وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
سنتكلم عن مسألة مهمة، ولعلها تكون جديدة في الطرح، ألا وهي منزلة المال في الإسلام.
المال في ذاته لا يحب ولا يذم، فالمال في حد ذاته ليس محبوباً ولا مذموماً، وإنما يحب ويذم لصفة تتعلق بالآدمي الذي يحرص على تحصيله.
ولو نظرنا إلى الناس تجاه تحصيل المال لوجدنا أن الباعث لهم على ذلك أشياء وأسباب كثيرة، ونجد أن الناس يتعاملون مع المال سلباً وإيجاباً، فمن الناس من يحصل على المال من غير حله ويضعه كذلك في غير حله، فيحصل عليه من الحرام ويضعه في الحرام، ومن الناس من يحصل عليه من الحلال ويضعه في الحرام، يكتسبه من عمل حلال ثم يشرب به الخمر مثلاً، ولا شك أن هذا مذموم من وجه وممدوح من وجه آخر. ومن الناس من يكسب المال من الحرام ويضعه في الحلال، ولكنه لا يقبل منه، كالذي يسرق مثلاً ليتصدق، أو كالتي تغني لتقضي ديونها، فلا شك أن هذا المكسب حرام، وإن كان الباعث عليه باعثاً جميلاً، وخير باعث على تحصيل المال أن يسد به المرء حاجته الدينية والدنيوية من حل أحله الله له.
فالمال لا يذم ولا يمدح لذاته، وإنما يذم ويمدح لمتعلق الآدمي الذي انبعث من أجله في طلب وتحصيل هذا المال، وقد يكون هذا الباعث شدة فقر الآدمي أو تناوله من غير حله، أو لإخراجه في غير وجهه، أو ليفاخر الناس أنه صاحب مال، ولهذا قال الله تعالى: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28].
وإذا كان الباعث على تحصيل المال باعثاً غير شرعي فلا شك أن هذا المال سيكون فتنة لصاحبه.
في سنن الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).
فلو أنك أرسلت ذئاباً جائعة في حظيرة غنم، فإن هذه الذئاب ستفسد تلك الأغنام كلها، وحرص المرء على تحصيل المال وإثبات الشرف والجاه لنفسه من جهة الشرع، والبيان للناس أنه من أهل العلم لا شك بأنه أفسد للمال وللدين من إفساد الذئاب حظيرة الغنم.
فقد كان عمر يدرك أن هذه الفتوح تحمل بين طياتها من الشر ما لم يكن موجوداً في عصر النبوة ولا في عصر الصديق رضي الله عنه، وكان يوقن تماماً أن هذه الفتوح كما تحمل الخير فإنها تحمل كذلك الشر.
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يدرك ذلك جيداً، فكان إذا فتح الله على المسلمين بلداً من البلدان كان الناس يضحكون ويمرحون، إلا هو فكان يبكي ويقول: لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم) .
فكان ينظر إلى الفتوح وإلى كثرة المال الذي أتى من قبل الغنائم على أنه شر وليس خيراً.
وقال يحيى بن معاذ: الدرهم عقرب، فإن استطعت رقيته وإلا فلا تأخذه، فإنه إن لدغك قتلك سمه، قيل: فما رقيته؟ قال: أخذه من حله ووضعه في حقه. أي: أن تأخذه من حلال وتضعه فيما أمرك الله عز وجل.
وقال: مصيبتان للعبد في ماله عند موته، قيل: ما هما؟ قال: يؤخذ منه كله ويسأل عنه كله.
فهو يدع المال كله للورثة، ومع هذا فسيحاسب عن هذا المال كله.
وقال كثير من المفسرين: الخير هنا المال أو الخيل. والخيل عند العرب مال.
وكان العرب يقولون: ليس المال ما جمع، إنما المال ما نفع. فليس المال هو الذي يجمعه صاحبه، وإنما هو الذي ينفع صاحبه بين يدي الله عز وجل، وقال الله عز وجل: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5].
وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: لا خير فيمن لا يجيد أن يجمع المال من حله، يكف به وجهه عن الناس -يعني: عن السؤال- ويصل به رحمه، ويعطي منه حقه.
وقال أبو إسحاق السبيعي: كانوا يرون السعة عوناً على الدين. أي: كانوا يرون كثرة المال عوناً على الدين.
فلو كان المال في يد أمينة واعية تحرص على طاعة الله ومرضاته فلا شك أن هذا المال سيكون لها سعة في الدين، ومنفعة بين يدي الرب تبارك وتعالى.
وقال سفيان : المال في زماننا هذا هو سلاح المؤمن.
وخلاصة الأمر أن المال حية، فيها سم وترياق، فترياقه فوائده وغوائله هي سمه، فمن عرف فوائده وغوائله أمكنه أن يتحرز من شره وينال من خيره.
فمن عرف قيمة المال وفوائده ونفعه فلا شك أنه خير عظيم له، يعود نفعه عليه في الدنيا والآخرة.
ومن نكث ولم يعرف فائدة المال من غوائله وشره فلا بد أن يقع في الشر.
فوائد المال الدنيوية يعرفها الناس جميعاً، ولذلك تهالكوا وتهافتوا على تحصيل المال لأجل هذه المنافع الدنيوية، وإشباع الشهوات والرغبات.
وأما منافعه الدينية فتنحصر في ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن ينفقه على نفسه، إما في عبادة كالحج والجهاد؛ لأنه لا حج بغير مال، ولا جهاد كذلك بغير مال، فقد كان الفقراء يأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطلبون منه أن يحملهم إلى الجهاد، فيقول: لا أجد ما أحملكم عليه، اذهبوا إلى فلان؛ لأنه عنده مال، وهو يستخدمه في حقه بعد أن حصله من حله، فلا جهاد إلا بمال، ولا دفاع عن بيضة الإسلام إلا بتوفر الأسباب والوسائل، ومن أعظمها بعد الإيمان بالله المال.
كما أنه لا حج إلا بمال، وقد شرط الله عز وجل الحج بالاستطاعة، والاستطاعة: هي الزاد والراحلة، كما ورد في الحديث عند أحمد، فمن كان عنده راحلة وزاد يكفيه ويكفي من يخلفه من أهله وعقبه مدة الحج فإن الله قد فرض عليه الحج.
فمن منافع المال الدينية: أن يستغل المرء المال بالإنفاق على نفسه في العبادات كالحج والجهاد، وأيضاً في الاستعانة به على العبادة كالمطعم والملبس والمسكن.. وغيرها من ضرورات المعيشة، فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر لم يتفرغ القلب لعبادة الله عز وجل، وما لا يمكن العبادة إلا به فإنه كذلك عبادة.
فلو حرصت من الآن على أن تجمع مالاً يكفيك للحج، فلا شك أن سعيك لتحصيل هذا المال بهذه النية هو عبادة لله عز وجل، حتى وإن لم تحج فيكفيك نيتك الصالحة في تحصيل المال لأجل قضاء الفرائض، أو القيام على طاعة الله عز وجل.
والنوع الثاني: ما يدفعه للناس، وهو أربعة أقسام:
القسم الأول: الصدقة، فلو سعى لتحصيل المال من أجل أن يتصدق به على عباد الله الفقراء، ويخرج منه الزكاة التي بها يحصل التكافل الاجتماعي بين الفقير والغني في المجتمع كما كان الحال في عهد الخلافة الراشدة، وفي عهد عمر بن عبد العزيز فهذا عبادة.
القسم الثاني: المروءة، وهي: صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة وهدية .. وما إلى ذلك، كما في الحديث: (تصدق الليلة على غني.. تصدق الليلة على زانية.. تصدق الليلة على سارق) .
وهذا يدل على أن صرف المال إلى هؤلاء الأصناف أمر جائز، وإن كان الأولى صرفها إلى من ذكرهم الله تعالى بقوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60].. إلى آخر الآية.
القسم الثالث: وقاية العرض، مثل بذل المال لدفع هجاء الشعراء مثلاً، وقد كان الشعراء يدخلون على الملوك والسلاطين وأصحاب الأموال، فإن أعطوهم رضوا، وإن لم يعطوهم سخطوا عليهم وهجوهم بالشعر في أعراضهم.
والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه). وفي كل زمان ومكان يوجد أناس تخصصوا في التسول وسؤال الناس وسلب أموالهم ولو بالقوة، وهذا الصنف من الناس يمكن شراء ذممهم وألسنتهم بدفع بعض المال إليهم ذباً عن العرض والنفس؛ حتى لا يهجو الشخص بكلام ساقط، ثم إن هذا الكلام يجد من يلتقطه.
القسم الرابع: ما يعطيه أجراً على الاستخدام، ولا شك أن هذا أمر مطلوب ولازم، فإن المرء له حاجات كثيرة، ولو قام بكل حاجة يحتاج إليها بنفسه وبيده لضاعت الأوقات وفنيت الأعمار دون أن يحصل مراده من كل شيء، فيلجأ إلى قضاء بعض الحاجات عن طريق الغير، ولا بد وأن يكافئ هذا الغير، وخاصة أهل العلم مثلاً، فلو أن رجلاً من أهل العلم له حاجات دنيوية، وإذا أراد قضاءها فلن يتفرغ للدعوة إلى الله عز وجل، فالأولى أن يكون معه مال يستخدم به أناساً آخرين لقضاء حاجاته الدنيوية؛ حتى يتفرغ هو للمهمة الدينية التي لا يقوم بها إلا هو.
النوع الثالث: أن ينفق منه لا إلى جهة معينة وإنما في المصالح العامة كبناء المساجد والقناطر وسائر أنواع الوقوف .. وغيرها، ولا شك أن هذه فوائد دينية شرعية، والله تبارك وتعالى يأجر صاحب المال على إنفاق المال في هذه الوجوه ؛ لأنه حصل المال من حله ووضعه في حقه.
هذه جملة فوائد المال في الدين، ففي اكتسابه الخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر، والعز بين الخلق، والوقار.
فأما الغوائل والشرور الدينية فهي ثلاثة كذلك:
الأولى: أنه يجر إلى المعاصي غالباً؛ لأن كل معصية لها قوة، ولها سبل ووسائل، فإن تحققت القوة ووجدت السبل والوسائل كان المرء أسرع ما يكون إلى الوقوع في تلك المعصية، فلو أن إنساناً يملك مالاً وعرضت بغية من البغايا نفسها عليه وهو لا يستطيع أن يأتيها، وإن كانت السبل والوسائل قد توافرت فلن يقع في الفاحشة؛ لأنه لا يستطيع أن يأتي النساء، ولو كان شاباً فتياً معه المال وهو مليح الوجه فسيقع؛ لأن هذه الأسباب والوسائل إذا توافرت دفعته، إن لم يحجبه دين من الوقوع في تلك الرذيلة والفاحشة.
وفي النصف الثاني من رمضان جاء رجل إلى أحد المدرسين وقال له: ساعدني فأنا أحتاجك أشد الاحتياج، فقد كاد ابني ينحرف، فذهب ذلك المدرس -والنقل عنه مشافهة- معه إلى البيت وجلس مع الوالد وولده، ثم سأله عن حاله؟ قال: والله إن ولدي ظهرت عليه علامات الانحراف، فظن المدرس أنه يعبد الشيطان، فقال: لا، إنما له اهتمامات أخرى، له اهتمامات بالنساء، والولد في الصف الثامن الابتدائي، كما أنه يأتينا في وقت متأخر من الليل في غير حالته الطبيعية، فألهم الله صاحبنا أن يسأل الوالد كم تعطيه مصروفاً كل يوم؟ قال: أنا أعطيه بيدي مائتي جنيه كل يوم، ويأخذ من أمه أموالاً أخرى، كما أنه يذهب إلى شركاتي في منطقة (العاشر من رمضان) وفي منطقة (أكتوبر) ويأخذ المال، ويجوب البلد شرقاً وغرباً من (ستة أكتوبر) إلى (العاشر من رمضان).
فراتب الولد اليومي خمسمائة جنيه، فلماذا لا ينحرف؟ فقد أخذ الولد المال من أبيه، ولكنه وضعه في غير حقه، فلما كثر عليه المال أنفقه في غير طاعة الله عز وجل، فما كان من أخينا المدرس إلا أن قام وقال للوالد: أنت الذي أهملت ولدك، وعليك إصلاحه.
فإذا كان الولد يأكل يومياً ما يكدح به غيره شهراً فكيف لا ينحرف؟ ولذلك يقولون: الفقر حشمة، وفي كثير من الأحوال الفقر ينفع صاحبه، فربما لو وجد شخص القدرة على فعل ما يشتهي لهلك، وإن صبر لقي شدة في معالجة الصبر، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء، فقد تفتن بالمال أعظم من فتنة الفقر.
الثانية: أن المال يدعو إلى التنعم في المباحات، فالذي معه مال فوق حاجته الضرورية يريد أن يشتري كل شيء تقع عينه عليه، فقد يكون عنده شقة فيها ثلاث غرف فيشتري ما يكفي عشر غرف؛ لأن المال فاض عنده، وعينه تشتهي قبل قلبه ويديه، فإذا نظرت عينه إلى شيء أراده، فهو متنعم ومترف في حياته، حتى يصير التنعم والرفاهية عادة له وإلفاً، فلا يصبر عنها، وربما لم يقدر على استدامتها إلا بكسب فيه شبهة، ولو انقطع عنه هذا المال في يوم من الأيام فلن يستطيع أن يصبر على مر الجوع مرة أخرى، فلو أن رجلاً راتبه ألف جنيه في كل شهر، ثم خفض إلى خمسمائة جنيه لأصابه الشقاء، ولو أن رجلاً عاش ألف عام بخمسين جنيهاً ثم أعطيته في شهر ستين جنيهاً فسيشعر بفرحة ليس بعدها فرحة؛ لأنه في ازدياد، فهو يرفعه من مستوى أقل إلى مستوى أعلى، وأما الذي اعتاد على معدل إنفاق مرتفع فلن يستطيع أن ينزل عنه؛ لأنه كيّف حياته وهيأها على أن يعيش بهذا المال كل شهر، فهو لا يستطيع النزول عن ذلك، فلا بد أن تسول له نفسه الحصول على المال ولو عن طريق الشبهة أولاً ، فإن استمرأ الحصول على المال المشتبه بين الحل والحرمة سهل عليه بعد ذلك أن يقع في الحرام الصريح؛ لأن استمراء الشبهات يؤدي إلى الوقوع في الحرام، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.
الثالثة: وهي التي لا ينفك عنها أحد، أن كثرة المال تلهي عن ذكر الله تعالى، وهذا أمر يعلمه كل من معه مال، وهذا هو الداء العضال، فإن أصل العبادات ذكر الله تعالى والتفكر في جلاله وعظمته، وذلك يستدعي قلباً واعياً فارغاً، وصاحب المال قلبه ليس فارغاً في الغالب، فمثلاً الذي عنده أراض كثيرة جداً يمسي ويصبح مفكراً في خصومة الفلاحين، فهو يفكر كيف يتعامل مع الرعاة والفلاحين، ويفكر في محاسبتهم، وفي خيانتهم له، وفي منازعة شركاء الحدود والماء، وأعوان السلطان يفكرون في الخراج، والوزراء يفكرون في العمارة.. أو غير ذلك، وصاحب العمارة يفكر كل يوم في الإيجار، وفي كل شهر يقضي أياماً في محاسبة المتأخرين، ولا يتفرغ فيها لذكر الله، وربما نقر الفرائض نقراً.
وصاحب التجارة يمسي ويصبح وهو يفكر في خيانة شريكه، وتقصيره في العمل، وهل يسرقه أو لا؟
وهل كسب أم خسر؟ وفي حالة الكسب يفكر ماذا يصنع بالمال؟ وفي حالة الخسارة كيف يعوضها؟
فهو في شغل وتفكير دائم، فكثرة المال من أشد أضراره أنه يلهي عن ذكر الله تعالى، بل حتى لو وضع في دهليز البيت داخل حفرة عظيمة فإنه يفكر هل سيصل إليه الماء فيتلفه أم لا؟
وهل الذين أحضروا معه المال سينسون هذه المسألة أم لا؟
وهل الجن سيعرفون هذا الطريق أم لا يعرفونه؟ وهل يمكن أن يدل الجن الأنس عليه، ويحفرون عليه في الليل ويأخذونه؟ فمع أن المال مدفون وتحت يده ولا يعرف مكانه إلا الله ثم هو، فهو يشغل باله به، وكل هذا يدل على أن المال يلهي عن ذكر الله، ومن له قوت يومه وليلته فهو في سلامة وعافية من جميع هذا، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم اجعل قوت آل محمد كفافاً)، يعني: كل يوم ما يكفيهم، ولا شك أن من أصبح معافى في بدنه، عنده قوت يومه، آمناً في سربه أنه غني.
ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ليس الغنى عن كثرة العرض). فلو حزت متاع الدنيا بين يديك فليس هذا هو الغنى، وأقل واحد في الجنة له مثل الدنيا وعشرة أضعافها، بل وأضعاف كثيرة.
فالدنيا بأسرها من أولها إلى آخرها ضيقة وحقيرة ودنية، فمن له قوت يومه أولاً فهو في سلامة وعافية من جميع هذه الهموم.
وهذا سوى ما يقاسيه أرباب الأموال وأصحاب الدنيا من الخوف والحزن والهم والغم والتعب، فترياق المال أخذ القوت منه وصرف الباقي إلى الخيرات، وما عدا ذلك سموم وأسقام، فخذ منه ما يكفيك، واصرف الفائض في أبواب الخير.
فينبغي للفقير أن يكون قانعاً، منقطع الطمع عن الخلق، غير ملتفت إلى ما في أيديهم، ولا حريصاً على اكتساب المال كيف كان، ولا يمكنه ذلك إلا أن يقنع بقدر الضرورة من المطعم والملبس.
وقد جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)، أي: عنده قوت يومه وهو قانع حامد.
ولذلك اختلف العلماء اختلافاً كبيراً جداً في أيهما أفضل الغني الشاكر الذي يؤدي حق الله في ماله، أو الفقير الصابر على فقره؟ وخلاف أهل العلم أيهما أفضل، يدل على فضيلة الفقير الذي صبر وقنع بما آتاه الله.
وقال سليمان بن داود عليهما السلام: (قد جربنا العيش كله)، أي: خيره وشره، وغناه وفقره، وضيقه وسعته.
قال: (فوجدناه يكفي منه أدناه)، أي: أقل شيء في الدنيا يكفي؛ لأنك لا تأخذ إلا قدر حاجتك، والباقي تدعه إرثاً.
وقال أبو حاتم: ثلاث من كن فيه كمل عقله، وكان عاقلاً حقاً، من عرف نفسه -أي: من عرف قدر نفسه، فمهما عظمه الناس وشرفوه، ورفعوه فوق الرءوس فهو يعرف قدر نفسه، وأنه أقل من ذلك، فيتعامل مع الله ومع الخلق ومع نفسه على بصيرة من أن قدره أقل مما وضعه فيه الناس- وحفظ لسانه عن إيذاء الخلق، وقنع بما رزقه الله عز وجل.
فمن كانت فيه هذه الصفات فهو العاقل حقاً.
وقال بعض الحكماء: أنت أخو العز ما التحفت بالقناعة.
فكلما كنت قنوعاً فأنت عزيز.
أما الحرص فقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أيها الناس! أجملوا في الطلب؛ فإنه ليس للعبد إلا ما كتب له).
فمهما سعيت في تحصيل الرزق أو إطالة الأجل فلن يكون إلا ما كتب لك قبل أن تولد.
وفي الحديث عن ابن مسعود: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك)، و(3×40=120).
قال: (ثم يرسل إليه ملك الأرحام، ويؤمر بكتب أربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعي)
فرزقك مقسوم لك، وحياتك مقسومة لك.
وفي الحديث عند الحاكم وابن حبان وغيرهما بسند صحيح: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن روح القدس نفث في روعي وقال: يا محمد! اعلم أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته).
فقد ذكر الحديث شيئين يخاف الناس عليهما، وهما: العمر، والرزق، مع أن العمر مقسوم، والحرص عليه لا يقدم ولا يؤخر شيئاً، والرزق مقسوم، ولن يقدم الإنسان أو يؤخر منه شيئاً، فالمطلوب أن يسعى الإنسان سعياً حلالاً، فهو لن يأخذ إلا ما قسم له، فلماذا يحرص المرء على جمع المال الزائد من غير حله ويضعه في غير حله؟!
وقد قيل: لو قيل للطمع: من أبوك؟ لقال: الشك في المقدور. أي: الشك فيما قدره الله تعالى وقسمه لي.
ولو قيل له: ما حرفتك؟
قال: اكتساب الذل. فالذي يحرص على جمع المال لا بد أن يكون ذليلاً لأصحاب المال.
ولو قيل له: ما غايتك؟ لقال: الحرمان.
فلو أنه وقع على صاحب مال لذل له؛ حتى يحصل على المال ولو كان قليلاً، والكل يمنع عنه المال، فهو يسأل الناس جميعاً، فهذا يعطيه وذاك لا يعطيه، حتى يألف السؤال والذل.
والمتسول هو أذل الناس، مع أنه لا يعتقد أنه ذليل، ولا يتصور أنه ذليل، وربما تصور هذا وشعر به في أول حياته التسولية، ولكن مع كثرة السؤال واستدامة الذل والصغار عند الخلق يألف ذلك، حتى تكون حياته كلها ذلة وصغار.
وقد ورد عن الإمام أحمد أنه قال: فراش لك، وفراش لغيرك، وفراش للخادم، والرابع للشيطان.
فالأول لك تنام عليه، والثاني للضيف إن احتاجه، والثالث للخادم؛ لأنك مسئول عنه، والرابع فائض لا حاجة له، فهو للشيطان. هكذا كان هدي السلف، وهذا مفهوم إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل .
فالقناعة تعين العبد على استدامة العلم والبعد عن الرفاهية، ورد نفسه إلا ما لا بد منه.
فإذا أراد شراء شيء وقع في نفسه سأل نفسه: هل يمكن أن تقوم حياتي بغير هذا؟ فإذا كان الجواب: نعم فلا داعي لشرائه.
وفي الحديث (ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية، والصبر في الفقر والغنى، والعدل في الرضا والغضب).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها).
فإذا كان الله تعالى قسم لك الرزق والأجل، فلا بد أن تمشي متوكلاً ومعتمداً على الله عز وجل، ومن سد عنه باب الخوف على الزرق فلا ينبغي أن يضطرب قلبه؛ لأن رزقه في السماء، وليس في ذلك الباب الذي ظن أن فيه الرزق، وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22].
وعندما تولى الخلافة قال لزوجته: الذي ذهب شيء والذي سوف يأتي شيء آخر، فقد صرنا في موضع المسئولية، فحياتنا حياة تقشف. ولا شك أنه قد استفاد من سيرة جده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد كان عمر بن الخطاب من أغنى قريش، ولكنه في عام الرمادة -عام الفقر والجدب- الذي نزل بالمسلمين كان يأكل دون الشبع رضي الله عنه، حتى كان يقول لبطنه إذا قرقرت وأحدثت صوتاً: قرقري أو لا تقرقري، فوالله لا تذوقي السمن حتى يطعمه أطفال المسلمين لأنه في موضع المسئولية، وحفيده كذلك كان في موضع المسئولية، فـعمر بن عبد العزيز لم يستطع أحد فتنته بأي عرض من أعراض الدنيا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس).
فعلى المرء أن يعرف ما في القناعة من عز واستغناء، وقد كان الأعمش سليمان بن مهران الكوفي في ضرب من الفقر، وكانت توزع عليه الأموال فيدعها ولا يأخذها.
وكان الحارث بن أبي أسامة أحد المحدثين الكبار جداً، ولم يكن في زمانه أفقر منه، وكان عنده من البنات ست، ومع هذا الفقر كان لا يقبل هدية السلطان، فدخل عليه صاحب السلطان وألقى بصرة في كوة في البيت، فقال الحارث لبناته: لا تمدن أيديكن إليها، فبقيت هذه الصرة أياماً كثيرة حتى عاد ذلك الرجل إلى البيت مرة أخرى، فقال الحارث : والله لم تمتد يد إلى أمانتك، خذها وانصرف، قال صاحب المال: والله لقد أخذتها من بين خيوط العنكبوت.
ويقول الحارث بن أبي أسامة: وإن لي من البنات ستاً أصغرهن بلغت كذا وكذا من العمر، ولم يتزوجن لأجل الفقر، وليس عندي إلا ولد قد وضعت عليه كفني؛ انتظاراً للموت.
و أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والجماعة لما رحل في طلب الحديث إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني في صنعاء انقطع عنه الزاد في الطريق فاشتغل حمالاً، يحمل للناس مقابل الأجر، فلما دخل صنعاء ولقي عبد الرزاق قال له: إنا أصحاب زراعة وإن الموسم قد حان وعندنا أموال، فخذ هذا وأنا آخذ هذا، فقال: والله لو قبلت عطية أحد لقبلت عطيتك.
وأحد المحدثين كاد أن يهلك من الجوع فأرسل إليه السلطان بمال فرده، فصاحت امرأته وأولاده من خلف الجدار: خذ المال، فلم يرد عليهم، وبعد أيام منّ الله عليهم بمال فأكلوا وشربوا، ثم قال: أنتم جوعى أم شبعتم؟ قالوا: شبعنا. قال: ولو كنا أخذنا المال شبعنا أم جعنا؟ قالوا: شعبنا، قال: نحن في الحالتين إذاً شبعنا، وقد رددنا على السلطان هديته.
فهذه زينة أهل الدنيا، ومهما طالت فهي قصيرة، ومهما طالت دنياك فإن قيامتك تكون بموتك، وكم سيكون عمر الإنسان؟ ستين سنة، أو سبعين سنة في رفاهية ونعيم، ثم يشقى بعد ذلك بكفره أبد الآبدين.
وأما من صبر على مُرِّ الطاعة لأجل أن يتنعم نعيماً مؤبداً أبدياً في الآخرة فهذا هو الذكي، وهو العاقل الذي هو مستغن بالله تبارك وتعالى في حياته.
فانظر كيف يتنعم اليهود والنصارى وأرباب المال والحمقى، ثم انظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء والصالحين واسمع أحاديثهم وطالع أحوالهم، وانظر إلى صفوة الخلق عند الله تعالى كيف يمن عليهم بالصبر على القليل، والقناعة باليسير، ولو كان التنعم بالأكل فضيلة فإن البهيمة أكثر أكلاً من الإنسان، ولا يوجد إنسان يأكل أكثر من البهيمة، ولو كان النعيم في الشرب فالبعير يشرب قدر ما يشرب إنسان. فالغنى لا يكون إلا بالله عز وجل.
فإذا شاهدت رجلاً يقوم الليل في كل ليلة فقم مثله فهو ليس أحسن منك، وإذا كنت فقيراً ففلان أفقر منك، ومع هذا فهو صابر وراض بما قدر الله وقسم، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (انظروا إلى من هو أسفل منكم -أي: في الدنيا-، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فإنه أجدر إلا تزدروا نعمة الله عليكم).
ولو نظرت إلى الأغنياء فلن ترضى بما قسم الله لك، وهذه بلية عظمى، ولو نظرت إلى من هو أفقر منك فستقول: الحمد لله، أنا في حالة جيدة، فهذا عار وأنا لابس، وهو جائع وأنا شبعان، وهو عطشان وأنا ريان، ولو جلست على موائد الملوك والرؤساء والأمراء وأصحاب الأموال فستقول: أين أنا من هؤلاء الناس؟ فمهما كنت صاحب دين وليس عندك يقين ومنهاج داخل نفسك فستقول: أنا أرضى بهذه الحياة، ولا بد أن أحصل على المال ولو من الأموال الربوية، ولو سرقت.
ومع ضعف الإيمان في القلب تكون النتيجة أنك تبدأ في التخلص من كل شيء، وتعيش حياة الفساق من أولها إلى آخرها.
فعماد الأمر الصبر على ما قدره الله لك وقضاه، وقصر الأمل في الدنيا، وأن تعلم أن غاية صبرك في الدنيا أيام قلائل، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وقليل من يجاوز ذلك).
ولو نظرت إلى حياة أبي لهب وحياة عمر بن الخطاب فستجد أن هذا استمر في كفره، وهذا صار خليفة للمسلمين، وأميراً للمؤمنين، وكلاهما قد مات، ولكن أحدهما يتنعم في قبره والآخر يعذب في قبره، إلى قيام الساعة، وليس هذا هو المنتهى، بل هذا ينتقل من نعيم إلى نعيم أعظم أبدي، وهذا ينتقل من عذاب إلى عذاب أعظم أبدي سرمدي؛ لأنه لم يقبل طريق الهدى، وهذا قبل طريق الهدى، فكأفأ الله عز وجل كلاً بحسب عمله وبما قدم، فينبغي لمن فقد المال أن يستعمل القناعة.
واعلم أن ما اختاره الله لك هو خير مما تصبو نفسك إليه، ومن وجد المال فقد وجب عليه أن يستعمل السخاء والإنفاق واصطناع المعروف، فإن السخاء من أخلاق الأنبياء، وهو أفضل أصول النجاة، وفي الحديث: (اصنعوا المعروف؛ فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء) .
يعني: صناعة المعروف فيها النجاة كل النجاة من الهلاك والانحراف.
وقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه كان أجود الناس، وكان أجود من الريح المرسل) .
فقد كانت تمتد يده إلى الخير والصدقة للخلق جميعاً امتداداً أسرع من الريح التي يرسلها الله عز وجل، وما سئل عن شيء قط فقال: لا، وإن رجلاً سأله فأعطاه غنماً بين جبلين، يعني: قطيعاً كبيراً جداً من الغنم -مقدار ما يملأ بين جبلين- فأخذ الرجل هذا القطيع وذهب إلى قومه، فقال لقومه: آمنوا بمحمد، فإنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر أبداً، فأتى هذا الرجل بقومه جميعاً فأسلموا وطلبوا حاجتهم، فلم يمنعهم إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالجود والسخاء أدخل أقواماً وأمماً في دين الله عز وجل.
وجاء أعرابي إلى طلحة فسأله وتعرف إليه برحم، وقال له: أنا أعرفك من بعيد، فقال: إن هذه الرحم ما سألني بها أحد قبلك، فأعطاه ثلاثمائة ألف درهم.
وقال عروة: رأيت عائشة رضي الله عنها توزع سبعين ألفاً في درعها، وهي ترقع ثوبها، ولم تشتر ثوباً آخر، بل رقعته، ووزعت المال الذي بين يديها في سبيل الله عز وجل.
وروي: أنها قسمت في يوم واحد مائة وثمانين ألف درهم بين الناس، فلما أمست قالت: يا جارية! علي فطوري -فقد كانت صائمة- فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم برة : ما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بربع دينار لحماً نفطر عليه؟ قالت: لو ذكرتيني لفعلت.
واشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره التي في السوق بتسعين ألف درهم، فلما كان في الليل سمع بكاء أهل خالد، فقال لأهله: مال هؤلاء؟ قالوا: يبكون على دارهم، فقال: يا غلام! آتهم فأعلمهم أن الدار والمال لهم جميعاً.
وبعث رجل إلى عبد الله أنه وصف لعلاجه لبن البقر فابعث لي بقرة أشرب من لبنها، فبعث إليه بسبعمائة بقرة ورعاتها وقال: إن القرية التي كانت ترعى فيها لك كذلك. فهو طلب بقرة واحدة يشرب لبنها، ففوجئ بقرية من البقر.
ودخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه، فجعل يبكي، فقال: ما شأنك؟
قال: علي دين، قال: كم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار، فقال: هو علي.
وجاء رجل إلى معن بن زائدة فسأله؟ فقال: يا غلام! ناقتي الفلانية وألف دينار فدفعها إليه وهو لا يعرفه.
ومرض قيس بن سعد بن عبادة فاستبطأ إخوانه، حيث لم يأت أحد ليزوره وهو مريض، وكان صاحب مال وكان يقرض الناس، فلما ذكرهم في مرضه، قيل: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر مناد ينادي في القرية: من كان لـقيس عليه حق فهو منه في حل، فانكسرت عتبة بابه بالعشي من كثرة من جاءوا لزيارته.
وقام رجل إلى سعيد بن العاص يسأله، فأمر له بمائة ألف درهم، فبكى بعد أن أعطاه المال، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي على أن الأرض تأكل مثلك، فأمر له بمائة ألف أخرى، فأخذ المائتي ألف وجلس يبكي.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أريت الجنة والنار، فرأيت أكثر أهل النار النساء...) .
وفي الحديث عند مسلم (يا معشر النساء! تصدقن وأكثرن الاستغفار؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار) .
وهذا فيه إشارة ودلالة على أن الشح والغفلة عن ذكر الله أكثر في النساء من الرجال.
ثم قوله: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب أحد أبد) قد يكون للتحذير من أن يكون المؤمن شحيحاً؛ لأن الشح في المنع أبلغ وأشد من البخل، فالبخل هو أن يبخل الإنسان بماله على نفسه أو على الناس، وأشد وأنكى من ذلك من يبخل بمال الناس على الناس، فالشحيح أعظم هؤلاء الثلاثة.
فالشحيح يموت ولا يأكل، وأما البخيل فإنه إذا جاع وأحس أنه سوف يموت من الجوع فإنه يشتري ويأكل، وأما الشحيح فمن الممكن أن يموت ويهلك ولا يهون عليه أن يخرج شيئاً من جيبه يشتري به ما يأكله.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: (اللهم أني أعوذ بك من الجبن والبخل).
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة : (من سيدكم؟ قالوا:
فالبخيل لا يستحق أن يكون سيداً، كما أن الجافي الغليظ لا يستحق أن يكون سيداً.
وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه الولاية، فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام يقبل الأولاد، قال: أتقبلون أولادكم وصبيانكم! إن لي عشرة من الولد والله ما قبلت واحداً منهم، فمنعه الولاية، فمن ليس في قلبه رحمة لأولاده فكيف يرحم الناس؟ وهذا الرجل هو الأقرع بن حابس رضي الله عنه.
وعن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاث مهلكات: شح مطاع -وإذا كان الشحيح سيداً فلا بد أن يقود الأمة إلى الهلاك-، وهوى متبع -أي: الحكم بالهوى وليس بالكتاب ولا بالسنة ولا بمنهج مستقيم-، وإعجاب المرء بنفسه) .
وقال سلمان الفارسي : إذا مات السخي قالت الأرض والحفظة: رب! تجاوز عن عبدك في الدنيا بسخائه، وإذا مات البخيل قالت: اللهم احجب هذا العبد عن الجنة كما حجب عبادك عما جعلت في يديه من الدنيا.
وقال بعض الحكماء: من كان بخيلاً ورث ماله عدوه، وإن كان هذا العدو من أقرب المقربين إليه. ونحن نسمع كل يوم أن ولداً قتل أباه من أجل أن يرث.. وزوجة قتلت زوجها من أجل أن ترث، ورجلاً قتل أمه من أجل أن يرث، وغير ذلك من الحكايات التي نسمع عنها في كل يوم.
ووصف أعرابي رجلاً فقال: لقد صغر في عيني لعظم الدنيا في عينيه. يعني: هو عندي حقير؛ لأن الدنيا عظيمة في عينيه.
وقيل: كان مروان بن أبي حفصة من أبخل الناس، حتى كان يبخل على أهل بيته، فخرج يريد المهدي، فقالت له زوجته: ما لي عليك إن رجعت بجائزة، أي: ماذا تعطيني؟ فقال: إن أعطيت مائة ألف درهم أعطيتك درهماً، يعني: واحداً من مائة ألف، فأعطي ستين ألف درهم فأعطاها أربعة دوانق، والدانق لا قيمة له عند العرب، ومن معه دوانق فلا يعد معه مال.
وكان بعض البخلاء موسراً جداً كثير المال، وكان ينظر في دقائق الأشياء، فاشترى شيئاً من الحوائج ثقيلاً ودعا حمالاً وقال: بكم تحمل هذه الحوائج؟ وكان الحمال يعرفه، فقال: بحبة قمح، فقال ذلك الثري: أنقص، يعني: لا يوجد شيء أقل من هذا، فقال الحمال: ما أقل الحبة! يعني: ما تريد أكثر من ذلك؟ فقال: لا، أنا أدري، قال: قل، قال: نشتري بالحبة جزرة، فنجلس سوياً فنأكل؛ لأن حبة القمح لا تنقسم، فنستبدل بها جزرة، فهي تصلح للقسمة.
فهذا هو الصنيع السخي الكريم الجواد المؤثر، وأي امرأة تفعل مثل ما فعلت أم سليم الأنصارية رضي الله عنها؟ فالأخلاق عطايا ومنح يضعها الله عز وجل حيث شاء في خلقه.
وأشد درجات البخل: أن يبخل الإنسان على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال ويمرض ولا يتداوى، ويشتهي الشهوة فيمنعه منها البخل وليس الفقر، وهذا شر المال، فصاحبه يبخل به على نفسه وعلى ولده.
وليس بعد الإيثار درجة في السخاء، ففي معركة اليرموك استشهد عشرة من الرجال، سهيل بن عمرو والحارث بن هشام وجماعة من بني المغيرة، فأتوا لهم بماء فماتوا ولم يذوقوه، وكانوا إذا أتوا بالماء إلى أحدهم نظر إلى صاحبه فوجده ينظر إليه، فيأمر من بيده الماء أن يدفع الماء إلى صاحبه، فلما ذهب إلى آخرهم وجد الأول قد مات، فأتى الثاني فوجده قد مات أيضاً، وماتوا جميعاً، وهم يؤثرون بعضهم على بعض، فمر عليهم خالد بن الوليد فقال: بنفسي أنتم.
وأهدي إلى رجل من الصحابة رضي الله عنه رأس شاة فقال: إن أخي أحوج إليه مني، فبعث به إلى رجل، فبعث به ذلك الرجل إلى آخر حتى تداولته في المدينة سبعة أبيات حتى رجع إلى الأول. هذا هو الإيثار والكرم والجود والأخلاق.
وخرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيها غلام أسود يعمل فيها، فأتي للغلام بقوته، فدخل كلب الحائط ودنا من الغلام، فرمى إليه قرصاً فأكله، ثم رمى إليه قرصاً آخر فأكله، ثم رمى إليه قرصاً فأكله، وعبد الله بن جعفر ينظر إلى ذلك العامل الأسود، فقال: يا غلام! كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت، قال: ما الذي حملك على أن تطعمها للكلب؟ قال: إنه كلب غريب عن المكان وقد دخل البستان، فألقيت إليه قرصاً رجاء أن يشبع فلم يشبع حتى أكل طعامي، فاشترى عبد الله بن جعفر ذلك الحائط واشترى الغلام وأعتقه لله عز وجل. فصنائع المعروف تقي مصارع السوء.
واجتمع عشرة من الفقراء في موضع لهم وبين أيديهم ثلاثة أرغفة لا تكفيهم، فكسروها وأطفئوا السراج وجلسوا للأكل -والثلاثة الأرغفة لا تكفي لأحدهم- فلما رفع الطعام إذا هو بحاله، لم يأكل أحد منه شيئاً إيثاراً لأصحابه.
وسبب البخل حب المال، ولحب المال سببان:
الأول: حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل، وإن كان قصير الأمل وله ولد قام الولد مقام قصر الأمل، فيكون كل همه أن يجمع المال لأولاده.
الثاني: حب المال لذات المال، فهو يفرح بجمع المال، ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب.
فهو يحب المال لذات المال، وفي الأخير يرحل عنه ويسأل عنه كله يوم القيامة، في الوقت الذي لم ينتفع بشيء منه، فهو في منتهى الغباء، يجمع المال ولا ينتفع منه بشيء ويسأل عنه، فأي عقل وأي قلب هذا؟ نسأل الله العافية والسلامة.
ثم إنه مع جمعه للمال لا تسمح نفسه بإخراج الواجب عليه، ولا حتى إخراج الزكاة، وهو يعلم أنه إذا مات أخذه أعداؤه، أو ضاع إن كان مدفوناً.
وحب المال لذات المال لا يمكن علاجه، ومثال ذلك: رجل أحب شخصاً، فلما جاءه رسول ذلك الشخص أحب الرسول ونسي محبوبه واشتغل بالرسول، فهذا يحب الدنانير لذاتها وينسى الحاجات، وهذا غاية الضلال.
واعلم أن علاج كل علة بمضادها ومضاد أسبابها، فيعالج حب الشهوات بالقناعة والصبر، وقصر الأمل في الدنيا بكثرة ذكر الموت، ويعالج احتياج القلب إلى غير الله بأن من خلقه خلق معه رزقه، وكم ممن لم يورث شيئاً أحسن حالاً ممن ورث، ولو أنك فقير وليس معك مال ولكنك غني بالله وبدينك، فأنت أغنى من ذلك الرجل الذي كان يعطي ولده في اليوم الواحد خمسمائة جنيه، فأنت مع فقرك أحسن منه وأغنى منه؛ لأنك غني بالله.
فهو يقدم لولده الخير ويقدم هو على الله بشر، فإن كان ولده صالحاً فالله يتولاه، وإن كان فاسقاً فلا يترك له ما يستعين به على المعاصي.
أقول قولي هذا، وأسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر