إسلام ويب

ماذا قالوا عند الموت؟! [1]للشيخ : محمد المنجد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في هذا الدرس سنجد صوراً لكثير من العلماء الذين فازوا بحسن الخاتمة، منهم من جيل الصحابة مثل أبي هريرة، وسلمان ومعاذ وحذيفة، ومن التابعين: عمرو بن شرحبيل، والعمري، وأبو بكر بن عياش.. وغيرهم. كما تعرض الشيخ لذكر بعض العلماء المعاصرين الذين فجعت الأمة بوفاتهم.

    1.   

    معنى : (نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا )

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد:41].

    قال المفسرون في هذه الآية أقوالاً :

    الأول: أنه ما يفتح الله على نبيه من الأرض، والمعنى: أولم ير كفار مكة أنا نفتح لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض من حولهم.

    والثاني: أنها القرية، أو البلدة تخرب حتى تبقى الأبيات في ناحيتها، والناحية الأخرى خراب، فيرون قراهم وبلداتهم تخرب أطرافها.

    الثالث: نقص البركة، ونقص أهل القرية، ونقص الأنفس والثمرات.

    والرابع: ذهاب فقهاء الأرض وأخيارها.

    نقصان أطراف الأرض هو موت العلماء

    والخامس: موت أهلها، وقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة ونعيم بن حماد والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: (ننقصها من أطرافها) قال: [موت علمائها وفقهائها، وذهاب خيار أهلها].

    وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عزَّ وجلَّ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الرعد:41] قال:[ موت علمائها وفقهائها ] هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، قال عكرمة : [لو كانت الأرض تنقص، لم تجد مكاناً تقعد فيه، ولكن هو الموت] وقال مجاهد : هو موت العلماء. رواه عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الرعد:41] قال: موت علمائها وفقهائها، وفي هذا المعنى:

    الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها     متى يمت عالمٌ منها يمت طرفُ

    كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها     وإن أبى عاد في أكنافها التلفُ

    قال ابن كثير رحمه الله: والقول الأول أولى، وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية كقوله:وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى [الأحقاف:27] وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره عن عطاء بن أبي رباح في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الرعد:41] قال: ذهاب فقهائها وخيار أهلها، قال أبو عمر ابن عبد البر : قول عطاء في تأويل الآية حسنٌ جداً تلقاه أهل العلم بالقبول، قال القرطبي: ومعروفٌ في اللغة أن الطرف الكريم من كل شيء: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الرعد:41] موت الفقهاء والأخيار.

    1.   

    علماء الصحابة عند الموت

    سمعنا وسمعتم -أيها الإخوة- عن تتابع فقد عدد من أهل العلم في الشهور الأخيرة، فأصاب أرضنا نقصٌ من أطرافها، وقد مرت على المسلمين ظروف مشابهة، فسمى المؤرخون المسلمون عام أربعٍ وتسعين للهجرة بسنة الفقهاء لكثرة من مات فيها من العلماء والفقهاء ومنهم: علي بن الحسين بن زين العابدين ، ثم عروة بن الزبير ، ثم سعيد بن المسيب ، وأبو بكر عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وسيعد بن جبير ، وغيرهم ماتوا في سنة أربعٍ وتسعين فتعالوا نتذاكر حال العلماء عند الموت ليكون في ذلك موعظة وعبرة، ما هي كلماتهم في لحظاتهم الأخيرة عندما حضرتهم المنية.

    أبو هريرة عند موته

    معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة

    ولما حضر معاذ بن جبل الموت، قال: [انظروا هل أصبحنا، قيل:لم نصبح، ثم أتي، فقال:قد أصبحت، فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، مرحباً بالموت مرحباً، زائر مغيب، وحبيب جاء على فاقة، اللهم إني قد كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، -أي: في قيام الليل- ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر] وجلس عند تلميذ له يقال له يزيد بن عميرة السكسكي ، فحدث عنه أن معاذاً لما حضرته الوفاة، قعد يزيد على رأسه يبكي، فنظر إليه معاذ ، فقال: [ما يبكيك؟ فقال له يزيد : أما والله لا أبكي لدنيا كنت أصيبها منك، ولكني أبكي لما فاتني من العلم، فقال له معاذ : إن العلم كما هو لم يذهب، فاطلب العلم من بعدي عند أربعة: عند عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن سلام ، وعويمر أبي الدرداء ، وسلمان الفارسي ] وقبض معاذ ولحق يزيد بـالكوفة ، فأتى مجلس عبد الله بن مسعود ، فلقيه، فقال له ابن مسعود : [إن معاذ بن جبل كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ].

    قول أبي ذر عند الموت

    وأما أبو ذر رضي الله عنه لما اعتزل في الربذة ، وحضرته الوفاة، أوصى امرأته وغلامه، فقال: (إذا مت، فاغسلاني وكفناني، وضعاني على الطريق، فأول ركبٍ يمرون بكم، فقولا:هذا أبا ذر فلما مات، فعلا به ذلك، فاطلع ركبٌ فما علموا به حتى كادت ركائبهم تطأ السرير، فإذا عبد الله بن مسعود في رهط من أهل الكوفة ، فقال: ما هذا؟ قيل: جنازة أبي ذر ، فاستهل ابن مسعود يبكي، وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.. يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، فنزل فوليه بنفسه حتى أجله، -أي: في الأرض-) .

    حذيفة بن اليمان عند الموت

    سلمان الفارسي عند وفاته

    ولما حضر سلمان الفارسي الوفاة، جعل يبكي، فقيل له: (ما يبكيك؟ ألست فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ؟ فقال: والله! ما بي جزع من الموت، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهداً يكن متاع أحدكم من الدنيا كزاد الراكب، وهذه الأسودة حولي) كأنه يقول هذا الأثاث والمتاع حولي لم أمتثل للعهد، قال: [فلما مات، نظروا في بيته، فلم يروا في بيته إلا إكافاً ووطاءً ومتاعاً قُوِّم بنحو عشرين درهماً] كل ما يملكه بعشرين درهماً، فانظروا يا عباد الله! كم عندنا من الأثاث في بيتنا، وروى ابن سعد في الطبقات من طرق عدة عن الشعبي ، قال: [لما حضرت سلمان الوفاة، قال لصاحبة منزله وهي زوجته: هلمي خبيَّتي الذي استخبأت فيه، قالت: فجئته بصرة مسك، فقال: ائتيني بقدح فيه ماءٌ فنثر المسك فيه، ثم ماسه بيده، ثم قال: انضحيه حولي، فإنه يحضرني خلقٌ من خلق الله يجدون الريح ولا يأكلون الطعام، ثم اجفئي عليَّ الباب وانزلي قالت: ففعلت، وجلست هنيهةً، فسمعت هسهسةً، قالت: ثم صعدت، فإذا هو قد مات].

    وعن الشعبي، قال: [أصاب سلمان صرة مسكٍ يوم فتحت جلولاء ، فاستودعها امرأته، فلما حضرته الوفاة، قال: هاتي هذه المسكة فمرسها في ماء، ثم قال: انضحيها حولي، فإنه يأتي زوارٌ الآن قالت: ففعلت، فلم يمكث بعد ذلك إلا قليلاً حتى قبض] وقال الشعبي أيضاً: [حدثني الجزل عن امرأة سلمان بقيرة أنه لما حضرته الوفاة، دعاني وهو في عليّة له -تقول زوجته: لها أربعة أبواب- فقال: افتحي هذه الأبواب يا بقيرة ، فإن لي اليوم زواراً لا أدري من أي هذه الأبواب يدخلون عليَّ، ثم دعا بمسك، فقال: أديثيه في تنور ففعلت، ثم قال: انضحيه حول فراشي، ثم انزلي، فامكثي فسوف تطلعين فتريني على فراشي، فاطلعت فإذا هو قد أخذت روحه، فكأنما هو نائم في فراشه].

    خالد بن الوليد عند سكرات الموت

    أما خالد بن الوليد رضي الله عنه، فإنه لما حضرته الوفاة قال: [ما كان في الأرض من ليلة أحب إليَّ من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بهم العدو، فعليكم بالجهاد] هو الذي احتبس دروعه وأعتده في سبيل الله، وقال: [لقد اندق في يوم مؤتة تسعة أسياف في يدي، فما صبرت معي إلا صفيحة يمانية] وهو صاحب الكرامات لما تحداه الروم بشرب سم ساعة، أخذه متوكلاً على الله يرجو مصلحة هدايتهم، فسمى وشرب، فلم يضره رواه أبو يعلى .

    وكذلك روى ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح، قال: [أتى خالد بن الوليد رجلٌ معه زق خمرٍ، فقال خالد : اللهم اجعله عسلاً، فصار عسلاً].

    واثلة بن الأسقع

    عبد الله بن عائذ

    عبد الله بن عمر عند سكرات الموت

    وأما عبد الله بن عمر الصحابي لما حضرته الوفاة، قال: [انظروا فلاناً -لرجل من قريش- فإني كنت قلت له في ابنتي قولاً كشبه العدة -أي: يشبه أني وعدته بتزويجه ابنتي- وما أحب أن ألقى الله بثلث النفاق -لأن آية النافق ثلاث: إذا وعد أخلف- وأشهدكم أني قد زوجته] ذكر القصة الذهبي في تذكرة الحفاظ .

    ولما ثقل معاوية رضي الله عنه ، جعل يضع خداً على الأرض، ثم يقلب وجهه ويضع الخد الآخر، ويبكي ويقول: [اللهم إنك قلت في كتابك: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فاجعلني فيمن تشاء أن تغفر له، ثم قال: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل ولم يرج غيرك، فإنك واسع المغفرة، ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك].

    1.   

    علماء التابعين عند الموت

    وأما عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر الملقب بالعمري قال عند موته: [بنعمة ربي أحدث.. لو أن الدنيا تحت قدمي، ما يمنعي من أخذها إلا أن أزيل قدمي ما أزلتها، معي سبعة دراهم من لحاء شجرة فتلته بيدي] فهذه ثروته من الدنيا كلها، هذه السبعة الدراهم من عمل يده.

    ويونس بن عبيد الذي شهد له أنه كان يطلب العلم لوجه الله ما حضره حقٌ من حقوق الله إلا وهو متهيئ له، لما حضرته الوفاة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: قدماي لم تغبرا في سبيل الله عزَّ وجلَّ، نظر إلى قدميه عند موته وبكى، وسئل عن سبب البكاء، فتحسر أنه لم يمشِ في الجهاد، ولم تغبر قدماه في سبيل الله عزَّ وجلَّ.

    وعمرو بن شرحبيل رحمه الله حين حضرته الوفاة، قال: [إني ليسيرٌ للموت الآن، وما بي إلا هول المطلع. ما أدع مالاً، وما أدع عليَّ من دين، وما أدع من عيال يهموني من بعدي، فإذا أنا مت، فلا تنعوني إلى أحد، وأسرعوا المشي، ولا ترفعوا جدثي، -أي: قبري- فإني رأيت المهاجرين يكرهون ذلك].

    ولما حضر الموت إبراهيم بن يزيد النخعي قال وهو يبكي وسئل عن ما يبكيه فقال: [انتظار ملك الموت.. ما أدري يبشرني بجنة أو بنار؟].

    ولما حضر إبراهيم بن هانئ الموت، قال لابنه إسحاق : [أنا عطشان، فجاءه بماء، فقال: غابت الشمس؟ قال:لا. فرده، ثم قال:لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61] ثم خرجت روحه رحمه الله] فختم يومه بصوم، جاءه الموت وهو صائم ولم يشرب وهو عطشان، هذا كان حالهم رحمة الله عليهم.

    اللهم اجعلهم من ورثة جنة النعيم، وألحقنا بهم يا رب العالمين، اللهم تب علينا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم أحينا مؤمنين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    أقوال عند الموت تدل على حسن الخاتمة

    الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، أشهد أن لا إله إلا الله الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله الرحمة المهداة البشير والنذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    عباد الله: هؤلاء أسلافنا وعلماؤنا الصالحون لما حضرتهم الوفاة، ما هي أقوالهم التي تدل على صدقهم وحبهم لربهم وعملهم للصالحات؟

    قول أبي بكر بن عياش وغيره من التابعين

    هذا أبو بكر بن عياش رحمه الله تعالى بكى ولده حين حضرته الوفاة، فقال أبو بكر بن عياش لولده: ما يبكيك ؟ أترى الله يضيع لأبيك أربعين سنة يختم فيها القرآن كل ليلة؟ وهو الذي قال لولده عند موته: يا ولدي! لا تعص الله في هذه الحجرة، فإني ختمت القرآن فيها ثمانية عشر ألف ختمة.

    وقال أحمد بن حفص : دخلت على أبي الحسن إسماعيل والد أبي عبد الله عند موته، فقال: لا أعلم من مالي درهماً من حرام، ولا درهماً من شبهة، قال أحمد : فتصاغرت إليَّ نفسي عند ذلك، قال أبو عبد الله : أصدق ما يكون الرجل عند الموت.

    وقال عطاء بن السائب : ذهبنا نرجي أبا عبد الرحمن السلمي عند موته -أي: نذكره برجاء الله، فقال: إني لأرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضاناً.

    وقال أبو عمر ابن حمدان الإمام المحدث الزاهد وقد عمر تسعين سنة، وتوفي وزوجته حبلى وله بنت، فقالت له زوجته عند وفاته: قد قربت ولادتي، فقال: سلمته إلى الله، قد جاءوا ببراءتي من السماء، وتشهد ومات في ذلك الوقت، روى القصة الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء .

    قصة لأبي إسحاق الحربي

    وأبو إسحاق الحربي تلميذ أحمد من أئمة الفقه والحديث الذي كان يقول: من لم يجر مع القدر لم يتهن بعيشه، الذي لا يستسلم للقضاء والقدر لا يتهنى بعيشه، قال: قد كانت بي شقيقة -صداع الرأس- منذ أربعين سنة ما أخبرت بها أحداً، ولي عشرين سنة أبصر بفرد عين -بعين واحدة- ما أخبرت بها أحداً، مكث نيفاً وسبعين سنة من عمره لا يسأل أهله غداءً ولا عشاءً، إن جاءه شيء أكله، وإلا طوى وبقي إلى الليلة القابلة، دخل عليه بعض أصحابه عند موته، فقامت ابنته تشكو إليه ما هم فيه من الجهد، وأنه لا طعام لهم إلا الخبز اليابس والملح، وربما عدموا الملح في بعض الأحيان، فقال لها إبراهيم : يا بنية! تخافين الفقر؟ انظري إلى تلك الزاوية فيها اثني عشر ألف جزء قد كتبتها وكان من المحدثين، ففي كل يوم تبيعي منها جزءاً بدرهم، فمن عنده اثني عشر ألف درهم، فليس بفقير، ولما حضر بعض العباد الوفاة وكان قد أوصى بعض أصحابه أن يوضئه، فأخذ هذا الذي حضر، فلم يستطع الكلام، فشرع الموضئ يوضئه، فلما بلغ موضع اللحية نسي أن يخللها، فأخذ بيده فأدخلها في لحيته، أخذ بيد مغسله فأدخلها في لحيته، ثم قبض، قال بعضهم: فهذا الذي لم ينس آداب الشريعة حتى عند الموت.

    الجنيد والكاساني عند الوفاة

    ولما حضرت الجنيد الوفاة، جعل يصلي ويتلو القرآن، فقيل له: لو رفقت بنفسك في مثل هذه الحال، فقال: لا أحد أحوج إلى ذلك مني الآن، وهذا أوان طي صحيفتي، أبادر طيِّ الصحيفة قبل أن تطوى.

    وأما الكاساني رحمه الله، فإنه لما حضرته الوفاة شرع في قراءة سورة إبراهيم حتى إذا انتهى إلى قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27] خرجت روحه عندما فرغ من قوله تعالى: وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27].

    محمد بن إسماعيل النساج قصته في البداية والنهاية لـابن كثير ، لما حضرته الوفاة نظر إلى زاوية البيت، فقال: قف رحمك الله، فإنك عبدٌ مأمورٌ، وأنا عبدٌ مأمورٌ، وما أمرت به لا يفوت، وما أمرت به يفوت، ثم قام وتوضأ وصلى، وتمدد ومات رحمه الله تعالى.

    1.   

    من أبرز العلماء المتأخرين الذين فقدتهم الأمة

    أيها المسلمون: ألا تلاحظون كيف يموت العلماء تترا ويذهبون، فذهب الإمام العالم الشيخ: عبد العزيز بن باز بعدما ذهب الشيخ: ابن غصون ، وكذلك الأديب الواعظ الشيخ: علي الطنطاوي ، ومن المشتغلين بالفقه الشيخ: مصطفى الزرقاء ، ثم القاضي العالم: عطية سالم ، والشيخ: مناع القطان من المؤلفين في علوم القرآن، ذهبوا في أشهر وجيزة جداً، وهكذا تتابع المصائب بموت أهل العلم.

    نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا ممن أخلصوا له. ليس الخوف على من مات محسناً، إنما الخوف على الحي والله، أما المحسن فنرجو له عند ربه الكرامة، ولكن الخوف علينا ونحن لا ندري على أي شيء نموت، وعلى أي شيء تقبض أرواحنا، وهل سنتمكن من الشهادة أم لا، الخوف على الحي، والعبرة من ذهاب العلماء بأن يتحمس طلاب العلم للازديادة منه، فإنه لا بد من تعويض النقص الذي حصل في الأمة، ونسأل الله أن يخلف بخير.

    أيها الإخوة: إن من مات سواء كان عالماً معلماً، وداعيةً فقيهاً، وواعظاً مؤدباً، فنرجو له عند الله الحسنى، وأن يجزل له المثوبة والأجر.

    اللهم ارفع درجاتهم في جنات النعيم، واخلفهم في الغابرين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767026007