وعن سهل بن أبي حثمة قال: (انطلق
وفي حديث حماد بن زيد : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته، فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسول الله! كيف نأخذ بأيمان قوم كفار؟)
وفي حديث ابن عبيد : (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة)]
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) وصفه بأنه مسلم، وأنه يشهد الشهادتين، فإذا أسلم لله تعالى، واستسلم لأمره، وأقر بالشهادتين؛ عصم دمه، وعصم ماله، وحرم قتله وإراقة دمه، وحرم قطع طرفه، وحرم شجه أو جرحه، وحرم الاعتداء عليه؛ لأنه عصم دمه بهذه العقيدة، وبهذا الدين، إلا بثلاثة أشياء:
الأول: إذا زنى وهو محصن، والإحصان: هو كونه قد تزوج زواجاً صحيحاً، ودخل بزوجته، ثم بعد ذلك زنى، فهذا ثيب، فيقتل إن زنى بأن يرجم حتى يموت، فهذا سبب أباح دمه، وهو زناه مع الإحصان.
الثاني: إذا قتل بريئاً قتل به، لقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ [البقرة:178] فمن قتل شخصاً مكافئاً له قتل به، فمن قتل رجلاً مسلماً قُتل به، وكذا لو قتل امرأة مسلمة قتل بها.
الثالث: (التارك لدينه المفارق للجماعة) فهذا يباح قتله، ويسمى مرتداً، أو مبتدعاً بدعة مكفرة تلحقه بالردة، فهذا يقتل ولو أقر بالشهادة؛ لأنه أتى بما يبطلها، فمن ترك دينه بعبادة القبور حل قتله، وكذلك من ترك الصلاة وأصر على تركها قتل، وكذلك من منع الزكاة، وكذلك من استحل شيئاً من الحرام، من استحل الزنا وجعله مباحاً، أو استحل الربا، أو استحل الخمر، أو نحو ذلك؛ أُبيح قتله؛ لأنه أتى بمبرر وهو ترك دينه.
وكذا إذا فارق جماعة المسلمين وإمامهم وسوادهم الأعظم، فارقهم وأصبح شاذاً، فإنه يقاتل إلى أن يرجع إلى معتقد المسلمين، وجماعة المسلمين هم الذين على عقيدة السلف ولو كانوا أقل من غيرهم.
[عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قتلت خزاعة رجلاً من هذيل بقتيل كان لهم في الجاهلية، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل قد حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه حرام، لا يعضد شجرها، ولا يختلا شوكها، ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يفدى، فقام رجل من أهل اليمن يقال له:
هذا الحديث يتعلق بالقصاص، وفي هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا مكة في سنة ثمان بعد أن قواه الله تعالى ونصره، وآمن معه من آمن، فاجتمع معه عشرة آلاف، وتوجه بهم إلى مكة بسبب نقضهم العهد الذي تعاهدوا عليه في سنة ست في الحديبية، ولما غزاهم ودخل مكة، أحل الله له القتال فيها، فقاتلوا فيها من أول النهار إلى قرب العصر، ثم بعد ذلك استسلم أهل مكة وأمنهم، واستتب الأمن ولم يعد يقاتلهم.
ولما أسلم أهل مكة واطمأنوا، ودخل الناس في مكة، واجتمع بعضهم مع بعض، كان هناك بعض من الجاهليين الذين معهم شيء من حمية الجاهلية، ومن العادات القديمة التي منها الأخذ بالثأر، فكانت قبيلة خزاعة قد قُتل منهم قتيل في الجاهلية، قتلته هذيل، وقيل: إن هذيلاً هي التي كان لها قتيل، فقتلت خزاعة هذلياً، أو قتلت هذيل خزاعياً، وقالوا: ما دام أن مكة زالت حرمتها؛ فلماذا لا نأخذ بالثأر؟ واعتقدوا أن حرمة مكة إنما هي في الجاهلية، وأنها ليست بلدة محرمة، وأنه يجوز أخذ الثأر فيها، ويجوز القتال فيها، فقتلوا القتيل فأخطئوا خطأين:
الخطأ الأول: الأخذ بالثأر الجاهلي.
الخطأ الثاني: استحلال القتال في البلد الحرام.
فلما فعلوا ذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وخطب هذه الخطبة في المسجد الحرام، فأخبر بأن هذا البلد حرام حرمه الله تعالى منذ خلق السماوات والأرض، وأنه لا يزال على حرمته، قال الله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:97]، وقال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص:57] ( حرماً آمناً يجبى إليه ) أي: يجلب إليه الثمرات من كل البلاد، وقال تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [النمل:91] البلدة هي مكة، أن أعبد الله حيث إنه حرم هذه البلدة، فهذه الآيات ونحوها تدل على أن هذا البلد الذي هو مكة له أهميته، وله منزلته، وأنه باق على حرمته.
والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم أنكر على هؤلاء الذين قتلوا في مكة، وقد ثبت أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم خطب خطبة بليغة في حجة الوداع في عرفة، وكان من جملة ما ذكره أنه قال: (إن دماء الجاهلية موضوعة تحت قدمي هاتين، وأول دم أضعه دم بني هاشم) أي: رجل من بني هاشم قتلته هذيل، فوضع دماء الجاهلية، ونعرات الجاهلية، والعادات الجاهلية، فعرف بذلك أن القتل في المسجد الحرام، والقتال فيه؛ لا يجوز، وإذا قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أبيح له القتال فيها؟
فالجواب: أن الله أباحه لنبيه، وأذن له ولم يأذن لغيره كما في هذا الحديث، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين) لما جاء أصحاب الفيل ليستبيحوا حرمة هذا البلد؛ حبسهم الله وردهم وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:3-4]، أما النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله سلطه عليهم لما أصروا على الكفر، واستمروا عليه، واستباحوا البلد الحرام بأن جعلوه بلاد كفر وشرك، وردوا الرسالة النبوية، فأمره أن يقاتلهم، وأحل له القتال في هذا البلد هذا اليوم، ثم بعد ذلك عادت حرمة هذا البلد كما كانت، فأخبر أنه عادت حرمته اليوم كحرمته بالأمس، وأخبر أنه يحرم فيه سفك الدماء والقتال؛ وذلك لحرمة المكان، والذي يقتل فيه يعتبر قد فعل جرمين:
الأول: أنه سفك دماً حراماً بغير حق، ولو كان مظلوماً.
الثاني: أنه تهاون بحرمة البيت الحرام وبحرمة البلد الحرام، فاستحل ما حرم الله.
وكذلك لا يختلى خلاها، والخلا هو العشب الذي ينبت منبسطاً على الأرض، وترعاه الدواب، يجوز أن تترك الدواب ترعى فيه سواء من الإبل أو البقر أو الغنم، وأما أن يختلى بمعنى: يُحش؛ فلا يجوز، ومن حشه فإن عليه فديته بقدر ما أخذ منه أو بقيمته يتصدق بها على مساكين الحرم.
كذلك لا ينفّر صيدها لعموم قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:97]، ولعموم قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ [المائدة:95] أي: قتل الصيد، وهو كل ما يقتنص ويصاد، فلا يجوز أن ينفر، ولا يجوز أن يُصاد. ويدخل في الصيد الطيور، ويدخل فيه الدواب المتوحشة التي تقتنص وتصاد، فإذا صاد فإن عليه جزاء.
وقد بين العلماء مقدار جزاء الصيد في الكتب الفقهية والحديثية ونحوها، وإذا كان لا يجوز أن ينفر الصيد حتى يطير ولو عصفوراً أو حمامة أو نحو ذلك؛ فبالطريق الأولى لا يجوز أن يُذبح، ويستثنى من ذلك الذي يملك ولا يقال له: الصيد، كالدجاج أو البط من الطيور، وكذلك بهيمة الأنعام من الإبل والبقر ونحوها.
واستثنى من ذلك الإذخر، وهو هذا النبات الذي يكون له أعواد دقيقة، وله رائحة طيبة، كانوا يقطعونه فيوقدون به، ويوقد به الحدادون، ويستعملونه عند سقف البيوت يسدون به الخلل، ويجعلونه بين اللبنات في القبور، فهم بحاجة إليه، فطلب العباس أن يرخص لهم في قطع وحش الإذخر، فرخص لهم في ذلك، وقال: (إلا الإذخر).
ليس لهم إلا ذلك، وليس لهم أن يقتلوا غير القاتل فإن هذا ظلم، فإذا هرب القاتل فلا يقتلوا أخاه، أو يقتلوا قريبه، فهذا ظلم، قال الله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، فكون الجاني قريباً لهذا لا يلزم أن يكون جانياً، أو يكون مذنباً، بل الجناية تتعلق بالمعتدي، فهو الذي يؤخذ منه الحق دون غيره، وهذا هو حكم الله تعالى.
وقد شرع القصاص؛ لأجل الأمن، فتأمن البلاد ويأمن العباد؛ وذلك لأن من يريد أن يقتل إذا تذكر أنه سيقتص منه ارتدع عن القتل، ويقول: ما الفائدة من أن أقتل ما دمت سوف أقتل، ولو أنه سبني، ولو أنه قهرني؟
ما الفائدة من كوني أقتله وآخذ ماله، ثم سأُقتل بعد ذلك؟
فيحصل بذلك ارتداع عن القتل، وتخويف من هذه الفتنة الكبيرة، والذنب الكبير.
كذلك يجوز أن يعفو بعضهم عفواً مطلقاً، ويأخذ الباقون نصيبهم من الدية، فمن أسقط نصيبه من الدية وطلب الأجر فله أجره، والبقية الذين لم يسقطوا نصيبهم يأخذوه كاملاً أو يأخذوا ما طلبوه.
والدية قدرت بمائة من الإبل، وإذا طلبوا القصاص كلهم، أو طلبوا مالاً كثيراً فإن لهم ذلك، وقد روي أن بعض الصحابة عرضوا على أولياء المقتول أربع ديات، وقالوا: له: نعطيك ديتين؟ فقال: لا أريد إلا القصاص، فقالوا: نعطيك ثلاث ديات؟ فقال: لا أريد إلا القصاص، فقالوا: نعطيك أربع ديات؟ فقال: لا أريد إلا القصاص، فلما أصر على ذلك مكنوه من القصاص وقال: لو أعطيتموني عشرين دية لما قبلت، وهذا يدل على أنه يجوز أن يزاد في الدية، ولكن هذا يسمى صلحاً عن الدم، وكأن القاتل يشتري نفسه، يقول: لا تقتلوني وأنا أعطيكم أكثر من الدية، أو يقول أهله وعصبته: نحن نشتريه منكم بما تطلبون، ولو طلبتم خمس ديات أو ست ديات أو عشر ديات أو نحو ذلك، فيجوز أن يصطلحوا على أكثر من الدية، ولكن الأولى العفو والصلح، والإنسان إذا عفا وأصلح فأجره على الله.
[عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنه استشار الناس في إملاص المرأة، فقال
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن دية جنينها غرة عبد، أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم، فقام
وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً عض يد رجل، فنزع يده من فمه فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي فقال: يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل! لا دية لك)].
والغرة هي بياض الوجه كما في قول أبي هريرة (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين) فالغرة: بياض الوجه، لكن هنا أطلق الغرة على العبد المملوك أو الأمة المملوكة، فكأنه قال: دية الجنين إذا سقط بجناية فيه عبد أو أمة، وفي هذه الأزمنة: يقلّ وجود عبد أو أمة، ولو قدر وجودهما في بعض البلاد فإن ثمنهما رفيع، بل كان ثمن العبد قبل إلغاء الرق في هذه البلاد أرفع من دية الحر، ولكن العلماء في الزمن الأول قدروا الغرة، واستمروا على تقديره، فقالوا: الغرة التي هي عبد أو أمة قيمتها خمس من الإبل، ولا تزال هذه قيمتها، فالآن إذا سقط الجنين بسبب جناية بأن ضرب رجل بطن امرأة فأسقطت، أو حصل حادث بسببه كحادث اصطدام أو انقلاب فأسقطت المرأة، وحكم عليه بالدية، فإنه يحكم عليه بخمس من الإبل، وسواء كان السقط قد تخلق أو لم يتخلق، ما دام أنه حمل، وسواء طالت مدة الحمل أم لا، فإذا مات في بطنها سواء كان في الشهر التاسع أو الرابع أو الثاني وسقط ميتاً فديته خمس من الإبل، والإبل في هذه الأزمنة تقدر الواحدة بألف، فتكون دية الجنين خمسة آلاف ريال.
ولما كانت الدية تحملها العاقلة، والعاقلة ما جنت، قسمت على ثلاث سنين، ويكون عليهم في كل سنة ثلثها، فتفرق على إخوة القاتل وبنيهم، وأعمامه وأبناء عمه، وأبناء عم أبيه وبنيهم، وهكذا إلى الجد الخامس أو الجد السادس، وربما إلى الجد السابع أو الثامن إذا قلوا، فتقسم الدية عليهم، هذا معنى تحمل العاقلة لدية الخطأ ودية شبه العمد.
في هذا الحديث حكم بالدية على العاقلة، وحكم بدية السقط غرة عبد أو أمة، وأن الذي يحمله نفس الجاني، العاقلة لا تحمل الصلح، ولا تحمل الإقرار، ولا تحمل العمد، ولا تحمل ما دون الثلث؛ فلذلك أنكر ولي المرأة أن يفدى هذا السقط، وتكلم بهذا الكلام، وهو قوله: كيف نفدي من لا أكل، ولا شرب ولا استهل، فمثل ذلك يطل؟ هكذا تلفظ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما هذا من إخوان الكهان) من أجل سجعه الذي سجع، ومعروف أن الكهان يتعاطون السجع في كلامهم، ويحرصون على الكلام المتوازن، وهذا فيه سجع كما سمعنا: كيف نفدي من لا أكل، ولا شرب، ولا استهل، فمثل ذلك يطل؟ يعني: الجنين ما أكل، مات قبل أن يحتاج إلى الأكل، ولا شرب، ولا استهل عندما ولد أي: ما ظهر أنه استهل، واستهلال المولود هو أن يصيح ساعة ولادته، فهذا ما استهل، فمثل ذلك يطل يعني: يهدر، ويترك، ويهمل، ولا يكون له دية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه كلامه وقال: (إنه من إخوان الكهنة).
روي أن لصاً دخل إلى بيت ابن عمر رضي الله عنه، ولما رآه ابن عمر شهر سيفه، وقال: دعوني أقتله، يقول الراوي: لولا أنّا دفعناه ومنعناه لقتله، واستدل بحديث: (من قُتل دون ماله فهو شهيد).
وبكل حال هذه القصة شبيهة بمن يدافع عن نفسه، وهي في عض الإصبع، ويلحق بذلك غيره من أنواع الاعتداء، فإذا اعتدى برمي حجر، فرد حجره عليه، ولو قاتل بعصا فلك أن ترد عصاه عليه، ولو قتل بها نفسه أو قتلته بها، وكذلك إذا قاتل بأظافره فإن لك أظافر دافعه بما يندفع به، ويسمى هذا الدفاع برد الصائل.
ومعلوم أن الخصومات التي تحدث بين اثنين ويحصل بينهما شجار ونزاع، يكون من آثارها أنهما يتشادان، ويحصل من آثار المشادة قتال، وكل منهما يقاتل أو يدفع عن نفسه ويدافع، ويحصل من آثار هذه المشادة أن أحدهما قد يكون أقوى من الآخر، فإذا انفصل هذا النزاع رجع بعد ذلك إلى المقاصة والأرش، فتتقابل الجروح بعضها ببعض، هذا السن بهذا السن مثلاً، أو هذا الجرح بهذا الجرح، هذه الشجة بهذه الشجة، هذا العضو بهذا العضو، وينظر بعد ذلك في الزائد فيكون فيه إما قصاص وإما دية حيث يقتضيه العمد.
في هذا الحديث: أن هذا الرجل كان من الأمم السابقة، قتل نفسه؛ فعوقب بأن حُرِم ثواب الله تعالى وجنته.
ذكر أنه كان به جراح في يديه أو في قدميه، فكأنه تألم من هذه الجراح واشتد عليه الوجع، ولما اشتد عليه الألم والوجع لم يتحمل ولم يصبر، فرأى أن السلامة قطع ذلك العضو أو تلك اليد أو الرجل التي فيها الجرح يريد أن يريح نفسه من هذا الألم والوجع الشديد الذي يحس به؛ ولكنه لما قطع ذلك العضو خرج الدم واستمر في خروجه إلى أن خرجت نفسه، فمات بسبب قطع يده أو قطع ذلك العضو الذي كان يؤلمه، مات بسبب نفسه، فحرمه الله تعالى ثوابه، فقال الله تعالى: (بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة) أي: سابقني بنفسه، وتسبب في قتل نفسه، ولم يتحمل هذا الألم الذي أنزلته به، فصار قتله لنفسه سبباً في حرمانه ثواب الله تعالى، وفي حرمانه الجنة.
وهذا دليل على أن الإنسان لا يجوز له أن يتسبب في قتل نفسه الذي يسمى في هذه الأزمنة: الانتحار، يعني: كون الإنسان يقتل نفسه، إما لألم أو لهم أو غم أو لضيق حال أو ما أشبه ذلك، فإذا فعل ذلك تسبب في حرمان نفسه من ثواب الله تعالى، وأقدم على عقابه.
وورد أيضاً أن رجلاً في عهد الصحابة يقال له: قزمان، كان يقاتل معهم في غزوة أحد، ذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنه في النار) فشكُّوا في أمره، قاتل قتالاً شديداً في غزوة أحد، فلما كان في آخر أمره أصابته جراحة، فتألم من هذه الجراحة، فوضع سيفه في وسطه، وتحامل على السيف حتى خرق جوفه وخرق ظهره بالسيف، وقتل نفسه، فتبين صدق النبي صلى الله عليه وسلم في أنه من أهل النار؛ لأنه قتل نفسه.
فلما فعل ذلك الرجل ما فعل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة).
الأعمال بالخواتيم، فخاتمة هذا الرجل الذي كان مع الصحابة خاتمته لَمَّا قتل نفسه أن حُكم عليه بأنه في النار، فهذا يبين أن الذي يتسبب في قتل نفسه يعذب بهذا العذاب.
فهو تسبب في قتل نفسه، ونفسه ليست ملكاً له، بل هي ملك لله، وخالف ما تقتضيه الطباع، فالعادة أن الإنسان يحب نفسه ويكره الموت، ويؤثر الحياة، كما في قوله تعالى حكاية عن اليهود: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96]، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني الموت بقوله: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به) والمراد بالضر هنا: عموم ما يضر الإنسان، سواء كان ضرراً بدنياًأو ضرراً قلبياً، أو ضرراً مالياً، فلا يتمنى الموت، فضلاً عن أن يتعاطاه بأن يحمل على نفسه ويقتلها.
والسبب أنه قد يجزع في هذه الدنيا مما يصيبه من الألم، ويعتقد أنه إذا قتل نفسه أراحها من هذا الهم ومن هذا الغم الذي يلاقيه، وأنه لا يجد بعد ذلك شيئاً يؤلمه، وهذا خطأ كبير، وما ذاك إلا أنه ينتقل إلى ما هو أشد من هذا الألم الذي يحس به، ينتقل إلى غضب الله وعذابه، ينتقل إلى العذاب الشديد بدل العذاب السهل الخفيف الذي يمكن تحمله في الدنيا، سواءً كان هماًأو غماً أو عذاباً بدنياً أو نحو ذلك.
يقولون عنه: إنه لا يتحمل الصبر على هذا الحزن أو على هذا الألم أو ما أشبه ذلك!!
والواجب على الإنسان أن يصبر على ما يصيبه من أذىً أو على ما يصيبه من ألم أو نحو ذلك، وما ذاك إلا لأن الله تعالى يبتلي العباد في هذه الدنيا بأنواع من البلايا ابتلاءً واختباراً لهم، فمنهم من يُبتلى بالجوع والضيق والجُهد، ومنهم من يبتلى بالأمراض والعاهات في بدنه، ومنهم من يُسلط عليه بنو جنسه، ومنهم من يبتلى بالسجن والضرب والمضايقات ونحوها.
فالواجب على الإنسان أن يصبر على ذلك، وأن يتحمل، وأن يرضى بقضاء الله تعالى وقدره، ولو عُذِّب ولو أوذي ولا يقول: إنني لا أتحمل، أريد أن أريح نفسي بالانتحار حتى أسلم من هذه الآلام والعذاب ونحوه.
إنك تتعاطى ما لا يحل لك إذا انتحرت، إنك تتصرف في شيء لا تملكه، إن نفسك ملك لربك وليست ملكاً لك، إنك مأمور بالصبر والتحمل بقدر ما تستطيع، ولو أوذيت غاية الأذى، ولو وصل بك الأذى ما وصل، مأمور بأن تصبر على ذلك، وتعلم أن هذا فيه أجر كبير، فإذا صبرت عليه أثابك، فإما أن يكون هذا الذي أصابك ابتلاء بقوة الإيمان ولضعفه، فإذا صبرت صار إيمانك قوياً، وإما أن يكون عقوبة على ذنوب اقترفتها، فإذا صبرت على ذلك كُفِّرت تلك الذنوب بهذا البلاء وبهذه الأمراض والعاهات ونحو ذلك، وإما أن تكون تلك البلايا والمصائب ونحوها رفعاً لدرجاتك، ونحو ذلك من الأسباب.
إذاً: المسلم إذا ابتُلي صبر كما ورد في الآثار: (عنوان سعادة العبد أنه إذا أعطي شكر، وإذا أذنب استغفر، وإذا ابتُلي صبر) أي: تحمل وصبر على ما يصيبه.
أما هؤلاء الذين إذا حصل عليهم أدنى شيء بادر أحدهم وقتل نفسه، فمثل هؤلاء لم يتحملوا الصبر، ويزعمون أنهم يريحون أنفسهم، وما دروا أن أحدهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، كالذي يفر من الرمضاء إذا أحرقت قدميه، ثم يقع في النار فتحرقه كله! وذلك أن عذاب الدنيا منقطع هين يمكن تحمله، أما عذاب الآخرة الذي هو سخط الله وعقوبته وعذابه الشديد فإنه دائم أبدي سرمدي.
كذلك أيضاً: إذا تُحُقِّق إمام المسجد أن القاتل قتل نفسه فليس له أن يصلي عليه، وأما الذين لم يعرفوا فلهم أن يصلوا عليه.
أما أقاربه ومن له صلة فيصلون عليه، ويدعون له ويترحمون عليه، رجاء أن يخفف عنه هذا الذنب، ولو كان ذنباً كبيراً؛ لأن كثيراً من العلماء لم يخرجوه به من الإسلام، ولم يحكموا بكفره، وتأولوا الأحاديث التي فيها الوعيد الشديد عليه بأنها من باب الزجر والنهي عن مثل هذه الكبائر، ومن باب محافظة الإنسان على حرمة نفسه، وعلى حرمة المسلمين.
ولا شك أن المسلم له حرمة، رُوي أن ابن عمر طاف مرة بالكعبة وقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك! وإن حرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمتك) فالمؤمن له حرمة، ومن حرمته ألا يُتَعدَّى عليه، فإذا كان الله تعالى توعد من قتل نفسَاً بغير حق بأشد الوعيد، فكذلك الوعيد أيضَاً ينصب على من تسبب في قتل نفسه والعياذ بالله.
فننتبه لمثل هذا، ونحذِّر هؤلاء الذين يتساهلون في الانتحار، وما أكثرهم! ولكنهم قليلون -والحمد لله- في البلاد الإسلامية، وإنما يكثرون في البلاد التي يكون الإسلام فيها ضعيفاً أو أنهم يقلدون الدول الكافرة الذين يقتل أحدهم نفسه بأدنى سبب يخالف ما يهواه.
فالأخبار تنقل أن في دولة كذا وكذا: انتحر في هذا الشهر عدد كذا وكذا، قتلوا أنفسهم سواء كانوا رجالاً أو نساء ونحو ذلك، وإذا عرّفنا للناس خطأهم، وبعدهم عن العقل وعن الدين، انتبه الناس لمثل ذلك، فلا يفعل مثل ذلك إلا من هو مسلوب العقل والمعرفة والعياذ بالله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر