أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
الباب الثاني من كتاب الحدود: [باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود] أي: باب وجوب قطع السارق الشريف كما يجب قطع السارق الوضيع، فكلاهما في الحكم سواء إذا بلغ الحد السلطان.
قال: [والنهي عن الشفاعة في الحدود].
وهذا فارق جوهري بين الحد والتعزير: فهما يشتركان في جواز الشفاعة ما لم يصل الحد إلى السلطان، فإذا وصل الحد إلى السلطان فإنه يحرم على كل أحد أن يشفع لدى السلطان في زوال هذا الحد أو عدم إقامته أو تخفيفه. هذا فارق بين الحد والتعزير.
فارق ثان: أن الحد مقدر، بخلاف التعزير؛ فإنه يرجع إلى اجتهاد المعزر، فإذا كان الحد ثمانين جلدة فلا يصح أن يكون أقل من ذلك ولا أكثر، إلا إن مات المحدود في أثناء قيام الحد عليه.
مثال ذلك: لو أن الحد مائة جلدة، فمات المحدود في السبعين أو الستين أو العشرة الأولى؛ فيحرم ضربه بعد ذلك، ويحرم جلده؛ لأنه لا عبرة ولا فائدة من ضرب الميت، بل تثبت له حرمة الأموات بعدم المساس أو الضرب أو الكسر، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كسر عظم الميت ككسره حياً) فالميت له حرمة كما أن الحي له حرمة.
فالحدود مقدرة، فإذا أقمناها فيجب إقامتها بغير زيادة ولا نقصان خلافاً للتعزير، كما أن الحد منصوص عليه وهو نفس المعنى، أما التعزير فيرجع إلى اجتهاد المعزر.
ويحرم على السلطان أو من ينوب عنه أن يتنازل عن إقامة الحد، أو أن يعفو عنه؛ خلافاً للتعزير، فإن التعزير يراعى فيه أصحاب الهيئات وأصحاب المروءات، كما يراعى فيه الوسيلة الأنجع والأحسن والأفضل في حق المعزر، فربما ارتكب ما يستوجب التعزير اثنان: أحدهما معروف بالشر، والآخر من أصحاب الهيئات كالعلماء والمشايخ والوزراء والأمراء والسلاطين، أو رجل له منزلة في قلوب الخلق، أو رجل يشار إليه بالبنان بالجود والكرم أو العلم، أو غير ذلك من ذوي الهيئات، وقد مضت السنة على إقالة ذوي الهيئات عثراتهم؛ خلافاً لمن كان معروفاً بالشر والفساد، فإنه إذا وقع فيما يستوجب التعزير فإن قدر له المعزر أقصى العقوبة التعزيرية فيكون هذا مخالفاً إذا ارتكب نفس الفعل رجل من أصحاب الهيئات، فإنما يكفي معه مجرد اللوم أو التوبيخ أو المعاتبة الرقيقة اللطيفة؛ لأنهما لا يستويان في المكانة والمنزلة، كما أن هذا ارتكب الفعل لأول مرة، وهذا ارتكبه عشرات المرات أو مئات المرات فلا يستويان.
فالشاهد هنا: أن الحدود منصوص عليها ومقدرة، ولا يجوز العفو عنها إذا بلغت السلطان خلافاً للتعزير في كل هذه المسائل، كما أنه لا يجوز الشفاعة في الحدود، وتجوز الشفاعة في التعزير خاصة لأصحاب الهيئات.
والعرب قبل الإسلام كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه بغير توبيخ أو لوم أو عتاب، بخلاف الوضيع الذي لا يؤبه له وليس له قبيلة تحترم ولا مكانة لها بين القبائل، فكانوا إذا سرق فيهم من هذا حاله أنهالوا عليه تقريعاً أو ضرباً بالنعال أو توبيخاً أو غير ذلك.
قالت: [(فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)] يعني: من يشفع في العفو عن القطع عند النبي عليه الصلاة والسلام؟
قالت: [(قالوا: ومن يجترئ عليه إلا
فقولها: (فقالوا: من يجترئ عليه) من جهة الإدلال ومن جهة عظيم الخاطر والمنزلة، وفي هذا منقبة عظيمة لـأسامة، حيث إنهم لم يختاروا أحداً إلا أسامة ليشفع لهذه المرأة القرشية المخزومية أن يعفو النبي صلى الله عليه وسلم عن إقامة الحد عليها.
قالت: [(فكلمه
قال: [(ثم قام فاختطب فقال)] أي: قام النبي عليه الصلاة والسلام فخطب الناس، فكان مما قال عليه الصلاة والسلام: [(أيها الناس! إنما أهلك الذين قبلكم -كأنه يقصد بني إسرائيل- أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)] فبين عليه الصلاة والسلام أن ترك الحدود هلكة. هذا الكلام يوحي أن عدم العدل والمساواة بين الشريف والوضيع إذا أتيا ما يستوجب الحد في حقيهما سبب للهلاك، مع أن الحد يقام، لكنه يقام على قوم ولا يقام على آخرين، وهذا ما يعرف في هذا الزمان بالمحسوبية، فلان لا يضرب ولا يحبس ولا تصل إليه الأيدي؛ لأن قريبه الوزير الفلاني، أو الوالي الفلاني، أو فلان الفلاني، أو من له المكانة والمنصب، أو هو صاحب جاه أو مال أو رئاسة أو منصب أو غير ذلك، فهذا لا يجوز لأحد أن يقترب منه لمكانته الاجتماعية.
أما الوضيع فإنه أول من يُطبق عليه الحد، وكلمة الوضيع ليست إهانة، إنما هو مصطلح وضع لمن لم يكن له أهل أو منصب أو قبيلة، أو ليس لديه مال أو غير ذلك، أما ميزان التفضيل في لسان الشرع فهو بتقوى الله عز وجل، فكم من إنسان يظن أنه عالي المنزلة مرموق المكانة لكنه لا يزن عند الله جناح بعوضة! وكم من إنسان لا يؤبه له ولا يلتفت إليه، لكنه في أعلى عليين عند رب العالمين سبحانه وتعالى!
والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى).
وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
وقال عليه الصلاة والسلام: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) فميزان الشرع هو الميزان العدل، إذ إن المرء يوزن بتقواه، وما دون ذلك لا وزن له عند الله عز وجل.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله) هذا قسم، وكأنه يقول: والله، مع أنه لم يستقسم، وإنما أقسم عليه الصلاة والسلام من غير أن يستقسمه أحد؛ لبيان أهمية الأمر وخطورته والتأكيد عليه.
قال: (وايم الله، لو أن
وفي حديث ابن رمح - أي: محمد بن رمح - (إنما هلك الذين من قبلكم).
قالت: [(فلما كان العشي -أي: لما كان وقت المساء- قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب -أي: فخطب الناس- فأثنى على الله بما هو أهله)]. وهذه سنن لمن أراد أن يبدأ بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يثني على الله خيراً.
قالت: [(ثم قال: أما بعد)] وفي هذا استحباب إذا فرغ الخطيب من مقدمة كلامه أن يفصل بينها وبين الموضوع بكلمة: أما بعد. أي: بعد فراغي من هذه المقدمة التي اشتملت على الحمد والثناء والتمجيد والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام وغير ذلك أدخل في الموضوع.
قالت: [(قال: ثم أما بعد: فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن
قالت: [(وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)] عائشة رضي الله عنها تقول: حسنت توبتها بعد إقامة الحد عليها وتزوجت وكانت تأتي عائشة في بيتها، فتقص حاجتها إلى عائشة ، وعائشة ترفع هذه الحاجة إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
والمعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام بالنسبة لنساء الأمة ليس كغيره من بقية الرجال مما حدى ببعض أهل العلم إلى أن يقولوا: أن النبي محرم لجميع نساء الأمة، وليس على ذلك دليل صريح ولا صحيح، وإنما هو قول لبعض فقهاء الشريعة، قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم محرم لنساء الأمة، وهذا كلام هو إلى الرد أقرب، قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6] لكن هذا شيء، وإثبات أنه محرم لنساء الأمة شيء آخر؛ ولذلك لم يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل على امرأة ليس عندها محرم.
وحديث أم التيهان: أن النبي عليه الصلاة والسلام ذهب إليها هو وأبو بكر وعمر فقال: (السلام عليكم يا أهل البيت! ثلاث مرات، ثم انصرف عليه الصلاة والسلام، فأسرعت في طلبه
أما دخوله عند أم سليم وغيرها من النساء فهن قريباته رضي الله عنهن وهن محارمه، فله أن يدخل وأن يخرج عليهن ولا حرج في ذلك.
فتقول عائشة : (فحسنت توبتها بعد وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى النبي عليه الصلاة والسلام).
رب سائل يسأل فيقول: ولم لم ترفع حاجتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة دون المرور بـعائشة ؟ نقول: هذا جائز وذاك جائز، لكن هذا دليل لبعض أهل العلم الذين يتحرجون من مخاطبة النساء والرد عليهن ويطلبون أن ترفع حاجات النساء إليهم عن طريق زوجاتهم، وهذا الفهم بعيد، لكن لا بأس بالاحتجاج به خاصة لمن وجد في نفسه ضعفاً أو تأثر بكلام النساء أو عنده ميل إلى النساء خاصة في هذا الزمان، فكثير من السائلات ترقق صوتها وتخضع في القول وربما لا يكون لها نية صالحة في الاتصال أو غير ذلك، ولا نتهم كل السائلات وإنما بعض السائلات هن كذلك بل شر من ذلك، فلا بأس حينئذ أن يطلب الشيخ أو العالم أن ترفع الحاجة إليه عن طريق امرأته، خاصة إذا كانت امرأته ممن لها عقل راجح وتحسن تلقي السؤال ونقله كما هو مراد السائل.
إذاً: القطع كان لأجل السرقة وليس لجحد العارية، وذكر جحدها للعارية وصف لها لا أنه سبب القطع.
[قال: حدثنا معقل بن عبيد الله الجزري عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: (أن امرأة من بني مخزوم سرقت فأتي بها النبي صلى الله عليه وسلم فعاذت بـ
قال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني خذوا عني) أي: تحملوا هذا العلم عني وتلقوه مني، فإنه وحي السماء. وكرر ليؤكد أهمية الكلام، فقال: (قد جعل الله لهن سبيلاً) (لهن) ضمير يعود على النسوة، كأن الأمر قبل ذلك لم يكن لهن سبيلاً، حتى جعل الله على لسان رسوله سبيلاً لمن وقع من النساء في الزنا.
قال: (قد جعل الله لهن سبيلاً) ما هو هذا السبيل؟ قال: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) أو تغريب سنة.
قال: (والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) والمعلوم المشهور الذي عليه العمل ويعرفه القاصي والداني: أن البكر يجلد مائة ولا يعرف أكثر الناس التغريب، كما أن أكثر الناس يعرفون أن الثيب ترجم ولا تجلد؛ ولذلك هذه المسألة كانت محل نزاع كبير جداً بين أهل العلم؛ إذ إن العمل على أن البكر يجلد بغير نفي، والثيب ترجم بغير جلد.
قال: [وحدثنا عمرو الناقد حدثنا هشيم أخبرنا منصور بهذا الإسناد مثله.
حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار جميعاً عن عبد الأعلى - وهو ابن عبد الأعلى - قال ابن المثنى : حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد عن قتادة]. إذا روى سعيد عن قتادة فإنما هو سعيد بن أبي عروبة البصري وقتادة إذا روى عن الحسن فهو الحسن البصري ، فـسعيد وقتادة والحسن كلهم بصريون، قال: [عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه كُرِب لذلك وتربد له وجهه)] يعني: أصابه كرب وهم وضيق. وتربد: تغير وتلون وجهه صلى الله عليه وسلم لشدة هذا الأمر، كيف لا والله تعالى يقول: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5] فالقرآن والوحي ثقيل جداً؛ ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يشتد عرقه في الليلة الشديدة البرد إذا نزل عليه الوحي. قال: [(قال: فأنزل عليه ذات يوم -أي: وحي- فلقي كذلك -أي: تغير وجهه- فلما سري عنه)] أي: لما كشف عنه وارتفع عنه الوحي وصعد جبريل إلى ربه، [(قال: خذوا عني. قد جعل الله لهن سبيلاً)] وفي هذا إثبات أن السنة وحي من عند الله عز وجل؛ لأن هذه صورة الوحي التي كان ينزل بها جبريل عليه السلام، فلما فرغ النبي عليه الصلاة والسلام من الحالة التي كان عليها قال: (خذوا عني) فلم يذكر قرآناً وإنما ذكر سنة، وفي هذا دليل على أن القرآن والسنة وحيان من عند الله عز وجل، وبينهما أوجه اتفاق وأوجه افتراق في الخصائص.
وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر - المعروف بـغندر - حدثنا شعبة وحدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام - وهو ابن أبي عبد الله الدستوائي - عن أبيه كلاهما - أي: شعبة وهشام الدستوائي - عن قتادة بهذا الإسناد - أي: عن قتادة عن الحسن عن حطان عن عبادة [غير أن في حديثهما: (البكر يجلد وينفى -ولم يذكر سنة- والثيب يجلد ويرجم). لا يذكران سنة ولا مائة] لم يذكرا: (جلد مائة)، فهذا لفظ عام يحمل على الألفاظ السابقة.
ثم قال تعالى: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا [النساء:16] أي: الفاحشة. مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا [النساء:16] لم يقل: فأقيموا عليهما الحد؛ لأنه لم ينزل الحد بعد، والإيذاء يكون بالشتم والضرب بالنعال والفضيحة والتعيير وغير ذلك.
قال تعالى: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا [النساء:16] أي: بعد الأذى فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:16].
قال الإمام ابن كثير : كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة حبست في بيت، فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت؛ ولهذا قال: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ [النساء:15] يعني: الزنا. مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15] فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك.
وحد الزانية إذا كان ثيَّباً أتينا به من السنة، وإذا كانت بكراً فحدها مذكور في القرآن: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2].
أما القرآن فهو المنسوخ لفظاً ولم ينسخ حكماً، كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (كان فيما أنزل الله عز وجل في القرآن: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة).
قوله: (ارجموهما البتة) يعني: حتى يموتا. فهذه آية نزلت من السماء في كتاب الله عز وجل، فرفع الله تعالى لفظها ولم يرفع حكمها، وسنأتي بالأدلة على ذلك بإذن الله.
الشاهد الثاني على أننا علمنا أن حكم الثيب من السنة: (والثيب بالثيب جلد مائة والرجم).
وإذا كان القرآن ليس فيه الرجم فهذا دليل على أن السنة تستقل بأحكام ليست في القرآن، وهذا رد على من يزعمون أنهم قرآنيون ويطالبوننا أن نأتي لهم بكل حكم من القرآن الكريم، فهؤلاء هم أبعد الناس عن القرآن الكريم، كما أنهم أبعد الناس عن سنة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام.
فالسبيل في قوله تعالى: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]. هو قوله عليه الصلاة والسلام الموحى إليه من السماء: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وهذا السبيل نسخ قول الله عز وجل: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ [النساء:15] فالتي تزني يقام عليها الحد بكراً كانت أم ثيباً، أما الإمساك في البيوت فهذا حكم صار منسوخاً، وفي هذا إثبات أن السنة تنسخ القرآن.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم.
وهو قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2].
وأخرج الإمام أحمد هذا الحديث الذي أخرجه مسلم عن عبادة بن الصامت : (كان إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب لذلك وتربد وجهه)، ثم ذكر الترمذي كذلك هذا الحديث: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم).
وكذلك عند أبي داود الطيالسي حديث عبادة الذي ذكرناه هذا: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة).
وذكر الحجارة في الحديث ليس على سبيل القيد؛ لأن إجماع العلماء منعقد على أن الرجم يجوز بأي شيء غير الحجارة، كما في الاستجمار تماماً، والاستجمار قد ورد في النصوص بأنه بالحجارة، لكن إن تم الاستجمار بغير الحجارة جاز.
يعني: مذهب الحنابلة الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني، خلافاً للجمهور يرى أن الثيب الزاني إنما يرجم فقط من غير جلد، أي: أخذوه بأقصى العقوبتين، فأقصى العقوبة الرجم.
قال: قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية واليهوديين ولم يثبت أنه جلدهم قبل الرجم. وإنما رجمهم مباشرة، ففعله عليه الصلاة والسلام ناسخ عند الجمهور لقوله: (وجلد مائة).
قال: أما قوله تعالى: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا [النساء:16] أي: واللذان يفعلان الفاحشة فآذوهما. قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وغيرهما: أي: أوذوهما.
وقال عبد الله بن كثير : نزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا. وقال السدي : نزلت في الفتيان من قبل أن يتزوجوا. وقال مجاهد : نزلت في الرجلين إذا فعلا ـ يعني: اللواط. وقيل غير ذلك في هذا النص.
قال: وقوله: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا [النساء:16] أي: أقلعا ونزعا عما كانا عليه وصلحت أعمالهما وحسنت.
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا [النساء:16] أي: لا تعنفوهما بكلام قبيح بعد ذلك.
لأنه لا يحل لأحد قط أن يعير أحداً وقع في ذنب فتاب منه، وأنتم تعلمون حديث المحاجة بين آدم وموسى، فحاج آدم موسى؛ لأن موسى عيره بذلك بعد أن تاب، والله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:16].
قال الإمام النووي عليه رحمة الله: (اختلف العلماء في هذه الآية: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ [النساء:15] فقيل: هي محكمة، وهذا الحديث مفسر لها. وقيل: بل منسوخة بالآية التي في سورة النور: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور:2]. وقيل: إن آية النور في البكرين وهذه الآية في الثيبين).
قال النووي: (ولم يخالف في هذا أحد من أهل القبلة، إلا ما حكى القاضي عياض وغيره عن الخوارج وبعض المعتزلة كـالنظام وأصحابه؛ فإنهم لم يقولوا بالرجم. وهذا رأي في غاية الشذوذ).
قال: (واختلفوا في جلد الثيب مع الرجم) لأن الرجم لا خلاف عليه، لكنهم اختلفوا في إلحاق الجلد بالرجم. (فقالت طائفة: يجب الجمع بينهما فيجلد ثم يرجم). وهذا مذهب الحنابلة كما قلنا. (وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري وإسحاق بن راهويه وداود وأهل الظاهر وبعض أصحاب الشافعي. وقال جماهير العلماء: الواجب الرجم وحده).
الرجم فقط هو الواجب، ولا بأس أن يجلد لكن الجلد ليس بواجب.
إذاً: هم لم يختلفوا في إيقاع الجلد، وإنما اختلفوا في تأكيد وحكم الجلد، فبعض أهل العلم قال: يجب الجمع بين الجلد والرجم، والبعض الآخر قال: بل الرجم هو الواجب والجلد جائز، ولكنه ليس واجباً. وهذا مذهب الجماهير.
قال: (وحكى القاضي عن طائفة من أهل الحديث: أنه يجب الجمع بينهما إذا كان الزاني شيخاً ثيباً) أي: أن المقصود: أن هذا رجل ثيب متزوج من قبل، وأيضاً شيخ كبير قد انطفأت فيه نار الشهوة، ومع هذا يزني، فيصير هذا أشد بغضاً؛ ولذلك شددوا عليه من العقوبة؛ لأن هذه الجريمة منكرة من كل من أتى بها ثيباً كان أم بكراً، لكنها أشد نكارة إذا أتت من امرأة كبيرة شمطاء عجوز محصنة أو أتى هذا الجرم من رجل كبير شيخ قد انطفأت نار شهوته، فلا يمكن أبداً أن يستوي في القبح فعله مع فعل الشاب الذي تثور شهوته؛ ولذلك قالت طائفة من أهل الحديث: يجب الجمع بين الجلد والرجم إذا كان الزاني شيخاً ثيباً، فإذا كان شاباً ثيباً اقتصر على الرجم. وهذا مذهب باطل لا أصل له. هذا كلام الإمام النووي ؛ لأن هذا التفريق ليس عليه دليل.
قال: (وحجة الجمهور: أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على رجم الثيب في أحاديث كثيرة، فهنا قصة ماعز وقصة المرأة الغامدية. وكذا قصة اليهوديين حيث احتكم اليهود إلى النبي عليه الصلاة والسلام أن يقيم فيهم شرع الله فحكم برجمهما، ولم يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بجلدهما، فتبين أن الجلد ليس بحتم، بدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ولكنه لم يعمل به.
قال: (وأما قوله في البكر: (نفي سنة) ففيه حجة للشافعي والجماهير أنه يجب نفيه سنة رجلاً كان أو امرأة). وقال الحسن : لا يجب النفي. وإنما هو جائز، فكما قلنا في جمع الجلد مع الرجم في حق الثيب نقول كذلك في النفي مع الجلد في حق البكر.
وقال مالك والأوزاعي : لا نفي على النساء؛ لأن هذا ينافي الطبيعة التي خلقت لأجلها النساء، إذ إن المرأة لا تخرج من بيتها، وصلاتها في بيتها أحب إلى الله عز وجل من صلاتها في المسجد، فهذا يتنافى مع تغريب المرأة.
قال: (وقال علي بن أبي طالب : لا نفي على النساء؛ لأنها عورة، وفي نفيها تضييع لها وتعريض لها للفتنة؛ ولهذا نهيت عن السفر إلا مع محرم). قال: (وحجة الشافعي : (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة) ). وهذا نص عام يشمل البكر من الرجال والنساء.
قال: (بل حد البكر الجلد والتغريب سواء زنى ببكر أم بثيب، وحد الثيب الرجم سواء زنى بثيب أم ببكر؛ فهو شبيه بالتقييد الذي يخرج على الغالب).
قال: (واعلم أن المراد بالبكر من الرجال والنساء: من لم يجامع في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل).
أي: أن البكر: هو من لم يجامع، والثيب: هو من جامع، وشرط الثيب أن يجامع في نكاح صحيح، لا وطء بشبهة ولا نكاح فاسد، بل نكاح صحيح قد اكتملت شروطه وأركانه، هذا الذي يسمى فيه صاحبه ثيباً، فلو أن رجلاً دخل بامرأة وهو مجبوب أو عنين لا يقوى على إتيان النساء وظلت سنوات ولم يفض بكارتها ثم زنت، هل يقام عليها حد الثيب أو البكر؟
الجواب: يقام عليها حد البكر، فالضابط في اعتبار الثيوبة والبكارة ليس هو البناء، وإنما هو الجماع.
كذلك لو زنت البكر قبل البناء، ثم زنت بعد ذلك هل يعتبر زناها الأول رافعاً لوصف البكارة؟ الجواب: لا يعتبر، وإن زنت قبل الإحصان مراراً وتكراراً فهي بكر.
إذاً: الضابط في حق من بني بها: الجماع، والضابط في حق من لم تتزوج.. الزواج الصحيح. فهاتان قاعدتان ينبغي حفظهما جيداً، بل ينبغي أن يكون المحدود بالغاً؛ لأن غير البالغ ليس مكلفاً، كما أنه ينبغي أن يكون عاقلاً احترازاً من المجنون، وينبغي أن يكون حراً، والرجل والمرأة في هذا سواء، وسواء في كل هذا المسلم والكافر والرشيد والمحجور عليه لسفه أو غيره.
أستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر