وبعد:
أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وهذا هو درسنا الخامس بعد المائة الأولى ليوم الجمعة، الثاني من شهر جمادى الأولى عام (1415هـ).
وعنوان هذا المجلس: الإيمان مفهوماً وتأثيراً.
ولعلنا نتفق جميعاً على أن أهم شيء في هذه الحياة كلها، وأهم شيء في هذا الوجود كله، والأمر الذي قامت لأجله السماوات والأرض، وخلقت لأجله الجنة والنار، والثواب والعقاب، هو أمر الإيمان، وحقيقة التوحيد، ومضمون شهادة أن لا إله إلا الله، إذ إن الله جل وعلا إنما خلق الخلق لعبادته وتوحيده سبحانه وتعالى، وإنما جعل هذه الحياة كلها ابتلاءً واختباراً، لتعقبها بعد ذلك حياة أخرى فيها حساب، وبعد ذلك إما ثواب وإما عقاب، وكل ذلك أساسه ومداره على الإيمان.
ولعلنا أيضاً نتساءل: ما الداعي إلى أن نتحدث في مثل هذا الموضوع؟ وربما قال كثير منا: إنه أمر متفق عليه ولا خلاف فيه، والعلم به حاصل، إلا أنني أقول:
إن أمر الإيمان لما كانت له هذه الأهمية العظمى وجب أن يكون هو الأمر الذي لا يفتر الذاكر عن ذكره، ولا يغفل المعلم عن تعليمه، ولا يتناسى الناس أمره، ولا يجعلون مجلساً من مجالسهم يمر دون تذكرة به أو دعاء إليه أو تعريف به؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم -وهم أعلم الأمة، وأزكاها نفوساً، وأطهرها قلوباً، وأعظمها إيماناً، وأكثرها عبادة- كان أحدهم ينادي صاحبه ويقول له: تعال بنا نؤمن ساعة.
وإن القلوب تغشاها الغفلة، ويضرب عليها الران، وتتكاثر عليها ظلمات المعاصي، فتحتاج دائماً وأبداً في كل ظرف وحال، وفي كل بلد ومكان، وفي كل عصر وأوان، وفي كل حالة من حالات الإنسان؛ إلى أن يتذكر حقيقة الإيمان التي تجلو صدأ قلبه، والتي تربطه في هذه الحياة الدنيا بالحياة الأخرى، والتي تشد حبل صلته بخالقه ومولاه سبحانه وتعالى.
ولذلك جاء مثل هذا الحديث التذكيري الذي أسأل الله جل وعلا أن يجعله حياة لقلوبنا، وأن يجعله تقوية لإيماننا، وزاداً لنا في حياتنا، وقد جعلت الموضوع متعلقاً بمفهوم الإيمان وتأثيره؛ لأن الفهم أساس العمل، ولأن التأثير ثمرة العمل، وعمل بلا فهم كبناء بلا أساس، وعمل بلا أثر كشجر بلا ثمر، إذ عندما يعمل العامل من غير حسن فهم، وكمال تصور، ودقة في العلم، وشمول فيه يخبط خبط عشواء، ويقع في الضلال والانحراف، وتتلقفه الشبهات، ويأخذ في سبل الشياطين إلا من رحم الله، ولأنه إذا فهم ثم لم يعمل العمل الذي يترك بصماته وآثاره في حياته وسلوكه، وفي أقواله وأفعاله، فكأنه إنما أتى بظاهر من القول وظاهر من العمل لم تخلص حقيقته إلى قلبه وسلوكه.
هل الإيمان مجرد القول الذي ينطق به اللسان؟ وهل هو دعوى يمكن لكل أحد أن يدعيها؟
إذاً: كما قيل: (لو كانت الأمور بالدعاوى لقال من شاء ما شاء) إن الإيمان ليس مجرد القول، بل قد أثبت الله عز وجل النطق بالإيمان مع نفي حقيقته، فقال سبحانه وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] أولئك قوم نطقوا بألسنتهم، ورفعوا بالإيمان رايتهم، وصدعوا به في كل مجلس، ونطقوا به في كل محفل، ومع ذلك قال الله عز وجل: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] فنفى عنهم حقيقة الإيمان مع أنهم أظهروها ونطقوا بها باللسان؛ فإذاً: ليس الإيمان مجرد القول، فهل الإيمان هو العمل والالتزام بالمقتضيات والقيام بأداء الصلاة والزكاة، وسائر الأركان؟
لو كان الأمر كذلك لكان بعض أهل النفاق أحظى بوصف الإيمان، وأحظى بالرتب العليا فيه من كثير من الناس، إذ المنافقون يظهرون من الأعمال والمنافسة في الخيرات ما قد يظهر به عند كثير من الناس أنهم قد بلغوا الرتب العليا من الإيمان.
ونأتي مرة أخرى إلى الآيات القرآنية فنجدها تصف أقواماً قاموا بالأعمال الإيمانية، ولكن نفى الله عز وجل عنهم الإيمان، فجاء في وصف أهل النفاق: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142]، وفي سورة التوبة: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54] أولئك قوم جاءوا بالشعائر الإيمانية الواضحة البارزة، فالصلاة قد أطلق عليها في القرآن مسمى الإيمان كما قال جل وعلا: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، لكنهم قوم نفى الله عنهم الإيمان، بل قد قال جل وعلا: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145].
فإذا لم يكن الإيمان هو مجرد القول، ولا مجرد العمل، فهل الإيمان هو حقيقة التصديق والإدراك والعلم والمعرفة؟
والجواب القرآني ينفي ذلك أيضاً، فالله سبحانه وتعالى يقول في حال الكافرين: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] جحدوا بها: أي أنكروها بعد أن عرفوها، واستيقنتها أنفسهم: أي بلغت معرفتهم بها درجة أعظم من درجة العلم، وهي درجة اليقين الذي يعرف به كل الأمور المتعلقة بهذه الحقيقة، فقد عرفوا الحق وأيقنوا بدلالة الإيمان ومع ذلك ما آمنوا، بل صرفهم الظلم والعلو عن ذلك.
ويبين الله سبحانه وتعالى أيضاً هذه الحقيقة في قوله جل وعلا: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] فهم لا يكذبون محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان كفار قريش يسمونه الصادق الأمين.. فقد رأوا من الأدلة البرهانية والمعجزات النبوية ما كان حجة واضحة داحضة لكل شك، فقد انفلق القمر فلقتين حتى كان فوق كل جبل منهما فلقة، ورأوا ذلك عياناً، ثم أصبحوا بالرسول صلى الله عليه وسلم مكذبين، وبالله سبحانه وتعالى كافرين، نسأل الله تعالى السلامة.
وأبو جهل يمثل صورة من صور نفي الإيمان مع تحقق المعرفة، يقول: كنا وبنو هاشم نتنافس الشرف، فإذا كانت لهم السقاية كانت لنا الرفادة، وإذا كانت لهم كذا كان لنا كذا.. حتى إذا تساوينا وتجاثينا على الركب قالوا: منا نبي، فمن أين لنا بنبي؟ فوالله لا نصدقه الدهر كله.
إذاً: ليست القضية أنهم كان ينقصهم الدليل حتى يعرفوا الحق، كلا، فقد عرفوا الدليل، وأقيمت الحجة، وانقطع الشك، لكن القلوب المظلمة المعرضة لم تؤمن بالله سبحانه وتعالى.
وقال قوم مسيلمة الكذاب: (كاذب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر) أي: مادام هذا صاحبنا فنصدقه وإن كنا نعلم حقيقة كذبه، وذلك نكذبه وإن كنا نعلم حقيقة صدقه.
وأضرب لذلك مثلاً بعيداً، ثم آتي بمثل آخر أقرب حتى ندرك أن قضية الإيمان وأن مفهومه أعمق وأوسع وأكثر شمولاً مما قد نتصوره في بعض الأحيان:
لو أن إنساناً جاء إلى أرض صحراوية جرداء لا شجر فيها ولا ماء، وليس فيها من معالم الحياة شيء يذكر، ثم غاب عنها فترة من الزمن وجاء إليها فإذا هي جنان خضراء، وأشجار وثمار، وظلال وارفة، وأزهار زاهية، وثمار يانعة، فإنه لا شك سيعجب عجباً شديداً، بل قد يحكم أو يجزم أو يتصور أن هذه الأرض ليست هي التي رآها من قبل، بل هي أرض جديدة مختلفة، وسيكون عنده يقين جازم أنه قد حصلت أمور أوجبت مثل هذا التغيير، وهذه الأمور بالنسبة له في مثل هذا المثل أمور مادية محسوسة، لابد أن يكون قد جاء إلى هذه الأرض أقوام فحرسوها وزرعوها وحفروها وأخرجوا منها الماء، وفعلوا بها وفعلوا .. واجتهدوا فيها وجدوا حتى حصل مثل هذا الأمر.
ونحن حينئذٍ كأننا نمثل بين شيئين مختلفين، كأننا نذكر صورة من صور الموت والجفاف والجفاء، وصورة أخرى من صور الحياة والحيوية والرواء، وبينهما بعد شاسع وفرق كبير، حتى كأن الأمر لا يرتبط أوله بآخره، أو لا ترتبط هذه بتلك.
وأنتقل إلى المثل الحسي الواقعي بعد هذا المثل التجريبي النظري:
جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجزيرة وقد كانت صحراء جرداء من المبادئ، وكان فيها الكفر ضارباً أطنابه، والظلام مرخياً أستاره، والناس يتخبطون في الجهل والعمى، ويتخبطون في أنواع من الشرك والكفر، وبينهم شحناء وبغضاء، وبينهم حروب مشتعلة وعداوات وحزازات، وعندهم تفاهات في الأفكار.
ثم هؤلاء الناس بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وجدنا فيهم تغيراً كاملاً شاملاً مستوعباً، فإذا أهل الظلمات هم أهل النور والضياء، وإذا الفرق المتناحرة أمة واحدة، وإذا أصحاب الأفكار التافهة هم أصحاب الغايات العظيمة، وإذا بأولئك القوم الذين كان فيهم كثير وكثير من أوصاف الرذيلة قد صاروا معلمي البشرية وقادتها في المبادئ والأخلاق والفضائل والأفكار والأعمال.
فكأن المثل ينطبق مرة أخرى! كأن هؤلاء ليسوا هم الذين كانوا من قبل! ليس هؤلاء القوم هم الذين رأيناهم في تلك الحالة! وسنبحث حينئذ كما بحث صاحبنا في المثل الأول عن السبب.
وإذا جئنا إلى هذه الحقيقة التي ضربنا بها المثل في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قريشاً هي كما هي ما تغير اقتصادها، ولا أمور حياتها الاجتماعية، هي كما هي في رحلة شتائها وصيفها.. في كبريائها وغطرستها.. في أحرارها وساداتها وفي عبيدها .. وهي كما هي في شرب خمرها .. وفي لهوها وعبثها .. ما تغير فيها شيء في أحوالها المادية.
فما الذي إذاً غير هؤلاء الناس؟ ما الذي غير العقول؟ ما الذي غير النفوس؟ ما الذي غير الكلمات؟ ما الذي غير الأعمال؟ ما الذي صاغ الأفكار؟ ما الذي غير كل هذا التغيير الجذري الشامل وبنى هذا البناء العظيم المتكامل؟
سنجيب بكلمة باردة ربما لا ندرك شأوها وعظمتها، سنقول: إنه الإيمان .. إنها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم .. ولكنا نريد أن نعمق ذلك من خلال الآيات القرآنية أيضاً، فقد وصف الله جل وعلا بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ووصف الرسالة التي جاء بها، وما حقيقتها، وما الذي جاءت به إلى البشرية: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ [الشورى:52].
إنك لا تنكر من أمر هذا الميت شيئاً، جسمه طري، وكل شيء فيه كامل تام، ماذا يقول الناس؟
كلمة واحدة باردة: فلان مات! ما معنى مات؟ خرجت روحه.
لكن ما حقيقة هذا المعنى؟ إنه ألغي من الوجود كله، لم يعد له حركة ولا أثر، ولا فكر ولا كلام ولا عمل، وكذلك الإنسان في حقيقة أمره بلا إيمان لا قيمة له.. لا وجود له.. لا قيمة لعمله.. لا أثر لقوله، هو تماماً كجسد بلا روح، ولو أننا رأينا يوماً مريضاً قد أنهكه المرض وأعياه حتى اصفر لونه، وخارت قواه، وغارت عيناه، وأصبح الناس ينتظرون موته بين لحظة وأخرى، ثم أراد الله عز وجل له أن يحيا وأن يبقى، فإذا بهذه القوى الخائرة تعود مرة أخرى فينشط، وإذا بتلك الصفرة التي كانت من أثر المرض تعود قوة وحيوية، إذا بالناس يقولون: سبحان الله! سبحان المحيي! لأنه قد بلغ مبلغاً كأنه قد مات! ثم بعد ذلك قد عادت إليه الحياة: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52].
والله سبحانه وتعالى قد ضرب لنا أمثلة كثيرة بشأن الإيمان وتمثيله بالنور الذي هو أهم شيء للإنسان في سيره في هذه الحياة، فحقيقة الإيمان إذاً: هي الروح المغيرة المحركة، وهو النور الذي يبصر به الإنسان حقائق الدنيا.. حقائق الآخرة.. حقائق الناس.. حقائق الأفكار.. حقائق الأحوال.. حقائق الأعمال.. نور يهدي به الله سبحانه وتعالى من يشاء من عباده.
ولا شك أن من الجرح في الإيمان: أن تحب أعداء الله، وأن تبغض أولياء الله عز وجل، الإيمان ينبغي أن يكون مستولياً على كل شيء، فالكلمة إن نطقت فبمقتضى الإيمان، والعمل إن عمل فعلى منهج الإيمان، والأمل إن وجد فإنه أمل منبثق من حقيقة الإيمان، والغاية إن سعى إليها فإنما هي غاية من غايات الإيمان، وهذا كله معناه أن تتغير الحياة كلها في صغير الأمور وكبيرها، وفي سائر الأحوال والأعصار، لتتغير تغيراً جذرياً شاملاً وفق حقيقة الإيمان، ووفق حقيقة لا إله إلا الله.
ولقد أدرك الكفار هذه الحقيقة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (قولوا لا إله إلا الله كلمة تملكون بها العرب والعجم)، فما كان أسهل أن يقولوها! لكنهم كانوا يدركون أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد بها معنىً عظيماً يكون فيه الحكم لله سبحانه وتعالى، والعلاقة مبنية على مقتضى الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والمحبة والبغض مرتبطة بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأن تغير الحياة كلها وفق هذا المعنى العظيم وهذه الحقيقة الشمولية الكبيرة التي لا تحدها حدود، وهي حقيقة الكون كله، وحقيقة الحياة الدنيا، وحقيقة الحياة الآخرة.
ولذلك فالإيمان تغيير جذري يتناول ميل النفس، ومشاعر القلب، وخواطر العقل، وكلمات اللسان، وعمل الجوارح، ويتناول كل شيء، ويكون مع الإنسان كالدم الذي يجري في عروقه، وكالنفس الذي يتردد في صدره، وأسألكم: هل يمكن للإنسان أن يستغني عن النفس؟
الجواب: لا؛ لأنه إن منع عنه النفس انقطعت عنه الحياة، والأمر كذلك بالنسبة للإيمان، فإن رفعت عنه حقيقة الإيمان .. أو لم تتغلغل حقيقة الإيمان؛ فكأنه قد قطعت عنه أسباب الحياة، وأصبح ميتاً وإن كان يدب بين الأحياء.
وأمثل أيضاً بهذا المثل في صورة أخرى: لو أن إنساناً جاء ليكتم نفسك، هل تبتسم في وجهه؟! وإذا صبرت على ذلك وقتاً من الزمن ثم بدأت تختنق ماذا تصنع؟
إنك تستنفر كل قواك وإن كان هذا الذي يكتم أنفاسك قوياً أو جباراً أو تخشاه، لكن المسألة هنا مسألة موت أو حياة، فيدك ستنطلق، ورجلك ستتحرك، وبدنك سيتغير كله؛ لأنك تدافع عن حياتك ووجودك كله.
فكذلك ينبغي إن حوربت في إيمانك، أو شككت في إيمانك، أو جاء من يمنعك من إيمانك ومقتضيات إيمانك؛ فإن الأمر كأنما يريد أن يسلبك حياتك، وأن يقتل فيك وجودك وحيويتك، فكما لا تستطيع أن تملك صبراً على ذلك الذي يكتم نفسك، فينبغي ألا تملك صبراً على كل ما يخالف مقتضى حقيقة إيمانك.
أول شيء سألوا عنه وهم في ظلمات الكفر، وهم بعيدون عن الإيمان: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) أرادوا مصلحتهم الذاتية على حساب المصالح الأخرى، وأرادوا حظهم الدنيوي دون اعتبار لحظ الآخرة، وانظروا إليهم وهم يقولون: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ)، لم يسألوا: هذه القضية حق أم باطل.. صدق أم كذب.. ظلم أم عدل؟ ما سألوا عن شيء من ذلك؛ لأنهم لا إيمان لهم، وبالتالي لا مبادئ عندهم.. لا قيم عندهم.. لا أخلاقيات عندهم.. ليس عندهم مقومات الحياة الإنسانية.. ولا مؤشرات الفطرة البشرية.
وأجابهم فرعون بنفس المنطق المادي الدنيوي الذي ليس له من الإيمان حظ ولا نصيب: قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الأعراف:114] أي: سيكون لكم أجر مادي، وستكونون من المقربين من فرعون وخاصته وحاشيته، وكان ذلك عندهم مما تهواه قلوبهم، ويخطف أبصارهم، وربما يبذلون كل ما يستطيعون لينالوا حظوة عند فرعون.
ثم مضت القصة كما نعلم، وألقى موسى عليه السلام عصاه: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الأعراف:117] فماذا حدث؟ آمن السحرة برب هارون وموسى.
ما الذي استغرقه هذا؟
جزء يسير من الزمن، كانوا قبل لحظة رمي العصا كافرين، وبعدها مؤمنين، فانظروا إلى التغيير الذي وقع فيه .. في كلامه .. في أفكاره .. في آماله .. في مقالبه .. لنرى أن هذه اللحظة كانت ومضة واحدة سريعة لكنها شملت تغييراً فكرياً نفسياً عاطفياً قوياً عملياً في كل شيء، هؤلاء السحرة الذين قالوا: أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ [الشعراء:41] وكانوا يريدون إبطال الحق ومعاداته، ماذا قالوا بعد أن آمنوا؟
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70] وذكروا هارون مقدماً على موسى في سورة طه، ومؤخراً عنه في الشعراء، وهارون ما ألقى عصا ولا جابه سحرهم، إنما أرادوا بهذا أن يقولوا: آمنا بالإيمان الحقيقي، آمنا برب هارون الذي لم يعمل لنا شيئاً، ولم يواجهنا بعصا، كما آمنا برب موسى، فنحن لم نؤمن بالعصا .. لم نؤمن بهذه القوة الظاهرية، وإنما عرفنا أنها تعبر عن صدق في الرسالة، وحقيقة الإيمان الذي بعث به موسى عليه السلام.
وجاء فرعون بالمنطق الدنيوي الذي بقي عليه: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71] هؤلاء الذين كانوا ينتظرون من فرعون نظرة، وينتظرون منه عطاء، انظروا إلى قولهم وموقفهم! قالوا له وقد تغيرت أفكارهم وآمالهم ومشاعرهم وطموحاتهم: مسكين أنت يا فرعون! ما زلت في ظلمات الكفر! ما زال عقلك بليداً! ما زالت أفكارك تافهة! ما زال حيزك محدوداً ضيقاً! أما نحن فقد تغيرنا فقالوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72].
افعل ما تشاء فإن ما تفعل كله في ميدان الحياة الدنيا، ونحن عندنا أمر آخر وحياة أخرى، فإن أردت أن تقتل فلتقتل فإن وراء الموت حياة أخرى، وإن أردت أن تحرم فافعل فإن وراء الحرمان نعيماً، وهذه لحظة إيمان واحدة.
ثم لما جابههم وجادلهم قالوا: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:51] في السابق كانوا يريدون الأموال والعطاء، والآن يريدون المغفرة والرضوان من الله سبحانه وتعالى، هكذا غيرهم الإيمان في موقف واحد، كانوا قد دخلوا على فرعون راكعين خاضعين معظمين له، كانوا يريدون من فرعون العطاء والنوال، ويرجون عنده المنزلة والجاه، ثم إذا بهم يعرضون عن ذلك كله، ولا يلتفتون إليه، ولا يرهبون قوة فرعون ولا سلطانه ولا جبروته، كل ذلك يعبر لنا عن أمر -كما قلت في الكلمات هو أمر بارد- قد لا يظهر له ذلك التأثير نقول: السبب أنهم آمنوا، لكن انظر إلى حقيقة هذا الإيمان وفهمه الشامل الذي غير كل شيء في هؤلاء القوم.
فهذا الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، وآمن بالنبي عليه الصلاة والسلام، ودخل في دين الإسلام، والإسلام مازال في أول أمره، وآيات القرآن لم ينزل منها كثير، والأحكام لم يأت فيها بعد تفصيل.
ثم مضى الطفيل إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام فلما قدم عليهم لقي زوجته فقال: إليك عني فلست منك ولست مني، مفاصلة اقتضاها إيمانه الذي استولى على قلبه، فلم يطغ عليه حب الزوجة كما لم يطغ عليه تقدير الأب، فلما لقي والده قال: إليك عني فلست منك ولست مني!
أي شيء اعتراك يا طفيل؟
قال: إني آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم، ودخلت في الإسلام، فانقلبت حياته كلها، وتغيرت مشاعره، وغير علاقاته وصلاته وفق هذه الحقيقة الإيمانية.
لقد فاض إيمان أبي ذر واستولى عليه هذا الإيمان حتى جهر به في كل مكان، وصبه في كل الآذان، وخاطب به كل القلوب، وإذا به عندما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم ومعه قبيلتان هما: قبيلة أسلم وقبيلة غفار، كانتا من قبائل الكفر والشرك وقطع الطريق والسطو والسلب والنهب، أتى بهما أبو ذر وحده رضي الله عنه وقد نور الله عز وجل قلوبهم بالإيمان على يده.
وجاء ربعي بن عامر رضي الله عنه، وهو بملابس رثة، ودخل إلى أبهة الملك ومعه حربته يخرق بها الطنافس، ويرقى إلى أعلى مكان عند العظيم الذي يعظمونه، فيسأل: أي شيء جاء بكم وقد كنتم لا يجرؤ أحدكم أن ينظر إلينا؟!
قال: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
لقد أصبحوا أصحاب رسالة وغاية، أصبحوا معلمين وأساتذة وقادة بهذا الإيمان.
ومن خلال هذا الإيمان تغيرت الطموحات، فإذا شاب صغير كـربيعة بن كعب رضي الله عنه وهو في الرابعة عشرة من عمره يسأله النبي صلى الله عليه وسلم : (سلني ما شئت؟ فيقول: أسألك مرافقتك في الجنة)، تغيرت الآمال والأفكار والطموحات، كل ذلك هو مفهوم الإيمان وحقيقته، ولذلك ينبغي ألا نظن أن الإيمان هو القول، أو نضم إليه العمل فحسب دون أن يكون هناك اليقين الراسخ، دون أن يكون هذا التغيير الشامل، دون أن يكون هذا التحول الجذري الذي يتناول جميع مظاهر الحياة، ينبغي أن نأخذ هذا الإيمان من هذا المفهوم العظيم.
قال هذا القول في وسط بيئة الكفر الفرعونية، قاله كما جاء في القرآن الكريم بعد قول فرعون: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26].
وهذا الضعيف المغمور في بيئة فرعون كان يكتم إيمانه، فلما جد الجد، وحق الحق، نطق لسانه، وتحركت عاطفته، وأظهر الوضوح التام والمنهج الصائب الذي لا خطأ فيه.
امرأة فرعون الكافر المدعي للربوبية مؤمنة في وسط هذه البيئة الكفرية، ثم هي تقول: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)، وهي بالنسبة لأهل الدنيا في أعظم وأرقى درجات الثراء والغنى في القصور والرياش والمال والجاه، لكن ما رأت ذلك شيئاً، بل احتقرته وازدرته، وكان عندها استعلاء على كل ذلك، استعلاء على الجبروت والطغيان الذي كان يمثله فرعون، استعلاء على الجاه والمال والحياة الدنيا التي كانت تمثلها دنيا فرعون: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11].
فهو أمر عظيم جداً، ولذلك كل تغيير في حقيقة الأمر ينبغي أن ندرك أنه يرتبط بأمرين اثنين: مبدأ يعتقد أو شهوة تتبع.
انظر إلى أحوال الناس وإلى أعمالهم فإنما يفعل أحدهم الفعل بسبب شهوة دفعته إليه، وإذا لم يكن محباً لهذا فقد يفعله بسبب مبدأ ومعتقد ربطه به، أفلا ترى أهل الإيمان يتركون الدنيا ونفوسهم بها متعلقة، وقلوبهم فيها بحكم الفطرة البشرية راغبة، لكنهم يعرضون عنها؛ لأن عندهم اعتقاداً ومبدأً وإيماناً.
وأحياناً إذا ضعف إيمانهم قادتهم الشهوة إلى مخالفة الإيمان، فما من عمل عند الإنسان إلا وله دافع نفسي، وإما أن يكون الدافع مبدئياً إيمانياً، وإما أن يكون شهوانياً غريزياً، فإذا استحكم الدافع الإيماني فإنه يضبط الشهوة فيجعلها محكومة بحكم الإيمان، وإذا استعلى الجانب الغريزي الشهواني انطلقت هذه الشهوة في ميادين تتعارض مع الإيمان، وتطمس نوره في القلب، وتظلم بها النفس، ويحصل ذلك في حياة كثير من المسلمين وكثير منا إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، فإذا كان هذا هو مفهوم الإيمان فما بعض تأثيراته وآثاره التي نحتاج أيضاً إلى نتأملها تأملاً عظيماً؟
وقد نبه بعض الصحابة تنبيهات إلى أن هذا الأثر مهم، لكنه ليس هو الأصل الأول والأخير، لكنه ليس هو الأثر الوحيد، فإن من الناس من يتصنع البكاء، ومن الناس من يستطيع أن يكون في زحام مع أهل العبادة وأهل الزهد في صورة من الصور، لكن هناك أمور أخرى سأذكر بعضاً منها هي أكثر وضوحاً وتمحيصاً وتمييزاً لآثار الإيمان.
ليست القضية هي هذه المظاهر التي في صدقها خير كثير بإذن الله عز وجل، لكنها في بعض الأحوال تكون من مداخل الشيطان.
ورأت عائشة رضي الله عنها فتية يمشون مشية ضعيفة وقد انحنت رءوسهم، فقالت: (من هؤلاء؟ قالوا: قوم عباد نساك، قالت: رحم الله عمر كان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، وكان هو والله الناسك حقاً).
وأذكر ثلاثة آثار أراها من أعظم الآثار ذات التمييز والتمحيص، والتي يظهر أثرها فيمن يشهدها، ويكون لها فعلها في الناس:
نحن نعلم أن أعظم شيء تنخلع له القلوب، وترتعد له الفرائص، وترتجف منه الأوصال، وتقشعر منه الجلود؛ هو الموت والخوف على الحياة، هذا أكثر ما يجعل الإنسان مضطرباً خائفاً حائراً زائغاً، فإذا جاء الإيمان الحق فإن من أعظم آثاره التحرر من الخوف على الحياة.
كم تحول الناس عن مقتضيات إيمانهم، وتحولوا عن مستلزمات إسلامهم، وغيروا مبادئهم، وباعوا دينهم خوفاً على هذه الرقبة أن تنفصل عن الجسد، وخوفاً على الحياة وتشبثاً بها، ولذلك قد ذم الله عز وجل اليهود بهذا الذم القبيح في وصفهم المستحقين له، قال في حقهم: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96].
يحرصون على الحياة وإن باعوا المبادئ، وإن داسوا على الإيمان، وإن تخلوا عن المعتقد، المهم أن يحيا وأن يعيش.
أما المؤمن فمن أعظم آثار إيمانه أنه إذا وضعت حياته في كفة وإيمانه في كفة ضحى بالحياة في سبيل الله، ورأى أنه ينبغي أن يستبقي إيمانه بالله وإن ذهبت في سبيله الحياة، فهذا يمحص الناس ويفرق بينهم، قد نتزاحم في المساجد وقت الرخاء .. قد نفعل ما نفعل من أعمال البر والخير؛ لأنها ميسورة، أما إذا جاء الأمر متعلقاً بالروح والموت، والاستشهاد في سبيل الله، أو تقديم الروح افتداء لدين الله عز وجل؛ فهنا يتردد المترددون، وينكث الناكثون، ويتخاذل الضعفاء.
هذا أنس بن النضر رضي الله عنه في أحد لما فاتته بدر قال: (لئن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين ما أصنع)، فلما جاء يوم أحد وحصل ما حصل من تحول موازين المعركة قال أنس بن النضر : (واهاً لريح الجنة! والله إني لأجد ريحها دون أحد) ثم انطلق ومضى، مضى إلى أي شيء؟
لم يمض ليلقي بموعظة في المسجد أو ليزور أخاً في الله، مضى إلى سيوف تبرق، وإلى دماء تسيل .. مضى إلى الموت وهو يراه أمام عينيه، فجعل يضرب في صفوف المشركين، ويلقي بنفسه عليهم، لا يعبأ بالموت ولا ينظر إليه، ولا يخشى منه، حتى استشهد وفي جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة، وفي صحيح البخاري عن بعض الصحابة أنه قال: (ليس منها شيء في ظهره).
هؤلاء قوم تحققوا من إيمانهم، أما أن يكون الإيمان أقوالاً وادعاء، وبعض الأعمال التي فيها خير فإن ذلك مرتبة، ومرتبة أعلى منها هي مثل هذه المرتبة عندما مثل بها علي رضي الله عنه فقال:
أي يومي من الموت أفر يوم لا قدر أو يوم قدر
يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر
عندما يهدد الإنسان بالموت أو يرهب بأن تسلب منه الحياة، هنا تظهر آثار الإيمان القوية: هذا عبد الله بن حذافة السهمي لما كان في أسر أهل الكفر قال له عظيمهم وملكهم: تدخل في ديني وأعطيك شطر ملكي.
ينظر منظار المادة، قال: لو أعطيتني ملكك وملك غيرك ما تركت ديني، فجيء ببعض أسرى المسلمين يغمس أحدهم في زيت مغلي يدخل لحماً ويخرج عظماً، ثم الثاني والثالث، ليؤثروا على عبد الله بن حذافة ويقولون: اعلم أن مصيرك كمصيرهم إن لم تجب إلى ما أردنا.
يريدون أن يزعزعوا ثقته، أن يملئوا نفسه رعباً وقلبه خوفاً، لكنه كان في واد آخر غير واديهم، فدمعت عينه دمعة، فأخبر الملك بذلك، فأوقف الأمر وقال: لعله قد لان، ثم سأل: ما يبكيك؟ قال: قد ذكرت أن لي نفساً واحدة تغمس في هذا القدر فتزهق في سبيل الله، ولقد وددت لو أن لي بعدد شعر رأسي أنفس تزهق في سبيل الله عز وجل!
بكى أن عنده نفساً واحدة تزهق في سبيل الله، وكان يتمنى أن تكون عنده أنفس كثيرة ليحقق إيمانه، ويبذل حياته في سبيل هذا الإيمان، يريدون منه أن يتزعزع بهذه السيوف التي تبرق.. بهذا الجبروت الذي يسيطر، لكن إيمانه كان أعلى وأقوى وأسمى من كل ذلك.
وهكذا نجد هذا الأثر واضحاً جلياً في مثل هذه الأمثلة، وليس مقصودنا الاستطراد والاستيعاب.
كثير من الناس يقول لك: مالك تلقي بنفسك إلى التهلكة؟ دعنا نأكل لقمة عيش، ولعله كما في ذهني أن يكون لنا حديث في درس قادم إن شاء الله عن هذا المعنى وحده، فكم أذل الحرص أعناق الرجال! وكم ذهب الذهب بكثير من الأبصار! وكم مال المال بكثير من الرجال!
فهذه الحياة الدنيا إذا جاءت المساومة عليها والضغط فيها هنا يظهر الإيمان قوياً، وتتجلى آثار الإيمان العميق، فيبقى الثبات قوياً، وتبقى الدنيا كلها لا قيمة لها في مقابل الإيمان والدين، أما ما يحصل في حياة كثير من الناس بأن يغيروا فيما نهوا، وأن يتلونوا كالحرباء، وأن يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، فأولئك لا شك في ضعف إيمانهم، وفي تزعزع يقينهم، وفي غلبة الأهواء على نفوسهم وقلوبهم، نسأل الله عز وجل السلامة.
فهذا التحرر من الخوف على الرزق تظهر له أمثلة كثيرة جداً في حياة الصحابة، بل وفي حياة من جاء بعدهم من أهل الإيمان، فـعثمان رضي الله عنه كان إنفاقه في سبيل الله كثيراً حتى إنه جهز جيش العسرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ضر
ماذا يقال لمثل هذا الصنيع بالمقياس المادي؟ يقال لمثل هذا أو لفاعل هذا من الناس: إنه رجل أحمق وأخرق، وإنه رجل لا يعرف كيف يدبر أمور حياته، ولا يعرف كيف يؤمن مستقبله، ولا يعرف كيف يختزن القرش الأبيض لليوم الأسود كما يقولون، أما الصحابة وأهل الإيمان فكانوا ينفقون ولا يخشون الفقر؛ لأن الدنيا كلها في كفة، ونصرة إيمانهم ودينهم في كفة أخرى، وإذا سوموا على الإيمان بهذه الدنيا والأموال فلا أثر ولا قيمة للدنيا مطلقاً، وقد رأينا قصة عبد الله بن حذافة السهمي.
وذكر عن بعض أهل العلم أنه جيء به في فتنة خلق القرآن ودعي إليها، وكان ممن ينفق عليه من بيت مال المسلمين؛ لأنه يعلم في المساجد، فأبى أن يجيب إلى ذلك فقيل له: إذاً نقطع عنك جرايتك أي: نقطع عنك مصدر الرزق، فماذا قال هذا المؤمن الواثق بالله عز وجل الذي ظهر أثر إيمانه جلياً واضحاً؟
تقول الرواية: فأخذ بزر قميصه فخلعه، ثم قال به في وجه من أمامه قائلاً: ما دنياكم التي عليها تحرصون إلا كمثل زري هذا، هذه الدنيا لا قيمة لها عندنا، نخلعها وقت ما نشاء مثل الثوب أخلعه وقت ما أشاء، وألبسه وقت ما أشاء، ويبقى الجسم والجسد هو الأساس.
وهكذا نجد الأمثلة في ذلك كثيرة، والإمام أحمد قد ضرب في ذلك مثلاً، فإنه ما خشي الموت، ولا مالت به الدنيا حتى جاءه من يهون عليه فيقول له: إن لك أبناء، وإن لك نساء، وإن لك كذا وكذا .. فقال لمحدثه: يا أبا سعيد إن كان هذا عقلك فاسترح.
أي: هذه عقول تفكر بالتفكير الدنيء.. بالتفكير الذي لا يرتقي إلى مستوى الإيمان العظيم.
فالمراقبة هي التي تجعل الإنسان في مشهده ومغيبه.. في ظاهره وباطنه.. في سره وعلانيته، على مقتضى ما يحب الله سبحانه وتعالى، هذه اليقظة الإيمانية هي التي حكمت قلوب المؤمنين فعرف كل منهم الحق الذي له فلم يتجاوزه، وعرف كل منهم الواجب الذي عليه فلم يقصر فيه، فما وجد اعتداء، ولا وجدت خيانة، ولا وجدت مراوغات، ولا وجدت صور أخرى من صور فساد الحياة؛ لأن الناس كانوا يراقبون الله عز وجل، فيصدقون إذا صدقوا لأجل الله، ويحرصون على الإتقان في أعمالهم لوجه الله، وكل حياتهم فيها استشعار لمراقبة الله عز وجل، بل ربما كان بعضهم إذا كان خالياً بنفسه منفرداً لوحده أكثر احتياطاً وشدة مع نفسه، وتربية لها وتذليلاً لها بين يدي الله منه أمام الناس، وكان كل منهم يستيقن بذلك يقيناً ظاهراً واضحاً بيناً يملك عليه نفسه، والأمثلة أيضاً في ذلك كثيرة؛ وكما قال القائل في هذا الشأن:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وكذلك سئل بعض السلف عن غض البصر، كيف الطريق إليه؟ فقال: علمك بأن نظر الله إليك أسبق منك من نظرك إلى ما حرم عليك، يعني: أن تعلم وأن توقن أن الله مطلع عليك، وناظر إليك قبل أن تنظر إلى ما حرم الله عز وجل عليك.
وهكذا كان هذا الإيمان مملكة كاملة تحكم ضمير المؤمن فلا يتجاوز حداً من حدود الله، ولا يرتكب شيئاً من معاصي الله إلا غفلة أو سنة ثم يعود، وهذا من طبيعة الفطرة الإنسانية البشرية، لكن هذه اليقظة الإيمانية هي التي أوجدت الأمثلة الرائعة الرائدة في حياة الأمة الإسلامية، كما ورد في بعض كتب السير والتراجم: أن أبا بكر رضي الله عنه اتخذ عمر قاضياً يقضي بين الناس إذا اختلفوا، فما أتاه أحد، ولا اختلف عنده أحد، ولا احتكم إليه أحد، وقال عمر : (ما حاجتي إلى قوم عرف كل منهم الذي عليه فأداه، وعرف الذي له فلم يتجاوزه).
وهكذا نعلم قصة المسلم من جيش القادسية، رجل من غبراء الناس لم يذكر له اسم، ولا عرف بميزة، أرسله سعد ليبشر عمر بفتح القادسية، وأرسل معه ما أخذ من إيوان كسرى ملك الفرس، وماذا كان فيه؟ كان فيه التاج والذهب واللؤلؤ والجوهر، وأشياء مما لم تكن تخطر على بال أولئك المسلمين الذين عاشوا حياة شظف وبادية ليس فيها شيء من هذا الترف.
فجاء هذا المسلم البسيط من أقصى شمال الجزيرة إلى المدينة وعنده هذه الثروة العظيمة! لم تحص عليه، ولم تدرج عليه، ولم يوقع باستلامها، ولم يدخل في بوابات لتفتش جيوبه، وإنما سلمت له هكذا، ومضى بها في هذا الطريق الطويل، وقدم بها على عمر رضي الله عنه فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! إن سعداً يبلغك السلام، ويبشرك بنصر الإسلام والمسلمين، وهذا ما في إيوان كسرى.
فنظر عمر إلى هذا فاستعظمه واستكثره، ثم بكى وقال: (إن قوماً أدوا هذا لأمناء، فقيل: لقد عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا).
هذا رجل من عامة الناس ليس مشهوراً، ليس مذكوراً، ليس معروفاً، فهذا نموذج لمن كان الإيمان يحكم حياته ويقوم مراقبته في كل شأن من شئون الحياة، وهكذا تجد أمثلة كثيرة ليس هذا هو مقام ذكرها، وإنما أردت أن أبين أن هذه الآثار الثلاثة من أعظم الآثار التي تميز إيمان المؤمن، وتمحصه وتبين حقيقة موقفه.
هل ظهرت الآثار فآثرنا الأخرى على الدنيا؟
هل تحققنا بأثر الإيمان فراقبنا الله في السر والعلانية؟
هل انقلبت حياتنا انقلاباً صحيحاً كاملاً لا حظ فيها ولا شركة لغير الإيمان بالله؟
هل تجردنا لهذه الحقيقة؟
هل وقفنا المواقف الإيمانية التي نعمق فيها حقائق الإيمان لتثبت وتصد كل شيء يعتورها أو يجابهها أو يصادمها من أمور القوة أو الغطرسة أو الجبروت أو الطغيان أو الفتنة أو الشهوة أو المال أو الجاه أو غير ذلك؟
أظن كل واحد منا لو سأل نفسه لوجد في الإجابة تقصيراً كثيراً، ولوجد هناك ما يستدعي أن يلوم نفسه، وأن يعاتبها، وأن يحاسبها، وأن يشدد عليها، وأن يحيي معاني الإيمان في قلبه، وأن يتطلب المواطن والمواضع والأعمال والأحوال التي تعيد الحياة إلى قلبه، والنور إلى نفسه، أن يعيد الارتباط بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، وأهل الإيمان الذين ضربوا لنا الأمثلة الرائعة التي أشرنا إلى بعض منها.
نحن -أيها الأحبة- في حاجة إلى إحياء إيماننا .. إلى تقويته .. إلى إزالة الشركة التي دخلت مع إيماننا فصارت لنا أهواء غير مقتضيات الإيمان، وصارت رغبات غير رغبات الإيمان، وصارت لنا أهداف وغايات ومطامح وأمور، بل ربما سلوكيات وأعمال لا تتفق معها سلوكيات الإيمان، ولذلك كان أمر الإيمان فاصلاً ومفاصلاً، ومقتضياته واضحة وجلية، وممحصة مميزة.
فالله أسأل أن يجعلنا من أهل الإيمان والتقوى، وأن يعظم الإيمان في قلوبنا، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والله أسأل أن يحفظنا، وأن يعصمنا بالإيمان والتقوى، وبالصلاح والاستقامة والهداية، ونسأله جل وعلا لنا ولكم المزيد من التوفيق والسداد، والثبات على الحق، والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الجواب: أحب -أيها الإخوة- أن نكون صرحاء مع أنفسنا، ولذلك أسأل سؤالاً أوجهه إلى نفسي وإليكم: هل نحن نجهل الوسائل التي تزيد الإيمان أم أننا لا نعمل بها؟
في تصوري أن الجواب يتعلق بالشق الثاني لا بالشق الأول، أيجهل أحدنا أن من أسباب زيادة الإيمان الإكثار من الطاعات والنوافل والصلوات في جوف الليل؟
أيجهل أحدنا أن من وسائل زيادة الإيمان دوام الاستغفار وكثرة الأذكار وتلاوة القرآن، وترطيب اللسان بذكر الله عز وجل؟
أيجهل أحدنا أن من زيادة الإيمان دوام الدعاء والتذلل لله سبحانه وتعالى؟!
أيجهل أحدنا أن من وسائل زيادة الإيمان تذكر الآخرة واستحضار الموت واستعظام الوقوف بين يدي الله عز وجل؟
أيجهل أحدنا أن من أسباب تقوية الإيمان زيارة المقابر وتذكر الآخرة؟
أيجهل أحدنا أن المواعظ التي تذكر بالآخرة والآيات التي تذكر بها هي مما يزيد الإيمان؟
أيجهل أحدنا أن الإنفاق وأن الجهاد من زيادة الإيمان وأسباب زيادته؟
أيجهل أحدنا أن من أسباب ضعف الإيمان غفلتنا عن هذه المعاني وارتكابنا للمعاصي؟
أقول: إن أكثرنا إن لم يكن كلنا لا يجهل شيئاً من ذلك، نحن لا نفتقر إلى العلم، بل نفتقر أكثر ما نفتقر إلى العمل، وليس إلى العمل فقط، وإنما إلى استمرار العمل، وليس استمرار العمل فقط، وإنما إلى حقيقة كمال وتأثير العمل، نحن نصلي وقلوب أكثرنا إلا من رحم الله غافلة لاهية، نحن ندعو وأبصارنا تطوف هنا وهناك، وعقولنا تمضي في أودية الدنيا ومشكلاتها ومشاغلها، نحن نقرأ القرآن لكن التدبر قليل.. لكن التأمل نادر.. لكن التأثر محدود.
فإذاً: ينبغي أيها الإخوة! أن يواجه كل منا نفسه: بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14]، وانظر أخي إلى مواطن تعلم من نفسك فيها تأثراً إيمانياً، وصفاء روحانياً، فانظر إليها أين تكون، والزمها حتى لا تفوتك، ألست في بعض الأحوال تسمع من يذكرك بالآخرة ويشتد عليك ويذكر الآيات فتتأثر ويلين قلبك، وتدمع عينك؟
إذاً: فقد عرفت فالزم، ألست ترى في بعض الأحوال كما يكون أحياناً في رمضان، ومع جمع الناس، ومع كثرة الصلاة والتلاوة أنك سريع العبرة، كثير التذكر، حاضر القلب؟
قد رأيت ذلك، وقد لمسته، وقد عرفته وذقته، فما بالك تتخلى عنه؟
إنه ضعف العزيمة، إنه الانشغال بالدنيا، إنه عدم وجود المذكرات والمرغبات والملزمات التي نتواصى بها فيما بيننا، فنحن كما قلت: لا نجهل، ولكننا لا نعمل، والله عز وجل أسأل أن يبرئنا من هذه العيوب وأن يحيي قلوبنا ويزيد إيماننا.
الجواب: هذا كلام حق، فقد كثرت الفتن، وأطلت برءوسها، وتعددت الشبهات، وتغيرت أسماؤها وألوانها، وقد كثرت صور الفساد والفواحش في كثير من البلاد والعباد، ولا شك أن هذا يستلزم مزيداً من التوقي والتحصن ومزيداً من العمل والاجتهاد.
فإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم والرسول عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم والقرآن يتنزل عليه، والبيئة نقية طاهرة نظيفة ليس فيها لغط من القول، ولا فاحش من الفعل، ولا منكر من الأحوال، ولا ظهور بالآثام، ومع ذلك كان الواحد منهم يخشى الذنب والغفلة، كأنما هو محاط بها وغارق فيها، وموجهة إليه سهامها، إذا كان هذا حالهم فما ينبغي أن يكون حالنا!
الحق أننا نحتاج أولاً إلى الوقاية من الواردات التي ترد على الأسماع والأبصار، وترد على الأفكار، لأنها تخلص إلى القلب، فتضعف الإيمان، وتزرع الشك، وتبذر بذور الشهوة الآثمة المحرمة، فاصرف بصرك عما حرم الله، وصم أذنك عما حرم الله، وامنع فكرك أن يفكر في غير ما أحل الله حتى تحفظ نفسك أولاً، ومن جميل كلام ابن القيم أنه قال: دافع الخطرة، أي: خاطر السوء الآثم من البداية، فحاول أن تجعل الحواجز وأسباب الوقاية، فإن لم تفعل صارت فكرة تعشعش في رأسك وفي عقلك، فدافعها، فإن لم تفعل صارت شهوة، أي: نزلت إلى قلبك وتمكن حبها منه، فحاربها؛ لأن المسألة تحتاج إلى مدافعة، فإن لم تفعل صارت همة وعزيمة، فحاربها وامنعها، فإن لم تفعل وقعت في الذنب، فتداركه بضده، أي: التوبة والاستغفار، فإن لم تفعل صار عادة يصعب عليك الانتقال عنها.
فينبغي أن نأخذ بأسباب الاحتياط، فلا تجعل سمعك وبصرك وفكرك مفتوحاً لهذه الأمور، ثم تشكو بعد ذلك:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
الجواب: هو دليل أولاً على وجود الإيمان، وهو كذلك دليل على رتبة في الإيمان أدنى من غيرها؛ لأن هذه مسألة مهمة يرى بعض الناس أو يظن أو يتوهم أن إنكار القلب لا شيء، وهذا خطأ مخالف لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره) فكل ما ذكر في الحديث من أسباب التغيير: يغيره بيده.. بلسانه.. بقلبه.. فإذاً: الإنكار بالقلب نوع من التغيير، قد يقول قائل: وكيف يكون نوعاً من التغيير ولم تنطق به لسان، ولم تتحرك به يد؟
أقول: أولاً لا بد أن نوقن بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ونؤمن به، ولسنا في شك من هذا، فهو قد أثبت الإيمان للمنكر بقلبه، وأثبت وجود التغيير وحقيقة الإنكار للمنكر بالقلب، وإن كان الإنكار باللسان أو باليد بحسب الإمكان أقوى وأعظم، كيف يكون الإنكار بالقلب مؤثراً؟
أولاً: أعظم أثر له أنه يحفظ الإيمان في قلبك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) إذا لم يتغير قلبك وينكر فقد برئ منك الإيمان إلا أن يشاء الله شيئاً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، وفي بعض الأحاديث الأخرى: (ولكن من رضي وتابع) أي: من وافق وأحب، وهذا فرقان ما بين أهل الإيمان وأهل النفاق، قد يسكت اثنان عن أمر فلا ينكرانه بلسان، ولا يغيرانه بيد، لكن أحدهم في قلبه حزن وألم وضيق وتبرم لهذا المنكر، وذاك فرح به سعيد، يتمنى لو ارتكب المنكر بنفسه، فهذا فرق عظيم غير ظاهر للناس، ولكنه معلوم عند الله عز وجل.
وأمر آخر: أن القلب إذا تغير فأنكر انقبض عن صاحبه المنكر، فكان هناك نوع مجافاة أو اعتزال، فيرى صاحب المنكر أن القلوب منه نافرة، وأن النفوس عنه منقبضة، وأن الوجوه في وجهه مكشرة، فيجعله ذلك محاصراً حصاراً نفسياً يدفعه إلى أن يترك المنكر ليكون مع الناس.
الجواب: ليس على إطلاقه، فإذا كان همك بالإسلام، وغمك على أحوال المسلمين، وضيق صدرك لأنك لا تستطيع أن تؤدي الواجبات كما فرضت عليك، ولأنك تريد أن تعمل بالدعوة والجهاد ولكنك لا تستطيع، فهذا همٌّ جيد وحسن، وهو همّ مطلوب يذكي حرارة الإيمان في القلب ويشعل جذوتها في النفس، وهذا أمر مطلوب، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس حملاً لهم الدعوة والإسلام، حتى قال الله عز وجل في شأنه: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6] أي: لعلك مهلك نفسك وراءهم تريد إيمانهم، وترغب في إسلامهم، وتحزن لضلالهم.
وقد كان كذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في نفسه وقلبه من الرأفة والرحمة والشفقة على الناس ما يريد به الخير لهم كلهم، وقد قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام: (مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار) وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن.
أما إذا كان مهموماً لأنه لم ينل الترقية، أو مهموماً لأنه نقص راتبه أو لكذا.. فهذا لا شك أنه هم دنيوي دنيء ينبغي أن يستعلي المسلم بإيمانه عن هذا.
ولا شك -أيها الإخوة- أن هناك أموراً فطرية بشرية؛ الإنسان قد يفقد عزيزاً يموت فيحزن ويغتم، وهذا شيء لا شيء فيه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر