إسلام ويب

تابع تفسير سورة الفتح [2]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً)

    قال الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:1-2]. وصف الله سبحانه وتعالى نعمته على نبيه التي أسبغها عليه صلى الله عليه وسلم بالتمام، إيذاناً منه بدوام هذه النعمة واتصالها، فقوله: (( وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ )) يدل على أن نعمة الله سبحانه وتعالى على النبي صلى الله عليه وسلم هي نعمة دائمة متصلة لا يمكن أن يسلبها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعطاه الله إياها، بل يتمها له صلى الله عليه وسلم بالدوام في هذه الدار وفي دار القرار. وما أحسن اقتران التمام بالنعمة، وإضافة النعم إليه، فقال سبحانه: (( وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ))، في حين أنه سبحانه وتعالى قال في الذنب: (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ))، فالنعمة وصفها بالتمام، وأضاف نعمته إلى نفسه عز وجل، أما الذنب فأضافه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما جاء في سيد الاستغفار: (.. أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي ..)؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا ينسب إليه الشر، فليس في أفعاله شر على الإطلاق، وإنما أفعاله عز وجل خير كلها، وهذا المعنى أوضحناه في مناسبات عدة، ومنها هذا الموضع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: العارف يسير إلى الله تعالى بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل. يعني: هذان ركنا العبودية، مشاهدة منة الله سبحانه وتعالى على العبد، ومطالعة عيب النفس والعمل، فإن مشاهدة منة الله سبحانه وتعالى على العبد توجب له عز وجل المحبة والحمد، والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار، والافتقار والتوبة في كل وقت، وأنه لا يرى نفسه إلا مفلساً، وأقرب باب دخل منه العبد على الله سبحانه وتعالى هو الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقاماً ولا سبباًً يتعلق به، ولا وسيلة منه يمن بها، فالعباد لم يدخلوا على الله تعالى إلا من باب الافتقار الصرف، والإفلاس المحض، دخول من قد كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع، وملكته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل، وكمال فاقته وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه عز وجل، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تجبر، إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته، ولا طريق إلى الله تبارك وتعالى أقرب من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوة، والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل وذل تام، هذا معنى العبودية، فلابد في العبودية من هذين الركنين، حب كامل وذل تام، فإذا وجد الحب بدون ذل وطاعة وانقياد فليست هذه العبودية، وإذا وجد انقياد بدون الحب فهذه أيضاً ليست عبودية، فربما انقاد الإنسان إلى من هو أعلى منه رتبة كالجندي مثلاً مع قائده وهو لا يحبه، لكن في الظاهر هناك انقياد، لكن لما لم يقترن به الحب والحمد له لا تسمى هذه عبودية. أما العبودية الصحيحة فلها جناحان هما: غاية الحب مع غاية الذل، غاية الحب الذي ينشأ عن أمرين: الأول: التفكر في نعم الله سبحانه وتعالى على هذا العبد وإحسانه إليه؛ لأن ذلك لا شك مما يوجب المحبة، فإن الفطرة توجب على القلب حب من أحسن إلى الإنسان. الثاني: التفكر في صفات الله سبحانه وتعالى، صفات الجلال والجمال والكمال التي توجب له المدح والحمد والثناء الحسن، وإن لم يصل منه إلى العبد شيء، فإنك لا شك إذا سمعت -ولله المثل الأعلى- عن أوصاف شخص كريم وسخي وصادق ووفي وكذا وكذا من الصفات الجميلة فإنك تحبه، حتى ولو لم يكن أحسن إليك أو لم تتعد هذه النعم إليك، لكنك تجد قلبك منجذباً إليه محباً له. فالله سبحانه وتعالى -ولله المثل الأعلى- أنعم على عباده غاية الإنعام والإحسان: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، ثم إنه سبحانه وتعالى متصف بأعظم وأجمل وأجل صفات الكمال والجمال والجلال، فهذان أمران يوجبان محبة الله سبحانه وتعالى والحمد له. الجناح الثاني للعبودية: الذل التام، فالعبودية هي غاية الحب وغاية الذل، فالحب ينشأ عن التفكر في نعم الله، والتفكر في صفات الله التي تستوجب له المدح والحب، والذل التام ينشأ عن معرفة العبد نفسه وما فيها من الآفات والتقصير. فمنشأ الحب الكامل والذل التام عن ذينك الأصلين المتقدمين، وهما مشاهدة المنة كما في قوله: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [يوسف:6]، ومطالعة عيب النفس والعمل المأخوذ من قوله: (( مِنْ ذَنْبِكَ ))، وهي التي تورث الذل التام، وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله سبحانه وتعالى على هذين الأصلين لم يظفر به عدوه إلا على غرة وغيلة، وما أسرع ما ينعشه الله سبحانه وتعالى ويجبره ويتداركه برحمته، وتأمل إتمام النعمة، بحرف (على) في قوله: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [يوسف:6]، فحرف (على) يؤذن بالاستعلاء والاكتمال والإحاطة. قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: ((وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ)) لإظهاره إياك على عدوك، ورفعه ذكرك في الدنيا، وغفرانه ذنوبك في الآخرة. وقال القرطبي : وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [يوسف:6] قال ابن عباس : في الجنة، وقيل: بالنبوة والحكمة، وقيل: بفتح مكة والطائف وخيبر، وقيل: بخضوع من استكبر وطاعة من تجبر. وقال الشوكاني : لإظهار دينك على الدين كله، وقيل: بالجنة، وقيل: بالنبوة والحكمة، وقيل: بفتح مكة والطائف وخيبر، والأولى أن يكون المعنى ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى صراط مستقيم وهو دين الإسلام. وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى نعمته على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في سورة الضحى حين قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحدث أمته بما أنعم عليه ليعرفوه ويعتقدوه، ويزدادوا حباً له وتعظيماً، فالتحدث بالنعمة في حق النبي صلى الله عليه وسلم واجب، وفي حق غيره من أفراد الأمة جائز إذا أمن العجب والرياء، فأوجب الله على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبر أمته بعظم مقامه عند الله، وتمام نعمة الله عليه ويفصل لهم ذلك، لماذا؟ لما سيأتي في نفس هذه السورة: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح:9] يعني: كي تعرفوا قدر هذا النبي العظيم عند الله سبحانه وتعالى؛ فتعزروه وتوقروه وتؤدوا حقه عليكم.

    مظاهر نعمة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم

    من مظاهر نعمة الله على نبيه ما جاء في قوله تعالى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، وقد روي في السيرة ما يشهد لهذا المعنى، ويثبت دوام موالاة الله سبحانه وتعالى لحبيبه، وعنايته به صلى الله عليه وسلم، وحفظه له، فقد كان يكلؤه عمه، وقال له في ذلك: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فسخر له عمه مع عدم موافقته له على الإيمان والإسلام، لكن بما في قلبه من المحبة الطبيعية وليست المحبة الشرعية التي اقتضت مناصرته والدفاع عنه. ومن ذلك أيضاً ما نصره به من أصحابه خاصة أبو بكر رضي الله تعالى عنه، كما فعل الهجرة وهما في طريقهما، حيث كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه تارة يمشي أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لا يلبث أن يمشي خلفه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (أذكر الرصد -العدو الذي يأتي من الأمام- فأكون أمامك، وأذكر الطلب -العدو حين يأتي من خلف- فأكون وراءك). ومن هذه النعم قول الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ومن عصمة الله لرسوله حفظه له من أهل مكة، وصناديدها وحسادها، ومعانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبغض، ونصب المحاربة له ليلاً ونهاراً، لما يخلقه الله سبحانه وتعالى من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب إذ كان رئيساً كبيراً مطاعاً في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبين كفار قريش -بين أبي طالب وبين كفار قريش- قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذىً يسيراً، ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم (المدينة) فلما صار إليها حموه من الأحمر والأسود، فكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه، فلما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواءً لذلك الداء، ولما سم اليهود ذراع تلك الشاه بخيبر أعلمه الله به وحماه منه، ولهذا أسباب كثيرة جداً يطول ذكرها.

    النعم التي أمتن الله بها على نبيه في سورة الضحى

    من هذا قول الله سبحانه وتعالى مشيراً إلى تمام النعمة على نبيه عليه الصلاة والسلام ودوامها واتصالها، وأنه لا يسلبه إياها بعد أن أعطاه إياها: وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى [الضحى:4]، نعمة الله عليه في الآخرة أفضل وأعظم وخير من نعمته عليه في الدنيا: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [الضحى:5-6] يعني: منذ ولادته ونشأته تعهده الله سبحانه وتعالى من صغره فصانه صلى الله عليه وسلم عن دنس الشرك، وطهره وشق صدره ونقاه، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش، حيث قال عمه عند خطبته خديجة لزواجه بها: فتى لا يعادله فتى من قريش حلماً وعقلاً وخلقاً إلا رجح عليه. أما قوله تبارك وتعالى: ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)) قال بعض العلماء: يعطيه في الدنيا من إتمام الدين، وإعلاء كلمة الله، والنصر على الأعداء، والجمهور على أنه في الآخرة: (( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ )) يعني: في الآخرة، وفصلته مواضع أخر منها هذا العطاء وهذه النعمة التي سوف يعطيه الله إياها في الآخرة، وهو الذي وعده الله بقوله: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، وجاءت السنة ببيان أن هذا المقام المحمود -وهو الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون- هو الشفاعة العظمى حين يتخلى ويعتزل كل نبي، ويقول كل نبي: نفسي نفسي! حتى يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها! أنا لها!)، وقد قال صلى الله عليه وسلم (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر). ومن النعم التي سوف يعطيه الله إياها الحوض المورود، وما خصت به أمته من مجيئهم غراً محجلين يردون عليه الحوض. ومنها الوسيلة، وهي منزلة رفيعة عالية لا تنبغي إلا لعبد واحد، كما جاء في الحديث: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي وسلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد، وأرجو أن أكون أنا هو). ومنها الشفاعة في دخول الجنة، كما في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم أول من تفتح له الجنة، كما جاء في الحديث: (آتي باب الجنة فأستفتح؛ فيقال لي: من؟ فأقول: محمد، فيقول خازن الجنة: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) صلى الله عليه وآله وسلم. ومنها الشفاعة المتعددة حتى لا يبقى أحد من أمته في النار صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء الحديث الذي فيه: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر ما دعا إبراهيم لقومه حين قال: وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36]، وقال المسيح عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، ثم بكى النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: تذكر إحسان هؤلاء الأنبياء إلى قومهم، فبكى متأثراً، كأنه يقول لله عز وجل: فماذا لي؟ وماذا لأمتي؟ (فبكى ثم قال الله سبحانه وتعالى: ما يبكيك يا محمد؟ -عن طريق جبريل عليه السلام- فقال: يا رب! أمتي أمتي! أمتي أمتي! فأمر الله سبحانه وتعالى جبريل أن يقول له: يا محمد! إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)، فربط بعض المفسرين بين هذا الحديث الصحيح وبين قوله هنا: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، فقال: أي: سنظل نعطيك ونحسن إلى أمتك إلى أن ترضى، ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)) ولذلك بالغ بعض الناس في تأويل هذه الآية حتى خرجوا عن حد الاعتدال فقال شاعر منهم: أترضى حبيبي أن تكون منعماً ونحن في جمر اللظى نتقلب ألم يرضك الرحمن في سورة الضحى وكيف ترضى وفينا معذب لا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام يرضيه ما يرضي ربه، ومما يرضي ربه عز وجل ظهور آثار صفات رحمته وصفات عدله أيضاً، فكما أن الله يحب أن يغفر الذنوب للعاصين، كذلك من صفات الجلال والكمال والجبروت أن يعذب من تمرد وعصاه فقول الشاعر هنا: أترضى حبيبي أن تكون منعماً ونحن في جمر اللظى نتقلب ألم يرضك الرحمن في سورة الضحى وكيف ترضى وفينا معذب وقول الآخر: قرأنا في الضحى ولسوف يعطي فسر قلوبنا ذاك العطاء وحاشا يا رسول الله ترضى وفينا من يعذب أو يساء فهذا الكلام فيه نظر؛ لأن الأمر لو كان بمجرد التعطف لما ذبح عصفور، ولا تألم طفل، وإنما هي سنن الله الماضية التي تظهر وتجلي آثار صفاته وأسمائه جل وعز. من هذه النعم شهادته على الرسل وشهادة أمته على الأمم، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يشهد على الرسل أنهم قد أبلغوا رسالة ربهم، كذلك أمته تشهد على الأمم كما قال الله: وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج:78]، أما هو صلى الله عليه وسلم فلا يحتاج إلى من يشهد له، وأما قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7] فقيل: غافلاً عما تعلمه الآن من الشرائع يعني: قبل نزول الوحي عليك، وفيه أسرار علوم الدين التي لا تعلم بالفطرة ولا بالعقل، وإنما بالتلقين عن طريق الوحي، فهداك إلى ذلك بما أوحى إليك، فمعنى الضلال على هذا القول الذهاب عن العلم، ويدل لهذا قوله تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، وقال تعالى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]، وقال عز وجل: وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ [يوسف:3] أي: من قبل القرآن: لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف:3]، وقال تعالى: وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص:86]. وقيل: ((وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)) وجد رهطك ضالين فهداهم بك، كما قال تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] يعني: واسأل أهل القرية. وقوله: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى:8] أي: فقيراً فأغناك بمال عمك، ثم ببذل خديجة رضي الله تعالى عنها، ثم بمواساة الأنصار رضي الله عنهم، ثم جاءت غنائم حنين فأعطى عطاء من لا يخشى الفقر، وتوفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في أصوع من شعير. وكان غناه قبل كل شيء هو غنى النفس والاستغناء عن الناس، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة، وأغناه الله سبحانه وتعالى بما لا غنى بعده، أغناه أعظم غنى على الإطلاق كما أشار بذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي [الحجر:87] الفاتحة، وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]، وهذه إشارة إلى أنه قد أغناه أعظم وأشرف وأكبر غنى في الوجود، وذلك بالقرآن الكريم، هذا هو الغنى العالي الذي لا يصل إلى رتبته غنى، ثم قال: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88]، إشارة إلى الاستغناء بالقرآن عن النظر إلى ما متع الآخرون من متاع الدنيا؛ لأن القرآن يغني صاحبه، قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا)، وهذه الحديث له تفسيرات عدة، والذي يناسب المقام هنا أنه من لم يستغن بالقرآن عن النظر إلى الدنيا، والسعي الحثيث وراء الدنيا؛ فليس منا، هذا معنى: (من لم يتغن بالقرآن)، وشاهد ذلك من الشعر قول الشاعر: كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا يعني: استغناء. وقال تبارك وتعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11] قيل: المراد بها المذكورات، والتحدث بها شكرها عملياً من إيواء اليتيم كما آواه الله قال تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى:9]، فهذا هو الشكر العملي لهذه النعم، فكما أنعم الله عليك تنعم أنت على غيرك تأسياً بفعل الله معك، وقيل: التحدث بنعمة الله هو التبليغ عن الله من آية أو حديث، والنعمة هنا عامة لتنكيرها وإضافتها كما قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53]، وأعظم النعم وأولاها وأظهرها نعمة الوحي، ولذلك سورة النحل تسمى سورة النعم، وقد ابتدأت بأعظم نعمة وهي نعمة الوحي، كما قال تبارك وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وقال في سورة النحل: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [النحل:2]، وقال: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] ففي هذه الآية قال: (نعمتي)، وفي هذه الآية في سورة الضحى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ [الضحى:11]، ولا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نحر مائة ناقة في حجة الوداع لما أنزل الله عليه هذه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] فنحر في حجة الوداع لما نزلت هذه الآية مائة ناقة شكراً لله على إتمام النعمة وإكمال الدين.

    النعم التي امتن الله بها على نبيه في سورة الشرح

    عدد الله على نبيه نعمه العظمى في سورة الشرح، فقال سبحانه وتعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1] قيل: هو شق صدره الشريف وغسله وملئه حكمة وإيماناً، وقيل: هو توسيعه للمعرفة والإيمان، وجعل قلبه وعاء للحكمة، وفي البخاري عن ابن عباس قال: شرح الله صدره للإسلام، وقال ابن كثير في تفسير قوله: ((أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)): نورناه وجعلناه فسيحاً رحيباً واسعاً، كقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125]، وقال تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر:22]، وقال جل وعلا: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]. ثم قال: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4] اختلف في تفسير هذه الآية، فمن قائل: إنه رفع حسي، أي: إن ذكرك واسمك الشريف يذكر في الأماكن العالية على المنابر في الخطب، وفي الأذان ، وفي الإقامة، وافتتاحيات الكلام في الأمور الهامة، واستدلوا لذلك بالواقع فعلاً حيث إن الله سبحانه وتعالى رفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رفعاً حسياً، واستشهدوا على ذلك بقول حسان رضي الله تعالى عنه يمدح النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: أغر عليه للنبوة خاتم من الله مشهود يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد ومن رفع ذكره صلى الله عليه وسلم ذكر صفته واسمه في كتب الأنبياء قبله، حتى عرف للأمم الماضية قبل مجيئه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك جعله تعالى الوحي ذكراً له، قال الله: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:43-44]، فتبين أن رفع ذكره صلى الله عليه وسلم إنما هو عن طريق الوحي، فقوله: (( وَإِنَّهُ )) أي: القرآن (( لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ )) يعني: رفعة ومجد، وعلو شأن لك ولقومك إن اتبعوا هذا القرآن، فبين الله سبحانه وتعالى أن الله يرفع ذكر النبي عليه السلام بالقرآن، لذا تأملوا الآية: ((فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))، (( وَإِنَّهُ )) أي: هذا الوحي الذي هو القرآن (( لَذِكْرٌ لَكَ )) لرفعة شأن لك ((وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ))، فهذا بيان أن الله رفع ذكره صلى الله عليه وسلم بالوحي سواء كان الوحي نصوصاً توجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، ففي الوحي توجد أنواع من المخاطبة للرسول صلى الله عليه وسلم كلها تدل على رفع ذكره وشأنه عند الله بالوحي؛ كقوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:64]، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]، يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1]، ولم يخاطبه باسمه قط، فلا توجد آية واحدة في القرآن فيها خطاب من الله سبحانه وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام باسمه، وإنما يخاطبه بأوصافه، بخلاف الخطاب مع جميع الأنبياء قبله كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى. فأما في مقام إثبات الرسالة والشهادة له بأنه رسول فقد صرح باسمه بقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29] يعني: الله هو الذي يخبر بصدقه في هذه الرسالة، أو رفع ذكره في الوحي عن طريق الوحي، والوحي يعم القرآن والسنة، فكلاهما وحي، ورفع ذكره في فروع الشريعة -كما ذكرنا- في الأذان وفي الإقامة، وفي التشهد، وفي الخطب، وفي الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم، والكافر إذا أتى بكل شعب الإيمان، ولكنه لم يشهد أن محمداً رسول الله، فهو باق على كفره، وهو من أهل جهنم الخالدين فيها؛ لأنه لم يشهد له صلى الله عليه وسلم بالرسالة.

    النعم التي أمتن الله بها على نبيه في سورة الكوثر

    قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] قيل: الكوثر علم اسم على شيء معين، وقيل: الكوثر صفة على وزن فوعل على العلمية، قالوا: إن الكوثر علم على نهر في الجنة، وعلى الوصفية فقالوا: هو الخير الكثير، ومما استدل به على العلمية وأن الكوثر اسم أو علم على نهر في الجنة ما ثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لما عرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء قال: أتيت نهراً حافتاه قباب لؤلؤ مجوف فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر) يعني: نهر الكوثر الذي أعطاه الله إياه. وبسنده أيضاً عن عائشة رضي الله عنها: (سئلت عن قوله تعالى: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) فقالت: هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم، شاطئاه عليهما در مجوف، آنيته كعدد النجوم). وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب، والماء يجري على اللؤلؤ، وماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل) رواه الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي وقال: حسن صحيح. وروى أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه، ولما سئل سعيد بن جبير أن الناس يزعمون أن الكوثر نهر في الجنة قال: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه. إذاً: الكوثر هو الخير الكثير أو الحوض، والحوض والنهر هو من جملة الكوثر الذي أعطاه الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.

    وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

    من النعم التي امتن الله سبحانه وتعالى بها على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما أوجده الله عز وجل لنبينا على القلب واللسان والجوارح من حقوق زائدة على مجرد التصديق بنبوته، فليس حق النبي علينا يقتصر على الاعتراف بنبوته، وإنما هناك حقوق زائدة على هذا، كما أوجب الله سبحانه وتعالى على خلقه من العبادات على القلب واللسان والجوارح أموراً زائدة على مجرد التصديق به سبحانه وتعالى، وحرم الله سبحانه وتعالى لحرمة نبيه صلى الله عليه وسلم أشياء مما يباح أن تفعل مع غيره، غير مجرد التكذيب بنبوته، يعني: يحرم تكذيب نبوته، وإلى جانب ذلك حرمت أشياء زائدة على مجرد التكذيب على أمته، مع أن هذه الأشياء تباح أن تفعل مع غيره، فمن ذلك أنه أمر بالصلاة عليه والتسليم صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر أن الله وملائكته يصلون عليه صلى الله عليه وسلم، وجعل الصلاة والسلام عليه قربة وعبادة، وهذا أمر لم ينله غيره من الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، وجمعت صيغة الصلاة والسلام عليه جميع الخيرات، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً حضاً للناس على ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (من ذكرت عنده فلم يصل علي خطئ طريق الجنة). وقال عليه الصلاة والسلام: (البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي)، ولا شك أن في قوله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56] التشريف الذي شرف الله به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الآية، وهو أجمع وأتم من تشريف آدم عليه السلام بسجود الملائكة له؛ لأن تشريف آدم بسجود الملائكة تشريف بفعل الملائكة، أما هنا فالتشريف هو بفعل الله سبحانه وتعالى، فتشريف يصدر عن الله عز وجل أبلغ من تشريف تختص به الملائكة من غير أن يكون الله تعالى معهم في هذا التشريف، فهنا جمع له تشريفاً تقوم به الملائكة كما حصل لآدم، لكن زاد عليه أن الله مع الملائكة، فالفارق كبير جداً كالفارق بين الخالق والمخلوق، قال هنا: (( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ )) فبدأ بنفسه عز وجل، ثم ثنى بملائكته، وإذا استحضرنا أن الملائكة لا يحصي عددهم إلا الله سبحانه وتعالى لعرفنا مدى تعظيم ذكر النبي عليه الصلاة والسلام والصلاة عليه على لسان الملائكة! ثم إن هذا مستمر، أما السجود فكان حادثة مؤقتة ثم انقضت، والصيغة هنا أتت بصيغة المضارعة؛ لتدل على الاستمرار إلى هذه اللحظة، فالملائكة مازالت تصلي -إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى- على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الله؛ لأن الآية: (( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ ))، ولم يقل: صلوا على النبي، لا، وإنما: (( يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ )) لتفيد الاستمرار في هذا التشريف.

    1.   

    من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته

    من حقوقه صلى الله عليه وسلم أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم

    من حقوق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على كل مسلم ومؤمن أن يعتقد أن الرسول عليه السلام أولى بروحه وبنفسه وبحياته منه، بمعنى: أنك تقدم كل شيء أمام النبي عليه الصلاة والسلام، وأن تكون جازماً قاطعاً بأنك لن تتردد في أن تبذل له كل غال، فلو قدر أنه يوجد ماء لا يكفي إلا لك أو للرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يجب عليك أن تقدمه له فيشربه هو ولو مت أنت، فتفديه بنفسك بناءً على اعتقاد حتمي أوجبه الله علينا، وهو أن نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بأرواحنا وأنفسنا منا، وهذا الأمر طبقه الصحابة في مواقف كثيرة وعظيمة، قال تعالى: وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة:120]، وقال تبارك وتعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6] يعني: أولى بحياتك وبروحك منك أنت بهذه النفس، فهذا هو حقه عند الله سبحانه وتعالى كأي تعظيم وأي تشريف. ومن حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحب وأن يؤثره العطشان بالماء والجائع بالطعام، وأنه يجب أن يوقى بالأنفس والأموال كما قال تعالى: مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة:120]، فرغبة الإنسان بنفسه أن يصيبه ما يصيب النبي صلى الله عليه وسلم من المشقة معه حرام، ولذلك قال حسان رضي الله تعالى عنه: فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء والنماذج كثيرة جداً في الصحابة رضي الله تعالى عنهم من التطبيق العملي لهذه الآية: (( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ))، وخاصة في الغزوات كغزوة أحد وغيرها، فقد كانوا يفدونه صلى الله عليه وسلم بالغالي والنفيس رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

    من حقوقه صلى الله عليه وسلم أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده

    ومن حقه أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق، قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:24] وقد جاء بيان ذلك في الأحاديث الصحيحة المشهورة كما في الصحيح من قول عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك. قال: فأنت والله الآن يا رسول الله! أحب إلي من نفسي. قال: الآن يا عمر). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من أشد أمتي لي حباً قوماً يأتون من بعدي؛ يود أحدهم لو رآني بنفسه وماله). فالمسلمون الذين يأتون من بعد النبي عليه السلام، ولم يروه، يتمنى كل مؤمن منهم أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه حتى ولو بذل في سبيل ذلك ماله ونفسه وأولاده، يضحي بأهله وماله في سبيل أن يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    من حقوقه صلى الله عليه وسلم تعزيره وتوقيره

    كذلك من حقوقه صلى الله عليه وسلم أن الله أمر في هذا القرآن بتعزيره وتوقيره، فقال عز وجل: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح:9] والضمير -على الراجح- يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والتعزير: اسم جامع لكل ما فيه نصره وتأييده، ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار.

    من حقوقه صلى الله عليه وسلم عدم مناداته باسمه

    ومن ذلك أنه خصه في المخاطبة بما يليق به، فقال عز وجل: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] فنهى الله المسلمين أن يقول أحدهم: يا محمد! أو يا أحمد! أو يا أبا القاسم! ولكن يقولون: يا رسول الله.. يا نبي الله.. وكيف لا يخاطبونه بذلك والله سبحانه وتعالى قد أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحداً من الأنبياء قبله؟! فلم يدعه باسمه في القرآن قط، بل بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ [الأحزاب:28]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:59]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ [الأحزاب:50]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا [الأحزاب:45]، يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [الأنفال:64]، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]، يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1]، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67] مع أن الله سبحانه وتعالى قال: يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35] خاطبه باسمه، وقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [البقرة:33]، وقال: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46]، وقال: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [هود:76]، وقال:يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الأعراف:144]، وقال: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً [ص:26]، وقال: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ [المائدة:110] فدعا الأنبياء بأسمائهم في هذه الآيات.

    من حقوقه صلى الله عليه وسلم عدم رفع الصوت والتقدم بين يديه

    كذلك من حقوقه أنه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، لا يبدأ أحد بالكلام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم حتى يأذن له، فاعتبر التقدم بين يديه تقدماً بين يدي الله ورسوله. ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى حرم رفع الصوت فوق صوته، وحرم أن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل، وأخبر أن ذلك سبب لحبوط العمل؛ فهذا يدل على أنه يقتضي الكفر؛ لأن العمل لا يحبط إلا بالكفر قال تعالى: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]. كذلك رفع الله ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الوحي؛ كما قال: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]، وكما قال: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف:43]، ثم قال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44] أي: الوحي، فهذا تفضيل لكون الوحي ذكراً ورفعة لشأن النبي صلى الله عليه وسلم.

    من حقوقه صلى الله عليه وسلم عدم إيذائه

    من حقوقه صلى الله عليه وسلم أنه حرم على الأمة أن يؤذوه بما هو مباح لهم أن يعامل به بعضهم بعضاً؛ تمييزاً له مثل نكاح أزواجه من بعده، قال تعالى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا [الأحزاب:53]. وأوجب على الأمة لأجله احترام أزواجه، وجعلهن أمهاتهم في التحريم والاحترام، فقال عز وجل: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6]. ومن كرامته المتعلقة بالقول أن الله سبحانه وتعالى فرق بين أذاه وأذى المؤمنين، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، ثم قال: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، فجعل أذاه أعظم من أذية المؤمنين، وهي بلا شك دون ذلك.

    من حقوقه صلى الله عليه وسلم أن الله أوجب ذكره في الأذان والتشهد والخطبة

    ومن ذلك أن الله رفع له ذكره، فلا يذكر الله سبحانه وتعالى حتى يذكر معه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تصح للأمة خطبة ولا تشهد حتى يشهدوا أنه عبده ورسوله. وأوجب ذكره في كل خطبة، وفي الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام، ولو أن رجلاً أتى بكل شعب الإيمان، وقال: لا إله إلا الله، لكنه لم يشهد أن محمداً رسول الله؛ ما نفعه ذلك، ولبقي على الكفر. فأي تعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع لذكره فوق هذا التعظيم؟! وقرنه باسمه أيضاً في الأذان الذي هو شعار الإسلام، وفي الصلاة التي هي عماد الدين.. إلى غير ذلك من المواضع. ومن نعمه تعالى عليه مدحه له وثناؤه عليه صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، وقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب:45]. ومن لطفه تعالى به قوله عز وجل: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [التوبة:43] علم الله سبحانه وتعالى أنه لو بدأ بالمعاتبة لانشق قلبه صلى الله عليه وسلم؛ من الهيبة أن يكون قد أغضب الله، فطمأنه أولاً ثم عاتبه، طمأنه أولاً: لا تجزع من هذا العتاب فقد غفرت لك، فقال الله تعالى: (( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ )) ثم قال: (( لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ))، فقدم العفو على هذا العتاب، وهذا في غاية الإكرام والبر، فقد عاتب الله سبحانه وتعالى الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام بعد الأفعال، وعاتب نبينا صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه، فقال تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء:74]، وقال تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4] وهذا كله من إتمام نعمته عليه، (( وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ )). وقال تبارك وتعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] وهذا غاية البر والحب والإكرام للنبي عليه الصلاة والسلام، يقول تعالى: (( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )) يعني: نعلم أنك في غاية الحزن بسبب أنهم يصفونك بالكذب، وأنك تدعي الوحي، وتدعي أنك رسول، وهذا الوصف شاق على الصادق الأمين مثلك، (( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )) يشق عليك أن توصف بالكذب -خاصة الكذب على الله سبحانه وتعالى الذي هو أكبر الضلال- فقال: (( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ )) الله سبحانه وتعالى يقول له: أنا خالقهم ومطلع على ما في قلوبهم، فهم يزعمون أنك تكذب بألسنتهم، أما في قلوبهم فهم يعتقدون صدقك، ( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) في الحقيقة، وإنما هم يكذبون بإظهار اتهامك بالكذب، وهذا الإخبار يهون الله سبحانه وتعالى به على نبيه صلى الله عليه وسلم العناء الذي كان يلقاه، بسبب أن المشركين يصفونه بالكذب على الله بادعاء الوحي وادعاء النبوة، فطمأنه الله حتى يخفف من جزعه حين يوصف بالكذب. قال تعالى: (( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ )) فاطمئن فهم غير صادقين في هذا، (( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ )) فهذا فيه غاية التسلية في أن يرفع الله حزنه باتهامهم له بالكذب، وقد كانوا يسمونه الصادق الأمين، فرفع ذلك الحزن بإخباره أنه صادق عندهم، وأنهم غير مكذبين له، وأنهم معترفون بصدقه، ثم جعل الذم لهم بتسميتهم جاحدين ظالمين، فقال: (( وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ )). إذاً: الجحد: هو الإنكار بعد العلم، ثم واساه وعزاه وآنسه فقال له: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [الأنعام:34].

    1.   

    تشريف الله لمقام النبي صلى الله عليه وسلم

    إقسام الله بمدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم

    من عظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه تبارك وتعالى أن الله سبحانه وتعالى أقسم بمدة حياته، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء من مخلوقاته؛ لأنها آيات من آياته عز وجل، أما نحن فيحرم علينا القسم بغير الله، وفي الحديث: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، فخطأ أن يقول شخص لآخر: وحياتك اعمل لي كذا، وحياتك الأمر الفلاني كذا، لكن الله سبحانه وتعالى أقسم بحياة نبيه عليه الصلاة والسلام، فقال عز وجل: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72] (لعمرك) هي بمعنى قولنا: وحياتك، فالله سبحانه وتعالى يقول له: أنا أحلف بحياتك يا محمد! وبعمرك الشريف، وهذا لم يحصل لأحد قط، فالله سبحانه وتعالى أقسم بحياته فقال: ((لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)) أي: وبقائك أو وعيشك أو وحياتك، وهذه نهاية التعظيم والبر والتكريم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما خلق الله تعالى، وما ذرأ، وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره.

    إقسام الله بكلام نبيه صلى الله عليه وسلم

    وأقسم الله سبحانه وتعالى بكلام نبيه عليه السلام وقوله في سورة الزخرف فقال تعالى: وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ [الزخرف:88] (وَقِيلِهِ) أي: قول الرسول صلى الله عليه وسلم بإضمار حرف القسم، فيكون قوله: (( يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ )) جواب القسم، فهو أقسم بقيله: يا رب.. أو وقيله: يا رب قسمي، إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الزخرف:88-89].

    إقسام الله على تزكية نفس نبيه صلى الله عليه وسلم

    وأقسم سبحانه وتعالى على تزكية نفسه صلى الله عليه وسلم وعصمتها من الآثام لمقامه الشريف، فالله سبحانه وتعالى زكى فؤاده ولسانه وجوارحه صلى الله عليه وسلم. فزكى قلبه بقوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]. وزكى لسانه بقوله: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]. وزكى بصره بقوله: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]. وقال تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1] أقسم جل وعلا بما أقسم به من عظيم قسمه على تنزيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بما غمصته الكفرة به. وآنسه بقوله: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:2]، وهذه نهاية المبرة في الخطاب. ثم أعلمه بما له عنده من نعيم دائم، وثواب غير منقطع لا يمن به عليه فقال: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ [القلم:3]. ثم أثنى عليه صلوات الله وسلامه عليه بما منحه من هبات وهداه إليه، وأكد ذلك تسليماً للتمجيد بحرفي التأكيد فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] صلى الله عليه وآله وسلم، و(إنك) توكيد بـ(إن)، وتوكيد باللام، فهو لعلى خلق عظيم، وهذا المديح لم يحصل لأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: إن خلقك عظيم، وإنما قال: (( وَإِنَّكَ لَعَلى ))، فهي تدل على نسبة التمكن والرسوخ في حسن وعظمة هذا الخلق.

    شفقة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم

    ومن شفقته عليه صلى الله عليه وسلم قوله تبارك وتعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:2]، ويقول جل وعلا: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، وقوله تعالى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]. فالله سبحانه وتعالى يقول له هنا: هون عليك! هل أنت مهلك نفسك حسرة وحزناً على هؤلاء الكافرين الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله؟! فالله سبحانه وتعالى يواسيه ويعزيه بأن الهداية هي هداية الله عز وجل، ويقول له: لا تهلك نفسك، أنا ما أنزلت عليك القرآن لتشقى وتتعذب هذا العذاب؛ حسرة على هؤلاء المعرضين عن الحق، وشفقة وخوفاً عليهم من عذاب جهنم، فكان عليه السلام يتألم أشد الألم لإعراض قومه عنه؛ خوفاً عليهم أن يعذبوا ويهلكوا، وهذا صرح به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، فأخذ يذبهن عن النار، يقول صلى الله عليه وسلم: وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنت تفلتون من يدي، تقحمون فيها)، وفي بعض الروايات: (فتغلبوني تتقحمون فيها) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.. تصور كيف هو رحمة للعالمين! وكيف هو رحمة لجميع أمته عليه الصلاة والسلام! فيقول: (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً) في ظلمة، فمعلوم أن الفراش لعدم وجود عقل له ينجذب إلى هذا الضوء ولا يدرك أن في انجذابه للضوء إحراقه وهلاكه، وجعل هذا الرجل الذي أضاء هذه النيران يذب الفراش: يطرده حتى لا يحترق، فالفراش يهرب منه ويصر على أن يلقي بنفسه في النار، فيكون هذا نفس مثلي ومثلكم، يقول: أنا واقف على النار وأنتم تنجذبون إليها بالشهوات والشبهات، وأنا أذبكم وأدفعكم وأطردكم حتى لا تهلكوا، وهذا يقصد به أمة الدعوة كلها مسلمين وكفاراً جميعاً، فيقول: (وأنا آخذ بحجزكم عن النار)، يحاول أن يمسك هذا من ذيله، وهذا من كمه، وهذا من وسطه، وهم أناس كثير وهو واقف يريد أن يذب الذي يريد أن يلقي بنفسه في النار، (وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي) أي: تغلبوني وتدفعوني، وتلقون بأنفسكم في النار إصراراً على الهلاك، وهذا هو حال النبي عليه السلام مع الكفار والمعرضين عن هديه صلى الله عليه وآله وسلم، فكان شديد الحسرة على عدم إيمانهم، وشديد الحزن عليهم؛ لأنهم سوف يكونون من أهل النار، ولذلك لما دخل على ذلك الشاب اليهودي الذي كان يحتضر، أمر النبي عليه السلام هذا الشاب اليهودي أن يشهد شهادة الحق، ويدخل في الإسلام، فنظر إلى أبيه، فقال له: أطع أبا القاسم -عليه الصلاة والسلام- ففعل ذلك الشاب ودخل في الإسلام، ثم مات؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مبتهجاً وفرحاً مسروراً وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار) فهذا هو شعور النبي عليه السلام بأمته، رحمة لأمته عليه والسلام، فكان يحزن حزناً شديداً، ويتحسر ويتألم لإعراض الكفار عنه لما يعلمه من العذاب الذي سوف يصيبهم، فقال الله سبحانه وتعالى مخففاً عليه: ((مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)) هل نحن أنزلنا عليك القرآن كي تتعذب وتتألم وتهلك نفسك من الخوف على الكافرين والحسرة عليهم؟ لا، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه:2-3] تذكرة لمن يخشى ويتقي الله سبحانه وتعالى. وقال تبارك وتعالى: (( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ )) هل ستموَّت نفسك أم ماذا؟ هذا المعنى: ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ) أي: هل ستهلك نفسك ( عَلَى آثَارِهِمْ )؟ تخيلوا أن شخصاً يودع أحبابه الراكبين في القطار، وهو متحسر لفراق هؤلاء الأحباب، وحزين عليهم، فحتى والقطار يمشي، فهو يجري حتى يعجز عن القطار ويسبقه، وهذا نفس التصوير تقريباً في هذه الآية الكريمة ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ ) يمشون وهم معرضون عنه، وهو يتبعهم بأقصى استطاعته ( عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا )، فهل ستهلك نفسك أسفاً وحسرة عليهم وهم مصرون على الكفر؟ فبلا شك أن هذا غاية المحبة والإكرام من الله سبحانه وتعالى لنبيه وحبيبه وخليله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

    أخذ الله الميثاق على الأنبياء قبله أن يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم

    من تشريفه له على الأنبياء قوله تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81]، يقول علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: لم يبعث الله نبياً من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، ويأخذ العهد بذلك على قومه، والنبي نفسه يأخذ عهده على قومه: لئن بعث محمد وأنتم أحياء لابد أن تؤمنوا به وتنصروه صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الحديث: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، لم تكن له أي رخصة في الاستقلال، بل لابد أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى عيسى عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان فإنه ينزل تابعاً لشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يستأنف شرعاً جديداً. وفي تفسير قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253] موسى عليه السلام وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253] قيل: هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ومن ذلك أيضاً: قوله تبارك وتعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، لا شك أن هذه الآية تفيد فضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هؤلاء الرسل الذين هم أولو العزم وأصحاب الصلاح، من وجهين: إحداهما: أن الله سبحانه وتعالى عبر في جانبهم بكلمة (وصى) فقال: (( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا )) وقال: (( وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ )) إشارة إلى أن ما أوتيه النبيون قبله عليه الصلاة والسلام لم يعد أن يكون وصايا تختص بقليل من الناس لا تجاوزهم إلى غيرهم، أما في جانبه صلى الله عليه وآله وسلم فقد قال: (( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ )) فعبر في جانبه بـ(أوحينا) تعظيماً لشأنه، كأنه هو المخصوص بالوحي، إشارة إلى أن تخصيصه صلى الله عليه وسلم بإتيانه القرآن العظيم تشريف يفوق ما أوتي النبيون من معجزات خارقة تنتهي بانتهاء زمنها، وكتب فيها تشريعات ووصايا تختص بقليل من الناس لا تجاوزهم إلى غيرهم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي إلا أوتي ما على مثله آمن البشر، وكان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) وسبق أن شرحنا معنى هذا الحديث.

    رفع العذاب عن أهل مكة لوجود النبي صلى الله عليه وسلم

    ومن كرامته على ربه صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ))؛ لأن المشركين قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ [الأنفال:32] لم يقولوا: فاهدنا إليه، لكن لجهلهم وجرأتهم قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]، يقول الله سبحانه وتعالى: كيف أستجيب لهم وأنزل عليهم العذاب وأنت موجود معهم في مكة؟! لا يمكن أن أنزل العذاب وأنت فيهم؛ إكراماً للنبي عليه الصلاة والسلام، فإن وجوده فيهم أمان لهم من الهلكة، فمعنى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ )) أي: ما دمت بمكة، فلما خرج النبي صلى الله علية وسلم من مكة وبقي فيها من بقي من المؤمنين نزل قوله تعالى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )) يعني: وفيهم مؤمنون يخفون إيمانهم ويستغفرون الله، فوجود المؤمنين الذين يستغفرون الله حائل ومانع من نزول العذاب عليهم، وهذا مثل قوله تعالى كما سيأتي في سورة الفتح: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:25]، فلما هاجر المؤمنون نزلت: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الأنفال:34]. ومما يبين شرف مقام النبي صلى الله عليه آله وسلم قوله تعالى: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]. إذاً: لابد أن من تأمل القرآن العظيم يدرك كيف رفع الله ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي، قال تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4] بالوحي سواء في القرآن أو في السنة من النصوص التي تدل على رفعة مقامه، كما قال تعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف:43] ثم قال بعدها: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ يعني: هذا الوحي فيه بيان ورفع ذكرك وتشريفك وبيان مقامك العظيم.

    تمام نعمة الله على عبده المصطفى عليه الصلاة والسلام

    قال جعفر بن محمد وهو يتكلم شارحاً معنى قوله تعالى: (( وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ )) صلى الله عليه وآله وسلم: من تمام نعمته عليه أن جعله حبيبه، وأقسم بحياته، ونسخ به شرائع غيره، وعرج به إلى المحل الأعلى، وحفظه في المعراج حتى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، وبعثه إلى الأحمر والأسود، وأحل له ولأمته الغنائم، وجعله شفيعاً مشفعاً، وسيد ولد آدم، وقرن ذكره بذكره، ورضاه برضاه، وجعله أحد ركني التوحيد، ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ [الفتح:10]. ومن نعمه عليه صلى الله عليه وآله وسلم ما امتن عليه به في سورة النجم والإسراء والفتح، ومن ذلك قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، ومنه قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال:30] إلى آخر الآية، ومنها قوله تعالى: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40]، وما كان من أمر الغار، وسراقة بن مالك . ومن مقام كماله صلى الله عليه وسلم ما جبله الله عليه من كمال خلقته، وجمال صورته، وقوة عقله، وصحة فهمه، وفصاحة لسانه، وقوة حواسه وأعضائه، واعتدال حركاته، وشرف نسبه، وعزة قومه، وكرم بيته صلى الله عليه آله وسلم. وأما خصاله المكتسبة الأخروية فسائر الأخلاق العلية، والآداب الشرعية، من الدين والعلم، والحلم والصبر، والشكر والعدل، والزهد والتواضع، والعفو والعفة، والجود والشجاعة، والحياء والمروءة، والصمت والتؤدة والوقار، والرحمة، وحسن الأدب والمعاشرة وأخواتها التي جماعها حسن الخلق. وإذا كانت خصال الكمال والجلال ما ذكرناه، ورأينا الواحد منا يتشرف بواحدة منها أو اثنتين، إن اتفقت له في كل عصر، إما من نسب، أو جمال، أو قوة، أو علم، أو حلم، أو شجاعة، أو سماحة، حتى يعظم قدره، ويضرب باسمه الأمثال، ويتقرر له بالوصف بذلك في القلوب أثرة وعظمة، وهو منذ عصور خوال رمم بوال، فما ظنك بعظيم قدر من اجتمعت فيه كل هذه الخصال إلى ما لا يعد ولا يعبر عنه مقال، ولا ينال بكسب ولا حيلة إلا بتخصيص الكبير المتعال من فضيلة النبوة والرسالة، والخلة والشفاعة، والوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة، والمقام المحمود، والبراق والمعراج، والبعث إلى الأحمر والأسود، والصلاة بالأنبياء، والشهادة بين الأنبياء والأمم، وسيادة ولد آدم، ولواء الحمد، والبشارة والنذارة، والمكانة عند ذي العرش، والأمانة والهداية، ورحمة للعالمين، وإعطاء الرضا والسؤل والكوثر، وسماع القول، وإتمام النعمة والعفو عما تقدم وما تأخر، وشرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، وعزة النصر، ونزول السكينة، والتأييد بالملائكة، وإيتاء الكتاب والحكمة، والسبع المثاني، والقرآن العظيم، وتزكية الأمة، والدعاء إلى الله، وصلاة الله تعالى والملائكة، والحكم بين الناس بما أراه الله، ووضع الإصر والأغلال عنهم، والقسم باسمه، وإجابة دعوته، وتكليم الجمادات والعجم، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثير القليل، وانشقاق القمر، ورد الشمس، وقلب الأعيان، والنصر بالرعب، وظل الغمام، وتسبيح الحصى، وإبراء الآلام، والعصمة من الناس.. إلى ما لا يحويه محتفل، ولا يحيط بعلمه إلا مانحه ذلك سبحانه، ومفضله به لا إله غيره، إلى ما أعد له في الدار الآخرة من منازل الكرامة، ودرجات الخلد، ومراتب السعادة، والحسنى والزيادة التي تقف دونها العقول، ويحار دون إدراكها الوهم.

    1.   

    الشر لا ينسب إلى الله

    قال الله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [الفتح:2] فأضاف الذنب إليه، وقال في سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] الخطاب لله تعالى، فأضاف الإنعام إلى الله لأنه خير، أما الغضب والضلال فأتى منسوباً إلى من قام به، أو أتي به مبنياً لاسم المفعول: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]. ومن ذلك أيضاً قوله عليه السلام: (والخير في يديك، والشر ليس إليك)، وقالت الملائكة: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30] يعني نقدسك وننزهك عما لا يليق بك. كذلك الله سبحانه وتعالى من أسمائه (السلام)، يعني: الذي سلم من العيوب والنقائص، وأيضاً الذي يسلم خلقه من ظلمه لهم؛ لأنه منزه عن الظلم، وأيضاً سلامته سبحانه من إرادة الظلم والشر، ومن التسمية به، ومن فعله، ومن نسبته إليه، فالله عز وجل سالم من كل ذلك، لذلك من أسمائه السلام عز وجل. وقال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2] فأضاف الشر إلى المخلوقات، يعني: شر الذي خلق أو من شر المخلوقات، فالشر لا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى. وقالت الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10] ذكروا الشر مبنياً للمجهول: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10] فالرشد والخير نسب إلى الله. وقال إبراهيم عليه السلام: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي [الشعراء:77-78] انظروا نسبته إلى الله تعالى: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشعراء:78-79]، ثم قال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80] فالمرض لأنه شر أضافه إلى نفسه فقال: ((وإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)) عز وجل، ثم قال: وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء:81]، ثم قال: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82] فنسب الخطيئة والشر إلى نفسه. وقال الخضر: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]؛ لأن كونه يخلع لوحاً من السفينة هذا فيه نوع من الشر والإفساد، لذلك أدباً مع الله سبحانه وتعالى نسبها إلى نفسه مع أنه قال: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]، فقد كان بوحي، لكن انظر إلى الدقة في العبارة! قال في السفينة: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، كذلك في الغلام الذي قتله قال: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:81]، أما في الجدار الذي أراد أن يميل فقام في إصلاحه لميل الجدار حتى يظل الكنز مدفوناً ومحفوظاً للغلامين اليتيمين فقال: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، ثم قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ [الكهف:82]؛ لأن فيه إصلاحاً وخيراً: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82]. من ذلك أيضاً قوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7] لكن في الشيء غير المحبوب قال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ [آل عمران:14]. ونستطيع أن نستنبط من هذا قاعدة وهي: أن إيتاء الكتاب أو إيراث الكتاب إذا أتى منسوباً إلى الله فهو سياق مدح لمن آتاهم الله الكتاب، وإذا أتى بصيغة اسم المفعول أو المبني للمجهول فهو في سياق ذم، كما في قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:121] هذا مدح لمن آتاهم الله الكتاب، والآية غالباً تتكلم عن أناس صالحين الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:121]، لكن قوله: الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [البقرة:101]، أو وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى:14]؛ نسبت إلى المجهول فهي سياق ذم. إذاً: لا ينسب الشر إلى الله سبحانه وتعالى، هذا ما تيسر في تفسير قوله تبارك وتعالى: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [يوسف:6].

    1.   

    الأسئلة

    حكم إنكار أحاديث الشفاعة

    السؤال: جاء في بعض الجرائد أن الدكتور مصطفى محمود أنكر أحاديث الشفاعة، وقال: إن أحاديث الشفاعة غير صحيحة! فما قولكم؟ الجواب: الجواب عن مثل هذا إذا صح أنه فعلاً قال هذا، أن نتذكر حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه سلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله)، وهذا هو الشاهد الذي أتمثل به، وإن كان المقصود به طاعة أولي الأمر، لكن سأتمثل هذا وأجتزئ بهذا الشاهد: (وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)، هل هناك أحد يعجز عن الدعوى؟ هل أحد يعجز بلسانه أن يتكلم ويقول أي كلام يريد أن يقوله؟ لكن العبرة هل الذي يتكلم هو من أهل العلم أم ليس من أهل العلم؟ فما دام إنساناً ليس من أهل العلم لا ينبغي له أن يتطفل على مائدة العلماء، وهل كل من يتكلم يستحق أن يرد عليه؟ يقول بعض العلماء: إذا سكت من لا يعلم قل الخلاف، فالمفروض أن نقول كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: ما خان أمين قط، ولكن اؤتمن غير أمين فخان. فبنفس المعنى نستطيع أن نعمم ونقول: ما ابتدع عالم قط، ولكن استفتي غير عالم فأضل الناس. فالضلال والانحراف لا يأتي أبداً من عالم متحقق بعلمه الذي يجمع بين العلم والخوف من الله سبحانه وتعالى، ولا يوجد أحد أبداً إذا كان ابنه الطفل الصغير مريضاً أنه يذهب به عند السمكري، لا يوجد أحد أبداً يريد أن يصلح مثلاً جهازاً كهربائياً ويأتي به للدكتور الجراح، لا، فنحن نحترم الثقافة جداً، ولو أحد أحب أن يأتي لابنه بمدرس خصوصي فإنه ينتقي أحسن مدرس، ويتحرى.. ويسأل عن كذا وكذا.. لكن لماذا الدين بالذات هان علينا، وكل واحد منا يعتبر نفسه شيخ الإسلام؟! إذا فتحت قضية الدين أمام أستاذ في كلية الهندسة.. أو في كذا من التخصصات، أو شخص يبيع خضاراً وبطاطس وطماطم، أو شخص قاعد على شرب القهوة أو كذا أو كذا ممن لا حظ لهم على الإطلاق في العلم؛ فإنه يعطي نفسه الحق في أن يتكلم ويفتي ويجادل ويناقش ويخطئ العلماء أيضاً ويسفههم! هذه مسألة مبدأ: هل هذا من أهل العلم؟ هذا ليس من أهل العلم على الإطلاق، فنحن لا نريد أن نخوض في الكلام على هؤلاء الناس، لكن نقول: من أنت؟ كما قال الشاعر: يقولون هذا عندنا غير جائزٍ فمن أنتم حتى يكون لكم عند يقول لك: أنا عندي .. وفي رأيي.. وأنا أرى كذا وكذا.. فمن أنتم حتى يكون لكم عند؟! فيأتي رجل في هذا الزمان المتأخر وينكر أحاديث الشفاعة، من أنت أصلاً حتى تنكر أحاديث الشفاعة؟! أحاديث الشفاعة متواترة يعني: ثابتة بنفس الطريقة التي ثبت بها القرآن الكريم، فأحاديث الشفاعة متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسواء تكلم فلان أو علان فنحن لا نأبه بمثل هذا، ولا نتكلف الرد عليه؛ لأننا لابد أن نرسي هذا المبدأ، من الذي يتكلم؟ هل هو إنسان مشهود له بالعلم؟ والعبرة بأن يكون مشهوداً له بالعلم بين العلماء، وليس بين عوام الناس الذين لا يحسنون ميزان الأشخاص، فلا نبالي سواء أنكر الأحاديث الواردة في الشفاعة أو غيرها، وإنكارها من صفات الخوارج والمعتزلة، فهم الذين أنكروا أحاديث الشفاعة، وهكذا شخص آخر ينكر رؤية الله في الآخرة.. وآخر ينكر أحاديث المعراج.. وآخر ينكر انشقاق القمر!! هذه فوضى، ولا يحسم هذه الفوضى إلا أن يكون هناك عالم وجاهل، هناك صغير وكبير، وأنا استمعت اليوم في نشرة الأخبار إلى شيء لفت نظري جداً، وفيه علاقة ضعيفة بما نتكلم فيه، يقولون: إن آخر أسلوب لجأ إليه الوحوش الصرب في كوسوفو أنهم يدخلون القرية أو المدينة فيلاقون وجهاء الناس الكبراء من أعمدة الاقتصاد.. أعمدة الطب.. مدراء المستشفيات.. الأطباء المثقفين.. وكذا وكذا، فيأخذونهم ويرحلونهم إلى الحدود، فيصيرون لاجئين، فإذا أراد قوم تشتيت قوم وإذهاب شوكتهم يفعلون هكذا، قال الشاعر الجاهلي: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا لأنه إذا غاب هؤلاء الكبار سيصبح الناس في فوضى، وهذا أسلوب من أساليب القتل المعنوي، إضافة إلى المذابح الدموية التي يفعلونها. فتغييب العقول الواعية من أهل العلم والتخصص يجعل الأمر نهباً لكل من أراد أن يفتي في الدين، وينكر ما ينكر، ويكذب بما شاء أن يكذب، فتتحول الأمور فوضى، فهذه صورة من صور القتل المعنوي، أننا نستفتي أناساً ليسوا من أهل العلم، لنا أن ندخلهم تحت مصطلح: المثقفين.. طلبة علم.. سمهم بما شئت، لكن أن يصدر هؤلاء على أنهم علماء فهذا لا ينبغي أبداً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768086306