اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً؛ إنك أنت العليم الحكيم.
أيها الإخوة الكرام! قد وعدنا أن نبدأ هذه الدروس بالتعريف بكتاب من كتب السلف الصالح رضوان الله عليهم، ثم بعد ذلك نبدأ في درس من كتاب العبودية.
والكتاب الذي سنبدأ به هو كتاب (الرد على الجهمية والزنادقة) للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، والإمام أحمد غني عن التعريف، فهو إمام من أعظم أئمة أهل السنة والجماعة، وله مواقفه المشهورة تجاه أهل البدع الذين حاولوا تغيير منهج النظر والاستدلال ومنهج الاعتقاد في حياة الأمة.
والمعتزلة لم يكن لهم رصيد في واقع المسلمين، وإنما هم شواذ ناظروا أهل الأديان الأخرى مثل الهندوسية والسمنية وغيرهم من الأديان الأخرى بمنهج منحرف، فولد هذا عندهم بدعاً وضلالات كان من ثمارها الخبيثة ظهور الاعتزال، والذي جعل منهج المعتزلة خطيراً هو تبني المأمون له، وقد كان في تلك الفترة هو أمير المؤمنين، فلما تبنى الاعتزال كان في بداية أمره لا يستطيع أن يصرح به مع أنه حاكم المسلمين، وذلك لمكانة يزيد بن هارون -وهو عالم من العلماء- في تلك الفترة، ويذكر الذهبي رحمه الله في السير: أن رجلاً من جلساء المأمون قال له: لماذا لا تصرح بخلق القرآن؟ فقال: كيف أصرح وفي الناس مثل يزيد بن هارون ؟! قال: ومن يزيد بن هارون هذا؟ قال: هذا عالم من العلماء أخشى أن أصرح بالقول بخلق القرآن فيعارضني فتكون فتنة، فقال له: ما لك ولـيزيد ، يعني: اتركه، لكنه قال له: سأذهب إلى يزيد وأقول له: إن أمير المؤمنين سيصرح بالقول بخلق القرآن، فقال له: اذهب، فجاء هذا الجليس من جلساء المأمون إلى يزيد بن هارون في المسجد أمام الناس وقال له: إن أمير المؤمنين يريد أن يعلن القول بخلق القرآن، فقال له يزيد بن هارون بصوت عال يسمعه أهل المسجد: كذبت؛ أمير المؤمنين لا يقول بخلق القرآن، فإنه إن قال به صارت فتنة، فرجع هذا الرجل إلى المأمون فقال له: حصل كيت وكيت، فقال: ألم أقل لك: إنني لا أستطيع أن أقول بذلك؟! فـيزيد بن هارون بقوله ذلك أعطى للمسلمين الذين كانوا في المسجد وغيرهم ممن يتناقل الخبر مناعة من تلقف القول بخلق القرآن، مع ما هو منتشر عند الناس من أن القول بخلق القرآن كفر والعياذ بالله؛ لأن القرآن هو كلام الله عز وجل، وكلام الله عز وجل صفة من صفاته، فإذا قيل: إن القرآن مخلوق فمعنى هذا أن بعض صفات الله مخلوقة، وهذا خطر عظيم على العقيدة.
ثم بعد ذلك لما مات يزيد بن هارون امتحن المأمون الناس بالقول بخلق القرآن، وكان ذلك في سنة 218هـ، وسجن كثير من أئمة السنة الذين رفضوا أن يقولوا بأن القرآن مخلوق، وكان ممن أوذي الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، لكن كثيراً من أهل السنة في تلك الفترة اتقوا السيف وتأولوا، ومنهم أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر، سجن في الشام، ثم طلبه المأمون، فلما جيء به وضع على النطع وكاد أن يقتل، فأجاب بالقول بخلق القرآن، ثم بعد أن خرج أنكر القول بخلق القرآن وقال: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، فرد مرة أخرى، فرأى المأمون أن التعامل معه صعب، فرده وسجنه، فمات في السجن رحمه الله تعالى، وأكثر الذين أجابوا في تلك الفتنة اعتذروا بالتقية؛ لأنهم تعرضوا لخطر كبير، وهو احتمال القتل.
وأما الإمام أحمد بن حنبل فإنه دعا الله عز وجل ألا يريه المأمون ، وعندما أخذ الإمام أحمد وأريد أن يذهب به إلى المأمون -وكان في طرسوس- مات المأمون قبل أن يأتيه الإمام، لكنه في مرض موته أوصى أخاه المعتصم وشدد عليه في الوصية بأن يمتحن الناس بالقول بخلق القرآن ويجعله مذهباً رسمياً للدولة، وكان المأمون رجلاً مثقفاً، ولكنه اتبع البدعة، أما المعتصم فهو على عكسه، فإنه كان رجلاً شجاعاً قوياً، لكنه لم يكن من أهل النظر، ولا كان من أهل البصيرة ولا كان من أهل الفهم والاستنباط، وإنما أخذ هذه الوصية عن أخيه فامتحن الناس، وحين جيء بالإمام أحمد إليه في مجلسه ضرب عنده وجلد حتى كان يسقط فيرحمه ثم يقول: لولا أنها وصية أخي لتركتك، فليس هو صاحب علم ولا صاحب فهم، لكنها وصية أخذها وامتحن الناس بها، ثم كانت النتيجة بعد ذلك للمتقين، فلما خرج الإمام أحمد رحمه الله من السجن صنف هذا الكتاب العظيم الذي هو (الرد على الجهمية والزنادقة)، وقد رد على طائفتين: الطائفة الأولى: الزنادقة، والطائفة الثانية الجهمية، والحقيقة: أن الجهمية من الزنادقة، لكن فصل بينهما في العنوان، فكان أن ذكرنا هذين القسمين.
مثال ذلك: لو أن رجلاً قال: أنا أنصحكم ألا تصلوا؛ لأن هذه الصلاة سيئة بالنسبة لكم! فإذا قيل له: كيف تكون سيئة والله عز وجل يأمر بالصلاة؟ قال: إن الله عز وجل يقول: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4]، فإذا صليتم فلكم ويل، وينسى تتمة الآية: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:5] فالكلام عن طائفة معينة ممن يصلون تارة ويتركون الصلاة تارة أخرى.
وهكذا توجد طوائف ممن يلعبون بالقرآن والسنة بهذه الطريقة والعياذ بالله.
وفي موضع آخر يقول: أما قوله تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء:97]، وقوله في آية أخرى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [الأعراف:50] فقالوا عنه: كيف يكون من الكلام المحكم قوله: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ، ثم يقول في موضع آخر: إنه ينادي بعضهم بعضاً؟! فشككوا في القرآن من أجل ذلك.
أما تفسير: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ، وفي آية أخرى: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ [الأعراف:44]، فإنهم أول ما يدخلون النار يكلم بعضهم بعضاً، وينادون: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، ويقولون: رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [إبراهيم:44]، ويقولون أيضاً: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا [المؤمنون:106]، فهم يتكلمون، حتى قال الله لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فصاروا عمياً وبكماً وصماً، وينقطع الكلام ويبقى الزفير والشهيق، فهذا تفسير ما شك فيه الزنادقة من قول الله.
وهكذا -أيضاً- في ردوده على الضالين من هؤلاء المبتدعة، ومن ذلك رده على المعتزلة والجهمية، قولهم: إن الله عز وجل يقول: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، والقرآن شيء فهو مخلوق. فقال لهم: يقول الله عز وجل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، والله تعالى شيء، وما خلقه من الأشياء شيء، فالله عز وجل ليس مخلوقاً، ومنه الكلام، وكل شيء المقصود به بقية المخلوقات، هذا أولاً.
ثانياً: من أسلوب القرآن استعمال هذا التعبير: (كل شيء)، لكن ليس المراد به التعميم المطلق، وإنما المقصود به هنا ما من شأنه أن يُخلق، مثل قول الله عز وجل: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25]، فمساكنهم لم تدمر، مع أنه قال: (كل شيء)، فالمقصود: كل شيء مما يستحق التدمير، أو مما يراد به التدمير، مثل العصاة والظلمة.
هذا هو كتاب الإمام أحمد رحمه الله (الرد على الزنادقة والجهمية).
فأجاب رحمه الله، مبتدئاً بتعريف العبودية فقال:
[ الحمد لله رب العالمين.
العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ].
ثم شرع في أمثلتها فقال: فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة وأمثال ذلك من العبادة.
يقول: وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضاء بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة.
ثم قال: وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة.
ثم شرع في بيان منزلة العبادة، ثم ذكر الآيات في هذا الموضوع، إلى قوله: فالدين كله داخل في العبادة.
فقوله: وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، إلى قوله: فالدين كله داخل في العبادة.
ثم شرع بعد ذلك في العلاقة بين الدين والعبادة. فقال: فالدين كله داخل في العبادة. ثم ساق الأدلة على هذا، إلى قوله: كما قد بسطناه في غير هذا الموضع، وقال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]. فهذا الجزء يمكن أن نسميه العلاقة بين الدين والعبادة.
ثم بعد ذلك بدأ في موضوع آخر، فقال: وتحرير ذلك أن العبد يراد به المعبد الذي عبده الله، وهذه الفقرة يمكن أن نجعل عنوانها: (العبادة الجبرية)، وهي نوع من أنواع العبادة سيأتي الحديث عنها إن شاء الله.
ثم قال كلاماً آخر إلى قوله: وكثير ممن يتكلم في الحقيقة فيشهدها لا يشهد إلا هذه الحقيقة.
وحينئذ نبدأ في موضع آخر، وهو موقف الصوفية من العبادة الجبرية، وهذه المسألة أطال فيها، وسيأتي -إن شاء الله- الحديث عنها مفصلة.
أما العبادة في اللغة فإنك إذا تتبعت كتب المعاجم ستجد أن العبادة تأتي لخمسة معان: الأول والثاني: الخضوع والذل، ولهذا تقول العرب: هو طريق معبد أي: ذللته الأقدام بالسير.
والثالث: الطاعة، والرابع: التمليك، تقول العرب: أعبدني هذا أي: ملكنيه. والخامس: التنسك، فهذه خمسة معان تأتي العبادة بها في اللغة.
وأما تعريفها في الشرع فقد عرفها الشيخ بقوله: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، وعرفها غيره بتعريف آخر، فيقول أبو البقاء الكفوي في كتابه (الكليات) في تعريف العبادة: هي فعل ما يرضي الرب. وعرفها غيره فقال: العبادة هي عبارة عن الاعتقاد والشعور بأن للمعبود سلطة غيبية في العلم والتصرف فوق الأسباب يقدر بها على النفع والضر، فكل دعاء وثناء وتعظيم ينشأ من هذا الاعتقاد فهو عبادة.
فإذا جئنا إلى تعريف الشيخ في قوله: (هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه) نجد أن معنى العبادة: هو كل ما أمر الله عز وجل به في القرآن، أو أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة، وذلك أن الأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين: طلب وتخيير.
فأما الطلب: فهو طلب الفعل أو طلب الكف، وطلب الفعل يكون على نوعين:
إما طلب الفعل على سبيل الإلزام، وهذا هو الواجب.
وإما طلب الفعل على غير سبيل الإلزام فهذا المندوب.
وأما طلب الكف فهو نوعان:
الأول: طلب الكف على سبيل الإلزام، وهذا هو المحرم، والثاني: طلب الكلف على غير سبيل الإلزام، وهذا هو المكروه.
وأما التخيير الذي هو مقابل الطلب في التقسيم الأول فهو المباح الذي إن شاء الإنسان فعله وإن شاء تركه، فالعبادة الشرعية هي الطلب بمعناه الأول، طلب الفعل أو طلب الكف، فهذا الطلب هو العبادة، ولهذا نلاحظ أن العبادات التي أمرنا الله عز وجل بها بعضها يقتضي أن تقوم بفعل، سواء أكان هذا الفعل فعلاً بدنياً أم فعلاً لسانياً أم فعلاً قلبياً، أو بعضها يقتضي طلب الكف والترك، وهذا يكون بترك الشرك والكفر وبترك البدعة وبترك جميع الذنوب والمعاصي، فترك الشرك وترك البدعة في حد ذاته عبادة، أي: أن مجرد الابتعاد في حد ذاته عبادة؛ وذلك أن الترك في حقيقته فعل، والدليل على ذلك قول الله عز وجل عن بني إسرائيل: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79]، فقوله: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ يعني: ترك التناهي، يقول تعالى: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ، يعني: يفعلون المنكرات في مجتمعاتهم فلا ينهى بعضهم بعضاً، ثم قال في وصفهم: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ، فما هو الفعل الذي فعلوه؟ هو أنهم تركوا النهي عن المنكر، فالترك فعل أيضاً.
إذاً: العبادة تشمل حياة الإنسان كلها، ولا يمكن أن يخلو الإنسان من العبادة، فهو إما أن يكون خاضعاً لله أو خاضعاً لغيره، وسيأتي معنا -إن شاء الله- بيان حقيقة نفسية مهمة جداً، وهي أن طبيعة تكوين الإنسان أن الله عز وجل خلقه محتاجاً، فإما أن يحتاج إلى الله، وهذا من التعبد، وإما أن يرغب عن الاحتياج لله عز وجل فيحتاج إلى غيره، أما إذا تصور أحد أن الإنسان يمكن أن يكون غير عابد لله ولا لغير الله فهذا تصور باطل.
وقد نشأت ملة جديدة في هذه العصر تسمى: الليبرالية، والليبراليون أشخاص يقولون: نحن أحرار من جميع الأديان، أحرار من كل الالتزامات، وليس هناك التزام معين نلتزمه، فنحن أحرار من الأديان جميعاً، النصرانية، واليهودية، والإسلام، والبوذية، فهؤلاء من يعبدون؟
إن بعض الناس يقول لك: لا يعبدون أحداً، وهذا غلط، فهم يعبدون الهوى، ولهذا يقول الله عز وجل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23] فهو يعبد الهوى، أي: يعبد رغبته وشهوته أينما وجهته يتوجه وراءها.
الشيخ يقول: اسم جامع، يعني: يشمل كل ما يحبه الله ويرضاه، والذي يحبه الله ويرضاه نوعان:
الواجب والمستحب -وقد يسمى المستحب: مندوباً- من الأقوال والأعمال، والأقوال تشمل أقوال اللسان وأقوال القلب، فأقوال اللسان سبق أن مثلنا لها، وقول القلب هو تصديق بما جاء عن الله وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله: (الباطنة والظاهرة) ليشمل نشاط الإنسان القلبي ونشاطه الظاهرة ولا شك في أن بين الظاهر والباطن تلازماً مطرداً ومنعكساً، أي: تلازم دائم وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فلا يتصور أبداً وجود إنسان صالح في الظاهر مائة في المائة، وهو فاسد في الباطن، إلا في حالة واحدة، وهي النفاق، أما أن يكون الإنسان صالحاً في الباطن متقياً لله عز وجل يخاف الله ويخشاه، وفي نفس الوقت لا يكون ذلك ظاهراً على جوارحه فهذا غير متصور إلا في حالة واحدة، وهي حالة الإكراه بحيث يكون مكرهاً، لا يستطيع أن يعبر عما في داخله بأفعاله، ومع هذا لا يتصور أن يكره إنسان بحيث لا يستطيع أن يؤدي عبادة واحدة؛ لأنه يمكن أن يعمل في السر، فيقول سبحان الله، أو ينطق بالشهادة، أو يصلي في السر، أو يعمل أي عمل في السر.
فقوله: (الباطنة والظاهرة) يشمل حياة الإنسان كلها.
ومن هنا نلحظ وهذه قضية مهمة أن العبادة نوعان: فردية وجماعية، فالفردية هي التي يقوم بها الإنسان، مثل الصلاة والصيام والحج، وحقوق الوالدين، وحقوق الجيران، وحقوق الأهل، وما يقوم به من الخوف والرجاء والتوكل وقراءة القرآن، وما يقوم به من ترك الربا وترك الفواحش وترك المحرمات جميعاً، فهذه يمكن أن نسميها عبادة فردية؛ إذ يقوم بها الإنسان وحده.
وهناك عبادات جماعية، كالجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الله، والإصلاح بين الناس، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه العبادات الجماعية ضرورية جداً لصلاح المجتمع، فإنه متى ما تركت هذه العبادات فسد المجتمع، وبعض الناس يقول: ما لي وللمجتمع، فأهم شيء أن أصلح نفسي.
ونقول: إن الله أوجب عليك إصلاح نفسك وإصلاح غيرك، وإلا فما معنى النصيحة؟ وما معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وما معنى الجهاد في سبيل الله بالقول واللسان واليد ونحو ذلك؟! وما معنى بناء المجتمع الإسلامي؟ ولماذا ذم الله عز وجل اليهود الذين كانوا يسكتون عن المنكرات؟ لقد ذمهم الله عز وجل لأنهم تركوا شقاً عظيماً جداً من العبادة، وهو الشق الجماعي.
ولهذا إذا نظرنا إلى تاريخ الصحابة رضوان الله عليهم نجد أنهم خلطوا الدين بكل أنشطة الإنسان، وخلطوا الدين بالدولة، وخلطوا الدين بالأنشطة العسكرية، وخلطوا الدين بالمال، خلطوا الدين بكل شيء.
فإذا جئنا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه نجد أنه بعد أن كان صحابياً وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم صار رئيس الدولة، فلما صار هو رئيس الدولة ألقى خطابه الرئاسي كما يسمى اليوم، وقال: إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن رأيتموني أصبت فأعينوني، وإن رأيتموني ضللت فقوموني، وهذا خطاب عظيم جداً يشتمل على كثير من المعاني الكبيرة، ومن ذلك إخباره بأنه لا يخترع، وإنما يمشي على سنة سابقة، ولهذا فإنه عندما استلم مقاليد الدولة صبغها بالشريعة، وهذا جزء من أجزاء العبادة التي جهلها كثير من الناس، والمنحرفون في هذا الأمر يحصرون العبادة في المسجد فقط، مثلما حصر النصارى دينهم في الكنيسة، فيتصورون أن العبادة تكون في المسجد فقط، أما الحياة فتبنى على غير العبادة، فنبني المال على غير العبادة، ونبني الشئون السياسية، والإعلامية، والتربوية والثقافية، وغيرها على غير العبادة، وهذا من الظلال، فإن الله عز وجل يقول: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163]، فقوله: (محياي) أي: حياتي جميعاً لله رب العالمين، ولهذا يدخل في معنى العبادة الشعائر التعبدية التي يمارسها الإنسان، فيدخل فيها الخضوع لشريعة الله عز وجل في كل الأحوال.
وعندما نراجع شمول هذا الدين وكماله يتضح لنا أن هذا الدين جاء بإصلاح حياة الناس في كل أمر، فجاء بإصلاح حياة الناس في شئونهم الأسرية جاء بإصلاح حياة الناس في شئونهم المالية، وجاء حياة بإصلاح الناس في شئونهم السياسية والعلاقات الدولية، وجاء بإصلاح حياة الناس في شئونهم التربوية، وهذا هو معنى شمولية العبادة.
وإذا قد علم ما يتعلق بتعريف العبادة؛ فإنه بقي لنا ذكر أركان العبادة الشرعية، وبقي ذكر شروط صحة العبادة، وبقي ذكر العلاقة بين العبادة والتوحيد، والعلاقة بين العبادة والإسلام، والعلاقة بين العبادة والإيمان، والعلاقة بين العبادة والدين، وسيأتي معنا إن شاء الله الكلام عن المنحرفين في تعريف العبادة وفي مفهومها.
وبقي هنا أن نشير إلى مسألة، وهي أن الفرق بين تعريف شيخ الإسلام رحمه الله للعبادة عندما قال: (هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه) وبين تعريف مسألة الكفوي في قوله: (فعل ما يرضي الرب) وذلك أن العبادة تطلق ويراد بها التعبد، وهو فعل العبد، وتطلق ويراد بها المتعبد به، وهو المفعول، فالصلاة عبادة، وهي المتعبد به، والرجل الذي يصلي فعله عبادة أيضاً، وهو عملية التعبد، وهذا هو الفرق بين تعريف الكفوي وتعريف شيخ الإسلام رحمه الله، ولهذا قد يخلط بعض الناس فلا يدرك الفرق بين مثل هذه التعريفات، وإدراك الفروق مهم جداً في طلب العلم بالنسبة لطالب العلم.
أسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بالعلم النافع والعمل الصالح، إنه على كل شيء قدير.
الجواب: قوله: (يرضاه) بمعنى: (يحبه)، وبمعنى أنه يقره ولا يسخط منه، وأما الإباحة فهي نوعان:
إباحة شرعية، وإباحة أخرى طبيعية.
فالإباحة الطبيعية: هي عموم ما جعله الله عز وجل في الأرض؛ لأن الله عز وجل يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29] فكل ما في الأرض الأصل فيه الإباحة، إلا ما دل الدليل الشرعي على تحريمه، وأما الإباحة الشرعية فهي التي نص فيها على الإباحة، مثل قول الله عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187]، فهذه تسمى الإباحة الشرعية، بمعنى أن الله عز وجل هو الذي أحلها.
الجواب: الأمر إذا أطلق في النصوص الشرعية، فالأصل فيه أنه يقتضي الإلزام، والدليل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، فرتب حصول الفتنة وحصول العذاب الأليم على مخالفة الأمر.
ويقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [الأحزاب:36]، فنفى الخيرة عنهم، وهي الاختيار في الفعل أو الترك، وهذا يدل على الإلزام.
إلا أنه في بعض الأحيان - لوجود قرائن أخرى- لا يدل الأمر على الإلزام، ومثاله السترة فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا صلى أحدكم فليستتر) يعني: بسترة في الصلاة، فهذا الأمر ظاهره أنه يدل على الوجوب، لكن ثبت عند أبي داود وغيره بإسناد صحيح من حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء) يعني: وليس له سترة يستتر بها، ففعله صلى الله عليه وسلم دل على أن هذا الأمر للتخيير، وليس للإلزام.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر