إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد:
فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي؛ فإنها أعظم المصائب.
هذا الحديث رواه ابن سعد والترمذي مرسلاً، ورواه أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً، وله شواهد منها: عند ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت: فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باباً بينه وبين الناس في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم، فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر ، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم، ورجا أن يخلفه الله فيهم، فقال: يا أيها الناس! أيما أحد من الناس -أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي.
هذا الحديث وإن كان ضعيفاً لكنه يعد شاهداً من شواهد الحديث الأول.
قوله: (يا أيها الناس أيما أحد من الناس -أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري)؛لأن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولقوله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.
فمقتضى هذا المعنى أن المصاب بموت النبي صلى الله عليه وسلم هو أعظم مصيبة مرت على المسلمين؛ لأن بموته انقطع الوحي والرسالة، فيرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الإنسان إذا أصيب في أي شيء من فقد عزيز عليه بموت أو غيره، فإنه يتعزى بالمصاب الأكبر الذي أصاب الأمة، ألا وهو موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: ( فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي ).
ومن شواهده أيضاً: ما رواه ابن المبارك في الزهد عن القاسم بن محمد مرسلاً: ليعز المسلمون في مصائبهم المصيبة بي، وذلك لأنها كما ذكرنا أعظم المصائب، وقال بعضهم:
اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد
فإذا ذكرت مصيبة تسلو بها فاذكر مصابك بالنبي محمد
صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث يرشد إلى أسلوب من أساليب التعزي والصبر عند حلول المصائب، فلا بد أن يتفطن المؤمن؛ لأن الصبر صبران: صبر محمود، وصبر مذموم، يعني: ليس كل صبر محموداً، لكن هناك صبر محمود وهناك صبر مذموم، فالصبر المحمود هو الصبر على قدر الله عز وجل عند حلول أي شيء من الكوارث أو المصائب القدرية، فهذا هو الذي ينبغي الصبر عليه، ويكون ذلك بحبس اللسان عن الشكوى، وحبس القلب عن التسخط المحذور، وحبس الجوارح عن الوقوع في المعاصي، كلطم الوجه وشق الجيوب وهذه الأشياء.
أما الصبر المذموم فهو الصبر الذي يدفع الإنسان إلى السكوت على محارم الله، وعدم الغيرة على حرمات المسلمين إذا انتهكت، فهذا ليس صبراً محموداً، ولكنه من الصبر المذموم الذي لا يرضاه الله عز وجل ولا يرضاه رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذه السورة التي نقف عندها اليوم إن شاء الله سورة النصر، وهي سورة مدنية آيها ثلاث، ولها عدة أسماء فهي تسمى: سورة النصر، وتسمى: سورة إذا جاء، وتسمى: سورة التوديع.
هذه السورة يقال: إنها آخر سورة نزلت كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى البيهقي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه السورة: (إنه قد نعيت إلي نفسي)، يعني: الله عز وجل يخبره بأنه قد اقترب أجله صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول بعض الصحابة: (فكان بعد نزول هذه السورة يفعل فعل مودع، وامتثل أمر الله عز وجل: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3]، فما كان يصلي بعد نزول هذه السورة صلاة إلا دعا فيها في الركوع والسجود: سبحانك الله ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن).
فهذه السورة كما ذكرنا كانت توطئةً وإرهاصاً بين يدي ذلك المصاب الجلل، وهو أول قاصمة أصيبت بها الأمة الإسلامية موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فنعيد تذكر الأيام الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما أن عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بعد حجة الوداع حتى أمر المسلمين بالتهيؤ لغزو الروم، واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم لإمرة هذا الغزو أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وكان أسامة رضي الله عنه شاباً حدثاً، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير إلى موضع مقتل أبيه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وأن يوطِئ الخيل أرض البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وذلك مع بدء شكواه ومرضه الذي توفي فيه، فانتهز المنافقون هذه الفرصة وقالوا: أمرّ النبي صلى الله عليه وسلم حدثاً على جلة المهاجرين والأنصار، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام الذي أثاره المنافقون والمرجفون عصب رأسه الشريف وخرج إلى الناس وخطب فيهم قائلاً: (إن تطعنوا في إمارة
ولم يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق الخروج إلى الصلاة مع الناس فقال: (مروا
كان النبي صلى الله عليه وسلم أثناء ذلك يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم وضايقه الألم كشفها عن وجهه صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات الأخيرة من حياته يقول: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) إذاً: كانت الوصية الأخيرة للنبي صلى الله عليه وسلم كما في بعض الروايات عن عائشة رضي الله عنها: (يحذر ما صنعوا) يعني: يحذر هذه الأمة أن تصنع مثل صنيع اليهود والنصارى، فعجباً لغربة الإسلام وإعراض المسلمين عن هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم، واقتحامهم وانتهاكهم الحرمات! وذلك باستحلال هذا الفعل القبيح وهو إدخال القبور في المساجد، ثم بعد ذلك اقترب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر إلى حكم الله سبحانه وتعالى الذي أجراه على عباده كلهم: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]. (دخل فجر يوم الإثنين الثاني عشر ربيع الأول من العام الحادي عشر من الهجرة، وبينما الناس في المسجد يصلون خلف
في بعض الأحاديث: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام نطق بوصيتين في آخر لحظة من حياته حيث قال: الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة وما ملكت أيمانكم) فكانت هذه وصيته الأخيرة لأصحابه وأمته صلى الله عليه وسلم.
يقول الله عز وجل: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] يأتي في الآية النصر والفتح، مع أن كلاً منهما مرتبط بالآخر، فمع كل نصر فتح ومع كل فتح نصر، فجاء النصر مضافاً إلى الله تعالى، والفتح جاء مطلقاً.
اتفقوا على نزول هذه السورة بعد فتح مكة، ومعلوم أنه سبق فتح مكة عدة فتوحات منها: فتح خيبر، ومنها: صلح الحديبية قال عز وجل عن صلح الحديبية: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] وقال الله عز وجل: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:27].
والنصر يكون في معارك القتال، ويكون بالحجة والبيان، فيكون بكف العدو كما في سورة الأحزاب، يقول الله عز وجل: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25]، وكما قال عز وجل في شأن اليهود: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا [الأحزاب:26] * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب:27].
إن النصر من عند الله العزيز الحكيم، ولقد علم المسلمون ذلك كما جاء في قوله تعالى: مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ.. [البقرة:214] فجاءهم الجواب: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
دائماً النصر يضاف إلى الله سبحانه وتعالى فقال سبحانه وتعالى: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214] وقال عز وجل: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1].
وقال صلى الله عليه وسلم (نصرت بالرعب مسيرة شهر) وقد قال الله عز وجل لموسى ولأخيه هارون: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، فهذا أيضاً من نصر المعية، كذلك الفتح يكون بانتشار دين الإسلام، وكما نعلم أن أعظم الفتوح في الإسلام فتحان: فتح الحديبية، وفتح مكة، فتح الحديبية كان تمهيداً للثاني، والثاني كان قضاءً على دولة الشرك في الجزيرة.
يقول الله عز وجل: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:2]هذا القول من الله سبحانه وتعالى يدل بإرادة العموم، يعني: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ [النصر:1]، هذا عام لكل نصر وفي كل فتح، بدليل العطف بقوله: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:2]، فكان الناس يأتون من كل جهة حتى من اليمن أفضل.... أقبلت... في دين الله، فهذا كل يدل على أن الدعوى قد بلغت كمالها وأن البلد قد بلغت وأن الأمانة قد أديت، لذلك استنبط ابن عباس رضي الله عنهما وكثير من الصحابة استنبطوا أن هذه الآية فيها إشارة إلى اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن رسالتك قد تمت، وأديت ما عليك، فتهيأ للقاء ربك.
أيضاً يدل لهذا المعنى في السورة: (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً) قوله سبحانه وتعالى قبل ذلك بحوالي ثلاثة أشهر في حجة الوداع: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] أي: كمل الدين، وتمت النعمة، ورضي الله عز وجل لنا الإسلام ديناً، فلذلك أيضاً بكى عمر رضي الله عنه حينما نزلت هذه الآية فعلم.. وعلم ذلك لأنه ما من شيء يبلغ الكمال إلا ويئول إلى النقصان.
قوله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ [النصر:1] الشامل الفتح: قيل هنا فتح مكة قيل فتح مكة وقيل فتح المدائن والبلاد كلها، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: المراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولاً واحداً، فإن أحياء العرب كانت تتلوم بإسلامها فتح مكة، يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبي، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجاً.
فهم يعلمون أن من شأن مكة ألا يسلط الله عز وجل عليها أي كافر أو كذاب، كما فعل الله عز وجل مع أبرهة الحبشي : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1] * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ [الفيل:2] * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ [الفيل:3] * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:4] * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:5].
ثم يقول رحمه الله: فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيماناً ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام فلله الحمد والمنة.
وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: كنا بماء ممر للناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس؟ ما هذا الرجل، فيقولون: يزعم أن الله أرسله وأوحى إليه بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام، وكأنما يقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما فتح الله عليه مكة بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فأسلم قوم عمرو بن سلمة ، بعد ما وقع ما كانوا ينتظرونه دخل الناس في دين الإسلام، قيل أيضاً: إن الفتح عامٌّ في فتوح البلاد كلها، وتقدمت الإشارة إلى فتوحات عريضة قبل مكة.
لقد تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بكثير من هذه الفتوحات، ووقع منها الكثير بفضل الله سبحانه وتعالى، وما لم يقع فسيقع مصداقاً لكلامه عليه الصلاة والسلام، من هذه الفتوحات التي أخبر بها الوحي كما ذكرنا: فتح خيبر وفتح مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، سواء من اليمن أو من غيرها، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتح بلاد العرب، أخبر بفتح مصر، فعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها: القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لها ذمة ورحماً، أو قال: ذمة وصهراً)، رواه مسلم .
وروى مسلم وأبو داود ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إرزبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، شهد على ذلك لحم
أما قوله: (منعت) فله معنيان: أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم سيسلمون ويسقط عليهم بإسلامهم فصاروا بإسلامهم مانعين ما كان عليهم من الوظائف واستدل على هذا بقوله: (وعدتم من حيث بدأتم) لأنهم في علم الله وفي قضائه وقدره أنهم سيسلمون، فعادوا من حيث بدءوا.
الثاني: أنهم يرجعون عن الطاعة، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (كيف أنتم إذا لم تجدوا ديناراً ولا درهماً؟! فقيل: وكيف ترى ذلك كائناً؟! قال: إذاً والذي نفسي بيده عن قول الصادق المصدوق أنه قال: تهتك حرمة الله وذمة رسوله، فيصب الله على قلوب أهل الذمة فيمنعون ما في أيديهم) رواه البخاري .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنه لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) أي: أنه لا تقوم الساعة حتى يعم دين الإسلام الأرض كلها.
وعن عبد الله بن الزبير عن سفيان بن أبي زهير أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم يفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم يفتح العراق فيأتي قوم يبسون ويتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون).
المقصود من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بفتح اليمن والشام والعراق، وما فتحت هذه البلاد إلا من بعده صلى الله عليه وسلم إلا اليمن، ويؤيد هذا ما ذكره ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال: الله أكبر الله أكبر جاء نصر الله والفتح، جاء أهل اليمن، قيل: يا رسول الله! وما أهل اليمن؟ قال: قوم رقيقة قلوبهم، لينة طباعهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية).
وبعد فتح مكة جاءت الوفود التي دخلت في دين الله أفواجاً العام التاسع من الهجرة، وجاء وفد اليمن وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عماله إلى اليمن بعد فتح مكة، وقدم عليه علي رضي الله عنه من اليمن في العام العاشر في موسم الحج، ففتحت اليمن بعد فتح مكة في حياته صلى الله عليه وسلم.
فهذا كله يؤيد أن الفتح هنا عام في كل فتح، وليس فقط فتح مكة، وهذا يؤخذ بدلالة الإيماء وبدلالة الإشارة.
قوله: (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) فيه وعد بفتوحات كثيرة لمناطق شاسعة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر كما في سورة الحج أن الناس يأتون للحج من كل فج عميق فقال سبحانه: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27] * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28].
هذا يدل على أن الناس سوف يأتون إلى الحج من أماكن بعيدة، وهذا الإتيان إلى الحج يدل على أن الإسلام قد انتشر في تلك البلدان البعيدة.
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3] قوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينزه ربه سبحانه وتعالى أن يترك الحق ويدعه للباطل فيهزمه، كما ذكرنا أن من سوء الظن بالله سبحانه وتعالى أن يظن بالله أنه يترك المسلمين دائماً في حال ضعف وانهزام، ويترك الباطل دائماً في حال علو واستكبار في الأرض، لكن كما قال عز وجل: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، الأيام دواليك، يوم لك ويوم عليك، فهذه سنة الله سبحانه وتعالى: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4] فهي ابتلاءات وقعت للمرسلين والأنبياء، ووقعت للعلماء ووقعت للصالحين، فلا بد من أن تدور الأيام دورتها فلا يفرح أهل الباطل ولا ييأسن أهل الحق، فكلمة الله ظاهرة ولا شك في ذلك؛ لأن من وقع في مثل هذا الظن فإنه يدخل في قوله تعالى في سورة الفتح: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح:6] فكون المسلم يعتقد بالله أن يترك الله أولياءه ويخذل دينه، ويعلي عليه كلمة الكفر والكفار والمشركين، فهذا من سوء الظن بالله سبحانه وتعالى، بل لا بد أن يتحقق كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم النصر للمؤمنين والعاقبة للمتقين. وتنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه وتعالى بواسطة حمده والثناء عليه بأنه القادر الذي لا يغلبه غالب، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين فإنما لينتقم منهم، وينصر المؤمنين، فلن يضيع أجر العاملين، ولن يفلح عمل المفسدين، وهو البصير سبحانه بما في قلوب المخلصين والمنافقين، فلا يذهب عليه رياء المرائين.
فقد قرن الله سبحانه وتعالى التسبيح بالحمد كثيراً.
قوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ) هذا له ارتباط بأول السورة؛ لأن أول السورة فيه دلالة على كمال مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم فقوله: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) يعني: لقد اكتملت رسالتك، وأديت أمانتك، وأتى نصر الله للمؤمنين ولدين الله سبحانه وتعالى، وجاء الفتح العام على المسلمين لبلاد الله، إما بالفعل وإما بالوعد الصادق، وهذه نعمة تستوجب الشكر والثناء والحمد لله سبحانه وتعالى، فلذلك قال: ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) فكان التسبيح مقترن بالحمد في مقابل ذلك.
قوله: ( بِحَمْدِ رَبِّكَ ) أي: أنه سبحانه وتعالى المتفضل بهذه النعم، كما جاء في سورة الضحى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، وقال في سورة العلق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1]، وقال: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [العلق:3] فترتبط وتقترن الربوبية بالإنعام؛ لأن الرب هو الذي يربي وينعم على مربوبه.
ثم قال عز وجل: ( وَاسْتَغْفِرْهُ ) قال البعض: إذا كان الاستغفار على الذنب فيكون الاستغفار في حق النبي صلى الله عليه وسلم، زيادة في الحسنات ورفعة في الدرجات؛ لأن الأنبياء منزهون عن الوقوع في المعاصي، فمثل هذه الآيات كثيرة في القرآن، فإنما تحمل على أن الاستغفار في ذاته عبادة يتعبد بها، وإن لم تقع معصية أصلاً.
والبعض قال: إن هذا من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، أو من باب شعور الأنبياء بالتقصير في حق الله سبحانه وتعالى، ومن أجل ذلك ينسب إليهم الذنب.
أو أن التوبة هي دعوة الأنبياء والرسل فهذا آدم عليه الصلاة والسلام يقول: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37]، ويقول نوح عليه الصلاة والسلام: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28] ويقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128] فيكون هذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم لأمته حتى يستغفروه سبحانه وتعالى، وقيل: هو رفع لدرجاته صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة).
إذاً: التوبة هي دعوة الأنبياء، فتكون أيضاً من باب الاستكثار من الخير، والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.
جاء عند جميع المفسرين أنه صلى الله عليه وسلم منذ نزلت هذه السورة لم يكن يدع أبداً قول: (سبحانك اللهم وبحمدك، تقول
قال الحافظ ابن حجر : معنى (يتأول القرآن) يجعل ما أمر به من التهليل والتحميد والاستغفار في أشرف الأوقات والأحوال.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: كأنه أخذه من قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3]، لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور، كان إذا سلم من الصلاة يقول: (أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله)، إذا خرج من الخلاء كان يقول: (غفرانك)، وورد الأمر بالاستغفار أيضاً عند انقضاء المناسك في قوله سبحانه وتعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ [البقرة:199].
إذاً: الاستغفار دائماً يكون في خواتيم الأمور؛ ليجبر ما كان فيها من نقص أو مداخلة رياء.
إذاً من حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا أن نتأسى به في ذلك.
وأمره صلى الله عليه وسلم بالاستغفار في خاتمة حياته في سورة التوديع التي نعي فيها إليه نفسه الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم مع التسبيح فيه امتثال للأمر،، ومن باب الاحتراز من المعاصي، فيكون أمره بذلك مع عصمته أمر لأمته وأن الاستغفار من التواضع، وهو مع ذلك عبادة في نفسه.
نقول للذين يداومون على ذكر الله سبحانه وتعالى: لقد كان أكثر ما يداوم النبي عليه الصلاة والسلام عليه هو الاستغفار مطلقاً مع ما ورد عنه في أذكار الصباح والمساء، فقد ورد الترغيب فيه وورد في السنة العملية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الاستغفار، كان لا يجلس مجلساً إلا يقول فيه: (رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور) وفي بعض الأحاديث: (فإني أستغفر الله في اليوم مائة مرة أو سبعين مرة).
فإذاً كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب على الاستغفار ويأمر به ويرغب فيه مع ورود الاستغفار أيضاً في أذكار الصباح والمساء، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، هذا الدعاء له فضيلة أمر به النبي عليه الصلاة والسلام.
إذاً: علينا أن نهتم بمراتب الأعمال من تقديم الفاضل على المفضول منه، فمثلاً: قبل الانصراف من الصلاة قبل التسليم وردت أحاديث كثيرة تقال قبل التسليم، من أهمها ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو التعوذ من أربع: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من شر فتنة
كذلك سيد الاستغفار فإنه يقال في المساء وفي الصباح، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة هذا الدعاء بقوله: (فمن قاله حين يصبح ثم مات من يومه دخل الجنة، ومن قاله حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة)، إذاً هذا أولى من غيره من الأعمال؛ لأنه قد يقول الإنسان هذا الدعاء فيكون بذلك قد ضمن الله عز وجل له الجنة بنص حديث الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذاً: على الإنسان المسلم أن يعرف فضائل الأدعية؛ حتى يقدم بعضها على بعض، إذاً: مثل هذا الدعاء جدير بأن تحافظ عليه وألا تفرط فيه؛ خشية أن يكون هذا آخر يوم أو آخر ليلة في حياتك، فتختمها بالاستغفار، كما أُمر صلى الله عليه وسلم أن يختم يومه أو يختم عمره بالاستغفار: وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3]، فيه رد على بعض الناس ممن يواظب على الذكر بلفظ المفرد، فيقول: الله، الله، الله مثلاً كذا ألف مرة، أو يقول: يا رحمان، يا رحمان، يا رحمان، يا لطيف، يا حي يا قيوم بدون أن يأتي بجملة ذات معنى واضح، فهذا أيضاً مما يعده بعض المحققين من البدع؛ لأنه لم يرد به نص صريح ولا صحيح، ولأن الخير كل الخير في الإتباع والشر كل الشر في الابتداع، وأي خير أعظم مما اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وأمره به، فالتزم به وامتثل ذلك، فكان يكثر أن يقول: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)، وذلك لأنه توفي بعد ذلك بمدة يسيرة، فأراد أن يختم حياته بالاستغفار وبهذا الدعاء العظيم وتأمل فعل الإمام البخاري رحمه الله تعالى كيف أنه ختم جامعه الصحيح الذي يعد أصح الكتب بعد القرآن ختمه بقوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فآخر عبارة في صحيح البخاري : (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من ضن بالمال أن ينفقه وبالليل أن يكابده فعليه بسبحان الله وبحمده) أي: إذا كنت عاجزاً عن النفقة في سبيل الله نتيجة فقر أو بخل فهناك البديل يعوضك عن الأجر الذي تناله من الصدقة أو من قيام الليل، ألا وهو التسبيح والتحميد.
هذه السورة يؤخذ منها قوة دلالة الإشارة والإيماء، كما جاء في قصة ابن عباس مع عمر رضي الله عنه قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكان بعضهم وجد في نفسه فقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر : إنه ممن قد علمتم) أي: ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل)، فظهرت استجابة دعوة الله لدعوة النبي عليه الصلاة والسلام في العلم الزاخر الذي جمعه هذا الحبر رضي الله تعالى عنه.
يقو ابن عباس : (فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذٍ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله سبحانه وتعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقال: فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، فقال عمر : وأنا لا أعرف فيها إلا كما قلت) أي: أنه صلى الله عليه وسلم جاء لأداء مهمة وقد تمت بمجيء النصر والفتح والدخول في دين الله أفواجاً، وعليه يكون قد أدى الأمانة وبلغ الرسالة، فليستعد لملاقاة ربه ليلقى جزاء عمله.
هذا مأخذ واستنباط وفهم وفقه دقيق لهذه الآية.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر