الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
[ والعرش والكرسي حق، وهو مستغنٍ عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه.
ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم الله موسى تكليماً، إيماناً وتصديقاً وتسليماً.
ونؤمن بالملائكة والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين ].
قال المؤلف رحمه الله: (والعرش والكرسي حق) كما جاء بذلك الكتاب والسنة، والعرش والكرسي: خلقان عظيمان من خلق الله جل وعلا، أما العرش فهو: سرير الملك، هذا هو معنى العرش في لغة العرب، وهو من أعظم خلق الله جل وعلا، اصطفاه الله سبحانه وتعالى وخصه دون سائر الخلق بأن أضاف إليه الاستواء، فقال الله جل وعلا: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] في عدة مواضع من الكتاب الحكيم، ووصف العرش بأنه عظيم، ووصفه بأنه مجيد، ففي قراءة: (ذو العرش المجيدِ) وصف للعرش، والقراءة الثانية: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:15] وصف للرب جل وعلا.
فالله سبحانه وتعالى عظم شأن هذا العرش، وخصه بما خصه به من أنه استوى عليه جل وعلا استواءً يليق بذاته من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.
وقد ذهب بعض أهل السنة والجماعة: إلى أن أول الخلق هو القلم، ولكن الصحيح هو ما عليه الأكثرون: من أن خلق العرش سابق على خلق القلم، والعرش أعظم المخلوقات، فأعظم خلق الله فيما نعلم العرش.
فمنهم من قال: إن الكرسي هو العرش، والصحيح: أنه شيء غير العرش ؛ لورود التفريق بين الكرسي والعرش في عدة نصوص من الكتاب والسنة.
وقال آخرون في الكرسي: إنه موضع قدمي الرب جل وعلا، فهو بين يدي العرش، جاء هذا عن ابن عباس موقوفاً، ومعلوم أن مثل هذا لا يقال بالرأي؛ ولذلك قبله جماعة من العلماء، وأثبتوا له حكم الرفع ما لم يكن نقله عن أهل الكتاب، فإن ابن عباس له رواية عن أهل الكتاب، وإن كان ينكر الأخذ عنهم رضي الله عنه كما جاء ذلك عنه في صحيح البخاري، لكن المشهور أنه أخذ عنهم، فلعل ما أنكره هو الإقبال على ما عندهم، والأخذ بما يقولون، واعتماده.
وعلى كل حال من قال: إن العرش موضع القدمين، فقد استند إلى أثر ابن عباس .
وقال آخرون: إن الكرسي خلق عظيم من خلق الله عز وجل غير العرش، ولم يقيدوه بأنه موضع القدمين ولا بغير ذلك، وهذا القول الأخير هو قول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله؛ وذلك لأن الأثر الوارد عن ابن عباس ضعيف، فمن صححه قال بما جاء في الأثر من أن الكرسي موضع القدمين كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في نونيته ، ومن رأى ضعف الأثر لم يستند إليه في إثبات هذا الوصف، وقال: الكرسي خلق من خلق الله عظيم، والله أعلم به، واقتصر على هذا.
وعلى كل حال لا شك أن العرش والكرسي حق -كما قال المؤلف رحمه الله- لثبوت ذلك في النصوص.
يشير بهذا رحمه الله إلى استواء الله عز وجل على العرش، فإن الله سبحانه وتعالى استوى على العرش، واستواؤه ثابت بالكتاب والسنة ثبوتاً لا ريب فيه ولا شك، فإن الله سبحانه وتعالى أخبر باستوائه على العرش في مواضع عديدة من كتابه الحكيم فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] تكررت في سبعة مواضع من الكتاب الحكيم.
وجاء ذلك -أيضاً- في حديث عمران وفيه: (ثم استوى على العرش) وهو في الصحيحين، فاستواء الله على العرش ثابت لا مرية فيه ولا شك، وأهل السنة والجماعة أثبتوا الاستواء على ما جاء في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، فقالوا: الرحمن على العرش استوى كما قال الرب جل وعلا، وأنكر هذا من أنكره من المتكلمين وعلى رأسهم الجهمية، فإنهم أنكروا استواء الله عز وجل على عرشه.
وتبعهم على هذا جماعة من مثبتة الصفات -كالأشاعرة- فأنكروا الاستواء الذي يثبته أهل السنة والجماعة، وأثبتوا الاستواء بمعنى الاستيلاء، وقالوا: استوى على العرش أي: استولى عليه، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وتركوا المعنى المتبادر الذي فسره السلف وبينوه إلى معنىً غير ثابت في اللغة، بل في ثبوته في اللغة خلاف: هل يطلق استوى بمعنى استولى؟ العلماء مختلفون في ذلك، والصحيح: أن الاستواء معناه العلو والارتفاع.
وقد جمع ابن القيم رحمه الله في نونيته كلام أهل العلم في تفسير الاستواء فقال:
ولهم عبارت عليه أربع قد حصلت للفارس الطعان
وهي: استقر وقد على وكذا ار تفع الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد صعد الذي هو رابع وأبو عبيدة صاحب الشيباني
فالمعاني أربعة: ارتفع، وعلا، وصعد، واستقر.
ثم اعلم أن الاستواء الذي يثبته أهل السنة والجماعة لا يلزم عليه نقص؛ لأن كلام الله حق، كما قال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42]، وما كان حق فلا يمكن أن يلزم عليه لازم باطل مهما كان وكيفما كان، وإنما اللوازم الباطلة التي يلزم بها أهل الباطل أهل السنة والجماعة إنما جاءت من الأفهام السقيمة، والآراء الباطلة، والأقوال المنحرفة، والآراء الضالة.
فلما كان أهل السنة والجماعة على ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم سالمين من هذه البدع كانوا على الصراط المستقيم، يعملون بما في الكتاب من الهدى والحق ويقبلونه، فكانوا في روح ونور كما قال جل وعلا: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ [الشورى:52] فالقرآن روح ونور، وأعظم الروح والنور ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم لم تدخلهم هذه البدع التي حصل بها التحريف والتضليل، والانحراف عن الصراط المستقيم.
وكل من سار على طريقهم فله من الروح وهو: الحياة، والنور وهو: الهداية بقدر ما يستمسك بالكتاب المبين، والمؤمن إذا عمل بهذا وفق إلى خير كثير، وصرف عنه شر كثير.
أما إذا تبع هذه الأقوال الباطلة والآراء المنحرفة خفت صولة الحق في قلبه، وخفي نور الهدى من فؤاده، ووقع في أنواع الضلال والردى.
ثم قال رحمه الله في الجواب عما ألزم به أهل الباطل أهل الحق من إثبات صفة الاستواء: (وهو مستغن عن العرش) سبحانه وبحمده، فهو الغني الحميد لا حاجة به إلى شيء من خلقه، وإنما استواؤه تعظيم واصطفاء، فهو دال على عظمته سبحانه وتعالى، وهو المتصف بصفات الكمال، ولله المثل الأعلى، وهو اصطفاء واختيار لهذا المخلوق من سائر الخلق حيث أضاف الاستواء إليه، والله جل وعلا لا معقب لحكمه يخلق ما يشاء ويختار، فمن جملة ما اختاره هذا العرش، فهو سبحانه اختاره وخصه بهذه الخاصية العظيمة وهي: أنه جل وعلا استوى عليه.
لكن لا تتوهم أنه محتاج إلى العرش، بل هو الغني عن كل شيء، فالغنى وصف له ذاتي سبحانه وتعالى، وكل شيء مفتقر إليه، ولا غنى للخلق عنه سبحانه وتعالى، وهو الغني الحميد جل وعلا؛ ولذلك قال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41]
فكل خلقه مفتقرون إليه، هو الصمد سبحانه وتعالى الذي تذل له الرقاب، وتنزل به الحوائج مع كمال غناه سبحانه وتعالى، فقول المؤلف: (وهو مستغن عن العرش وما دونه) أي: سائر الخلق؛ لئلا يتوهم متوهم من إثبات صفة الاستواء افتقار الله جل وعلا إلى العرش.
ولله المثل الأعلى: الآن السماء فوق الأرض فهل هي محتاجة في استقرارها إلى الأرض؟ الجواب: لا، فلا يلزم من علو المخلوق على الشيء أو استوائه عليه أن يكون محتاجاً إليه، فاقطع هذه الأوهام الباطلة، وإياك أن تصغي إلى شبه المشبهين، فإنهم يوقعون في الردى.
فالله جل وعلا محيط بكل شيء، وفوقه، أي: وهو عليه مستعلٍ على كل شيء سبحانه وتعالى، ولا شك أنه هو العلي العظيم سبحانه وبحمده؛ ولذلك ختمت أعظم آية في كتاب الله بهذين الوصفين: بإثبات صفة العلو والعظمة، فعلو الله ثابت على كل شيء، وفوقية الله سبحانه وتعالى ثابتة على كل شيء، والعلو الثابت له سبحانه وتعالى هو: علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر.
كل هذه المعاني الثلاثة ثابتة للرب جل وعلا، وأهل التحريف والانحراف لم يثبتوا علو الذات، بل قالوا في كل ما جاء في الكتاب والسنة من إثبات العلو لله عز وجل: إنه علو القدْر، أو علو القهر، وهذا ثابت للرب جل وعلا، ولكن لا نعطل المعنى الثالث، وهو صفة كمال للرب سبحانه وتعالى.
قال رحمه الله: (وقد أعجز عن الإحاطة خلقه) أعجز عن الإحاطة خلقه، فخلقه مهما بلغ قدرهم وقدراتهم لا يتمكنون من الإحاطة بالرب جل وعلا، لا الملائكة ولا غيرهم، كلهم لا يتمكنون من الإحاطة به سبحانه وبحمده، فهو الكبير المتعال، وهو المحيط بكل شيء، قال الله جل وعلا: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255].
وهذا فيه شيء مما اتصف به وهو العلم، لا يتمكنون من الإحاطة بشيء من ذلك، وقال جل وعلا: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110] أي: لا يتمكنون من الإحاطة بعلمه سبحانه وتعالى، فنفى الله عز وجل الإحاطة بشيء من صفاته، والإحاطة به جل وعلا، وأيضاً: نفى الإحاطة الحسية، وذلك بإدراك البصر فقال سبحانه وتعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103]لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار سبحانه وبحمده، فنفى الله جل وعلا أن تدركه الأبصار؛ وذلك لعظمه وكماله، فخلقه لا يتمكنون من الإحاطة به.
وعلى هذا يحمل ما جاء في الأثر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في تفسير الآية قال رضي الله عنه: (لو أن الخلق كلهم -الملائكة، والإنس، والجن، والشياطين- صفوا صفاً واحداً منذ خلقهم الله عز وجل إلى آخرهم ما أحاطوا بالله جل وعلا) مع تعددهم، واختلاف قدراتهم، وكثرتهم؛ لا يحيطون بالرب جل وعلا، وقد ورد هذا الأثر مرفوعاً إلا أنه لا يصح مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والمراد: أن الخلق عاجزون عن أن يحيطوا بالرب سبحانه وتعالى، وإذا كان كذلك فالواجب عليهم أن يقدروا الله جل وعلا عن توهم الإحاطة به، أو العلم بحقائق ما أخبر به عن نفسه سبحانه وتعالى.
يقول رحمه الله: (نقول) أي: في عقدنا وما ندين الله به وما نتعبد له سبحانه وتعالى به: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، (اتخذ) أي: اصطفى وصير إبراهيم خليلاً له سبحانه وتعالى، وفي هذا إثبات صفة المحبة لله سبحانه وتعالى، إثبات أنه يحِب وأنه يُحب؛ لأنه إنما اصطفاه وصيره خليلاً له لكونه يحبه، ففي هذا إثبات أنه سبحانه وتعالى يحب عباده وأن عباده يحبونه، وقد أنكر الجهمية أن يحب الله عز وجل عباده أو أن يُحبوه، فقالوا: لا يحب ولا يُحب، نسأل الله ألا يحرمنا فضله، لماذا قلتم كذا؟ قالوا: لأنه لا مناسبة بين الخالق والمخلوق؛ وإنما يحب الإنسان ما يناسبه، فالمحبة تكون بين المتناسبين، ولا مناسبة بين الخالق والمخلوق، فضلوا بهذا ضلالاً مبيناً حيث أنكروا ما أثبته الله في كتابه، فإن الله أثبت أنه يحَب من عباده، وأنه يُحِب منهم، قال سبحانه وتعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، وفي غير ما آية قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:4]، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] والآيات في إثبات محبة الله لعباده كثيرة.
وأما محبة العباد لله فهي ثابتة أيضاً في قوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، وفي قوله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، وهذا فيه إثبات المحبة من الله لعباده، ومن العباد للرب جل وعلا.
فيقال لهؤلاء الضالين: أي مناسبة للمحبة أعظم من مناسبة خلق الله إياك، ورزقه إياك، وإمدادك بكل خير؟! إن مناسبة الخلق أعظم مناسبة؛ لأنه من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان أنه خلقه وأوجده من العدم، ورزقه وأمده بالخيرات، وعافاه وأصلح شأنه وتولى أمره، فهو الرب جل وعلا الذي بلغ بالإنسان غاية الكمال، فتدرج به في مدارج الفضل والإحسان إلى أن بلَّغه درجة الكمال في الخلق، ودرجة الكمال في الاهتداء، حيث دله وهداه الصراط المستقيم كما قال سبحانه وتعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، فمن ضل بعد ذلك فإنما يضل على نفسه، لكن الله جل وعلا دل الناس على سبيل النجاة.
فأعظم مناسبة هي ما بين الخالق والمخلوق، ولكن كما قال الله جل وعلا: فإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] نعوذ بالله من الخذلان!
وضل في هذه الصفة -صفة المحبة- مثبتة الصفات حيث قالوا: إن الله لا يحب المحبة التي يثبتها أهل السنة والجماعة، إنما محبة الله إرادته الثواب؛ لأنههم لا يثبتون الصفات الفعلية لله جل وعلا، والمحبة صفة فعلية؛ لأنها معلقة بالمشيئة، فمن شاء الله أحبه، ومن شاء لم يحبه.
والصحيح هو: ما عليه أهل السنة والجماعة من إثبات هذه الصفة العظيمة للرب سبحانه وتعالى.
وعلى كل حال هم في الجملة أثبتوا صفة الكلام، لكنه كلام غير الذي يثبته أهل السنة والجماعة للرب، فإنهم أثبتوا كلاماً نفسانياً لا الكلام الذي يثبته أهل السنة والجماعة، ويعقله أهل اللغة، وقد تقدم شيء من الكلام على هذه الصفة.
والمقصود: أن الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه أنه كلم موسى، وهذا التكليم هو غاية ما خص الله سبحانه وتعالى به بني البشر، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر مراتب الإيحاء فقال: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وهذا الذي جرى لموسى أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى:51] وهذه ثالث المراتب التي يكون بها الوحي ويكون عليها الوحي.
الذي جرى لموسى عليه السلام هو أن الله سبحانه وتعالى كلمه؛ ولذلك لم يذكر موسى في وجه التفضيل إلا وذكر الله امتنانه عليه بالكلام، فالله خص موسى بوصف لم يدركه أكثر الخلق، بل ما حصل له من هذه الصفة لم يدركه أحد، فهو من خصائصه، قال الله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] فتأكيد التكليم بالمصدر فيه تأكيد الكلام، وفيه أنه تكليم عظيم اختص الله به موسى دون غيره من الرسل.
وأما نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد كلمه الله في ليلة المعراج من غير رسول، أي: من غير واسطة، لكن مع هذا فالذي اختص به موسى فوق ذلك، ومعلوم أن إثبات الفضل في شيء معين لا يلزم التفضيل من كل وجه، فثبوت هذه الفضيلة لموسى عليه السلام لا يلزم منها أن يكون أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، بل النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وهو أفضل الرسل صلى الله عليهم وسلم، وهو أفضل أولي العزم.
والذي اختص به موسى أمران:
الأمر الأول: أن الله ابتدأ الوحي إليه بالتكليم مباشرة كما قال سبحانه وتعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52]فذكر المناجاة، وقد جرت المناداة لغيره كما قال تعالى: وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ [الأعراف:22] فقد جرت المناداة لغيره، لكن قال فيه: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً [مريم:52]، وهذا لم يحصل لأحد، وهذا مما اختص الله به موسى، فالذي خص الله به موسى أنه ابتدأ الوحي إليه بالتكليم المباشر بخلاف غيره من الرسل فإن ابتداء الرسالة إليهم كانت بواسطة جبريل عليه السلام.
الأمر الثاني: مما اختص الله به موسى عليه السلام في التكليم أنه أعطاه من التكليم ما لم يعط غيره، كما قال تعالى: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا فإن هذا لم يذكر لغيره.
فما خص الله به موسى من التكليم في صفة التكليم أمر لم يدركه أحد من النبيين؛ ولذلك قال الله جل وعلا: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [النساء:163]ثم قال: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] فبعد أن ذكر الله جل وعلا الإيحاء الذي اشترك فيه النبيون والمرسلون ذكر ما اختص به موسى عليه السلام فقال -بعد ذكر الإيحاء العام-: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا .
فعلم من هذا أن ما خص الله به موسى مختلف عما أدركه أولئك حتى نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن المعلوم أن ثبوت الفضيلة الخاصة لا يلزم منها التفضيل من كل وجه، فإن الله عز وجل يصطفي من خلقه ما يشاء، كما قال سبحانه: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].
ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين].
يقول رحمه الله: (ونؤمن بالملائكة والنبيين) الإيمان بالملائكة من أصول الإيمان كما دل على ذلك الكتاب والسنة، قال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177] فذكر الله جل وعلا بعد الإيمان به وباليوم الآخر الإيمان بالملائكة.
فالإيمان بالملائكة من أصول الإيمان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله وملائكته) فالإيمان بالملائكة من أصول الإيمان.
والذي يتضمنه الإيمان بالملائكة أن نؤمن بأنهم خلق من خلق الله، خلقهم جل وعلا من نور، وأن الله سبحانه وتعالى اصطفاهم فأسكنهم السماوات كما قال جل وعلا: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا [النجم:26] فهم أهل السماوات.
واصطفاهم الله جل وعلا بأن جعل منهم رسلاً بينه وبين الخلق من بني آدم كما اصطفى جبريل عليه السلام، واصطفى منهم -أيضاً- من أوكل إليه شئون الخلق كالمطر، وأحوال الناس، وما إلى ذلك.
عددهم لا يعلمه إلا الله، فنؤمن بمن ذكره الله منهم تعييناً كجبريل وميكال وإسرافيل، ونؤمن بمن ذكره الله جل وعلا منهم على وجه العمل والوظيفة كقوله سبحانه وتعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وكملك الموت ومن يعينه في قبض الأرواح.
ونؤمن بمن ذكر على وجه الإجمال من أنه ما من موضع أربعة أصابع في السماء إلا وفيه ملك لله ساجد أو راكع. ونؤمن بأنهم مخلوقون للعبادة، فالله جل وعلا خلقهم للعبادة كما قال سبحانه: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20] هذا كله من جملة الإيمان بالملائكة.
وذلك الكتب نؤمن بأن الله أنزل كتباً، وأنه ما أرسل رسولاً إلا وأرسل إليه كتاباً، وأن الكتب كلام الله جل وعلا، فكل كتاب أنزله الله على رسول فقد تكلم به حتى التوراة، فلا يمنع كون الله كتبها لموسى بيده أنه تكلم بها، بل تكلم بها سبحانه وبحمده.
قال رحمه الله: (والكتب المنزلة على المرسلين) أي: نؤمن بها جميعاً، وجعل الكتب منزلة على المرسلين؛ لأن الأصل في إنزال الكتب أنها إلى الرسل، وأما الأنبياء فإنهم يكونون تابعين لكتب الرسل الذين من قبلهم، ولا يخصون بكتب خاصة.
قال: (ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين) أي: على الحق الواضح البين الذي لا خفاء فيه ولا التباس، ولا شك في هذا.
وإنما خصت القبلة بإضافة أهل الإسلام إليها؛ لأنهم يجتمعون عليها، فأهل الإسلام حيثما كانوا يتوجهون في صلاتهم إلى القبلة، فلما كانت هي عنوان اجتماعهم نسبوا إليها، فحيثما وجدت في كلام العلماء: أهل القبلة فهم: أهل الإسلام، وفي بعض المؤلفات يطلقون على أهل الإسلام أهل الصلاة؛ لأنه لا خلاف بينهم في وجوبها، فهي ثاني أركان الإسلام بعد التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
يقول رحمه الله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين) تسميتهم بالمسلمين لا شك في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فذاك المسلم) فمن استقبل القبلة فهو مسلم، ومن هذا أخذ بعض أهل العلم أن الإسلام يثبت بفعل كل ما هو من خصائص أهل الإسلام، ولا يلزم أن ينطق بالشهادتين، لكنه يطالب بها، لكنّ حكم الإسلام يجري عليه بأن يفعل ما يختص بأهل الإسلام، وما يختص به المسلمون عن غيرهم.
فمن استقبل القبلة حُكم له بأنه مسلم، ثم نُظر هل يأتي بما بقي، فإن أتى بما بقي جرى عليه حكم الإسلام، وإن امتنع عما بقي مما يجب عليه كان مرتداً؛ ولذلك ذكر الفقهاء أن من صلى مع المسلمين فهو مسلم حكماً، أي: يجري عليه حكم الإسلام.
قال رحمه الله: (ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين) أي: مقرين وقابلين.
قال: (وله بكل ما قال وأخبر مصدقين)، ولا شك أن من كان منه ذلك فإنه مسلم؛ لأن الإسلام يثبت بالشهادتين، فمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله فهو المسلم؛ لأن هاتين الشهادتين تتضمنان الاعتراف بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إجمالاً، والقبول لها، والتصديق لما جاء به من أن الله واحد وأنه إله حق، وأن ما سواه من الآلهة باطل، وأن رسول الله يبلغ عنه.
ففي قول المؤلف رحمه الله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين) قوله: (مسلمين مؤمنين) هذا فيمن حقق ما ذكر المؤلف رحمه الله، ولكن اعلم أن الإسلام والإيمان من الألفاظ والأسماء التي تختلف دلالتها باختلاف الاجتماع والافتراق، فإذا اجتمع الإسلام مع الإيمان كان الإسلام مما يتعلق بالعمل الظاهر، والإيمان مما يتعلق بالعمل الباطن.
وأما إذا افترقا فإن معنى كل واحد منهما يشمل الآخر، ويدخل فيه الآخر، وسيأتي تقرير هذا في بحث الإيمان في كلام المؤلف رحمه الله.
فقوله رحمه الله: (مسلمين مؤمنين) لعله أراد: من كمل الظاهر والباطن، أما من اقتصر فقط على الاعتراف بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مجرد تصديق، فإن هذا لا يوصف بالإيمان، يعني: من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأتى بأركان الإسلام لا يوصف بالإيمان حتى يباشر الإيمان قلبه، كما قال الله جل وعلا في الأعراب: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] (لمّا) التي تفيد نفي الشيء مع قرب حصوله ووجوده، فدل هذا على الفرق بين مسمى الإيمان ومسمى الإسلام في حال الاجتماع، فهذا لعله من جملة ما يلاحظ على كلام المؤلف رحمه الله.
والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر