إسلام ويب

تفسير سورة الأحقاف [21-35]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف)

    قال الله تبارك وتعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأحقاف:21]. قوله تعالى: (واذكر أخا عاد) يعني: هوداً عليه السلام، فقد كان أخاهم في النسب وليس في الدين، فهي أخوة نسبية وليست دينية. (إذ أنذر قومه بالأحقاف) ومعنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر قصتهم لقومه؛ ليخافوا ويتعظوا. وقيل: أمره بأن يتذكر في نفسه قصتهم مع هود؛ ليقتدي به، ويهون عليه تكذيب قومه إياه. (إذ أنذر قومه بالأحقاف) الأحقاف جمع حقف، وهو الرمل المستطيل المرتفع. قال قتادة : ذكر لنا أن عاداً كانوا حياً باليمن أهل رمل مشرفين على البحر. إذاً: الأحقاف هي ديار عاد، وهي الرمال العظام في قول الخليل وغيره، وكانوا قهروا أهل الأرض بفضل قوتهم. إذاً: الأحقاف جمع حقف، وهو ما استطال من الرمل العظيم واعوج، ولم يبلغ أن يكون جبالاً. وقال ابن زيد : الأحقاف رمال مشرفة مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالاً. يقال: احقوقف الرمل، أو احقوقف الهلال، أي: اعوج. وقال قتادة : هي جبال مشرفة بالشحر، والشحر قريبة من عدن. وقال مقاتل : هي باليمن في حضرموت. وهناك بعض الأقوال الضعيفة سبق أن تعرضنا لها قريباً، وهي أن قوم عاد كانوا بمصر، وإليهم تنسب الآثار والديار المعروفة عند قدماء المصريين، والله تعالى أعلم.

    إعراب قوله تعالى: (إذ أنذر قومه)

    (إذ أنذر) إعرابها: بدل اشتمال من (أخا عاد) وهو هود عليه السلام. (إذ أنذر قومه)، أي: وقت إنذاره إياهم، فالبدل إما بدل كل من كل، ويكون مطابقاً للمبدل منه ومساوٍ له في المعنى، كما تقول: مررت بأخيك زيد، أو زره خالداً. هذا بدل كل من كل. وهناك بدل بعض من كل، كما تقول: أكلت الرغيف ثلثه. هذا بدل بعض من كل. وهناك بدل مباين للمبدل منه، وهو إما أن يكون على سبيل الإضراب أو الغلط والنسيان. الإضراب مثل أن تقول: أكلت خبزاً لحماً. وبدل الغلط والنسيان مثل أن يكون الإنسان يتكلم ثم يخطئ في الكلام، ثم يأتي بالكلام الصحيح عقب ما أخطأ فيه، فهو كان يقصد البدل فقط، وإنما غلط فذكر المبدل منه، كما يقول مثلاً: رأيت رجلاً حماراً، أخطأ ثم استدرك وقال: رأيت حماراً، فأتى بها على نسق واحد، رأيت رجلاً حماراً. أما البدل الذي هنا في قوله: (إذ أنذر قومه) فهو بدل الاشتمال، وبدل الاشتمال يدل على المعنى في متبوعه، كما تقول: أعجبني زيد علمه، فهذا بدل اشتمال، ومثاله في القرآن الكريم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [البقرة:217]، أي: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، و(قتال فيه) بدل اشتمال من الشهر الحرام. كذلك قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً [مريم:16] يعني: أن شأن مريم يشتمل على أمور كثيرة، فأنت تذكر انتباذها مكاناً شرقياً، فكذلك هنا (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه) أي: اذكر وقت إنذاره قومه، فهذا بدل اشتمال من هود.

    معنى قوله تعالى: (وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه)

    (( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ )) أي: قد مضت الرسل بإنذار أممها قبله وبعده؛ متفقين على ألا تعبدوا إلا الله. إذاً قوله تعالى: (( وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ )) الجملة في محل نصب حال، و(خلت) يعني: مضت. (الرسل من بين يديه) الهاء تعود على هود عليه السلام. (من بين يديه)، من قبله. (ومن خلفه)، من بعده. قال ابن كثير : وقد أرسل الله تعالى إلى من حول بلادهم في القرى مرسلين ومنذرين. (ألا تعبدوا إلا الله)، أي: لا تشركوا مع الله سبحانه وتعالى شيئاً في عبادتكم إياه. وقال كل واحد منهم عليهم السلام: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ [الأعراف:59] أي: من عبادة غير الله عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف:59] أي: بمقدار عذاب الله بالشرك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا ..)

    قال تعالى: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأحقاف:22]. (قالوا أجئتنا لتأفكنا)، أي: جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا. وقيل: (لتأفكنا) أي: لتزيلنا أو لتمنعنا أو لتصرفنا، وكلها معان متقاربة (فأتنا بما تعدنا) من العذاب. وهذه الآية فيها دليل على أن الوعد قد يطلق ويوضع موضع الوعيد؛ لأنه قال هنا: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) يعني: في وعدك لنا به، أو: (إن كنت من الصادقين) في أنك نبي، وهذا استعجال منهم بعذاب الله وعقوبته على سبيل استبعادهم وقوعه، كقول الله سبحانه وتعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا [الشورى:18]. (( قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ )) أي: إني وإن علمت إتيانه قطعاً، وإن كنت أقطع بأن العذاب آتيكم بسبب كفركم وإعراضكم، لكنني لا أعلم وقت مجيئه؛ لأن العلم بوقته عند الله سبحانه وتعالى، فيأتيكم الله به في وقته الذي قدره له. (( قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ )) أي: أنا شأني ووظيفتي فقط أن أبلغكم (( مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ )) حيث بقيتم مصرين على كفركم، ولم تهتدوا لما جئتكم به، بل اقترحتم عليّ ما ليس من وظائف الرسل، وهذا الاقتراح يكشف مدى جهلهم؛ لأنهم حينما يطلبون من الرسول أن يأتيهم بالعذاب؛ ويستعجلونه بإتيان العذاب؛ فهذا من جهلهم، فناسب أن يوصفوا بالجهل؛ لأن هذه ليست وظيفته هو، إنما وظيفته أن يبلغهم، أما متى يحين الأجل الذي ينزل الله فيه العذاب؟ فهذا ليس إلى الأنبياء، وإنما هو إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال لهم لما قالوا: (( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ )): إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ [الأحقاف:23]. وقال الطبري : تجهلون مواضع حظوظ أنفسكم، فلا تعرفون ما عليها من المضرة بعبادتكم غير الله، وفي استعجال عذابه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم ..)

    قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف:24]. أي: لما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه فرأوه عارضاً في ناحية من نواحي السماء، متجهاً نحو مزارعهم، والهاء في قوله: (فلما رأوه)، تعود إلى غير مذكور، وقد بين هذا المذكور قوله تعالى: (عارضاً). إذاً: الضمير يعود إلى السحاب؛ لأنه نصب كلمة عارضاً على الحال من سحاب، أي: عرض له، فعارضاً منصوب على الحال. وقيل: الضمير يعود إلى (ما) في قولهم: (فأتنا بما تعدنا)، ثم جاءت الآية: (فلما رأوه)، يعني: ما كان يعدهم. (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم) سمي السحاب عارضاً؛ لأنه يبدو في عرض السماء. وقال الجوهري : العارض السحاب يعترض في الأفق. (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم) يعني: متوجهاً نحو أوديتهم. قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياماً، فساق الله إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد يقال له: المعتب، فلما رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا، وقد كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر. قال ابن كثير : قال الله سبحانه وتعالى: (بل هو ما استعجلتم به) أي: هو العذاب الذي قلتم: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين). وقال غيره: قال لهم هود: (بل هو ما استعجلتم به) من العذاب حيث قالوا: (فأتنا بما تعدنا). (ريح) أي: هي ريح. أو ريح بدل من ما؛ (ريح فيها عذاب أليم). (( تُدَمِّرُ )) تهلك. (( كُلَّ شَيْءٍ )) من أموالهم وأنفسهم. (( بِأَمْرِ رَبِّهَا )) بإذنه الذي لا يعارض، فلم تدفع عنهم آلهتهم بل دمرتهم. فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25] بيوتهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (تدمر كل شيء بأمر ربها)

    وقوله عز وجل: (ريح فيها عذاب أليم)، هذه صفة للريح، (تدمر كل شيء)، هذه صفة ثانية للريح، والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، وخرج هود من بين أظهرهم، فجعلت هذه الريح تحمل الفساطيط -جمع فسطاط وهي الخيام -وتحمل الظعينة -وهو الجمل يظعن عليه- والهودج سواء كانت فيه امرأة أم لا، فترفعها كأنها جرادة ثم تضرب بها الصخور. قال ابن عباس : أول ما رأوا العارض قاموا فمدوا أيديهم، فأول ما عرفوا أنه عذاب، ورأوا ما كان خارجاً من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريح، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال واحتملتهم ورمتهم في البحر، فهي التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: (تدمر كل شيء بأمر ربها). قال ابن عباس: (تدمر كل شيء) أي: كل شيء بعثت إليه، وهذا التفسير يجب أن ننتبه له، فقوله: (تدمر كل شيء بأمر ربها)، ليس على عمومه ولا على إطلاقه، لكنه مقيد بـ: كل شيء بعثت لتدميره، وليس كل شيء على الحقيقة كما يظهر لأول وهلة. قيل: إن هذه الريح أمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمال كما قال الله: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [الحاقة:7]، والحسوم: الدائمة في الشر، إذ شرها مستمر لا ينقطع، ثم أمر الله سبحانه وتعالى الريح فكشفت عنهم الرمال، واحتملتهم ورمتهم في البحر، والتدمير الهلاك، وكذلك الدمار، وقرئ: (يدمر كل شيء)، من دمر دماراً دمره ودمر عليه ودمر يدمر دموراً: دخل بغير إذن، وفي الحديث: (من سبق طرفه استئذانه فقد دمر) يعني: دخل بغير إذن. قوله عز وجل: (تدمر كل شيء)، يعني: تدمر كل شيء من بلادهم مما من شأنه الخراب، كما قال تعالى: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات:42] يعني: كالشيء البالي. إذاً: كل شيء هنا ليست على عمومها وإنما المقصود بها: كل شيء أمرت به، أو من شأنه أن يدمر، وما الدليل على قولنا: لابد من تفسيرها: بأنها دمرت كل شيء أمرت بتدميره؟ الجواب: قوله: (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم)، فبقية الآية دل على أن المساكن لم تؤمر الريح بتدميرها. وقد احتج الإمام أحمد رحمه الله تعالى بهذه الآية في مسألة من مسائل العقيدة، وهي مسألة كلام الله سبحانه وتعالى، فإنه اعتمد على هذا التفسير بأن هناك فرقاً بين قول الرحمن وبين ما كان بقوله. قال الإمام أحمد في كتاب الرد على الزنادقة والجهمية: (ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر فقال: أخبرونا عن القرآن هو شيء؟ فقلنا: نعم هو شيء، فقال: إن الله خالق كل شيء، فلم لا يكون القرآن مع الأشياء المخلوقة، وقد أقررتم أنه شيء؟! ومثل هذا السؤال من المغاليط، فهو يدفع إلى إجابة بعينها ويحاول أن يستدرجك إلى إجابة بعينها، مع أن الصواب ليس فيها، وإنما الصواب في غيرها. يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: فلعمري لقد ادعى أمراً أمكنه فيه الدواء، ولبس على الناس بما ادعى، فقلنا -رددنا على هذا المغالط-: إن الله في القرآن لم يسم كلامه شيئاً، وإنما سمى شيئاً الذي كان يقوله، ألم تسمع إلى قوله تبارك وتعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ [النحل:40]، فالشيء ليس هو قوله، إنما الشيء الذي كان بقوله، وفي آية أخرى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا [يس:82]، فالشيء ليس هو أمره، إنما الشيء الذي كان بأمره. ومن الأعلام الدالات أنه لا يعني أن كلامه من الأشياء المخلوقة، أنه قال للريح التي أرسلها على عاد: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ، وقد أتت تلك الريح على أشياء، فلم تدمرها مثل منازلهم ومساكنهم والجبال التي بحضرتهم. فكذلك إذا قال: (( خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ))[الزمر:62]، لا يعنى نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة. قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام:19]، فمما يخبر به عن الله أنه شيء، ولذلك كما قلنا في تفسير: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62] نقول: خالق كل شيء في عالم الممكنات لا المستحيلات ولا الواجب الوجود وهو الله سبحانه وتعالى، كما هو اصطلاح المتكلمين. كذلك قال في ملكة سبأ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]، أليس ملك سليمان شيئاً؟ وهل هي أوتيت ملك سليمان؟ لا. يعني: أوتيت من كل شيء مما تؤتاه الملوك، وليس على الإطلاق، وقد كان ملك سليمان شيئاً ولم تؤته. وكذلك إذا قال: (خالق كل شيء)، لا يعني أن كلامه مع الأشياء المخلوقة. وشأن أهل البدع دائماً إساءة الفهم، ومغالطتهم في المناقشات، مثلاً: يقول الله سبحانه وتعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، وقال عز وجل: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، وقال المسيح عليه السلام: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، وقال سبحانه وتعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، مع أنه قال: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، فلا شك أن الله سبحانه وتعالى لا يعني بقوله: (كل نفس ذائقة الموت)، نفسه عز وجل تعالى عن ذلك علواً كبيراً، فبنفس الباب نرد على من يستدل بقوله: (الله خالق كل شيء)، على أن كلام الله أو أن القرآن مخلوق لعموم قوله: (كل شيء)، كما بينا.

    الفرق بين أمر الله القدري والشرعي

    قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25]، هذا أمر كوني قدري، وأمر الله سبحانه وتعالى نوعان: الأمر الشرعي الإرادي الديني، والأمر الكوني القدري، فالأمر الشرعي الإرادي كقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل:90]، وكقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، فهي أوامر فيها تكليف. أما الأمر الكوني القدري فمثل قوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وقوله عز وجل: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر:50]، وقال تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء:47]، وقال: وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:21]، وقال: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء:16]. والأمر الشرعي الإرادي والأمر الكوني القدري جمعهما الله سبحانه وتعالى في قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، فالخلق متعلق بالربوبية، والأمر متعلق بالألوهية؛ فالأمر الشرعي الإرادي الديني متعلق بالألوهية وبالشرع. إذاً: الأمر الشرعي هو شرعه ودينه، وهذا الأمر قد يعطيه الفجار والفساق. أيضاً الأمر الشرعي يتعلق بالمحبة والرضا، فالله لا يأمر أمراً شرعياً إلا بما يحبه ويرضاه، وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28]، فالأمر الشرعي متعلق بألوهيته وشرعه ودينه، أما الأمر الكوني القدري فهو متعلق بربوبيته وخلقه، وهو قضاؤه وقدره وفعله. والأمر الشرعي الإرادي الديني قد يعطيه الفجار والفساق، يعني: أن الله سبحانه وتعالى أمر الناس مثلاً بالصدق، وببر الوالدين، وبالعدل والإحسان، فهل لابد أن يقع مادام الناس أمروا به؟ لا، فهذا أمر شرعي كلف الله العباد به، لكن قد يخالفه البعض ويمتثل الأمر البعض الآخر، أي: قد يتمرد على هذا الأمر الكفار والفساق، بخلاف الأمر الكوني القدري فإنه لا يمكن لأحد أبداً الخروج عن حكمه. إذاً: الأمر الشرعي الإرادي الديني يتعلق بالمحبة والرضا، أما الأمر الكوني القدري فلا يتعلق بالمحبة والرضا مطلقاً؛ لأن هذا أمر يعم ما يحبه الله وما لا يحبه الله، ولابد أن يقع، ولا يمكن أن يتخلف. إذاً: الأمران غير متلازمين، فقد يقضي الله سبحانه وتعالى ويقدر ما لا يأمر به وما لم يشرعه سبحانه وتعالى، وقد يشرع ويأمر بما لا يقضيه، ولا يقدره. إذاً: الأمر يستلزم الإرادة الدينية، ولا يستلزم الإرادة الكونية، بمعنى: أن الحكم الكوني أو القدري مع الحكم الشرعي يجتمعان في كل ما يقع من العباد من طاعات وإيمان وغير ذلك من هذه الأمور التي هي أولاً: حكم شرعي؛ لأن الله أمر بها، ولأن الله يحبها، ويجتمعان في أنها أيضاً داخلة في إرادته الكونية العامة، فهنا اجتمعا فيما وقع من طاعات عباده وإيمانهم. وهل ينتفي الحكمان معاً الشرعي الإرادي والكوني القدري؟ نعم ينتفيان فيما لم يقع من المعاصي والفسق والكفر، فإن الله لا يأمر بالكفر، وهذه الأشياء بالذات لم يقدرها كوناً وقدراً. وقد ينفرد الحكم الشرعي والقضائي الديني فيما أمر الله به وشرعه، ولكن لم يفعله المأمور، فهنا وقع الحكم الشرعي والقضاء الديني، لكن لم يقع الأمر الكوني القدري؛ لأنه لم ينسبه ديناً. ومتى ينفرد الحكم الكوني القدري؟ ينفرد فيما وقع من المعاصي، وهذا وقع من حيث كوناً وقدراً، لكن هل يقع بشرع الله وإرادته الشرعية؟ لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأمر بذلك. إذاً: الأمر يستلزم الإرادة الدينية ولا يستلزم الإرادة الكونية، فإن الله لا يأمر إلا بما يريده شرعاً وديناً، ولا يأمر إلا بالأشياء التي يريدها ويحبها مثل: أمره الكافر بالإيمان شرعاً وإن كان لم يوفقه له كوناً وقدراً. كذلك أمر خليله عليه السلام بذبح ولده شرعاً، لكنه ما أراده كوناً وقدراً، بدليل أنه لم يقع. وأمر رسوله بخمسين صلاة، لكنه لم يرد ذلك كوناً وقدراً. والله سبحانه وتعالى يحب إيمان الكفار، ولكنه سبحانه اقتضت حكمته أن أعان بعضهم على فعل ما أمره ووفقه له، وخذل بعضهم فلم يعنه ولم يوفقه، فلم تحصل مصلحة الأمر منهم، وحصلت من الأمر بالذبح. ثم أشار الله سبحانه وتعالى إلى أن هذا التدبير لا يقتصر على عاد، بل هو منتظم لكل من كان على شاكلتهم من أهل مكة وغيرها، يقول سبحانه وتعالى: كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [يونس:13] أي: الكافرين إذا تمادوا في غيّهم وطغوا على ربهم سبحانه وتعالى.

    الهدي النبوي مع السحاب والمطر

    عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته) يعني: كان إذا ضحك يتبسم، لكن ما كان يحصل أنه يفتح فمه حتى تظهر اللهاة التي في آخر الحلق من شدة الضحك، وهذا أدب من آداب النبوة، (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه -كان يتغير وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيماً أو ريحاً- قلت: يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية! فقال: يا عائشة! وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب - أي: وما يضمن لي-؟ قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ) متفق عليه. وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عنها رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به، فإذا تخبلت السماء؛ تغير لونه، وخرج ودخل، وأدبر وأقبل، فإذا مطرت سري عنه -لأنه عرف أن هذه رحمة وليست عذاباً،- فسألته فقال: لعله -يا عائشة- كما قال قوم عاد: (( هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ))).

    معنى قوله تعالى: (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم)

    قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ، هذه قراءة عاصم وحمزة ، أما ابن كثير فقرأ: (فأصبحوا لا تُرى إلا مساكنهم)، وقراءة باقي القراء (فأصبحوا لا تَرى إلا مساكنهم) يعني: لا ترى -يا محمد عليه الصلاة والسلام- إلا مساكنهم. قال الفراء : لا يرى الناس؛ لأنهم كانوا تحت الرمل، وإنما ترى مساكنهم؛ لأنها قائمة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ..)

    قال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الأحقاف:26]، لفظة: (إن) في هذه الآية الكريمة فيها ثلاثة أوجه، يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: يدل استقراء القرآن على أن واحداً منها هو الحق دون الاثنين الآخرين. قال بعض العلماء: (إن) ظرفية، لكن الجواب محذوف، والتقدير ( ولقد مكناكم فيما إن مكناكم فيه)، كأنها: لو مكناكم فيه لطغيتم وبغيتم، هذا هو القول الأول، وهو: أن شرطية، وجوابها مضمر محذوف، والتقدير: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) كان بغيكم أكثر وعنادكم أشد، وتم الكلام ثم قال: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً [الأحقاف:26]. القول الثاني: قوله: (إن مكناكم فيه) (إن) زائدة بعد ما الموصولة، حملاً لما الموصولة على ما النافية؛ لأن ما النافية تزاد بعدها لفظة (إن) كما هو معلوم، كما قال الشاعر: ما إن رأيت ولا سمعت به. وتقدير الكلام على القول الثاني: (ولقد مكناهم فيما مكانكم فيه)، ومنه قول الأخفش : يرجي المرء ما إن لا يراه وتعرض دون أدناه الخطوب يعني: يرجي المرء الشيء الذي لا يراه، فـ(إن) هنا زائدة، يؤمل المرء ما إن لا يراه، يعني: الشيء الذي لا يراه، وتعرض دون أدناه الخطوب: وتأتي الخطوب والأخبار تحول وتقطع عن أقرب أمل يؤمله. وهذان هما الوجهان اللذان لا تظهر صحة واحد منهما، إذاً: القول بأن إن شرطية، أو زائدة كليهما مرجوح. أما القول الثالث -وهو الصواب إن شاء الله تعالى- فهو: أن لفظة: (إن) نافية بعد ما الموصولة، أي: (ولقد مكناكم في الذي ما مكناكم فيه من القوة في الأجسام وكثرة الأموال والأولاد والعدد)، وإنما قلنا: إن القرآن يشهد لهذا القول؛ لكثرة الآيات الدالة عليه، فإن الله جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه يهدد كفار مكة بأن الأمم الماضية كانت أشد منهم بطشاً وقوة، وأكثر منهم عدداً وأموالاً وأولاداً، فلما كذبوا الرسل أهلكهم الله؛ ليخافوا من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أن يهلكهم الله بسببه؛ كقوله تعالى في سورة المؤمن: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [غافر:82]. وقال أيضاً في نفس السورة: أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ [غافر:21]. وقال في سورة الروم: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا [الروم:9]. وقال تعالى في سورة الزخرف: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ [الزخرف:8]. إذاً: الراجح: أن (إن) هنا نافية. وقوله: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً [الأحقاف:26] قال الطبري : أي: جعلنا لهم سمعاً يسمعون به مواعظ ربهم، وأبصاراً يبصرون بها حجج الله، وأفئدة يعقلون بها ما يضرهم وينفعهم. وسبق أن تكلمنا في سبب إفراد السمع دون الأبصار والأفئدة في جميع آيات القرآن الكريم، وذكرنا بأن سبب ذلك أنها أتت بلفظ المصدر وهو (السمع).

    حلول نقمة الله بعاد لما جحدوا آياته

    فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأحقاف:26]؛ لأنهم لم يستعملوها فيما خلقت له بل في خلافه. إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأحقاف:26]، أي: من العذاب، وهذا وعيد من الله جل ثناؤه لقريش، يقول لهم: (فاحذروا أن يحل بكم من العذاب على كفركم بالله، وتكذيبكم رسله ما حل بعاد، وبادروا بالتوبة قبل النقمة). قال الشهاب : أفرد السمع في النظم وجمع غيره لاتحاد المدرك به وهو الأصوات، وتعددت مدركات غيره، ولأنه في الأصل مصدر، وأيضاً مسموعهم من الرسل متحد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى)

    قال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى [الأحقاف:27] أي: ما حول قريتكم -يا أهل مكة- من حجر ثمود وقرى لوط ونحوهما مما كان يجاور بلاد الحجاز، وكانت أخبار هؤلاء القوم المهلكين متواترة عند قريش كحجر ثمود، وأرض سدوم، ومأرب ونحوها، فأنذرنا أهلها بالمثلات، وخربنا ديارها فجعلنها خاوية على عروشها؛ لعلهم يرجعون عن الكفر بالله ورسله. قال القرطبي : وفي الكلام متروك، ترك ذكره لدلالة الكلام عليه، وهو: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون) يعني: فأبوا إلا الإقامة على كفرهم والتمادي على غيهم، فأهلكناهم فلم ينصرهم منا ناصر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة ...)

    قال تعالى: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً [الأحقاف:28]. (لولا) بمعنى: هلا، أي: هلا نصرتهم آلهتهم التي تقربوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم، حيث قالوا: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله)، ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم! وقال الكسائي (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة) القربان: كل ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من طاعة ونسيكة، والجمع قرابين. و(قرباناً) إعرابها: حال. بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ [الأحقاف:28] أي: هلكوا عنهم، أو ضلت عنهم آلهتهم؛ لأنها لم يصبها ما أصابهم إذ هي جماد. وقيل: (ضلوا عنهم)، أي: تركوا الأصنام وتبرءوا منها. وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ [الأحقاف:28] أي: والآلهة التي ضلت عنهم هي إفكهم في قولهم: إنها تقربهم إلى الله زلفى. (وذلك إفكهم)، يعني: كذبهم، وفي قراءة أخرى: (وذلك أفَكَهُم) أي: ذلك القول صرفهم عن التوحيد، وقرأ عكرمة : (وذلك أفَّكَهم) يعني: قلبهم عما كانوا فيه من النعيم، وفي قراءة أخرى مروية عن ابن عباس : (وذلك إفكِهم) يعني: صارفهم، وعن عبد الله بن الزبير على اختلاف فيه: (وذلك آفكَهم) أي: أصارهم إلى الإفك. والدليل على قراءة العامة: (وذلك إفكهم) قوله تعالى: (وما كانوا يفترون).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن)

    قال الله تبارك وتعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف:29-30]. (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن) أي: أملناهم إليك، وأقبلنا بهم نحوك. (يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا)؛ ليتم التدبر والتفكر. (فلما قضي) فرغ من قراءته كمل تأثرهم به، فأرادوا التأثير به، يعني: من شدة تأثرهم بسماع القرآن أرادوا أن يؤثروا به في قومهم من الجن. (ولوا إلى قومهم منذرين) أي: رجعوا فوراً، (إلى قومهم منذرين) لهم عما هم فيه من الضلال. (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى)، وخص موسى لأنه المتفق على تعظيم كتابه، وقد علمنا صدقه؛ لأن هذا القرآن رأينا أنه يصدق الكتب التي بين يديه، وقد فضل عليها؛ لأنه (يهدي إلى الحق) أي: إلى معرفة الحقائق. (وإلى طريق مستقيم) لا عوج فيه، وهو الإسلام. قال ابن كثير : (يهدي إلى الحق) في الاعتقاد والأخبار، (وإلى طريق مستقيم) في الأعمال، فإن القرآن مشتمل على شيئين: خبر وطلب، فخبره صدق، وطلبه عدل، كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة:33]، فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، وهكذا قالت الجن: (يهدي إلى الحق) أي: في الاعتقادات، (وإلى طريق مستقيم) أي: في العمليات. يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:31] أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله. وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ [الأحقاف:31-32] أي: ليس بمعجز ربه بهربه إذا أراد الله عقوبته؛ لأنه في قبضته وسلطانه. وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ [الأحقاف:32] أي: نصراء ينصرونه من الله إذا عاقبه. أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:32] أي: على غير استقامة. هذه الجملة من الآيات نحتاج إلى إيضاح بعض الأمور المتعلقة بها.

    الربط الوثيق بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام في الشرع

    قوله تعالى: (( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ )) ذكر الله سبحانه وتعالى أنه صرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفراً من الجن، والنفر عدد أقل من العشرة. وأخبرنا جل وعلا أنهم لما حضروه قال بعضهم لبعض: (أنصتوا) أي: اسكتوا مستمعين، (فلما قضي) أي: لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من قراءته (ولوا) أي: رجعوا (إلى قومهم) من الجن في حال كونهم (منذرين) أي: مخوفين لهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا بالله، ويجيبوا داعيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأخبروا قومهم أن هذا الكتاب الذي سمعوه يتلى المنزل من بعد موسى (يهدي إلى الحق) وهو ضد الباطل، (وإلى طريق مستقيم)، لا اعوجاج فيه. يوجد ارتباط وثيق بين رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام وكليم الله موسى عليه السلام، والقرآن دائماً يربط بينهما في مناسبات عدة منها هذه الآية، وقوله أيضاً: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً [الأحقاف:12]، فانظر إلى الربط بين القرآن والتوراة؛ لأنها أساس الإنجيل الذي هو فرع عن التوراة ومكمل لها. كذلك الربط بين محمد وموسى في حادثة الإسراء والمعراج، وتردد الرسول عليه الصلاة السلام بين ربه وبين موسى عدة مرات. كذلك في حادثة بدء الوحي عندما قال ورقة بن نوفل لـخديجة: هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى. كذلك لما قرأ جعفر بن أبي طالب على النجاشي سورة مريم وبكى من حوله قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.

    عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم باستماع الجن لتلاوته

    دل القرآن الكريم على أن اجتماع هؤلاء النفر من الجن، وقولهم ما قالوا عن القرآن كله؛ وقع ولم يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه بذلك، كما قال تعالى في القصة بعينها: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن)، لكنه في سورة الجن فصل سبحانه وتعالى هذه القصة بالتفصيل فقال: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:1-2] إلى آخر سورة الجن.

    إرهاصات ما قبل النبوة

    بين يدي الأحداث المهمة يحصل دائماً إرهاصات، وهي تعتبر كالمقدمات لأمر مهم سوف يحصل بعد ذلك. نضرب أمثلة لذلك: ميلاد المسيح عليه السلام: ما الإرهاصات التي كانت قبله؟ حمل امرأة زكريا بيحيى عليه السلام، وهذه مقدمة بين يدي ما هو أعظم؛ لأن امرأة زكريا كانت قد بلغت من الكبر عتياً، وجرت سنة الحياة أنه لا يولد لمثلها؛ لأنها كانت عقيماً، وكان هو قد بلغ من الكبر عتياً، ولما رأى كرامات الله سبحانه وتعالى لـمريم عليها السلام قال: يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:37-38]، فدعا ربه أن يهبه الولد الصالح، وقد كان -كما هو مفصل في القرآن الكريم- خرق للعادة، ومعجزة، لكنه إرهاص ومقدمة بين يدي ما هو أعظم وأخطر، وهو معجزة ميلاد المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. أيضاً: بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام لها إرهاصات ومقدمات تنبئ عن أن شيئاً مهماً جداً سوف يحصل؛ مثل حادثة الفيل، فهي إرهاص حصل قبل بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام يدل على أن الله يحمي هذا البيت؛ لاقتراب بعثة محمد؛ لأنه ولد عليه السلام في نفس عام الفيل. ومن هذه الإرهاصات أيضاً: ما حصل من هواتف الجن وإخبارها عن شيء خطير وقع في هذا الكون، وهو تشديد الحراسة في السماء، فعلموا أن شيئاً خطيراً سوف يحصل؛ لأن السماء ما حرست من قبل هذه الحراسة؛ وذلك إنما حصل لأجل أن يحرس الوحي، ولا يتمكن الجن أن يسترقوا شيئاً من أخبار الوحي. من هذه الأحاديث ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر يقول لشيء قط: إني لأظنه كذا إلا كان كما يظنه، وهذا من الفراسة قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مر به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني أو إن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم، علي بالرجل، يعني: أول ما رأى عمر هذا الرجل قال: أظن أن هذا كان كاهناً في الجاهلية، وعمر من المحدثين الملهمين، وكانت عنده فراسة شديدة رضي الله تعالى عنه، فدعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم! فقال عمر : فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، فقال الرجل: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها ولحوقها بالقلاص وأحلاسها؟ قولها: ألم تر الجن وإبلاسها، يعني: تحيرها ودهشتها، ويأسها من بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص، جمع قلوص، وهي الناقة الشابة، وأحلاسها: جمع حلس، وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت الظهر. فقال عمر: صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، يعني: في تلك اللحظة لما ذبح العجل صرخ هذا الجني بهذا الصوت: يا جليح! وهذا اسم رجل، فكان يناديه: يا جليح! رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، قال: فوثب القوم، فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح ! أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبي. فـعمر نفسه أكد الخبر الذي قاله هذا الرجل الذي كان كاهناً في الجاهلية، بأن حكى هو حكاية حضرها أن جنياً صاح هذا الصياح. وهل الجن يعرفون الغيب؟ لا، لكن هذه الإرهاصات كانت بمثابة مقدمات بين يدي نزول الوحي؛ إذ قبل أن ينزل الوحي إلى السماء اشتدت الحراسة كما قال الله حاكياً عن الجن قولهم: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:8-9].

    استماع الجن للقرآن في وادي نخلة

    قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، قال: حدثنا عمرو ، قال: سمعت عكرمة، عن الزبير في قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن) قال: بنخلة -وهذا اسم للمكان- ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة، ويقرأ القرآن، فأمال الله هؤلاء الجن ووجههم كي يحضروا هذه الصلاة. وقال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19] أي: من الزحام، وحرصهم على استماع القرآن. (لبداً) يعني: بعضهم على بعض، فاللبد يكون طبقات بعضه على بعض. وروى أحمد والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، ورجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامداً إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم قالوا: يا قومنا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:1-2]، وأنزل الله على نبيه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ .. [الجن:1] إلى آخر الآية، فمعنى ذلك أن الرسول عليه السلام ما شعر بهم حين استمعوا إليه، وإنما أوحي إليه قول الجن؛ لأن الله تعالى قال: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من آية الجن). وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي . قال الحسن البصري: إنه عليه السلام ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله عليه بخبرهم.

    من هواتف الجن قبل البعثة

    قال مسلم : حدثنا محمد بن المثنى ، قال: حدثنا عبد الأعلى ، قال: حدثنا داود -وهو ابن أبي هند- عن عامر قال: سألت علقمة : هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: (لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقيل: استطير -أي: اغتيل- فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله! فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال: كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم). ولهذا الحديث عدة طرق تدل بمجموعها أن النبي عليه الصلاة والسلام في بعض المرات ذهب إلى الجن قصداً، فتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، وشرع الله لهم على لسانه ما هم محتاجون إليه في ذلك الوقت، ويحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن لم يشعر بهم كما قال ابن عباس ، ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما قال ابن مسعود. وأما ابن مسعود فإنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مخاطبته الجن ودعائه إياهم، وإنما كان بعيداً منهم، ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سواه، ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان الجن يستمعون الوحي فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشراً، فيكون ما سمعوا حقاً وما زادوا باطلاً، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب، فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث، فبث جنوده، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحديث الذي حدث في الأرض. وذكر محمد بن إسحاق ، عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عز وجل، وإيذائهم له، فذكر القصة بطولها ثم قال: (ولما انصرف عنهم بات بنخلة، فقرأ تلك الليلة من القرآن، فاستمعه الجن باسم الله)، قال ابن كثير : ( وهذا صحيح، ولكن قوله: إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر، فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء، كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المذكور، وخروجه إلى الطائف كان بعد موت عمه، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين. والرجل الذي كان كاهنهم هو سواد بن قارب، قال البيهقي في حديث سواد بن قارب: ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح. ثم روى بسنده عن البراء قال: (بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: أيها الناس! أفيكم سواد بن قارب ؟ قال: فلم يجبه أحد تلك السنة، فلما كان السنة المقبلة قال: أيها الناس! أفيكم سواد بن قارب ؟ قال: فقلت: يا أمير المؤمنين! وما سواد بن قارب ؟ قال: فقال له عمر : إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئاً عجيباً، قال: فبينما نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب ، قال: فقال له عمر : يا سواد ! حدثنا ببدء إسلامك كيف كان؟ قال سواد: إني كنت نازلاً بالهند، وكان لي رئي من الجن، قال: فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ جاءني في منامي ذلك، قال: قم فافهم، واعقل إن كنت تعقل، فقد بعث رسول من لؤي بن غالب ، ثم أنشأ يقول: عجبت للجن وتحساسها وشدها العيس بأحلاسها تهوي إلى مكة تبغي الهدى أخير الجن كأنجاسها فانهض إلى الصفوة من هاشم واسم بعينيك إلى راسها قال: ثم أنبهني فأفزعني، وقال: يا سواد بن قارب ! إن الله عز وجل بعث نبياً فانهض إليه تهتد وترشد، فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني، ثم أنشأ يقول : عجبت للجن وتطلابها وشدها العيس بأقتابها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ليس قداماها كأذنابها فانهض إلى الصفوة من هاشم واسم بعينيك إلى قابها فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني، ثم قال : عجبت للجن وتخبارها وشدها العيس بأكوارها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ليس ذوو الشر كأخيارها فانهض إلى الصفوة من هاشم ما مؤمنو الجن ككفارها قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة، وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، قال: فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي، فما حللت نسعة ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بالمدينة -يعني: مكة- والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال: مرحبا بك يا سواد بن قارب ! قد علمنا ما جاء بك، قال: قلت: يا رسول الله! قد قلت شعراً فاسمعه مني، فقال صلى الله عليه وسلم: قل يا سواد! فقلت: أتاني رئي بعد ليل وهجعة ولم يك فيما قد بلوت بكاذب ثلاث ليال قوله كل ليلة أتاك رسول من لؤي بن غالب فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت بي الدعلب الوجناء بين السباسب فأشهد أن الله لا رب غيره وأنك مأمون على كل غائب وأنك أدنى المرسلين وسيلة إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل وإن كان فيما جاء شيب الذوائب وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة سواك بمغن عن سواد بن قارب قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال لي: أفلحت يا سواد! فقال له عمر رضي الله عنه: هل يأتيك رئيك الآن؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني، ونعم العوض كتاب الله عز وجل من الجن). وساق الإمام الماوردي هذا الحديث الذي هو علم من أعلام النبوة في هتوف الجن ثم قال: ولئن كانت هذه الهتوف أخبار آحاد عمن لا يرى شخصه، ولا يحد قوله، فخروجه عن العادة نذير، وتأثيره في النصوص بشير، وقد قبلها السامعون، وقبول الأخبار يؤكد صحتها، ويؤيد حجتها، فإن قيل: إن كانت هتوف الجن من دلائل النبوة، جاز أن تكون دليلاً على صحة الكهانة، -ونحن لم نقل: إنها دليل من أدلة النبوة، وإنما قلنا: هي إرهاصات ومقدمات بين يدي الوحي- وهنا الإمام الماوردي رحمه الله تعالى يقول: وإذا كانت هتوف الجن من دلائل النبوة، فيجوز أن تكون دليلاً على صحة الكهانة، وعنده وجهان: أحدهما أن دلائل النبوة غيرها، وإنما هي من البشائر بها، وفرق بين الدلالة والبشارة إخباراً. والثاني: أن الكهانة عن مغيب، والبشارة عن معين، فالعيان معلوم، والغائب موهوم.

    معنى صرف الجن إلى النبي

    قوله تبارك تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن). قال الماوردي: في صرف الجن المذكور في قوله تعالى: (( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ )) وجهان: أحدهما: أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء برجوم الشهب، ولم يصرفوا عنه بعد عيسى إلا بعد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما هذا الحادث في السماء إلا لحادث في الأرض، وتخيلوا به تجديد النبوة، فجابوا الأرض حتى وقفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة عامداً إلى عكاظ وهو يصلي الفجر، فاستمعوا القرآن ورأوه كيف يصلي، ويقتدي به أصحابه، فعلموا أنه لهذا الحادث صرفوا عن استراق السمع برجوم الشهب، وعرفوا أن الوحي ينزل على نبي بعث حديثاً، وأنه لأجل ذلك حرست السماء، وهذا قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقيل: إن السورة التي كان يقرأ بها هي: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، وقيل: إنها سورة الرحمن؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (قرأتها -أي: سورة الرحمن- على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن رداً منكم، كنت كلما قرأت قوله تعالى: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ))[الرحمن:13]، كان الجن يقولون: ولا بشيء من نعمك -يا ربنا- نكذبك، لك الحمد). الوجه الثاني في قوله (وإذ صرفنا إليك): أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق هداية من الله تعالى حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة، فنزل عليه جبريل في هذه الآية وأخبره بوفود الجن، وأمره بالخروج إليهم، فخرج ومعه ابن مسعود حتى جاء إليهم ، قال ابن مسعود : (فخط علي خطاً، وقال: لا تجاوزه). فعلى الوجه الأول: لم يعلم بهم حتى أتوه، وعلى الوجه الثاني: أعلمه جبرائيل قبل إتيانهم. واختلف أهل العلم في رؤيته لهم، وقراءته عليهم. وقوله تعالى: (فلما حضروه قالوا أنصتوا)، لما حضروا قراءته القرآن قالوا: أنصتوا لسماعه، وهذا أدب منهم. وقد روى البيهقي عن جابر قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال: ما لي أراكم سكوتاً؟! للجن كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذبك، لك الحمد). ورواه الترمذي وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير . قوله تعالى: (( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ )) دل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامَّ الرسالة إلى الإنس والجن، قال ابن كثير: لأنه دعا الجن إلى الله تعالى، وقرأ عليهم السورة التي فيها تقابل الفريقين، أي: قرأ عليهم سورة الرحمن، وسورة الرحمن فيها خطاب للجن والأنس، وفيها تكليفهم ووعدهم ووعيدهم؛ ولهذا قالوا: (أجيبوا داعي الله وآمنُوا به).

    رسل الله إلى الجن

    قال الماوردي: لم يختلف أهل العلم أنه يجوز أن يبعث الله إليهم رسولاً من الإنس، واختلفوا في جواز بعثة رسول منهم أي: جواز أن يكون الرسول جنياً اختلفوا فيه، لكن لم يختلفوا في جواز أن الله سبحانه وتعالى يبعث إلى الجن رسولاً من الإنس. قال: جوز قوم إرسال رسول من الجن إلى الجن؛ لقول الله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130]، ومنع آخرون منه، وهذا قول من جعلهم من ولد إبليس، وحملوا قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130] على الذين لما سمعوا القرآن ولوا إلى قومهم منذرين، ونظيره تسمية رسل عيسى عليه السلام رسلاً في آية سورة يس إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس:14]. وقوله: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي)، قراءة الجمهور على البناء للمفعول، (فلما قُضي)، وقرأ بعضهم: (فلما قَضى) أي: قضى النبي صلى الله عليه وسلم يعني: فرغ من قراءته، كقوله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ [الجمعة:10]، وقوله: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [فصلت:12]، وقوله: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200]. قوله: (ولوا إلى قومهم منذرين)، أي: رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]، واستدل بهذه الآية على أنه في الجن نذر وليس فيهم رسل. ولا شك أن الجن لم يبعث الله منهم رسولاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109]، وقال عن إبراهيم الخليل: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت:27]، فكل نبي بعثه الله بعد إبراهيم فمن ذريته وسلالته. وقد يعترض بعض الناس بآية الأنعام: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130]، فالجواب: أن المراد في الآية هو مجموع الجنسين، وهذا لا يتعارض مع اقتصار الرسل على كونهم من الإنس. فقوله: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم)، المراد هنا مجموع الجنسين، فيصدق على أحدهما وهو الإنس، كما قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22]، وهو يخرج من أحدهما.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى)

    قال تعالى: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:30] أي: القرآن، وكانوا مؤمنين بموسى. قال عطاء: كانوا يهوداً فأسلموا، ولذلك قالوا: (أنزل من بعد موسى). وعن ابن عباس: أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى، فلذلك قالت: (أنزل من بعد موسى). قال ابن كثير: ولم يذكروا عيسى عليه السلام؛ لأن عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمم لشرعية التوراة، فالعمدة هو التوراة، فلهذا قالوا: (أنزل من بعد موسى). وهكذا قال ورقة بن نوفل حين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بقصة نزول جبريل عليه أول مرة، فقال: بخ بخ، هذا الناموس الذي كان يأتي موسى، يا ليتني أكون فيها جذعاً، يعني: شاباً عند ظهورها. مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:30-31] يعني: محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا يدل على أنه بعث إلى الجن والإنس، ودعاهم إلى الله، وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وهي سورة الرحمن، ولهذا قال: (أجيبوا داعي الله وآمنوا به). وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة). قال مجاهد : الأحمر والأسود: الجن والإنس. يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31]. (يغفر لكم من ذنوبكم) والله سبحانه وتعالى قد يتجاوز للإنسان عن حقوقه هو، لكن حقوق العباد والمظالم التي بينهم فلا يتجاوز الله سبحانه وتعالى إلا أن يستحل صاحب هذا الحق. وهذا هو السبب في قوله عز وجل: (يغفر لكم من ذنوبكم) فـ(من) هنا للتبعيض، أي: بعض هذه الذنوب، وهو ماعدا حق العباد، قاله الشوكاني . وقيل: إن (من) هنا لابتداء الغاية، مثلما تقول: أكلت السمكة من رأسها إلى ذيلها، فقوله: (يغفر لكم من ذنوبكم)، أي: يقع ابتداء الغفران من الذنوب ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى. وقيل: إن (من) زائدة.

    دخول المؤمنين من الجن الجنة

    قوله تعالى: (ويجركم من عذاب أليم) أي: ويقيكم من عذابه الأليم، وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة. قال أبو حنيفة : ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا تراباً مثل البهائم، وهذا قول الحسن. وقال القشيري : والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء، والعلم عند الله. وقال آخرون: إنهم كما يعاقبون في الإساءة، يجازون في الإحسان مثل الإنس، وإليه مال مالك والشافعي وابن أبي ليلى . وقال الضحاك : الجن يدخلون الجنة، ويأكلون ويشربون. ودليل هذا المذهب قوله تبارك وتعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]، قال ابن كثير: والحق أن مؤمنيهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة، كما هو مذهب جماعة من السلف، وقد استدل بعضهم لهذا بقوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] -فيدل على أن الجن قد يثابون أيضاً بالحور العين- وفي هذا الاستدلال نظر، وأحسن منه قوله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:46-47]، فهو خطاب للإنس والجن، فالله سبحانه تعالى يقول: (ولمن خاف) وهذه صفة عموم، (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، فقد امتن الله تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس، فقالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد؛ فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم. وأيضاً فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل، فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى والأحرى. ومما يدل أيضاً على ذلك عموم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف:107]، وما أشبه ذلك من الآيات. أيضاً من الأدلة: أن هذه الجنة يبقى فيها متسع بعدما يدخل الله كل الخلق ممن يستحقون الجنة، حتى أن الله سبحانه وتعالى ينشئ لها خلقاً جديداً يسكنهم الجنة، أفلا يسكنها من آمن به وعمل له صالحاً؟! وما ذكروه هنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم، هو يستلزم دخول الجنة؛ لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار، فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة، ولم يرد نص صريح ولا ظاهر عن الشرع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة، وإن أجيروا من النار، ولو صح لقلنا به، والله أعلم. هذا كلام ابن كثير . هذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [نوح:4]، وفي هؤلاء المخاطبين من آمن من قوم نوح، فهل الآية اقتصرت فقط على ذكر أن ثوابهم إذا آمنوا وأطاعوا أن يغفر الله لهم ذنوبهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى وأنهم لا يدخلون الجنة؛ لأنه لم يذكر ذلك في هذه الآية؟ لا خلاف أن مؤمني قوم نوح في الجنة، فكذلك هؤلاء. قال القرطبي: قوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأحقاف:19]، يدل على أنهم يثابون ويدخلون الجنة؛ لأنه قال في أول الآية: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي [الأنعام:130]، إلى أن قال: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام:132]. (ولكل) يعني: الإنس والجن، والله تعالى أعلم. قال الله في الترغيب: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31]، ثم قال تعالى في الترهيب: وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ [الأحقاف:32] أي: لا يفوت الله، ولا يسبقه، ولا يقدر على الهرب منه؛ لأنه إن هرب كل مهرب فهو في الأرض، ولا سبيل له إلى الخروج منها، وفي قوله: فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ [الأحقاف:32] أي: أنصار يمنعونه من عذاب الله، وبين سبحانه وتعالى بُعد استحالة نجاته بوساطة غيره. وقوله: أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:32] الإشارة إلى من لا يجب داعي الله سبحانه وتعالى.

    كلام الشنقيطي في قوله تعالى: (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به)

    العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى تكلم في هذه الآية بكلام نختصره، يقول في قوله تعالى: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ : منطوق هذه الآية: أن من أجاب داعي الله محمداً صلى الله عليه وسلم وآمن به وبما جاء به من الحق غفر الله له ذنوبه، وأجاره من العذاب الأليم، ومفهومها -يعني: مفهوم المخالفة، أو دليل الخطاب- : أن من لم يجب داعي الله من الجن ولم يؤمن به لم يغفر له، ولم يجره من عذاب أليم، بل يعذبه ويدخله النار، كما قال تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13]، وقال تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [الشعراء:94-95]. أما دخول المؤمنين المجيبين داعي الله من الجن الجنة فلم تتعرض له الآية بإثبات ولا نفي، وقد دلت آيات أخرى على أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة، وهي قوله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:46-47]. ويستأنس لهذا بقوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]، فإنه يشير إلى أن في الجنة جناً يطمثون النساء كالإنس. والجواب: أن آية الأحقاف نص فيها على الغفران، والإجارة من العذاب، ولم يتعرض فيها لدخول الجنة بنفي ولا إثبات، وآية الرحمن نص فيها على دخولهم الجنة؛ لأنه تعالى قال فيها: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، فقوله: (ولمن) يعني: وللذي أو للذين، وهذا يعم كل خائف مقام ربه، ثم صرح بشمول ذلك للجن والإنس معاً بقوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان). فإذاً: لا تعارض بين الآيتين؛ لأن إحداهما بينت ما لم تتعرض له الأخرى، يعني: أن آية الأحقاف لم تتعرض لدخولهم الجنة، لكن آية الرحمن أثبتت دخولهم الجنة، فلا تعارض بين الآيتين، ولو سلمنا أن قوله تعالى: (( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ )) يفهم منه عدم دخول الجنة، فالدليل هنا هو مفهوم الآية، (يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم) حيث يفهم منها: أن هذا هو جزاؤهم لكن لا يدخلون الجنة، أما قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فهذا عموم يدل على دخولهم الجنة بدلالة المنطوق، ولا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم، وهذا دليل أصولي آخر. وسبق أن ذكرنا أن سر التبعيض في قوله: (يغفر لكم من ذنوبكم) هو: أن من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان، كذنوب المظالم، أي: حقوق العباد، وفيه نظر؛ لأن الحربي لو نهب الأموال المصونة، وسفك الدماء المحقونة، ثم حسن إسلامه جب الإسلام عنه إثم ما تقدم بلا إنكار. ويقال: إنه ما وعد المغفرة للكافر على تقدير الإيمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضاً. والسر فيه: أن مقام الكافر قبض لا بسط، فلذلك لم يبسط رجاؤه كما في حق المؤمن، يعني قال: (يغفر لكم من ذنوبكم) لأنه خطاب موجه لكافر، فيكون فيه قبض لا بسط للثواب، بخلاف كون الإنسان إذا آمن وأسلم، فإن الأمر يكون فيه بسط. قال ابن كثير: جمعوا في دعواهم قومهم بين الترغيب والترهيب، ولهذا نجع كثير منهم، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوداً وفوداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل...)

    قال الله تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35]، لما قرر سبحانه الأدلة على النبوة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر، فقال: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)، والفاء جواب شرط محذوف، أي: إذا عرفت ذلك، وقامت البراهين عليه، ولم ينجع في الكافرين؛ (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) أي: الزم الثبات والحزم فإنك منهم. قال مجاهد: أولو العزم من الرسل خمسة: نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين. وقيل: نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى. وقال ابن جريج منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب وليس منهم يونس. وقال الشعبي والكلبي : هم الذين أمروا بالقتال، فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة. وقيل: هم الرسل المذكورون في سورة الأنعام، وهم ثمانية عشر: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط، واختار هذا الحسين بن الفضل ؛ لقوله بعد ذكرهم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]. وقيل: إن الرسل كلهم أولو عزم، وعلى هذا فتكون (من) في قوله تعالى: (فاصبر كما صبر ألوا العزم من الرسل) بيانية لا للتبعيض، أي: اصبر كما صبر الرسل الذين هم أولو العزم. وقيل: هم اثنا عشر نبياً أرسلوا إلى بني إسرائيل. وقال الحسن : هم أربعة إبراهيم وموسى وداود وعيسى. فأما إبراهيم فقيل له: أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131]، ثم ابتلي في ماله وولده ووطنه ونفسه، فوجد صادقاً صابراً في جميع ما ابتلي به. وأما موسى فعزمه حين قال له قومه: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62]. وأما داود فأخطأ خطيئة فنبه عليها، فأقام يبكي أربعين سنة حتى نبتت من دموعه شجرة وقعد تحت ظلها. وأما عيسى فعزمه أنه لم يضع لبنة على لبنة، وقال: إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها. فكأن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: اصبر، أي: كن صادقاً فيما ابتليت به، كما صدق إبراهيم، واثقاً بنصر مولاك مثل ثقة موسى، مهتماً بما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود، زاهداً في الدنيا مثل زهد عيسى. ثم قيل: هي منسوخة بآية السيف. وقيل: إنها محكمة. وذكر مقاتل : أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فأمره الله عز وجل أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولو العزم من الرسل تسهيلاً عليه وتثبيتاً له. يقول القاسمي: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)، أي: أولوا الثبات والجد منهم فإنك منهم. والعزم في اللغة كالعزيمة، ما عقدت قلبك عليه من أمر، والعزم أيضاً القوة على الشيء والصبر عليه، فالمراد به هنا: المجتهدون المجدون أو الصابرون على أمر الله فيما عهده إليهم وقدره وقضاه عليهم. ومطلق الجد والجهد والصبر موجود في جميع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل وكثير من الأولياء، فلذا ذهب جمهور المفسرين في هذه الآية إلى أنهم جميع الرسل، وأن (من) بيانية لا تبعيضية، فكل رسول من أولي العزم، فإن أريد به معنى مقصود ببعضهم فلابد من بيانه ليظهر وجه التخصيص، وقد اختلف في عددهم إلى أقوال: الأول: أنهم جميع الرسل. والثاني: أنهم أربعة: نوح وإبراهيم وموسى ومحمد. والثالث: أنهم خمسة، بزيادة عيسى كما قيل: أولي العزم نوح والخليل المنجد وموسى وعيسى والنبي محمد عليهم الصلاة والسلام. والرابع: أنهم ستة بزيادة هارون أو داود. والخامس: أنهم سبعة بزيادة آدم. والسادس: أنهم تسعة: بزيادة إسحاق ويعقوب ويوسف، وقد يزاد وينقص. وتوجيه التخصيص: أن المراد بهم من له جد وجهد تام في دعوته إلى الحق، وذبه عن حريم التوحيد وحمى الشريعة، بحيث يصبر على ما لا يطيقه سواه من عوارضه النفسية والبدنية وأموره الخارجية، ومبارزة كل أهل عصره كما وقع لنوح، أو الملك الجبار في عصره وانتصاره عليه من غير عدة دنيوية كـنمرود إبراهيم، وجالوت داود، وفرعون موسى، ولكل موسى فرعون، ولكل محمد أبو جهل ، وكالابتلاء بأمور لا يصبر عليها البشر بدون قوة حسية، ونفس ربانية، كما وقع لأيوب عليه الصلاة والسلام؛ فمن هنا كشف برقع الخفاء عن وجه التخصيص، وهذا مما كشفت بركاتهم سره. وقوله تعالى: (( وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ )) أي: ولا تستعجل بمساءلتك ربك العذاب لهم، فإن ذلك نازل بهم لا محالة، وإن اشتدت عليك الأمور من جهتهم.

    كلام الشنقيطي في المراد بأولي العزم من الرسل

    يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في المراد بأولي العزم من الرسل في هذه الآية الكريمة اختلافاً كثيراً، وأظهر الأقوال في ذلك: أنهم خمسة، وهم الذين قدمنا ذكرهم في الأحزاب والشورى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7] عليهم السلام. وعلى هذا القول فالرسل الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا أربعة، فصار هو صلى الله عليه وسلم خامسهم. واعلم أن القول بأن المراد بأولي العزم جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن لفظة (من) في قوله: (من الرسل)، بيانية الذي يظهر أنه خلاف التحقيق، كما دل على ذلك بعض الآيات القرآنية كقوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48]، فأمر الله جل وعلا نبيه في آية القلم هذه بالصبر، ونهاه عن أن يكون مثل يونس؛ لأنه هو صاحب الحوت. وكقوله: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115]، فآية القلم، وآية طه المذكورتان كلتاهما تدل على أن أولي العزم من الرسل الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر كصبرهم ليسوا جميع الرسل. وقوله تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35] يعني: بالدعاء عليهم أو في إحلال العذاب بهم، فإن أبعد غايتهم يوم القيامة. (ولا تستعجل لهم) مفعول لأجله، يعني: لا تستعجل لهم العذاب.

    معنى قوله تعالى: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون ...)

    قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ [الأحقاف:35] من العذاب أو من الآخرة. لَمْ يَلْبَثُوا [الأحقاف:35] أي: في الدنيا، حتى جاءهم العذاب، أو لم يلبثوا في قبورهم حتى بعثوا للحساب. إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [الأحقاف:35] يعني: في جنب يوم القيامة. قيل: نساهم هول ما عاينوا من العذاب طول لبثهم في الدنيا. بَلاغٌ [الأحقاف:35] أي: هذا القرآن بلاغ، (بلاغ) خبر مبتدأ محذوف، والدليل قوله تعالى: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ [إبراهيم:52]، وقوله تعالى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:106]، والبلاغ بمعنى التبليغ. وفي قوله: بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ [الأحقاف:35] بعض العلماء وقف على (ولا تستعجل)، ثم بدأ: (لهم بلاغ) وهذا خطأ، ذكر ذلك أبو حاتم، ويجوز بلاغاً على المصدر أو على النعت للساعة، والخفض على معنى: من نهارٍ بلاغٍ. وروي عن بعض القراء (بلغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) فيقف على (من نهار). وقرأ: (بلّغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون). قرأ الجمهور (يُهلك) على البناء للمفعول، وقرأه ابن محيصن: على البناء للفاعل. (يَهلك) والمعنى: أنه لا يهلك لعذاب الله إلا القوم الخارجون عن الطاعة، الواقعون في معاصي الله. وقال قتادة : لا يهلك على الله إلا هالك مسرف. وقيل: هذه الآية أقوى آية في الرجاء، (بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون)، يعني: لا يهلك مع رحمة الله وفضله (إلا القوم الفاسقون). قال العلامة الشنقيطي في قوله تعالى: (بلاغ) أصوب القولين في قوله تعالى: (بلاغ) أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا بلاغ، بدليل قوله: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ [إبراهيم:52]، وقوله: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:106]، وخير ما يفسر به القرآن القرآن. والبلاغ اسم مصدر بمعنى التبليغ، وقد علم من استقراء اللغة العربية أنه يأتي كثيراً بمعنى التفعيل، فبلغه بلاغاً أي: تبليغاً، وكلمه كلاماً أي: تكليماً، وطلقها طلاقاً أي: تطليقاً، وسرحها سراحاً، وبينه بياناً، كل ذلك بمعنى التفعيل؛ لأنها مضاعفة العين غير معتلة. وأما القول بأن المعنى وذلك بلاغ، فهو خلاف الظاهر كما ترى، والعلم عند الله تعالى. وقال القاسمي رحمه الله تعالى: (فهل يهلك) أي: بعذاب الله إذا أنزله بمقتضى العدل والحكمة، (إلا القوم الفاسقون) الذين خالفوا أمره، وخرجوا من طاعته، نعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756463295