والإسلام أعظم النعم وأجلها؛ فإن الله لا يقبل من أحد دينًا سواه: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]].
الدعوة والتشخيص في مسائل التعبد ينبغي أن يقرب المسلمون إلى الحق باسم الإسلام، وليس من العقل ولا من الذكاء ولا من الحكمة أن تكون الدعوة إلى أسماء، حتى ولو كان من العلماء؛ لأنه -أحياناً- بعض العوام المغاربة لا يعرفون أكثر أئمة المشارقة، وعوام المشارقة لا يعرفون بعض أئمة المغاربة، بل أكثر من ذلك فبعض علماء المغاربة ما وصلوا إلى بعض علماء المشرق والعكس، وأحياناً بعض الأسماء عند قوم تكون أكثر قبولاً من بعض الأسماء، ولكن هناك أسماء مسلمة في أي مصر من الأمصار، فهذه الأسماء الثابتة التي لا يمكن لشخص أن يجادل حولها، هي أولى ما ينبغي أن تنطلق الدعوة باسمه، أن هذا هو الإسلام أن هذا هو الذي دل عليه القرآن، أن هذا مقتضى السنة، أن هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أن هذا هدي السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
فهذه الأسماء والإضافات الشرعية المحكمة أضبط في قلوب الناس، وأضبط حتى في دين الناس، وأكثر اقتداء للكتاب والسنة من بعض الأسماء التي قد لا تكون صحيحة، وبعضها قد يكون صحيحاً ولكن قد يكون في بعض الأمصار شأنه مشكلاً.
ومن المعلوم قصة بعض العلماء، لما قال: إن الإمام أحمد بن حنبل ليس فقيهاً، وهو من كبار المفسرين، وماذا فعل به بعض العامة في بغداد.
فأحياناً تقع مثل هذه الأحوال، حيث يألف العامة اسماً، ويعادون غيره، أو يبلغهم عن غيره شيء يقتضي معاداته..
والمقصود أن بعض الأسماء -أحياناً- يصيب بعض مراحلها في التاريخ بعض الارتباك، ثم قد تأتي أحوال أخرى وينطلق هذا الاسم مرة أخرى.
هذا شأن يوجد في كثير من الصوفية، وأنهم ينتسبون إلى طريقة الأئمة، وينتسبون إلى السنة والجماعة، وإن كان هذا لا يعني بالضرورة المطابقة العلمية في الحقيقة، لكن الانتساب من حيث هو عمل شرعي فاضل يجب الإشادة بذكره، ويحمد صاحبه؛ فإن من ينتسب للسنة والجماعة حتى لو أخطأ ما أخطأ فإنه ليس كمن ينتسب إلى طائفة مبتدعة تذم أئمة السنة والجماعة أو ما إلى ذلك.
فينبغي أن يحرص الناس على النسبة للسنة والجماعة، فما دام أنهم ينتسبون إلى الإسلام، فيقصدون إلى مرحلة أخص وهي أن ينتسبوا للسنة والجماعة، ويكون هذا المعنى قائماً في نفوسهم.
ثم إذا أدخلوا في السنة حدثوا بصريح الحديث، وصحيح السنة، وآثار الصحابة، وبكلام الأئمة الذين لهم قدم صدق عندهم، فإذا كانوا حنفية حدثوا بكلام أبي حنيفة ، وكلام أئمة أصحابه كـأبي يوسف ومحمد بن الحسن ، وإن كانوا شافعية حدثوا بكلام الشافعي وأئمة أصحابه، وإن كانوا مالكية حدثوا بكلام مالك ، وأئمة المالكية وفقهائهم... وهلم جرا.
[مثل كثير من بدع الروافض والجهمية والخوارج والقدرية] .
هذه من البدع المغلظة، فبدعة الروافض في الصحابة، وبدعة الجهمية في صفات الله وتعطيلها، وبدعة الخوارج في تكفير المسلمين والغلو في الدين، وبدعة القدرية في مسألة أفعال العباد، حيث أنكروا خلق الله سبحانه وتعالى لأفعال عباده، مخالفة لجماهير المسلمين.
فهذه من أصول البدع المغلظة التي طرأت في الإسلام، فيقول المصنف: إنكم -يعني: أتباع عدي بن مسافر - عافاكم الله من البدع المغلظة، وفضلكم الله بالانتساب للسنة والإسلام.
يشير إلى طرق الجهمية التي تعطل الأسماء والصفات، وهذا الإطلاق لمصلحة التحذير، وهو من باب التوسع، فإنه من المعلوم أن الذي يكذب بالقرآن أو بنصوص القرآن في الأسماء والصفات لا يكون مسلماً، والذين وقعوا في هذا الابتداع في تاريخ الإسلام من المعتزلة ونحوهم، الأصل فيهم أنهم لا يقولون بالتكذيب، وإن كانوا يعطلون الأسماء والصفات بما يسمونه تأويلاً، والمصنف يسميه في بعض كتبه -كالواسطية- تحريفاً.
[أو يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو من طريقة أهل السنة والجماعة، وهذا من أكبر نعم الله على من أنعم عليه بذلك ] .
سب الصحابة رضي الله عنهم مخالف للعقل فضلاً عن الشرع؛ لأن الصحابة هم الجمع الذين رووا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وحتى القرآن؛ فإن الله تكفل بحفظه، كما قال عز وجل: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، وبقي في صدورهم رضي الله عنهم مما سمعوه من نبيهم حتى جمع القرآن في عهد أبي بكر ، ثم انضبط ورتب شأنه في خلافة عثمان .
فمن يتكلم في الصحابة فإنه يخالف هذه المقاصد في ضبط مادة الإسلام الأولى؛ ولذلك يقول الله سبحانه في كتابه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100]، فلما ذكر السابقين الأولين سماهم بأسمائم: المهاجرين، والأنصار، أما من بعدهم فقال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) ولم يقل: من بعدهم، فعلم أن الصحابة رضي الله عنهم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وهم على الحق، وبقوا على الحق؛ لأنهم لو كانوا قد انقلبوا بعده للزم أن يكون متبعاً لهم فيما بعد قد اتبع ضلالة، وهذا مما نفاه القرآن، فلما قال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ)، علم أنهم باقون على أصول العلم والحق التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلا يجوز قصر السابقين على آل البيت وبعض أئمة آل البيت؛ لأن الآية ذكرت المهاجرين، والمهاجرون يشمل كل من هاجر إلى المدينة، وآل البيت يدخلون في المهاجرين لأنهم من قريش، ولا شك أنه من هدي السنة والجماعة محبة الصحابة ومحبة آل البيت، لما لهم من الاختصاص بقرابتهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام كما ثبت في الصحيح لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس : (والذين نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي).
لكن الأنصار هم بيت آخر لا يدخلون في مسمى آل البيت، ومع ذلك جاء النص القرآني بذكر رضا الله سبحانه وتعالى عنهم.
إذا كتب الكاتب أو تكلم المتكلم، ولو في قوم عندهم بدع، لكن في علمه وفقهه أنهم دون غيرهم من أهل البدع، فينبغي أن يميز ما هم عليه من الخير وانفكاكهم عن البدع المغلظة؛ فإن من أهم المقاصد في فقه الدعوة أن لا يزيد هؤلاء القوم عن هذه البدعة إلى بدعة أشد منها، بل يقصرون عن التمام في البدع، ويردون عما هم عليه من البدع إلى السنة.
إما إذا كتب الإنسان كتاباً فيه الذم والسب والطعن والتهجم، ومع ذلك يطالبهم بأن يرجعوا إلى الحق، فإن النفوس أحياناً لا تقوى على ذلك، وهذا إذا عرض هذا في بعض الصور من بعض الأئمة فلكونه وصل إلى اجتهاده رأى أن الحكمة تقتضيه:
وقد يقول قائل: هذا هو منهج السلف.
فنقول: هذا له مثالات، لكن فرق بين أن يكون له مثالات عند السلف وبين كونه هو المنهج الوحيد عند السلف، فإنه لا يمكن عقلاً ولا شرعاً أن يكون هو المنهج المستعمل -أعني طريقة الذم والطعن والتبرؤ-.
فمثلاً: في رد الدارمي على بشر بن غياث ، نجد أن كلام الدارمي رحمه الله كلام علمي منظم، فيه رد وإبطال لشبه بشر ودعواه، لكن مع ذلك قد اشتد عليه في الكلام والذم، فهذا المنهج لا نقول: إنه لا يستعمل أبداً، بل إذا وجد المقتضي عند من هو من أهل العلم أن يصل إلى هذا الأسلوب مع معين؛ لأنه رأى عليه مكابرة أو معاندة أو ما إلى ذلك، فهذا مقام يقتضيه مقامه، لكن أن يكون هذا هو الشأن العام لمن ضل متأولاً أو جاهلاً، أو من ضل في بدعة وهي من بدع الأقوال، أو من كان في بدعة فوق ذلك لا تصل إلى حد البدع المغلظة، فإن هذا ليس منهجاً مطرداً.
والله سبحانه قد أوضح هذا المنهج في كتابه الكريم، حيث بين أن مجادلة من كفر بالرسالة لا تكون إلا بالتي هي أحسن، فقال عز وجل: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، وعندما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل قال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم)، وهذا حسن تأتي، لكنه عليه الصلاة والسلام -وحاشاه عن ذلك- ما نقص الحقيقة، فقال: (أسلم تسلم)، أي: إذا لم تسلِم فلن تسلَم، هذا هو مفهوم الكلام: (أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين)، وهذا من الترغيب؛ لأن في سنته -كما في حديث أبي موسى وابن عمر وغيرهما-: (ثلاثة يعطون أجرهم مرتين)، وذكر عليه الصلاة والسلام منهم: (رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم -أي: محمداً عليه الصلاة والسلام- فآمن به واتبعه، فله أجران).
ثم يقول له: (وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) قيل: إنهم عوام النصارى، وقيل غير ذلك، ثم قرأ الآية: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64].
فهذا كان ضبطاً لحقائق التوحيد، ولا يوجد أي إنقاص له في خطابه عليه الصلاة والسلام، لكن كان حسن التأتي؛ ولذلك يقول أنس كما في الصحيح: (كتب رسول الله إلى كل جبار يدعوهم إلى الله)، ولما قيل له عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح-: (إن دوساً قد كفرت وأبت، فادع الله عليهم، قال عليه الصلاة والسلام: إني لم أبعث لعاناً).
فالمؤمن لا يليق به -وخاصة طالب العلم- السب والذم لخلق الله، حتى لو كانوا مخالفين له في بعض المسائل، فإن المخالف يقرب إلى الحق، وإذا اقتضى المقام شدة -ولا أقول: لعناً، فإن عامة السلف لا يرون استعمال اللعن في الأعيان من المسلمين- أو تصريحاً بمقام، أو ذكراً لاسم شرعي؛ فإن هذا فقه يذكره من يذكره من أعيان السلف كأحوال، لكنها ليست هي وحدها المستعملة في فقهه.
وللإمام أحمد رضي الله تعالى عنه كلمات لبعض المخالفين فيها قوة، وله بعض الكلمات فيها من حسن التأتي والترفق، فهذا فقه شرعي.
وعلى طالب العلم أن يبحث عنه في آثار بعض أهل العلم، ومع أن هذا بحث جيد، لكن أجل من البحث في آثار بعض أهل العلم أن يبحث في القرآن، فإن فيه سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقصصهم في منهج فقه الدعوة، والدعوة إلى الحق، وتصحيح الأخطاء وما إلى ذلك.
هذا هو المقصود من قصص الأنبياء، وليس المقصود ذكر النظام التاريخي الموجود في بعض الحضارات، وأن نعرف ما هو اسم فلان وما هو اسم فلان؛ حتى إنه في كثير من قصص الأنبياء لا يذكر الاسم، ففي قوله تعالى: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [غافر:28]، فلم يذكر الاسم، ولم يعرف الرجل؛ لأنه لا يهم الاسم؛ فإن الاسم -أي اسم كان- لا يقدم ولا يؤخر، وفي قصة موسى مع الخضر عليهما السلام يقول الله سبحانه: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا [الكهف:65]، ففي سياق القرآن لم يصرح بالاسم، لكن جاء النبي عليه الصلاة والسلام بمقام الخبر وما عنده من الاختصاص وصرح عليه الصلاة والسلام باسم الخضر، وإتيان موسى إليه، والسبب هو أن موسى قام في بني إسرائيل، فقام رجل فقال: يا موسى! هل أحد أعلم منك؟ فقال: لا. ولم يكن عليه الصلاة والسلام -يعني: موسى- نبياً خاتماً عاماً للثقلين الإنس والجن، فعتب الله عليه كما في حديث ابن عباس في الصحيح قال: (فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه)، ثم بين الله سبحانه صفة هذا الرجل فقال: (فَوَجَدَا) أي: موسى وفتاه عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65]، أي: جمع له مقام العلم مع الرحمة، ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: "علم بلا رحمة لا ينفع"، فهو استطالة على خلق الله، ويقول: "رحمة بلا علم لا تنفع".
ونلاحظ في هذا العصر أن البعض عنده شيء من العلم، لكن عنده قسوة على الناس، ولو خلي بينه وبين بعض الناس لفعل الأفاعيل، وهذا ليس هدياً ولا منهجاً حتى لأئمة السلف مع أهل البدع؛ ونجد مثل ذلك في موقف الإمام أحمد رحمه الله من المعتزلة؛ فإنه قبل أن يأتي المأمون وتبدأ فتنة خلق القرآن، كان يذم القول بخلق القرآن، ويحذر من أهله، لكنه ملجم لنفسه بلجام الشريعة ولجام العدل، لكن لما تسلط المعتزلة وبعض قضاتهم في زمن المأمون العباسي وأفتى بعض قضاة المعتزلة بقتل الأئمة، ثم رجع الأمر وتحسنت الحال زمن المتوكل العباسي ، لم يقل الإمام أحمد رحمه الله: هذه بهذه، وأصدر فتوى بقتل فلان وفلان أو ملاحقة فلان وفلان.
وهذا فقه شريف، ولا شك أن منهج السلف هو المنهج الذي يجب أن نكون عليه، لكن ينبغي أن نكون فقهاء فيه، وهذا المذهب ليس أكثر من الكتاب والسنة؛ لأن مذهبهم محصل من الكتاب والسنة، فليتفقه الطالب في كلام الله قبل كل شيء، ثم فيما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا سيما كتب الحديث المشهورة كالكتب الستة، ومسند الإمام أحمد ، وموطأ الإمام مالك رحمهم الله.
[وما زال في عساكر المسلمين المنصورة وجنود الله المؤيدة منكم من يؤيد الله به الدين، ويعز به المؤمنين] .
وهذا ثناء عليهم بما هم عليه من الخير، وهذا مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم)، فهو فعلاً عظيم الروم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما زاد في الأمر أو أعطى الرجل ما ليس له، بل هذا اعتراف بالشيء الواقع.
كذلك المؤلف هنا يعترف بما لهم من الخير، ولا بد للإنسان أن يعترف؛ فإن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الناس قال سبحانه: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] وهذا عام حتى في الكفار؛ ولذلك لما قصد أهل الإيمان والإرادة الصادقة قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].
ومن عدل الله سبحانه أنه لا يظلم الكافر؛ فإن الكافر إذا فعل حسنة فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه بها، ففي الصحيح عن أنس رضي الله عنه: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وأما الكافر فيعطى بحسناته ما عمل به لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها).
من فقه شيخ الإسلام أنه استعمل معهم المصطلحات التي تستعملها المتصوفة، مثل: المكاشفات والتصرفات، مع أن هذه مصطلحات مولدة لم توجد في الكتاب والسنة، ومع ذلك يقول: لهم مكاشفات، أي: مكاشفات صالحة، وتصرفات صالحة، والمقصود بالكشف: هو انكشاف بعض المعنى أو بعض المفهوم وبعض الحال، وهذا منه أوجه غالية ومنه أوجه مقتصدة.
فالمصنف مع فقهه بمذهب السلف تجوز في التعبير في المخاطبة، فاستعمل معهم الألفاظ التي لم تكن معروفة عند أئمة السلف لوجه أخص.
[وفيكم من أولياء الله المتقين من له لسان صدق في العالمين، فإن قدماء المشايخ الذين كانوا فيكم، مثل الملقب بشيخ الإسلام أبي الحسن علي بن أحمد بن يوسف القرشي الهكاري ، وبعده الشيخ العارف القدوة عدي بن مسافر الأموي
ومن سلك سبيلهما فيهم من الفضل والدين والصلاح والاتباع للسنة ما عظم الله به أقدارهم، ورفع به منارهم] .مصطلح العارف من المصطلحات الشائعة، وهو من وصل إلى درجة المعرفة والقدوة، فصار قدوة يقتدى به، وليس الإشكال في التصوف أن صاحبه يسمى عارفاً أو يسمى قدوة؛ فإن هذه أمور فيها كثير من التجوز إذا اقتضت مصلحة المراجعة إلى ذكرها، ولذلك نجد أن المصنف يستعمل مثل هذه التعبيرات.
[والشيخ عدي -قدس الله روحه- كان من أفاضل عباد الله الصالحين، وأكابر المشايخ المتبعين، وله من الأحوال الزكية والمناقب العلية ما يعرفه أهل المعرفة بذلك] .
مسائل السلوك ولدخول كثير من العوارض في وقت مبكر من التاريخ، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في التعليق على بعض المسائل، وهي مسألة تأثير الإرادة في أفعال العباد، قال كلمة أحياناً قد تقال في مقامات أخرى، قال: "هذا المقام مقام وأي مقام، ضلت فيه أفهام وزلت فيه أقدام، وقد خاض فيه خلق من البصراء والفاحصين والمكاشفين، فعامته فهموا صحيحاً، وقل منهم من عبر فصيحاً"، هذا لا يلزم أن يطرد في كل المسائل.
لكن هناك مسائل أن القاصدين إليها قصدوا حقاً، وربما أنهم فهموا وجهاً من الحق لكن عبروا عنه بحروف محدثة، فهذا نمط إن صح اللفظ.
ومنهم من قد يكونون لم يفهموا صحيحاً، بل فهموا باطلاً وعبروا باطلاً، وهذا نمط آخر.
لكن أحياناً بعض التعبيرات هي التي تفسد بعض المعاني، ومثال ذلك: الهروي رحمه الله، فإنه في بعض كلامه لو استعمل كلمات مأثورة في تعريفه لبعض المقامات والكلام وابتعد عن بعض المصطلحات المولدة؛ لكان كلامه من أجود الكلام وأنفعه، وأيضاً أبو حامد الغزالي في كلامه أحياناً يتكلم بلغة مقاربة، ويقصد بذلك مخاطبة العامة من المسلمين، فيكون كلامه إذا تكلم للعامة من أجود الكلام وأنفعه؛ ولذلك يعتبر إماماً في السلوك، أي: من حيث وصوله إلى بعض المعاني الصحيحة، وإن كان قد زل في مقامات في مسائل السلوك إلى أوجه مستغربة، بل أوجه منكرة كما سبق التنبيه عليه.
[وله في الأمة صيت مشهور، ولسان صدق مذكور، وعقيدته المحفوظة عنه لم يخرج فيها عن عقيدة من تقدمه من المشايخ الذين سلك سبيلهم، كالشيخ الإمام الصالح أبي الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري الشيرازي ثم الدمشقي، وكشيخ الإسلام الهكاري ونحوهما] .
عدي بن مسافر -كما أشار ابن تيمية في مواضع- قد لخص عقيدته من عقيدة الشيخ أبي الفرج الأنصاري.
كثير من الصوفية يكونون على قصد السنة والجماعة والعناية ببعض أصولها الكبار، لكنهم لا ينفكون عن بعض البدع والطرق المحدثة في الإسلام، أو الجهل في الصحيح والضعيف من الحديث واستعمال بعض الموضوع فيما يقررونه ويستقبلونه، وهذا نوع من التصوف، أو نوع من الحال الذي صار لكثير من الصوفية الذين ينتسبون للسنة والجماعة.
[وذلك أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما المتأخرون من الأمة الذين لم يحكموا معرفة الكتاب والسنة، والفقه فيهما] .
كثر في المتأخرين مثل هذا، ولذلك من أراد أن يحاسب الناس محاسبة دقيقة فإذا رأى من زل في كلمة أراد أن يجافيه أو يجافي ذكره، أو ينفيه عن السنة والجماعة نفياً مطلقاً، فإن هذا لا يسعه مع أحد؛ لأن المتأخرين من الفقهاء والنظار وأصحاب السلوك كثر فيهم مثل ذلك، أي: دخلت عليهم بدع.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "شعار أهل البدع المغلظة ترك الانتساب للسنة والجماعة وسبيل السلف".
أما من انتسب للسنة والجماعة وسبيل السلف فهذا يكون فيه قرب، وفيه موافقة في كثير من الأصول، وإن كان قد يخطئ فيما هو من الأصول أو ما هو دون ذلك، إما في العلم والنظر، وإما في العمل والسلوك والأحوال، فيوزن كل أحد بقدره.
فقد تعرض أحياناً بعض البدع اللفظية، أو بعض البدع الفعلية، حتى إن شيخ الإسلام يقول: "وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة"، ثم بين أنهم لم يعرفوا أن هذا القول أو الفعل بدعة، ويكون هذا في مسائل ليست من مسائل الأصول، ولا يكون حال أولئك أنهم في جمهور أمرهم على البدعة، بل يكونون من أصحاب السنة في الأصول والعلم والعمل، لكن حدثت لهم بعض الكلمات أو بعض الأقوال التي اخطئوا السنة فيها.
ولذلك لما ذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام مسألة الإيمان في كتاب الإيمان، قال رحمه الله: "إن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر -يعني: في مسمى الإيمان- يقول: أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر على فرقتين"، ثم ذكر الفرقة الأولى وهي قول عامة السلف، وهو إجماع متقدم قبل ظهور بدعة حماد بن أبي سليمان ، وهو أن الإيمان قول وعمل، ثم ذكر قول حماد ، وإن كان لم يسمِّه.
والشاهد: أنه سماهم: من أهل العلم والعناية بالدين، ثم أجاب عن قولهم، ولما انتهى من الجواب عن قولهم وأدلتهم، وأراد أن يذكر قول الجهمية والغالية من المرجئة قال في ختم الكلام: "وهؤلاء وإن خالفونا -يعني: مرجئة الفقهاء- إلا أنهم وقعوا في قول يقع الغلط في مثله"، ثم ذكر القول الذي هو -كما يصفه- ليس من قول أهل الملل، ويعني به قول الغالية من المرجئة.
[مع ما ينضم إلى ذلك من غلبة الأهواء، وكثرة الآراء، وتغلظ الاختلاف والافتراق، وحصول العداوة والشقاق، فإن هذه الأسباب ونحوها مما يوجب قوة الجهل والظلم اللذين نعت الله بهما الإنسان في قوله: وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]] .
لذلك كلما اختصر مقصود الإسلام أمام العامة فهذا هو الأحسن والأفضل، ولا يطول بأسماء طائفية أو أسماء سطحية أو ما إلى ذلك، بل يقال: إن الإسلام هو ما بعث الله به رسوله، ويدعى إلى دين الإسلام، وإلى نصوص الكتاب والسنة، وما مضى عليه هدي السابقين الأولين، وما أجمع عليه الأئمة المهديون، كالأئمة الأربعة وأمثالهم من أئمة المسلمين المقتدى بهم، دون الخصائص التي قد تعرف في بيئة ولا تعرف في بيئة أخرى، أو تعرف في مصر ولا تعرف في مصر آخر، وما إلى ذلك.
وهذا من فقه التجديد في الدعوة إلى السنة وهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وهو أن الهدي يربط بصاحب الهدي، والوسطية ليست مكتسبة بأعيان، إنما هي مكتسبة عند من يضاف إليها بقيامه بالسنة والهدي الذي ترك النبي صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه.
من فقه المصنف أنه إذا خاطب أصحاب السلوك أو أصحاب التصوف أكد مسألة العناية بمعرفة السنة الصحيحة من غيرها؛ لأن هذا الاختلاط دخل على كثير من أرباب السلوك، وعنه -أي: هذا الاختلاط- وقعت كثير من البدع والتصورات في الإسلام عند كثير من العامة من المسلمين.
[وذلك في دواوين الإسلام المعروفة] .
ذكر هنا دواوين الإسلام، وابتدأ بذكر البخاري ومسلم وكتب السنن، ثم ذكر بعد ذلك بعض المصنفات، وليس بالضرورة أن نقرأ الأسماء، لكنه بعد أن ذكر كتب البيهقي وبعض كتب المتأخرين عن طبقة الأئمة المتقدمين قال:
[وإن كان يقع في بعض هذه المصنفات من الأحاديث الضعيفة ما يعرفه أهل المعرفة] .
وهذا شأن يعرفه أصحاب الاختصاص بالحديث.
[وقد يروي كثير من الناس في الصفات، وسائر أبواب الاعتقادات، وعامة أبواب الدين أحاديث كثيرة تكون مكذوبة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ] .
انتشر في بعض كتب الصوفية بعض الأحاديث الموضوعة، كقولهم بأن الله ينزل إلى الأرض، مع أن الحديث الصحيح: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا)، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ربه مشاهدة مبصراً له في حياته، وما إلى ذلك من الروايات التي لا يثبت منها شيء عند أهل الحديث، ولا سيما إذا اعتبرت هذه الروايات كنوع مفاصل في تقريب مسائل السلوك والتعبد ونحو ذلك.
[وهي قسمان: منها ما يكون كلامًا باطلاً لا يجوز أن يقال، فضلاً عن أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم] .
هذا هو المنكر من الموضوعات المخالفة لأصول الإسلام، والقسم الثاني -وهذا مهم لطالب العلم أن يفقهه- قال:
[والثاني: ما يكون قد قاله بعض السلف أو بعض العلماء أو بعض الناس، ويكون حقًا. أو مما يسوغ فيه الاجتهاد، أو مذهبًا لقائله] .
هذه في الحقيقة ينبغي لطالب العلم أن يكون فقيهاً فيها، وهي أن أصول المنهج الشرعي في العلم والعمل والدعوة وما إلى ذلك تتلقى عن محكم نصوص الكتاب والسنة، والهدي المطرد الذي كان عليه السلف أهل القرون الثلاثة الفاضلة.
أما الكلمات أو المثالات المختصة ببعض السلف فهذا فقه له قدره وله شأنه، لكن يجب أن يجمع مع نظيره الذي قد يكون بوجه ما يخالفه في الحال، فقد يكون هذا السياق فيه من الخفض، وهذا فيه من الرفع.
وبعض طلبة العلم -أحياناً- لا يفقه في نصوص الكتاب والسنة، ومنهج التعامل مع المخالف شيئاً، وقد سأل أحد الطلبة هذا السؤال فقال: هل نناظر أهل البدع؟
فقيل: نعم. إذا كان المناظر أهلاً والمصلحة الشرعية تقتضي ذلك.
قال: لكن هذا يشكل عليه أنه خلاف مذهب السلف.
فقيل له: كيف خلاف مذهب السلف؟
قال: لأن فلاناً سئل: أنتكلم مع أهل البدع؟ قال: لا، قيل: ولا كلمة؟ قال: ولا كلمة.
فهنا الإشكال ليس من كلام هذا الإمام؛ لأنه جواب في حال معينة، لذا قد تجد عالماً اليوم قد يُسأل: أنتكلم مع أهل البدع؟ فيقول: اعرضوا عنه؛ لأن الله سبحانه يقول: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3]، فهذا فقه يناسب مقامه، لكن أن يفترض أن هذا هو المنهج المطرد، وهو أن السني لا يكلم البدعي، لا على سبيل الدعوة ولا على سبيل النصح ولا على سبيل التوجيه، فليس بصحيح.
والذي نقصده أن كلمات أئمة السلف رحمهم الله هي فقه واجتهاد، تجمع مع غيرها من كلامهم وكلام نظرائهم حتى يكون المنهج منهجاً منضبطا مطرداً على أصول الحكمة التي كان عليها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوة من ضلوا سواء السبيل من أجناس الكفار، فضلاً عن المبتدعة المخالفين في شيء من مسائل وأصول الإسلام.
التفريق بين السني والبدعي يكون بالأصول المحكمة التي انضبط فيها الإجماع، كإثبات صفات الله سبحانه وتعالى، وأنه منزه عن التعطيل والتشبيه والتمثيل، وإثبات أن القرآن كلامه سبحانه وتعالى، وإثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وإثبات قدر الله سبحانه وتعالى، وأنه قضى مقادير الخلق وخلق أفعال العباد، وكتب مقاديرهم، وهو بكل شيء عليم، وإثبات شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وعذاب القبر ونعيمه، وإثبات عدالة الصحابة.
هذه هي الأصول التي تميز السني من البدعي، أما بعض الاجتهادات الخاصة التي عرضت، فإن هذا فقه يختلف.
ولتتضح الصورة نذكر قصة الإمام أحمد بن حنبل مع داود بن علي الأصبهاني صاحب المذهب الظاهري، وهو من كبار الأئمة فقهاً وعلماً؛ فإنه لما ذهب إلى خراسان سألوه: هل القرآن محدث؟ فقال: محدث -هكذا تقول الرواية- لأنه وجد أنه في سياق القرآن: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء:2].
وكان الإمام أحمد رحمه الله ينهى عن هذه الكلمة، فلما جاء داود بن علي قال ابن الإمام أحمد لأبيه: هذا رجل من أهل أصبهان يستأذن عليك، قال: من هو؟ -وكان بين داود وبين ابن الإمام أحمد تلاطف- قال: داود ، قال: ابن من؟ قال: ابن علي ، قال: لا يدخل؛ إنه بلغني عنه أنه قال كذا وكذا.
فهذا مثال يصدق فقهه فيما يناسب حال الإمام أحمد ، وهو اجتهاد وصل إليه. وفي هذا العصر كان للشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله بعض الاجتهاد مع بعض الناس، فلا يلزم بالضرورة أن يكون هذا منهجاً مطرداً لسائر الطلبة وسائر الناس.
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم حتى في آخر غزوة، وهي غزوة تبوك، والتي نزل القرآن مفصلاً في شأنها، وقد تخلف من تخلف من الصحابة عنها، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهجر المنافقين الذي تخلفوا عن الغزوة، لكنه هجر بعضاً من أصحابه، حتى نزل القرآن بتوبتهم، وأثنى عليهم.
ولما روجع النبي صلى الله عليه وسلم في قتل المنافقين قال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، فكذلك يجب أن نقول اليوم: لا يتحدث الناس أن أهل السنة يبغي بعضهم على بعض، ويشتت بعضهم بعضاً، ويكذّب بعضهم بعضاً، ويرمي بعضهم بعضاً بالضلال والبدعة وما إلى ذلك في أمور قد يكون بعضها يحتاج إلى مراجعة، وقد يكون بعضها من يسير الاجتهاد.
[وهذه المسائل وإن كان غالبها موافقًا لأصول السنة، ففيها ما إذا خالفه الإنسان لم يحكم بأنه مبتدع، مثل أول نعمة أنعم بها على عبده؛ فإن هذه المسألة فيها نزاع بين أهل السنة] .
بعض المتأخرين أصحاب السنة لما حرصوا على تمييز السني من البدعي ذكروا بعض التفاصيل التي يضيق كثير من عامة أهل السنة بل وبعض خاصتهم أن يدركوها؛ لأنها ليست من مسائل الأصول، وإن كان العلم بها علماً فاضلا،ً وفرق بين قولك: إن العلم بها علم فاضل، وبين قولك: إنها من الأصول التي من لم يتقلدها ويعلمها ويصرح بذكرها يكون خارجاً عن السنة والجماعة.
إذاً: الأصول التي تميز هي الأصول المحكمة في صريح القرآن ومتواتر السنة، وإجماع الصدر الأول، القرون الثلاثة الفاضلة.
أما بعض التفاصيل فهذه يقع فيها الوهم أحياناً، ويقع فيها الغلط، ويقع فيها التأخر، سواء كانت في مسائل علمية أو عملية، ولا بأس أن يسمى هذا الوهم غلطاً أو خطأً، بل لا بأس أن يسمى بدعة، لكن لا يلزم أن يكون صاحبه خارجاً عن السنة والجماعة خروجاً مطلقاً؛ فإن الأئمة رحمهم الله لما قال حماد بن أبي سليمان مقالته لم يجعلوه من أهل البدع المطلقة، يقول الإمام ابن تيمية : "لم يكن الأئمة من أهل الكوفة وغيرهم يترددون أن هذا القول بدعة، ولكن مع ذلك لم يجعلوا حماداً وأمثاله من الكوفيين من أهل البدع المطلقة، فضلاً عن المغلظة، أي من الخارجين عن السنة والجماعة مطلقاً".
فالمقاربة فيها عقل، وفيها حكمة، وفيها قصد إلى تحقيق الشريعة؛ لأن الله أمر بأصلين، قال سبحانه: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ [الشورى:13] وقال معه: وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، فكما أن طالب العلم يعنى بضبط السنة، أيضاً من تحقيق السنة وهدي السلف العناية بالاجتماع على الحق، وأن لا يتفرق الناس شيعاً مع أنهم على أصول من الحق واحدة، وإنما اختلفوا في أمر يحتمل الخلاف فيه، أو قد يقع الغلط في مثله.
وهذا الاختلاف إما في أمر يحتمل الخلاف، وهو الاجتهاد المأذون فيه، أو في أمر قد لا يكون مأذوناً بالاجتهاد فيه، لكنه نوع من ضيق المسائل الذي -كما قال أبو عبيد - قد يقع الغلط في مثله، وإذا كان أبو عبيد قد قال هذا عن مرجئة الفقهاء، مع أن قولهم كان مخالفاً لظواهر النصوص البينة، فكيف هو دون ذلك من تفاصيل المسائل التي تخفى على كثير من أهل العلم، فضلاً عن العامة.
فهذه المسائل التي يقع الغلط في مثلها، فضلاً عن المسائل التي تقبل الاجتهاد، لا ينبغي أن تكون مفرقة بين المسلمين، فضلاً عن أن تكون مفرقة بين أهل السنة بعضهم مع بعض، وإنما في الأصول المحكمة وهي الأصول التي انضبطت إجماعاً بيناً مستقراً شائعاً عند الصحابة والأئمة.
[فالواجب أن يفرق بين الحديث الصحيح والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة، فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عمومًا، ولمن يدعي السنة خصوصًا] .
هذا أصل، وهذا فقه عظيم لهدي الإسلام عموماً، ولمن يدعي السنة خصوصاً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر