الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، أما بعد:
قال المصنف رحمه الله: [عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة) متفق عليه واللفظ للبخاري، وفي رواية لـمسلم: (الشفعة في كل شِرك: في أرض، أو ربع، أو حائط، لا يصلح -وفي لفظ: لا يحل- أن يبيع حتى يعرض على شريكه)، وفي رواية الطحاوي: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء) ورجاله ثقات].
والشفعة قيل: أخذت من معنى الشفع بمعنى: الزيادة، وبمعنى: الضم، وبمعنى: النصرة.
والشفعة عند الفقهاء رحمهم الله هي: أن يأخذ الشريك حصة شريكه ممن اشتراها عن طريق الحاكم.
وقال بعض العلماء: إن الشفعة غايرت القاعدة العامة في احترام أموال الناس؛ لأن بها انتزع حق المالك بغير رضاه، والقاعدة هي قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) فقالوا: غايرت القاعدة العامة، ولكن استندت إلى قاعدة أخرى وهي: (لا ضرر ولا ضرار)؛ ولهذا يقولون: شرعت الشفعة لرفع الضرر عن الشريك.
وصورتها على سبيل الإجمال: أن يكون العقار -ربع أو دار، أي: أرض أو بيت أو بستان- مملوكاً لاثنين هما شريكان فيه، وتلك الشركة على الإشاعة، كل له النصف أو الربع أو ثلاثة أرباع، أو الثلث أو الثلثان، بدون قسمة ولا تمييز، أو له ثلاثون أو ستون في المائة من عين العقار، فيبيع أحد الشريكين حصته إلى شخص ثالث، فيأتي الشريك الذي لم يبع ويخشى مضرة الذي اشترى بأن يسيء معه الشراكة أو يكون رجل سوء؛ فيشفع عليه وينتزع منه الحصة التي اشتراها من شريكه ويضمها إلى حصته هو، فيكون قد شفع حصة شريكه إلى حصته بضمها إليه.
هذا هو هيكل الشفعة، وذكر بعض العلماء: أن الشفعة في الجملة كانت موجودة في الجاهلية وإن لم تكن على النظام المشروع والموجود في الإسلام، وذكروا: أن الرجل كان إذا أراد أن يبيع بيته -وليس فيه شركة لأحد- فإذا علم رجل بذلك، وأتاه وقال: أنا أحب أن أشتري البيت، قدمه على غيره، فاعتبروا ذلك من الشفعة.
ومن القواعد العامة في الإسلام: احترام الأموال، ومن القواعد العامة: رفع الضرر، فالشفعة يجتمع فيها الأمران؛ يجتمع فيها احترام المال والتعدي عليه، ويجتمع فيها وجود المضرة.
أما أخذ المال؛ فلأن الشفيع يأخذ حصة المشتري بدون رضاه، والمال محترم وهذا فيه مضرة على المشتري أن ينتزع ماله بغير رضاه، وفيها أيضاً رفع الضرر عن الشريك الذي لم يبع؛ لأن المشتري أجنبي عنه، وقد يعلم من سلوك المشتري الذي سيدخل شريكاً معه ما يتضرر به.
إذاً: هناك مضرة على الذي اشترى بانتزاعه منه، وهناك مضرة على الذي لم يبع بدخول شخص ثالث عليه، فاجتمعت المضرتان.
والقاعدة عند الأصوليين: (إذا وجدت مضرتان؛ فيرتكب أخفهما ضرراً).
فقالوا: إن المضرة التي تكون على المشتري بأخذ الحصة منه وردها إلى الشريك أخف من المضرة التي ستكون على الشريك من المشتري الجديد سيئ الخلق أو سيئ الشراكة أو العشرة.
إذاً: يرتكب أخف الضررين؛ فيلغى شراء المشتري الجديد وترجع الحصة إلى صاحب الشراكة القديمة، والمشتري سيأخذ ما دفع، وليس عليه مضرة مالية، فإذا اشترى بألف فسيرد إليه الألف الذي دفع، وانتهت المشكلة، بخلاف ما لو ألغينا الشفعة، فسيأتي شخص آخر -وبحكم التملك- ربما طالب بالقسمة في المشاع، وربما زاحم صاحب الشراكة الأول فتكون المضرة مستمرة.
ويقولون: ما خالف في الشفعة من السلف إلا عالم واحد يقال له: الأصم، فإنه قال: هذا اشترى وتملك، فكيف ننزع منه ملكه بغير رضاه؟ وأجاب الجمهور: بأن هذا من باب ارتكاب أخف الضررين.
والعالم كله على سبيل الإجمال يقرر الشفعة في القضاء المدني ما عدا بلداً واحداً عربياً ألغى الحكم بالشفعة في عهد قريب حوالي في الخمسينات بينما القضاء الفرنسي إلى اليوم يعمل بالشفعة، والقوانين الأوربية كلها تقر العمل بالشفعة.
إذاً: كما يقول العلماء: الشفعة ثابتة بالكتاب، وبالسنة وبالإجماع.
أما الكتاب فبالعمومات، وأما السنة فبنصوص تفصيلية كما ذكر المؤلف رحمه الله هنا.
وأما الإجماع: فالعمل بها ماض من زمن النبي صلى الله عليه وسلم على مر العصور الإسلامية، وهلم جرا.
إذاً: الشفعة مشروعة بلا نزاع، ولا عبرة بالأصم في مخالفته، ولا عبرة بإلغاء بعض الدول العربية المتأخرة للشفعة، فقد كانت موجودة عندها قبل الإلغاء، وهو حجة عليها.
أولاً: أركان الشفعة، وأركانها: شافع، ومشفوع عليه، ومشفوع فيه.
أما الشافع: فهو الشريك الأول، وأما المشفوع عليه فهو المشتري، وأما المشفوع فيه، فهو موضع البحث عند العلماء.
ثانياً: في أي شيء تكون؟ عندنا الحديث الأول وفيه: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا جرت القسمة، وصرفت الطرق، وضربت الحدود؛ فلا شفعة) يؤخذ من هذا الحديث: أن الذي تقع فيه الشفعة هو الملك المشاع مثل عقار يمكن أن يقسم وتميز الحصص الشائعة، كما يقال: قسمة إفراز، فإذا كان هناك اثنان يمتلكان بيتاً أو أرضاً، واحد منهما له الثلث والآخر له الثلثان فهو مشاع، فلكل واحد منهما حصته في كل شبر منها، كل شبر من الأرض لأحدهما فيه الثلث والآخر له الثلثان؛ لأن هذا حق مشاع داخل في جميع جزئيات الأرض المشتركة، وهذا خلاف ما يقال عند المتأخرين والمتقدمين: ما كانت الشراكة فيه على التعيين، بمعنى: هذه الأرض ألف متر، له خمسون متراً ولشريكه الباقي، فهنا هذه شركة على التعيين بالأمتار وليست مشاعة بنسبة مئوية، وهذا النوع من الشراكة، الجمهور على أنه لا شفعة فيه، وعند بعض المالكية أنها تساوي الشراكة المشاعة بدون تعيين وتحديد مقدار.
فإذا كان الحديث: (الشفعة فيما لم يقسم).
إذاً: يكون قابل القسمة فإذا كان العقار من حيث الصغر أو من حيث موضوع عمله لا يقبل قسمة فلا شفعة فيه، فلو أن هناك مصنعاً لتجميع سيارات، أو منجرة فيها آلات يساعد بعضها بعضاً؛ فمنها المنشار الذي يشق الخشب والذي يمسحه ومنها ما يثقبه، وكلها يكمل بعضها بعضاً، فلا يمكن قسمتها، فلا يمكن قسمة المنشار، ولا يمكن قسمة الآلة التي تنعم الخشب، فإذا قسمت وأخذ واحد منشاراً، وأخذ الثاني قطعة من خشب فالمنشار بدون تلك القطعة لا يعمل شيئاً، أو كان العقار صغيراً، كدكان مساحته متر في متر ونصف، وقد شاهدنا سابقاً بعض الدكاكين لا يزيد عن متر في مترين، متر واجهة ومترين عمق، فكيف يقسم؟ وإذا قسم لا يستفاد من قسمته، فهذا لا شفعة فيه.
وقالوا: ما أبطلت الشفعة المنفعة المقصودة منه فلا شفعة فيه، ومثلوا بالحمام، والحمام هو: مبنى كبير فيه مرافق لجلوس الناس وراحتهم بعد الاستحمام، وفيه مغطس فيه ماء حار، وفيه موضع للتدليك، فلو قسمنا هذا الحمام لبطل كونه حماماً؛ لأن كل شقص منه لا يؤدي وظيفته كحمام بكامله.
إذاً: لا تصح فيه شفعة.
وكذلك الرحى على ما كانت قديماً، كانت تدار بالماء وتدار بالهواء، وهي تقبل القسمة؛ لأنها حجر فوق وحجر تحت، ولكن أحد الحجرين لا يعمل بدون الآخر، كما يقول المثل العامي: (يد واحدة لا تصفق)، أي: لابد من ضم اليد الثانية إليها، وكذلك الرحى، وهكذا البيت الصغير، إذا لم يقبل القسمة وإذا قسم عطلت منافعه، فلا يصلح لسكنى أحد.
إذاً: قوله: (ما لم يقسم) يفيد أنه لا شفعة إلا فيما يقبل القسمة؛ لأن نفي القسمة لا يكون عن شيء من شأنه أن يقبل القسمة، وهذه قاعدة عند علماء المنطق يسمونها: (العدم والملكة)، وهو أنه لا يحق لك أن تنفي صفة عن شيء إلا إذا كان قابلاً للاتصاف بها، فلا تقول: هذا الكرسي لا يطير؛ لأنه ليس من شأنه الطيران، ولا تقول: هذه السارية لا تسمع؛ لأنه ليس من شأنها أن تسمع، فتنفي عنها شيئاً ليس من شأنها، اللهم إلا إذا كان في العصور الحديثة حيث صارت السماعات تجعل في الجدران!!
فهنا: ( مالم يقسم ) نفي القسمة يدل على أن المتحدث عنه قابل للقسمة.
ومن هنا خص الجمهور الشفعة في الشراكة؛ لأنه إذا ضربت الحدود، بمعنى: قسمت فلا شفعة، فإذا كان هناك ألف متر من الأررض وأردنا أن نقسمها مناصفة فهل يتعين أن كل قسم يكون خمسمائة متر أو يمكن أن يتفاوت في القسمة بحسب المواقع، فإذا كانت هناك واجهة عشرون متراً، وواجهة من الجهة الثانية عشرة أمتار، وقسمناه عرضاً، فسيكون النصف على الواجهة الأولى عشرون متراً، والنصف على الواجهة الثانية عشرة أمتار، فهل يستويان معاً وتتحد فيهما الرغبة؟ الجواب: لا، بل لابد أن ننقص من القسم الذي على الواجهة الواسعة لنعوض صاحب الواجهة الصغيرة.
إذاً: بحسب القسمة، وقعت القسمة بالمناصفة في الحقوق، لا في عين المساحة إذا قسمت ووضعت الحدود؛ لأن المشاع ليس فيه حدود، (فإذا وضعت الحدود) أي: جعل هذا حد قسمي وهذا حد قسمك، (وصرفت الطرق) كأن يكون الطريق كله في الشارع الواسع؛ لأنه مشترك مشاع، ولما قسمنا اضطررنا أن نوجد طريقاً آخر للقسم الثاني فجعلنا طريقه من الشارع الآخر سواءً شرقاً أو غرباً، فحينئذ إذا وقعت القسمة وضربت الحدود وصرفت الطرق، فقد انتفت الشراكة، وأصبح كل واحد من الشريكين جاراً للآخر، فقالوا: لا شفعة للجار بمقتضى هذا الحديث، وهو كما ذكر المؤلف رواه الشيخان البخاري ومسلم، وليس فيه أي مطعن.
إذاً: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل مالم يقسم) يعني: في كل شراكة في أي عقار قابل للقسمة ولم يقسم، فإذا ما جرت القسمة، وضربت الحدود، وصرفت الطرق انتفى معنى الشراكة وأصبحا بدل الشريكين جارين.
(الشفعة في كل شِرك) والشرك بأن يكون -كما تقدم- شركاً مشاعاً، ليس شركاً محدداً بالأمتار، فهذا نص في أن الشفعة تكون في كل شرك، والمجاور ليس شريكاً إنما هو مجاز.
قوله: (الشفعة في كل شرك: في أرض، أو ربع، أو حائط). (في أرض -أرض بيضاء- أو في ربع) والربع: قيل: الأرض البيضاء التي لا غرس فيها، وقيل: هي التي فيها الغروس، يعني: نقول: في بستان أو في أرض بيضاء أو في بيت.
أي: لا يصلح لأحد الشريكين أن يبيع حصته في الشراكة حتى يعرضها على شريكه، فيقول له: أتأخذ نصيبي أو أبيعه؟ فإن قال: آخذ، فالحمد لله، وهو أولى من الغير، وإن قال: لا آخذ، فله أن يبيعه من غيره؛ لأنه سيأتي في شروط الأخذ بالشفعة: أن الشفيع يأخذ بعين الثمن الذي أخذه به الأجنبي، وأن يكون الثمن حالاً، وإنما الخلاف فيما إذا كان باع نصيبه مؤجلاً، فهل يأخذه الشفيع أيضاً بثمن مؤجل وكما أجل للأجنبي يؤجل لشريكه؟ قالوا: نعم، إذا كان مليئاً أو أتى بكفيل غارم.
إذاً: في بادئ الأمر إذا أراد الشريك أو أحد الشركاء -فقد يكون العقار شركة بين اثنين أو أكثر- أن يبيع، فلا يحق له إلا إذا عرض على الشركاء، فإن أجازوا فالحمد لله، وإن أبوا وقالوا: نحن نشتري فيأخذون، وكيف يأخذون إذا كانوا مجموعة؟ لو كان الشريك واحداً فسيأخذ حصة الشريك الآخر لنفسه لكن إذا كانوا ثلاثة وكل واحد قال: أنا أشتري، وكل الثلاثة قالوا: نأخذ بالشفعة، فهل نعطي واحداً من الشركاء الجزء المبيع ونترك البقية؟ أو نقول: أيها الشركاء! أنتم كلكم لكم حق الشفعة.
بأي صفة تكون الشفعة لهم كلهم؟
فإذا كان الثلاثة: واحد له السدس، والثاني له الثلث، والثالث له الربع، فهل نعطيهم من حصة الشريك الذي باع بقدر شراكتهم الشائعة فيه، فالشريك بالربع في الأرض العامة يأخذ ربع المبيع بالشفعة، والشريك بالثلث في الأرض العامة يأخذ الثلث من المبيع بالشفعة؟ قيل: إنهم يأخذون بقدر أنصبائهم في التملك في العين المشتركة، وقيل: يأخذون بعدد الرءوس.
أي: نقسم حصة الشريك الذي باع عليهم بعدد رءوسهم، وأعتقد أن الأول أضبط وأوفق تمشياً مع قواعد البيع والشراء.
فهنا لا يصح للشريك أن يبيع حصته حتى يؤذن شريكه.
إذاً: لا يبيع حتى يؤذن صاحبه فيشتري أو يترك، فإن اشترى فالحمد لله، وإن ترك حتى باع الشريك، فله الحق أن يأتي ويقول: مادام أن البيع قد وقع فأنا أشفع، وهذا أيضاً نص على أن الشفعة في الشراكة وليس فيه الجوار.
قوله: وفي رواية الطحاوي: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء).
هناك لا شفعة إلا فيما يقسم، وإذا وقعت القسمة انتفت، الشفعة في ربع أو دار. أي: في عقار ثابت، وهنا قال: (في كل شيء) إذا وجدت شراكة في أي شيء سواءً كانت في سيارة، أو في سفينة أو -كما يقول البعض- في سيف، أو في فرس، أو في حيوان أو متاع منقول، فكلمة: (في كل شيء) جمعت كل شيء، ولم يقل بهذا الجمهور، ولكن يروى هذا عن مالك وعن أحمد ولكن مذهب الحنابلة على خلاف ذلك، فهذا الحديث أو هذا الأثر يشعر بجواز الشفعة في كل شراكة، وإذا سألك أحد: كيف أشفع في سيارة فشريكي الأول الذي كان معي ابن حلال لا يدقق معي ولا يحاسبني -وسيأتي هذا- فإما أن يأخذ السيارة ويقول: أحاسبك، أو يأتي كل يوم إليّ ويقول: حاسبني حساب السيارة اليوم، فأنا أشفع وآخذ حقي؟
فبعضهم يقول: إذا تضرر الشريك من شركة الآخر تباع ويفض النزاع بين الطرفين؛ ولتعذر الاستفادة من الشراكة أو الشفعة في المنقول كالثياب، فكيف يشفع في الثوب؟ وإذا باع عباءته أو باع مشلحه، فقال: شريكه أنا أشفع فيه، فإن لي النصف فيه، فقد اشتريناه شركة، أو ورثناه سوية من أبينا، وهذا يصح التملك فيه، يقولون: إن الأثر الذي عند الطحاوي لا يمكن أن يناهض ما جاء في الصحيحين، فقد جاء بصريح النطق: (لا شفعة إلا في ربع أو دار) (قضى بالشفعة في كل مالم يقسم) والسيارة والثوب ونحو ذلك، هذه لا تقسم ولا يمكن الانتفاع بحصة منها.
إذاً: ما يمكن إلا أن نبيع؛ ولهذا حتى الروايات التي جاءت عن بعض الأئمة أصحابهم لم يعملوا بها.
قوله: (جار الدار أحق بالدار) هذا نص صريح في أن الجار أحق بدار الجار.
ونحن في خصوص الشفعة، والحديث لم يتعرض لمعنى الشفعة.
إذاً: أحق بها بماذا؟ هل هو حق بالإجارة أو بالارتفاق أو بالانتفاع أو أحق بالشفعة؟
كل هذه احتمالات، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، ولكن هناك من يقول بهذا الحديث في إثبات الشفعة في الجوار، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ويتفق الأحناف مع الجمهور في أن الشفعة أولاً للشريك في الأشياء الشائعة مالم تقسم.
ثم يقول أبو يوسف : إذا لم يوجد شريك شائع يطالب بالشفعة فللجار المطالبة.
وكذلك الأرض، هذا له أرض بحدودها وجاره له أرض بحدودها، إذا كان بينهما اشتراك في الماء الذي يسقي الأرضين، ولكن ينص أبو يوسف أيضاً بأن يكون على نهر صغير لا تجري فيه سفن، وأن يكون النهر محدوداً يسقي مزارع معينة وليس عاماً يمشي إلى ما شاء الله، وعلى هذا: مراتب الشفعة عند الأحناف:
أولاً: تكون للشريك شراكة شائعة كالجمهور.
ثانياً: للجار الذي له شراكة في مرافق العقار.
ثالثاً: للجار الذي لا شراكة له في هذا العقار ولا شراكة له في مرافقه.
وحجتهم هذا الحديث: (جار الدار أحق بالدار)، ولكن كما قالوا: هذا الحديث له علة، وقد تكلم عليه العلماء، فسنده لا يقاوم ما تقدم.
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بصقبه) أخرجه البخاري والحاكم وفيه قصة].
وهي: أن أبا رافع قال للمسور بن مخرمة: ألا تأمر هذا -يعني: سعد بن أبي وقاص - أن يشتري مني داري -وهي قرب سعد - فقال سعد: والله ما أزيدك على أربعة آلاف، فقال أبو رافع: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بصقبه) ما بعتك بأربعة آلاف.
الواقع أن هذا الحديث له عدة جوانب، وفيه عدة شبه، والوقت لا يكفي لعرض أو لبيان نقاط المغايرة لأحكام الشفعة؛ لأنه كان له بيوت داخل الدار وليس بينهما شراكة مشاعة، وإنما هي جوار، وفي هذا الحديث قصة وهي تحتاج إلى زيادة إيضاح، ولعلنا نرجئه إن شاء الله إلى درس قادم، وبالله تعالى التوفيق.
ونحب أن ننبه الإخوة إلى أن مباحث الشفعة في جزئياتها متسعة جداً، وقد كُتبت فيها رسائل تصل إلى الثمانمائة صفحة، والتفصيل في كل جزئياتها إنما هو عند المذاهب، وقد تناولوا الشفعة في الإجارة؛ كأن يكون هناك شركاء وواحد أجر حصته، وكذلك الشفعة بالنسبة للغائب والصغير والمجنون والمولى عليه والمتراخي في طلبها، وأيسر ما يؤخذ في هذا: (المغني) لـابن قدامة، و(المجموع) للنووي، وقد تناولها ابن قدامة في (المقنع) ولكن بشيء من التعقيد.
وننصح الإخوة بأن يراجعوا موضوع الشفعة إذا أرادوا التوسع في الجزئيات والتصور لبعض مواضيعها فيما يتعلق بنوع الثمن وكيف ينتقل الشقص، وكل هذا سيأتي إن شاء الله لكن على سبيل الإجمال، وأما التوضيح الوافي فهو كما أشرت إما في الرسائل المتخصصة، وإما في (المغني) لـابن قدامة وهو أقل تفريعاً من النووي في (المجموع)، فيرجع إلى تلك المراجع الأصيلة. وبالله تعالى التوفيق.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر