وصلاته عليهم مع ملائكته المقربين، هذا في الدنيا، وفي الآخرة يستحقون القصور العالية، في جنة قطوفها دانية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [الأحزاب:41-44].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأحزاب:41]! هذا نداء الله تعالى لكم أيها المؤمنون والمؤمنات! فاحمدوا الله على أن كنا أهلاً لأن ينادينا الله عز وجل، ووالله لولا الإيمان وصالح الأعمال ما كنا أهلاً لأن ينادينا الرحمن، ولكن هذا فضيلة الإيمان. فقد صدقنا الله ورسوله، وصدقنا بالله وبرسوله، وبما أخبر الله به وبما أخبر به رسوله، فأصبحنا مؤمنين صادقين، فشرفنا الله عز وجل، وها هو ذا ينادينا بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأحزاب:41]!

    سبب نداء الله عز وجل لعباده المؤمنين

    أعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات أن نداءات الرحمن لعباده المؤمنين ليست لغير علم ومعرفة، أو فعل وترك، بل هو ينادينا ليعلمنا ما نحن في حاجة إلى العلم به، وينادينا ليأمرنا بما فيه كمالنا وسعادتنا، وينادينا لينهانا عما فيه ضررنا وفسادنا، وشقاؤنا وخسراننا، وينادينا ليبشرنا حتى نستبشر ونطيع الله، ونزيد في طاعته وطاعة رسوله، وينادينا ليحذرنا ويخوفنا من عواقب الأمور؛ وذلك لأننا أولياؤه، فهو يحب لنا ما فيه سعادتنا وكمالنا.

    عبادة الذكر لا حد لها و لا تتقيد بوقت

    قال تعالى منادياً لنا بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأحزاب:41]! ليأمرنا بأعظم عبادة، ألا وهي ذكر الله، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]. وما من عبادة إلا وجعل الله تعالى لها حداً وعداً، إلا الذكر فقط أطلقه، فهو لا حد له ولا عد، وما من عبادة إلا وجعل الله لها حداً محدوداً، فالصلوات تؤدى في أوقاتها، وكذلك الصيام والحج، إلا هذه العبادة لم يجعل لها حداً أبداً، بل قال: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41] لا حد له.

    فضل الذكر

    فضيلة الذكر اسمعوها من الحبيب صلى الله عليه وسلم، إذ قال فداه أبي وأمي: ( ألا أدلكم على خير أعمالكم ) يا عباد الله! ( وأزكاها ) وأطيبها وأطهرها وأكثرها ( عند مليككم ) وهو الله عز وجل ( وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق )، أي: التصدق بالذهب والفضة ( وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله عز وجل ).

    وجاء أعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله! أي الناس خير؟ أي: دلني على خير الناس؟ فقال: ( من طال عمره وحسن عمله ). فهذا خير الناس والله العظيم. وقال الآخر: إن شرائع الأعمال كثيرة علي، أي: العبادات، فدلني على أمر آخذ به، فقال له: ( لا يزال لسانك رطباً بذكر الله ). فهو قال: أعمال الشريعة كثيرة، وأنا عجزت، فدلني على أمر آخذ به، فقال له: ( لا يزال لسانك رطباً بذكر الله )، أي: ما تترك ذكر الله ليلاً أو نهاراً.

    كيفية ذكر الله

    ذكر الله يكون بذكر الله بأسمائه وصفاته. وذكر الله بينه رسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: قول: لا إله إلا الله .. الله أكبر .. لا حول ولا قوة إلا بالله .. سبحان الله وبحمده .. سبحان الله العظيم .. سبحان الله .. الحمد لله. فهذه الأذكار يجب ألا تفارق ألسنتنا وقلوبنا.

    ذكر الله حصن للعبد من المعاصي والذنوب وطارد للشيطان

    ليس هناك حصن يمنع عبد الله وأمة الله من التورط في المفاسد والشرور كذكر الله عز وجل، فلا حصن أعظم منه أبداً، فالذي يذكر الله في قلبه ولسانه هيهات هيهات أن يلغ في شر، أو يقع في فساد، بل هو معصوم بالله. ولا يقع في المفاسد والشرور إلا الناسي لله، وعدم الذاكر لله، ولهذا أمرنا تعالى رحمة بنا قائلاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41].

    وأنتم تذكرون الله بعد الصلوات الخمس قائلين: سبحان الله والحمد لله والله أكبر تسعاً وتسعين مرة، وتقولون تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك والحمد وهو على كل شيء قدير.

    ومن أوراد الصباح: ( من قال حين يصبح: لا إله إلا الله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة كان له كعتق عشر رقاب، وكتب الله له مائة حسنة، ومحا عنه مائة سيئة، ولم يأت بمثل ما آتى به من الأجر إلا من قال مثله وزاد عليه ). وهذا الورد في الصباح لا يتركه إلا ميت.

    والشيطان العدو يجب أن نطرده بكلمة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا نمشي وراءه ونستذل له، فيتصرف بنا كيف يشاء. فعندنا هذه العصا له، وهي قول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فيرحل من ساعته.

    والورد الثاني من أوراد الصباح والمساء: ( من قال حين يصبح أو يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر ). ولا يوجد مؤمن عرف ووعى ويترك هذا الذكر والله. والذين ما عرفوا وما علموا هم الذين في حيرتهم وضلالهم يتخبطون. والذي منعهم من العلم والمعرفة الشياطين، فهي التي تصرفهم عن حلق الذكر وعن سؤال أهل العلم ومجالستهم، فيجالسون أهل الباطل والشر والفساد، فينسون الله. والعياذ بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وسبحوه بكرة وأصيلاً)

    قال تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:42]. والبكرة: الصباح، والأصيل: المساء، من العصر إلى العشاء. فقال تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:42]. وفي هذا يدخل صلاة الصبح وصلاة العصر والمغرب والعشاء، ويدخل في ذلك كل تسبيح نسبح الله تعالى به، كقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، وسبحان الله والحمد لله والله أكبر، وكل الأذكار والتسابيح. ونسبحه بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:42]. والذين ينامون قبل الفجر، ولا يصحون إلا في الضحى لا يسبحون الله. وهذا أمر الله عز وجل، فمن عصى الله فيه عذبه وأشقاه، فهو الذي أمر بهذا، فقال: وَسَبِّحُوهُ [الأحزاب:42] أيها المؤمنون! بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:42]. طول حياتكم، وعلى امتداد أعماركم، وليل ونهاراً ما دمتم أحياء. والذين يشهدون صلاة الصبح يكونون قد أدوا هذا الواجب، والذين يشهدون صلاة العصر والمغرب كذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ...)

    قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب:43]. فلا تتكبرون وتقولون: كيف؟ فـ هُوَ [الأحزاب:43] جل جلاله وعظم سلطانه يُصَلِّي عَلَيْكُمْ [الأحزاب:43]. وأنتم ما تسبحونه. ومعنى هذا: أنكم ما تستحون. فهو يصلي عليكم وأنتم لا تسبحونه. فسبحوه مقابل الصلاة عليكم. وصلاة الله علينا رحمته بنا ولطفه بنا، وإحسانه إلينا وإنعامه علينا، فكل ذلك هو صلاته علينا، كما قال هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب:43] أيضاً الذين لا علاقة لكم بهم ولا خلقتموهم، ولا تطعموهم ولا تجالسوهم، ولا غير ذلك. ففي ملكوت السماء بلايين الملائكة، أمرهم أن يستغفروا لكم، فهم يقولون: اللهم اغفر لعبادك المؤمنين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات طول الحياة. والذي سخرهم لهذا هو الله جل جلاله. وهو الذي يطلب منا أن نسبحه في الصباح والمساء، ونحن نلوي رءوسنا كالشياطين ولا نصلي ولا نسلم ولا نسبح. والعياذ بالله.

    وقوله: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب:43]، من أجل أن يرحمكم، والملائكة تدعو وتستغفر لكم لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب:43]. من ظلمات الكفر والفسق، والضلال والشر والفساد إلى نور الإيمان والتقوى وصالح الأعمال. فقولوا: الحمد لله .. ربنا لك الحمد.

    وقوله: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43]، عطاء ثالث أعظم من الأول. فهو بالمؤمنين والمؤمنات رحيماً، يرحمهم في دنياهم وفي برزخهم بين حياتيهم وفي الحياة الآخرة بالدار النعيم الجنة، فالحمد لله. وهذا ما يسبح له، ولا يصلي له صباح مساء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (تحيتهم يوم يلقونه سلام ...)

    قال تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44]. فتحية المؤمنين والمؤمنات يوم يلقون ربهم في دار النعيم أنه يزيل النعيم عن وجهه ويسلم عليهم، كما قال: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]. وقال: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24]. ألا وهي الجنة دار الأبرار. فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24].

    وحتى ملك الموت إذا جاء ليقبض روح المؤمن والله يسلم عليه أولاً، قائلاً: السلام عليكم. فملك الموت لما يأتي لقبض روح المؤمن الطاهرة الزكية يبدأه بالسلام. وهذا الله تعالى وملائكته يصلون عليكم ويسلمون كما قال هنا.

    وقوله: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [الأحزاب:44]، التحية ما هي صباح الخير أو بنسوار، بل السلام عليكم. وهذه جهلها الجاهلون، وعندما يلقاك أحدهم في الشارع يسألك عن حالك، ولا يقول: السلام عليكم.

    والسلام عليكم هو سلام الله، فنقوله للمؤمنين والمؤمنات، ويرد من سلم عليه: وعليكم السلام ورحمة الله بركاته. ونسلم على الأحياء، كما نسلم على الأموات، ونقول في السلام على الأموات: ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم السابقون، ونحن إن شاء الله بكم لاحقون، وإنا لله وإنا إليه راجعون ). هكذا نسلم على الموتى في مقابرهم.

    والغافون عن ذكر الله لا يذكرون الله ولا يسلمون، بل هم كالأموات، لا حياة لهم.

    فلهذا معشر المستمعين والمستمعات! لا ننسى أبداً أنا خلقنا لمهمة، ألا وهي ذكر الله وشكره، فمن رفض ذكر الله وشكره بلسانه وجوارحه فقد كفر الله وغطاه، وجحده وأنكره وكذب به، وبعد ذلك مآله ومصيره الخسران الأبدي، أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].

    وقوله: وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [الأحزاب:44]، ألا وهو الجنة. فالأجر مقابل عمل. والذين ما ذكروا الله ولا عبدوه ليس لهم أي عمل يأجرهم عليه. بل هذا للمؤمنين والمؤمنات الذاكرين والذاكرات، والشاكرين والشاكرات، فقد أعد لهم وهيأ وأحضر لهم أَجْرًا كَرِيمًا [الأحزاب:44]. ألا والله هو الجنة. فهذا هو الثواب، وهذا هو الجزاء. فهذا هو المقابل للعمل، فعمل الدنيا مقابله في الآخرة الجنة دار النعيم دار الأبرار والمتقين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768088434