[كتاب الصيام.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة) .
وعن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة. قال
هذا كتاب الصيام، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)، فجعل صوم رمضان من أركان الإسلام، وقد فرضه الله تعالى في السنة الثانية من الهجرة، أي: بعد الهجرة بسنة، هاجر النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى في شهر ربيع الأول، ولم يفرض تلك السنة، ولما دخلت السنة الثانية صام يوم عاشوراء تطوعاً أو فرضاً كما قاله بعض العلماء، وفي تلك السنة نزل صوم رمضان، فرضه الله تعالى بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183] إلى قوله: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] يعني: من حضر الشهر وأدركه فليصمه، فأصبحت هذه الآية قد حددت الصيام الذي فرضه الله، وأنه صوم شهر رمضان، فهذا هو دليل الصيام.
ولا شك أن الله تعالى ما فرضه إلا ليختبر عباده، وذلك أن هذا الصيام فيه شيء من الجهد، ففيه الجوع وفيه الظمأ والنصب، وفيه أن الناس قد يتعبون في طلب الأعمال والحرف وهم صيام، فيشق عليهم فيتحملون ذلك، فالله تعالى اختبر فضل العباد وامتثالهم لأوامره ليظهر من يطيع ومن يعصي، فإذا تقبل العبد ذلك بتقبل حسن وبرغبة كاملة دل ذلك على قوة يقينه وعلى تقبله للشريعة الإسلامية، وعلى تحمله لما أمر به، بل المؤمن يفرح بذلك ويسر؛ لأنه عبادة وطاعة، وكل عبادة يحبها الله فالعبد يحبها.
ولا أحب أن أطيل في المقدمة؛ لأن العلماء قد أطالوا في ذلك، ومن أراد التوسع في أحكام الصيام فليراجع الكتب التي تُقرأ دائماً في كل رمضان، وهي ميسرة ومبسطة والحمد لله.
ونأتي إلى هذه الأحاديث.
والحكمة في ذلك أن يتميز رمضان، وأن تكون أيامه متميزة لها أول ولها آخر، فأولها اليوم الأول من شهر رمضان، فلا يصوم اليوم الذي قبله، ولا اليومين الذين قبله، وآخرها اليوم الثلاثون أو التاسع والعشرون إن كان ناقصاً، فلا يصوم اليوم الذي بعده وهو يوم العيد، فيكون رمضان متميزاً؛ لأنه الفرض وما عداه فهو نفل، والنفل يتميز عن الفرض، وذلك بحكمه وبصفته، هكذا قال العلماء.
وقد ورد -أيضاً- حديث في السنن فيه أكثر من ذلك، فيه قوله: (إذا انتصف شهر شعبان فلا تصوموا حتى رمضان)، وهذا الحديث كأنه لم يثبت عند بعضهم، وذكر بعضهم أن فيه ضعفاً، ولكن إسناده على شرط مسلم ، فهو صحيح من حيث السند، ولكنه غريب من حيث المتن، وقد تكلم العلماء على حكم الصيام قبل رمضان -أي: من آخر شعبان- وأوضحوا أنه لا بأس به، وقد استدل على ذلك بما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصوم في شهر شعبان، كان يصوم شعبان إلا قليلاً) تعني أنه يكثر من صيام أيام شعبان، وإنما يفطر منه أياماً قليلة، ولعل ذلك ليقوى على استقبال شهر رمضان؛ فإن الإكثار من صوم شعبان يقوي على شهر رمضان.
وروي -أيضاً- في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: هل صمت من سرر هذا الشهر -يعني: شعبان-؟ قال: لا. قال: فإذا أفطرت فصم يومين)، وسرر الشهر: آخره. فدل على أنه يجوز الصوم من آخره، كاليوم الخامس والعشرين أو السادس والعشرين أو نحو ذلك، فأفاد أنه لا بأس أن يصام في آخر شعبان كما يصام في أوله.
فمفاد هذا الحديث والحكمة فيه أن لا يتقدم رمضان بيوم أو يومين حتى يتميز رمضان، ورخص في ذلك لصاحب العادة التي يصومها، مثاله: إذا كنت تصوم كل اثنين أو كل خميس، فوافق أن آخر شعبان يوم الإثنين أو يوم الخميس، فلك أن تصوم ذلك؛ لأن هذا صيام لسبب، ولا بأس بالصيام لسبب، ومثلوا -أيضاً- بمن اعتاد أن يصوم يوماً ويفطر يوماً من دهره كله، كما التزم بذلك بعض الصحابة، وهو صيام داود كما سيأتي.
فإذا وافق أن اليوم الذي يصومه هو آخر شعبان فلا بأس أن يصومه بهذا النية، أعني أنه يصوم يوماً ويفطر يوماً، فيصوم اليوم التاسع والعشرين وهو آخر شعبان -مثلاً- أو يفطر التاسع والعشرين ويصوم الثلاثين إذا كان شعبان كاملاً، وعلى كل حال فلا بأس إذا كان له عادة.
وهكذا لو كان عليه أيام قضاء، فلو أن إنساناً أفطر من رمضان، أو امرأة أفطرت من نفاس أو حيض ولم يتيسر لها الصيام إلا في شعبان أو في آخر شعبان وجب حينئذ وتحتم، وقد ذكرت عائشة أنها أحياناً لا يتيسر لها صيام أيام القضاء إلا في شعبان أو في آخر شعبان، فدل على أنه لا بأس، فلو أن إنساناً -مثلاً- عليه خمسة أيام من رمضان الماضي وفرط فيها، ولم يتفرغ إلا في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين من شعبان تحتم عليه أن يصوم الخمسة الباقية؛ لأنها من تمام فرضه للعام الماضي؛ لأنه إذا فرط حتى جاءه رمضان الثاني اعتبر مفرطاً، وألزم بالكفارة مع القضاء، والكفارة صيام أيامه التي ترك وإطعام مساكين بعدد أيامه.
فلو قدر -مثلاً- أنك أفطرت خمسة أيام من رمضان، ثم تفارطت الأيام وتتابعت الأشهر وأنت ما صمت، فجاءك رمضان الثاني وأنت ما صمت، فصمت رمضان الثاني والخمسة باقية عليك من الأول فماذا تفعل؟ عليك صيامها بعد رمضان، وعليك إطعام خمسة مساكين جزاءً لتفريطك وتأخيرك.
فنقول: يجوز لمن عليه صيام واجب أن يصوم آخر شعبان، ولو كان اليوم الذي يليه رمضان، وهكذا لو نذر أياماً وافق أنها آخر شعبان فإنه يصومها؛ لأن صيام النذر واجب.
لكن بعض العلماء أخذ من هذا الحديث معنى، فهذا الحديث يقول: (فإن غُم عليكم فاقدروا له)، فقوله:(إن غم عليكم) يعني: إن كانت ليلة الثلاثين فيها غيم ولم تروه ولم تتمكنوا من رؤيته فإنكم تصومون. هكذا قال بعضهم، قال: (اقدروا له) أي: ضيقوا له.
وكان ابن عمر -الذي هو راوي الحديث- إذا كانت ليلة الثلاثين أرسل من ينظر، فإن رأوه أصبح صائماً يوم الثلاثين، فإن لم يروه وكانت السماء صحواً أصبح مفطراً؛ لأنه تحقق أنه لم يثبت، ولو ثبت لرأوه، فإن كان هناك غيم أو قتر قد حال بينهم وبين رؤيته أصبح صائماً، وحمل ذلك على أن قوله: (اقدروا له) يعني: ضيقوا له واجعلوه أضيق شيء. والتضييق أن يجعل شعبان تسعة وعشرين، هكذا عمل ابن عمر ، فكأنه يصوم اليوم الثلاثين إذا كانت ليلة الثلاثين فيها غيم أو قتر.
ولكن الجمهور على أنه لا يصام ذلك اليوم -الذي هو يوم الثلاثين- إذا كان في السماء قتر أو غيم، بل يصبحون مفطرين؛ لأنه لابد أن يكون الصيام عن رؤية أو عن يقين بدخول الشهر، وذلك يتوقف على إتمام شهر شعبان ثلاثين يوماً.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام الشك، فقال سلمان : (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم)، واليوم الذي يشك فيه هو اليوم الذي لا يدرى هل هو من شعبان أو من رمضان، فيفطرونه حتى يتحققوا أنهم لم يصوموا شيئاً إلا رمضان، حتى يكون رمضان متميزاً ليس فيه ما يخلطه بغيره، هكذا أمر في هذا الحديث، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات قال: (الشهر هكذا وهكذا وهكذا)، ثم قال مرة: (وهكذا وهكذا وهكذا) يعني: مرة ثلاثين ومرة تسعة وعشرين. ثم قال: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكلموا العدة) أي: فأتموا عدة شعبان ثلاثين يوماً.
هكذا أمرنا، فعلينا أن نفطر شعبان حتى نرى الهلال، أو نكمل ثلاثين يوماً إذا لم نره.
وهكذا رمضان، فنصوم إلى أن نرى هلال شوال، أو نكمل شهر رمضان ثلاثين يوماً، هذه هي السنة.
أما الصيام فمعروف أنه الإمساك بنية عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، وهذه مدة يوم الصيام.
وأما البركة التي في السحور فيقول بعضهم: إن الذي يتسحر يبارك له في عمله، فيوفق بأن يعمل أعمالاً صالحةً كثيرة في ذلك اليوم، بحيث إنه لا يعوقه الصيام عن الصلوات، ولا يعوقه عن الأذكار، ولا عن القراءة ولا عن الأدعية، ولا يعوقه الصيام ولا يقعده عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى دين الله والتعليم لشرع الله تعالى، وأيضاً لا يعوقه الصيام عن عمله وحرفته وكسبه الذي يكتسب به لنفسه ولولده إذا كان صاحب عمل، بخلاف ما إذا أجهده الصيام لقلة أكله ولكونه ما عهد الأكل إلا في أول الليل، فإنه إذا أصبح أصبح مثقلاً وأصبح متعباً، فلا يستطيع مواصلة عمل، ولا يستطيع أن يقوم بعمل دنيوي، ولا يستطيع أن يقوم بعمل ديني من الأعمال الصالحة التي ندب إليها، فلأجل ذلك رغب في أكلة السحور.
وقد ثبت -أيضاً- في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم ترك السحور لما كان يواصل، فدل على أنه ليس بفرض، بل الأمر في قوله: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة) الأمر للإرشاد، ولأجل ذلك علله بالبركة التي هي كثرة الخير، فأفاد أنه ليس بفرض، ولو كان فرضاً ما تركه لما واصل بأصحابه.
والوصال -كما سيأتي- هو ألا يأكل بين اليومين، أن يصل يوماً بيوم، فيأتيه الليل فلا يفطر ولا يأكل فيه حتى يصله باليوم الذي بعده، فيصوم -مثلاً- ستاً وثلاثين ساعة، يومين بينهما ليلة، هذا هو الوصال.
وقيل: أن يصل الليل باليوم فلا يفطر إلا عند السحر؛ لأنه ورد في حديث: (من كان مواصلاً فليواصل إلى السحر)، ولما واصل يومين أو أياماً دل ذلك على أن السحور ليس بفرض، ولكنه سنة وفضيلة، وعلى كل حال فهو من الأعمال التي رغب فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد -أيضاً- الترغيب في تأخير السحور في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور)، فهذا دليل على تأخيره، يعني أنه يكون حقاً سحوراً، ولعل الحكمة في تأخيره أن يكون أقرب إلى الإمساك، فإنه إذا كان السحور في وسط الليل لم يكن اسمه سحوراً، وأيضاً لم يبق أثره في النهار، بخلاف ما إذا كان قرب الإمساك فإنه يبقى أثر الأكل، ولا يحس بالجوع إلا بعد مضي مدة لكونه حديث عهد بأكل وبشرب.
فالحاصل أن الشرع الشريف جاء بالترغيب في العبادة، والترغيب فيما يحبب العبد إليها والتنفير مما يثقلها، فلما كان الصيام بدون سحور قد يثقل العبادة على العباد أمرهم بالسحور حتى يحبها العباد وحتى يألفوها، وحتى يأتوا بها بصدق ورغبة ومحبة.
[عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله! هلكت. فقال: ما أهلكك -أو: ما لك-؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم -وفي رواية: أصبت أهلي في رمضان- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما نحن على ذلك إذ أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر -والعرق: المكتل- فقال: أين السائل؟ قال: أنا. قال: خذ هذا فتصدق به. قال: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟! فوالله ما بين لابتيها -يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك) الحرة: الأرض تركبها حجارة سود].
هذه أحاديث تتعلق ببعض الأحكام في الصيام، فقد كان أول ما شرع الصيام إباحة الإفطار بعد غروب الشمس إلى أن ينام الإنسان، فإذا نام في وسط الليل أو في آخر الليل أو في أوله لزمه الإمساك إلى الغروب من الغد، فلم يجز له الأكل ولا الشرب ولا الجماع بقية الليلة التي نام فيها، ولم يكن هناك إباحة لأكل السحور في آخر الليل، فعلم الله أن عليهم في ذلك مشقة، فأباح لهم الأكل في الليل والجماع فيه بقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187] إلى قوله: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، فأباح لهم الجماع والأكل والشرب طوال الليل إلى الفجر، وأمرهم بالإمساك بعد الفجر إلى الليل، أي: إلى ابتداء الليل وهو غروب الشمس.
فهذه شرعية الصيام، واستقر الأمر على ذلك.
وروى أبو هريرة حديثاً رواه عن الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدركه الفجر وهو جنب فليقضِ ذلك اليوم)، ثم إن أبا هريرة أخبر بأنه رواه عن الفضل ، ولما نقل له أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً رجع عن الفتيا بهذا الحديث، وذكر العلماء أنه من الأحاديث المنسوخة، أي أنه كان قبل إباحة الأكل والشرب والوقاع في الليل، فإذا وطئ ولم يغتسل في الليل وأدركه الفجر قضى ذلك اليوم، وبعد ذلك استقر الأمر على الإباحة.
وما الحكم فيما إذا أصبح جنباً قبل أن يغتسل إذا انتبه من الليل في آخره وقد قرب الوقت للسحور وعليه جنابة، فهل يقدم الاغتسال ولو فاته السحور، أو يقدم السحور ولو طلع الفجر ويؤخر الاغتسال؟
الجواب: يقدم السحور. وتقدم لنا أنه صلى الله عليه وسلم قال: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة)، ويؤخر الاغتسال؛ فإن وقته واسع ولا يضر تأخيره، وإذا طلع الفجر قبل أن يغتسل اغتسل وصلى وأتم صيامه ولم يضر ذلك بصومه.
فأخبرت عائشة وأم سلمة في هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من أهله في رمضان، أي: يدركه الفجر وهو جنب من أهله -أي: من جماع لا من احتلام- ثم بعد ذلك يغتسل ثم يصلي الفجر، ثم يتم صيامه، ولا يرده ذلك عن إتمام الصيام، وأخبرتا أن ذلك في رمضان، وأن هذا وقع منه مراراً في رمضان، فأفاد أن هذا الصوم لا يضره كونه أصبح وهو جنب، هكذا ثبت فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا شك -أيضاً- أن الصحابة وقع منهم ذلك تكراراً، وذلك لأن هذا الفعل من ضروريات الحياة، فالإنسان غالباً قد يغلبه النوم بعد الوطء وقبل الاغتسال، فيؤخر الاغتسال إلى آخر الليل، فلا يستيقظ إلا قرب طلوع الفجر، فيؤثر أنه يتسحر ولو طلع الفجر، ويقع هذا كثيراً، فعليه أن يتم صيامه ولا يضر ذلك به، فهذا معنى الحديث الأول.
ومعلوم أن الصوم هو الإمساك عن الأكل والشرب والوقاع في نهار رمضان، ومعلوم أن الإنسان محل النسيان، وأنه كثيراً ما تعتريه الغفلة، وكثيراً ما يسهو وينسى صيامه، سيما إذا كان غير معتاد للصيام وغير منتبه له، فقد يقع منه نسيان صيامه فيتعاطى أكلاً أو شرباً، ففي هذه الحال لا يؤاخذه الله بذلك، وقد وردت الأدلة في عدم المؤاخذة بالنسيان، قال الله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] ، وقال تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رُفع -أو: وضع- عن أمتي الخطأ والنسيان) ، وفي رواية: (إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان)، فالله تعالى لا يؤاخذ على النسيان؛ لأن الإنسان طبيعته النسيان، كما قيل:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب
فإذا فعل شيئاً من هذه المحظورات وهو ناسٍ صيامه فلا يضره، حتى إن السهو والنسيان يقع في الصلاة ولا يبطلها، بل تجبر بسجدتي السهو كما هو معروف، فالسهو في الصلاة يجبر بالسجود، وأما السهو في الصيام وتعاطي أكل أو شرب فإنه يقع، فحينئذ يكمل صيامه، ويقال: أتم صيامك؛ فإن الله هو الذي أطعمك وهو الذي سقاك. أي: يسر لك ذلك وأعطاك ما أعطاك. فعليه أن يتم صيامه، ولا ينقص ذلك من أجره.
ويبقى أن تقول: إذا رأيته يأكل وأنا أعرف أنه ناسٍ هل أذكره أو لا أذكره؟ وكيف أذكره والله هو الذي أطعمه وسقاه؟
نقول: عليك أن تذكره؛ لأنه يحب ذلك، فالصائم يحب أن يتم صيامه، ويحب أن يكمله، ويحب أن يكون صومه أعظم أجراً، وذلك يتصور فيما إذا أكمل الصيام كما ينبغي، فكلما كان الصوم أشق وأكثر تعباً كان الأجر أكثر، فهو يحب ذلك.
وأيضاً فإن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا رأيته يأكل فإن عليك أن تأمره بالإمساك فهو من المعروف، وتنهاه عن الأكل فهو من المنكر.
وأيضاً فإن في تركه والناس ينظرون شيئاً من التهاون في أحكام الصيام وإساءة للظن به، حتى يظن أكثر الناس أنه لا يبالي بالصوم، وأنه لم يكن ممن صام وأنه وأنه، فلأجل ذلك يقولون: عليك أن تذكره.
ثم هل يلحق الجماع بذلك لو وطئ وهو ناسٍ، فهل يلحق بذلك ويقال: أتم صومك ولا شيء عليك؟
تكلم العلماء في ذلك، وأكثرهم يقولون: لا يكون. وذلك لأن الجماع غالباً تطول مدته، ثم الجماع يكون بين اثنين، وغالباً أنه لا يتصور السهو والنسيان من الزوجين، ولكن لو قدر نسيان الزوجة والزوج معاً واجتماعهما على الجماع ولم ينتبها ولم يعرفا إلا بعد الانفصال، أو بعدما تذكرا انفصلا. ففي هذه الحال نقول: يعفى عنه لدخوله في الأدلة، ولا يؤاخذ بذلك، هذا الذي اختاره كثير من المحققين؛ فإنه داخل في قوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].
فهذا الرجل ذكر أنه وقع في مهلكة، فقد عرف أن الجماع في نهار رمضان ذنب كبير، ولأجل ذلك قال: هلكت. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أهلكك؟) فأخبر بأنه وطئ امرأته في نهار رمضان، فهو يعرف أنه حرام ويعرف أنه ذنب وأن فيه هلكة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوبخه، ولم يشدد عليه بالتقريع، بل عذره؛ لأن الغالب أنه غلبته شهوته فلم يتمالك نفسه أن وقع في الجماع.
وبالمناسبة نقول:
أولاً: كثيراً ما يقع هذا من الشباب، وبالأخص إذا تزوج قرب رمضان فإنه تغلبه الشهوة حتى في النهار، فيقع منه إفساد أيام كثيرة أو قليلة، فلأجل ذلك يستحب أن يؤخره إلى بعد رمضان، أو يقدمه على رمضان بأشهر.
ثانياً: إذا كان ممن تثور شهوته بمجرد المقاربة فلا يقرب من زوجته أو لا تقرب منه في نهار رمضان، بل ينام كل منهما على فراش بعيداً عن الآخر.
ثالثاً: إذا أحس بثوران شهوته فعليه أن يبتعد حتى تبرد شهوته، فإن غلبته فليس له الوطء، بل يخففها بالمباشرة أو نحو ذلك؛ فإن في المباشرة إبطالاً للصيام ولكن لا تلزم الكفارة، والمباشرة تعني مجرد اللمس والضم والتقبيل إلى أن يحصل الإنزال، أو نحو ذلك.
أما إذا غلبته نفسه فوقع في الجماع، ولم تندفع شهوته إلا بالإيلاج ففي هذه الحالة عليه الكفارة على الترتيب ككفارة الظهار، فيقال له: أعتق رقبة، وهي -على الصحيح- رقبة مؤمنة سالمة من العيوب المخلة بالعمل، فلابد أن تكون سالمة من كل عيب يخل بالعمل أو يضر به ضرراً بيناً.
وإذا لم يجد رقبة أو لم يجد ثمنها ولم يستطع شراءها انتقل إلى صيام شهرين متتابعين لا يفطر بينهما إلا لعذر كمرض أو سفر ضروري، ويكفيه شهران هلاليان، ولو كان أحدهما ناقصاً أو كانا ناقصين.
فإذا لم يستطع انتقل إلى الإطعام، فيطعم ستين مسكيناً، والمساكين هم الذين تحل لهم الزكاة، فيطعم كل واحد منهم نصف صاع من الطعام المعتاد الذي يأكله هو وأهله، ويجوز أن يجمعهم جميعاً ويغديهم أو يعشيهم أو يعطيهم ما يكفيهم، فهذه كفارة الوطء في نهار رمضان.
بعد ذلك نقول: إذا لم يجد كما في حال هذا الرجل، حيث كان فقيراً، فلما جيء النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الطعام الذي في المكتل - إذ العرق مكتل يسع خمسة عشر صاعاً- قال: تصدق به على المساكين، فأخبر بأنهم فقراء، وأن أهل بيته هم أفقر أهل المدينة التي بين الحرتين؛ لأن المدينة بين حرتين حرة في الشرق وحرة في الغرب، والحرة: هي الأرض التي تركبها حجارة سوداء. فقال: ما بين لابتيها -أي: الحرتين- أهل بيت أفقر منا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً منه، حيث جاء وهو في غاية الوجل وفي غاية الخوف، وجاء وهو مشفق يخشى من العقوبة، ويخشى أنه وقع في مصيبة، وأنه ليس له التخلص من هذه المصيبة، ولا يدري ماذا يحكم عليه به، فلما رأى رقة النبي صلى الله عليه وسلم وانتقاله من حالة إلى حالة، حيث عذره لما لم يجد الرقبة، وعذره لما لم يستطع الصيام، فعند ذلك رجا أن يعذره لما لم يجد الإطعام، ورجا -أيضاً- أن يعذره لما وجد الطعام فيطعمه أهله، فطلب أن يطعم أهله هذا الطعام، وقال: ليس هناك أحد أحوج إلى هذا الطعام من أهل بيتنا، فأمره بأن يطعمه أهله.
قال العلماء: لم يأمره أن يقضي إذا وجد، فدل على أنها تسقط بالعجز، فإذا لم يجد الإطعام سقطت عنه إلى غير بدل، ولكن عليه أن يقضي اليوم الذي أفسده، وعليه أن يتقي الله فلا يعود؛ لأن الكفارات شرعت للزجر عن مثل هذه الأمور، فهذه الكفارة كفارة فيها شيء من القوة، وفيها شيء من الشدة، ومع ذلك تساهل النبي صلى الله عليه وسلم حتى جعل الطعام الذي يتصدق به طعاماً لأهله، فأباح له أن يأكله هو وأهله.
وذهب آخرون إلى أنه ليس عليها شيء ما دام أنها لم تذكر في الحديث، فكأنهم يقولون: الكفارة الواحدة تكفيهما معاً.
ولكن الصحيح أنه لابد لها من كفارة إذا كانت مختارة مطاوعة، أو كانت هي الطالبة أو نحو ذلك، فقد يكون هناك موانع منعت ذكر هذه المرأة، ولكن لا يساويها غيرها في تلك الموانع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر