عن عائشة رضي الله عنها: أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: (إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي)، وفي رواية: (وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فيها، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي).
وعن عائشة رضي الله عنها: (أن
يتكلم العلماء عليه وذلك لأن له أحكاماً، ولأنه يتعلق به عبادات وأمور في حق الرجال وفي حق النساء، فلذلك يتعلمه الرجال وتتعلمه النساء ليكونوا على بصيرة، ولا حياء في ذكره، ولو كان خاصاً بالنساء، ولو كان يخرج من مخرج البول، ولو كان دماً نجساً ومستقذراً، فلا يستحيا من ذكره ولا من الكلام فيه؛ وأيضاً فهو الأصل في غذاء الإنسان في الرحم فإذا علقت المرأة بالجنين صار ذلك الدم غذاءً لجنينها حيث يتغذى به من سرته، وينمو به جسده، وينبت عليه النبات الذي قدره الله تعالى، فإذا وضعت حملها وخرج الدم المحتبس فإنه يخرج في أيام النفاس، ثم يتوقف دم الحيض غالباً عن أكثر النساء، أين يذهب؟
يقلبه الله لبناً يخرج من الثديين، ولهذا إذا كانت المرضعة ترضع ولدها من ثدييها فإنها لا تحيض غالباً، نعم بعض من النساء تحيض ولكن الأكثر إذا كانت ترضع ولدها أنه يتوقف عنها دم الحيض، ويقلبه الله تعالى لبناً، فإذا فطم ولدها عاد إليها هذا الدم، ثم إذا علقت بحمل ثان توقف الحيض وهكذا.
الأول: تحريم وطء الحائض، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، فأمر باعتزالهن، وعلل ذلك بأنه أذى، فلذلك يحرم وطء المرأة وهي حائض لهذه الآية ولغيرها من الأدلة، ويأتي الكلام حول هذا.
الثاني: تحريم العبادة على الحائض كالصلاة والصوم، يعني: أنها لا تصلي ولا تصوم، ويأتينا أنها تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة، وذلك لحكم نتعرض لها إن شاء الله في شرح بعض الأحاديث.
الثالث: أنه يتعلق به العدة؛ وذلك لقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، فدل على أن له حكماً في اعتداد المطلقة.
الرابع: تحريم الطلاق في حال الحيض، وعللوا ذلك بتعليلات مذكورة في كتب الأحكام، ومنها هذا الكتاب.
ومن الأحكام التي تتعلق بأمر الحيض ما يختص بالنساء:
الأول: المنع من دخول المسجد، فالمرأة إذا كانت حائضاً فلا تدخل المسجد إلا لضرورة.
الثاني: الحائض لا تقرأ القرآن.
الثالث: الحائض لا تمس المصحف وإن رخص لها أحياناً، وغير ذلك من الأحكام.
فلما تعلقت به أحكام كثيرة احتاج العلماء أن يتوسعوا فيه، وقد كتب فيه العلماء مؤلفات حتى إن بعضهم كتب فيما يتعلق بالحيض كتاباً يتكون من مجلدين كبيرين وذكر الخلاف الذي وقع فيه، وذلك دليل على أنه أمر مهم ولو أنه من خواص النساء.
فأرشدها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن هذا عرق، أي: دم عرق وليس هو دم حيض الذي ذكر الله أنه أذى، وأنه خلق لأجل تغذية الجنين ونحو ذلك.
ذكر العلماء في بعض الروايات أن هذا العرق يسمى: العاذل، وهو عرق ينفجر من رحم المرأة، فهو يجري في غير أوانه ويستمر خروجه ولا يتوقف؛ وقد يكون ذلك بسبب مرض في بعض النساء؛ وقد يكون ذلك بسبب قوة بدنها أو كثرة غذائها أو نحو ذلك من الأسباب، فيختلط عليها دم الحيض بدم الاستحاضة.
فالمرأة إذا مكثت مثلاً عشر سنين وهي على عادة مستمرة، بأن يأتيها الحيض سبعة أيام ثم ينقطع وتطهر، ثم يرجع إليها بعد حين ويبقى معها سبعة أيام ثم ينقطع وتطهر وتغتسل، فإذا مكثت على هذا عشر سنين أو أكثر أو أقل تكون عرفت بذلك عادتها، فإذا اختلف عليها الأمر فيما بعد وأطبق عليها الدم فماذا تفعل؟
ترجع إلى عادتها فتجلس قدر أيامها المعتادة ثم تغسل عنها الدم، ثم تغتسل ثم تصلي، ولكن تتطهر من الدم الذي قد يصيب بدنها أو ثيابها وتصلي ولو كان جارياً لم ينقطع، هكذا ورد في هذا الحديث في قوله: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة)، يعني: أن ذلك الدم ليس هو دم حيضة إنما هو دم عرق انفجر.
قوله: (فإذا أقبلت الحيضة) يعني: إذا جاء وقتها الذي تعرفينه (فدعي الصلاة، فإذا ذهب قدرها) أي: قدر الحيضة المعتادة سواء كان خمسة أيام، أو ستة، أو سبعة، (فاغسلي عنك الدم وصلي)، هكذا أمرها.
والنساء يعرفن الدم الذي هو دم الحيض المعتاد، فمنهن من يكون دمها أسود غليظاً فيختلط بأحمر رقيق، فيكون الأسود هو الحيض، والأحمر هو الاستحاضة، ومنهن من يكون دم حيضها أحمر تعرف أنه دم الحيض المعتاد الأحمر، ولكنه متوسط الغلظة ليس بغليظ ولا برقيق، ويكون الدم الذي يخالطه دماً شديد الحمرة أو دماً خفيفاً ليس بغليظ، فتعرف دم الحيض من دم الاستحاضة، وهذه أيضاً تجلس مدة الحيض وتترك الصلاة، ثم تتطهر وتصلي، وتسمى هذه: المميزة، أي: التي تميز دم الحيض عن الاستحاضة.
لذلك يقولون: إن المستحاضة لها ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تكون معتادة وهو معرفتها لعادتها عند كل شهر، فإذا جاءت أيام عادتها تركت الصلاة ثم اغتسلت وصلت بقية الشهر، وسواء كان شهرها هلالياً أو أكثر، يعني: منهن من يكون شهرها عشرين يوماً تحيض منه خمسة أيام وتطهر خمسة عشر يوماً، ثم تحيض خمسة أيام وتطهر خمسة عشر يوماً، ثم تحيض خمسة أيام وتطهر خمسة عشر يوماً، فهذه شهرها عشرون يوماً.
ومنهن من يكون شهرها خمسة وثلاثين يوماً، تحيض سبعة أيام وتطهر ثمانية وعشرين يوماً، ثم تحيض سبعة أيام وتطهر ثمانية وعشرين وهكذا، فيكون شهرها خمسة وثلاثين يوماً، فشهرها هو الذي يأتيها فيه طهر وحيض كاملان.
فإذا كانت قد اعتادت وعرفت أن أيام طهرها خمسة وعشرون يوماً وأيام حيضها سبعة أيام فكان شهرها اثنين وثلاثين يوماً، ففي كل اثنين وثلاثين يوماً طهر وحيض، فتجلس بضعة أيام وتصلي خمسة وعشرين يوماً وهكذا، وهذه تسمى: المعتادة التي عرفت عادتها.
ولكن قد يوجد في النساء من لا تميز، بل يختلط عليها الدم فلا تعرف هذا من هذا، ولا تميز رقيقاً من غليظ ولا أحمر من أسود، وليست عادتها مطردة بل تتقدم وتتأخر، تارة في أول الشهر وتارة في وسطه وتارة في آخره، أو أنها تارة تستمر خمسة وتارة ستة وتارة سبعة، فليس لها عادة بينة مستقرة، فمثل هذه تسمى المتحيرة، وهي التي لم تعرف ماذا تفعله.
فمثل هذه تجلس عادة نسائها، كأمها وجدتها وأختها وخالتها ونحوهن، فإذا كانت عادتهن سبعة أيام جلستها من كل شهر هلالي، فكلما دخل الشهر الهلالي جلست ستة أيام أو سبعة أيام قدر عادة نسائها واغتسلت بقية الشهر الهلالي وصلت فيه، ويحكم بأن شهرها هو من أول الشهر الهلالي إلى آخره.
وهناك سبب آخر موجود في هذه الأزمنة، وهو أن الكثير من النساء تركب ما يسمى باللولب الذي تقصد به منع الحمل، ثم هذا اللولب يكدر عليها أيضاً عادتها، بحيث إن الدم يخرج قليلاً ولكنه يزيد في المدة، فبدل ما كانت تحيض سبعة أيام يكون حيضها عشرة أيام أو نحو ذلك؛ بسبب تقليل خروجه من استعمال اللولب ونحوه، فيكون هذا أيضاً من الأسباب التي تغير على النساء عادتهن.
ففي حالة استعمالها للحبوب وفي حالة استعمالها للولب نقول: ما دام الدم دم حيض فدعي الصلاة ولو زاد، فإذا كان يأتيها الحيض قبل تركيب اللولب سبعة أيام وبعد تركيبه عشرة أيام فإنها تجلس العشرة كلها؛ لأن أول الدم وآخره سواء، ومن المشايخ من يقول: بل لا تزيد عن عادتها التي هي السبعة الأولى؛ وذلك لأن هذه الزيادة ما حصلت إلا بسبب هي التي فعلته؛ فلا تترك الصلاة لأجله، أي أنهم يقولون ذلك من باب الاحتياط، مع أن أول الدم وآخره سواء لا فرق بين اليوم الأول والآخر في كون هذا دماً وهذا دماً، وهذا جارياً وهذا جارياً، ولا زيادة لهذا ولا نقص.
وأما تأخر الحيض بسبب تعاطي حبوب المنع، فلا شك أنها إذا تأخرت فإنها تصلي، وتستعمل النساء هذا المانع لتأخير الحيض أو لمنع الحمل أو نحو ذلك، فإذا توقف ولم يجر معها شيء قلنا: لا تترك الصلاة ما دام أنها لم يخرج منها دم، ولكن إذا تركت موانع الحيض ورجع إليها الدم، نقول: ما دام أنه رجع وهو بصفته فإنها تترك الصلاة لوجود المانع الذي هو الحيض.
في الحديث أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تغتسل فكانت تغتسل لكل صلاة.
فالنبي أمرها أن تغتسل؛ ولكن متى؟ أمرها أن تغتسل بعد أيام حيضها وبقية الأيام تتوضأ، كما أمر فاطمة بنت أبي حبيش أن تتوضأ لكل صلاة، والصحيح أنه لا يلزمها أن تغتسل لكل صلاة لما فيه من المشقة، ولكن فعلت ذلك أم حبيبة من باب الاحتياط، حيث عرفت أنها ستصبر على المشقة ولو كان في ذلك ما فيه، فكانت تغتسل لكل صلاة.
وفي بعض الروايات (أنه عليه الصلاة والسلام أرشدها إلى أن تجمع بين الصلاتين -جمعاً صورياً- وتغتسل لهما)، وذلك بأن تؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل لهما غسلاً واحداً فتؤدي الظهر في آخر وقتها والعصر في أول وقتها، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل غسلاً واحداً تصلي به المغرب في آخر وقتها والعشاء في أول وقتها، وتغتسل للفجر، فتغتسل كل يوم ثلاث مرات وذلك أخف من خمس، فإن شق ذلك عليها اقتصرت على أن تتوضأ ولكن عندما تريد الصلاة.
ومع جريان الدم عليها أن تتحفظ فتغسل فرجها وتعصبه، وفي هذه الأزمنة توجد الحفائظ التي تلبسها النساء، بحيث إنها تمنع الخارج من أن يلوث ثيابها أو بدنها، فإذا تحفظت بهذه الحفائظ صلت ما شاءت ما دام الوقت باقياً، فتصلي فروضاً ونوافل، فإذا دخل الوقت الثاني جددت الوضوء بمنزلة صاحب السلس الذي حدثه دائم، فإنه يتوضأ لكل صلاة.
كذلك المستحاضة تتوضأ لكل صلاة عملاً بحديث فاطمة بنت أبي حبيش الذي في البخاري: (أنه أمرها بأن تتوضأ لكل صلاة)؛ وذلك لأن هذا حدث مستمر عفي عنه في الوقت للمشقة، يعني: أنه قد يخرج وهي في نفس الصلاة، فلو أمرناها أن تقطع الصلاة لشق عليها، فكان ذلك سبباً في التخفيف عليها في الصلاة.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكأ في حجري وأنا حائض، فيقرأ القرآن) .
وعن معاذة بنت عبد الله قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: (ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟! فقلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، فقالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)].
هذه الأحاديث رويت عن عائشة رضي الله عنها، في هذا دليل على أنها رضي الله عنها اهتمت بما يختص بالنساء كالحيض ونحو ذلك، فنقلت للأمة هذه الأحكام وهذه الفوائد؛ لتكون نبراساً ونوراً يسيرون على نهجه.
فذكرت: (أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد كلاهما جنب) فاستدل العلماء بذلك على جواز غسل الرجل وامرأته من إناء واحد، وقد ذكرت: أنهما تختلف فيه أيديهما، وأن ذلك الإناء يقال له: الفَرَق يسع ثلاثة آصع، حتى إذا كان في آخره يقول: (دعي لي وتقول: دع لي، أي: اترك لي بقية.
فيجوز للزوجان أن يغتسلا معاً، وكانت البيوت في ذلك الوقت ليس فيها أنوار ولا مصابيح، فيكونون في زاوية من الحجرة ويتجردان وكلاهما على جانب من الإناء، فكلاهما يغترف ويصب على رأسه وجسده ويدلكه إلى أن يعمم جسده بالماء؛ لتطهيره من الجنابة، فلا بأس بذلك، مع أنه يجوز للزوجين أن ينظر كل منهما إلى عورة الآخر، فالزوج له أن ينظر إلى جسد امرأته وكذلك المرأة لها أن تنظر إلى جسد زوجها كله، ولذلك قالت عائشة : (لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه)؛ لأنه يحل لهن أن يكشفن على جسده. ومع ذلك ما دام أن كلاهما جالس وكلاهما يغترف وكلاهما مقابل للآخر، والمكان ليس فيه ضياء ولا نور، فلا يلزم أن تبدو العورة.
وقد أمر المغتسل بأن يتستر عن أعين الناس حتى ولو كان في الصحراء (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال عرياناً؟ فقال: الله أحق أن يستحيا منه) يعني: إذا كان الإنسان في الصحراء فإن عليه إذا تجرد أن يستر عورته بإزار أو بنحو ذلك؛ لأنه قد يفاجأ بمن ينظره، أو يستحيي من الله أن ينظره على تلك الحال، وإن كان الله لا يخفى عليه منه خافية.
وقد ذكر أن اليهود كانوا إذا حاضت فيهم المرأة اجتنبوها فلم يؤاكلوها ولم يجالسوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (افعلوا كل شيء إلا النكاح) يعني: افعلوا المباشرة والمؤاكلة والمجالسة والمؤانسة والمحادثة.. ونحو ذلك.
وقد ثبت: (أنه عليه الصلاة والسلام أمر
فإذا كان بدنها طاهراً فلا بأس أن يضطجع الرجل إلى جانب زوجته وهي حائض، وأن تمس بشرته بشرتها، وله إذا باشرها أن يضمها ولو أنزل، إلا أنه لا يقرب من الفرج الذي هو محل الأذى، فإن المنع منه في الحديث: (افعلوا كل شيء إلا النكاح).
فثبتت هذه الأحاديث في أنه عليه الصلاة والسلام كان يباشر نساءه وهن حيض، ولا يمنعه الحيض من مباشرتهن بما فوق الإزار، وأباح ذلك لأمته، ولا ينافي ذلك قول الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ [البقرة:222] فإن المراد: لا تقربوا المكان المستقذر الذي هو محل خروج الأذى.
وفيه دليل على أن المعتكف إنما منع من المباشرة التي هي الوطء كما في قوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، فأما مجرد لمسها لبشرته لحاجة من غير شهوة، فلا ينافي ذلك الاعتكاف.
ولكن العلماء أباحوا لها ذلك للحاجة كما إذا خشيت أن تنسى ما حفظته فلها أن تتذكره، ولها أن تمره على قلبها دون قراءة، ولها أن تنظر إلى المصحف وتتبعه نظرها دون أن تمسه ودون أن تنطق به نطقاً ظاهراً.
وأما مسها للمصحف فلا يجوز؛ وذلك لأن عليها هذا الحدث.
وكذلك لها أن تقرأ الآيات التي فيها أدعية على أنها دعاء لا على أنها تلاوة، كقراءة آية الكرسي على أنها دعاء أو ورد أو حرز، وقراءة أواخر سورة البقرة وما فيه دعاء كقوله سبحانه: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً [البقرة:201]، أو: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا [آل عمران:8]، وما أشبه ذلك من الآيات التي فيها دعاء، فلا يدخل ذلك في النهي.
ولها إذا طالت المدة كمدة النفاس أن تقرأ ما تخشى أن تنساه لتتذكره.
وأبيح في هذه الأزمنة أن تحضر وقت الاختبارات إذا كانت طالبة في إحدى المدارس، وأن تجيب وأن تكتب أو تقرأ إذا كان الاختبار في قراءة أو نحو ذلك للحاجة؛ وذلك لأن الضرورات تبيح المحظورات.
وأما قراءة زوجها وهو معتمد عليها ومستند إلى صدرها كما في حديث عائشة هذا الحديث فلا شك في إباحته، ولا ينافي ذلك كونها حائضاً.
وإنما أشكل عليها ذلك لأن الصلاة أهم الأركان بعد التوحيد، بل هي عمود الدين، فقالت: لماذا لا تقضي الصلاة كما تقضي الصوم؟ ولما سألت عن ذلك، قالت لها عائشة: (أحرورية أنت؟ فقالت: لست بحرورية ولكني أسأل).
الحروريون من الخوارج، وقد كانوا يلزمون الحائض بأن تقضي الصلاة بعد طهرها، وذلك من تشددهم، والخوارج هم الذين خرجوا في عهد علي رضي الله عنه في سنة ست وثلاثين، اجتمع منهم جموع كثيرة بلغت نحو اثني عشر ألفاً ونزلوا في قرية من العراق اسمها حروراء، فينسب إليها كل خارجي وإن لم يكن من أهل حروراء.
لم تذكر عائشة العلة من قضاء الصوم دون الصلاة، لكنها اقتصرت على الدليل وقالت: (كان يصيبنا ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: الحيض والنفاس- فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة)، والذي إليه الأمر هو النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه الذي أخبر بأن المرأة عليها تكاليف، وأن بعض تلك التكاليف تتركها وقت حيضها، وأن منها ما يقضى ومنها ما لا يقضى.
وهذا الخارج وإن لم يكن مما يتغذى به، لكنه مما يضعف البدن وينهكه، لذلك أمرت بأن تفطر في رمضان، ولكن عليها أن تحصي أيامها التي أفطرتها ثم تقضيها بعد رمضان.
وأما الصلوات التي تركتها فلا قضاء عليها؛ وسبب ذلك أن إفطارها يعتبر كإفطار المريض وإفطار المسافر وأصحاب الأعذار، ومعلوم أن أصحاب الأعذار يفطرون ويحصون أيامهم ويقضون؛ لقول الله سبحانه وتعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، فكذلك الحائض تقضي عدة أيامها التي أفطرتها من أيام أخر، وليس في قضاء الصوم صعوبة ولا مشقة؛ لأنها أيام قليلة وليس هناك صيام بعد ذلك، فالصيام إنما هو شهر واحد، وليس في شهر شوال صيام إلا التطوع، وكذلك الأشهر بعده، فلا مشقة في قضاء أيام الصوم.
أما الصلاة فإنها تتكرر وفي قضائها شيء من الصعوبة؛ لأنها قد تكثر، فالحائض قد تترك الصلاة عشرة أيام، حيث إن الحيض قد يبلغ بإحداهن عشرة أيام وربما اثني عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً متوالية، فيكون نصف دهرها حيضاً، فإذا ألزمناها بأن تقضي صلاة خمسة عشر يوماً شق ذلك عليها، وكذلك صلاة أربعين يوماً في النفاس فمتى تقضيها؟! مع ما قد يعتريها من الأشغال والأمراض ونحو ذلك، فمن رحمة الله أن أسقط عنها قضاء الصلوات أيام حيضها ونفاسها، واكتفى بصلاة الأيام الأخرى، فإنها إذا طهرت صلت كما يصلي غيرها.
فالصلاة متكررة، يعني: كونها تركت صلاة تسعة أيام أو سبعة أو خمسة ثم طهرت، فاليوم الذي يلي الحيض تصلي فيه خمس صلوات، وهكذا كل يوم تصلي فيه خمس صلوات، مع ما يتيسر لها من النوافل، فإذاً لا مشقة في قضاء الصوم بخلاف قضاء الصلاة فإن فيه مشقة، والمشقة تستدعي التيسير والتسهيل، وبهذا علل العلماء، لكن عائشة رضي الله عنها لم تعلل وإنما اقتصرت على الدليل حيث قالت: هكذا كان يصيبنا في العهد النبوي ولا نؤمر إلا بقضاء الصوم دون الصلاة.
والعلماء رحمهم الله ذكروا إلى جانب هذا الدليل التعليل؛ لأن التعليل في شيء من القناعة، ولأن الإنسان إذا سمع التعليل للحكم وللمسألة عرف الحكمة من مشروعية ذلك، وأن الشريعة ما أمرت بشيء إلا وفيه مصلحة ومنفعة محققة، هكذا بين العلماء.
من ذلك نعرف أن أحكام الحيض والاستحاضة قد فصلت وذكرت في الكتاب والسنة، منها ما هو مجمل ومنها ما هو مفصل، ولكن العلماء رحمهم الله استنبطوا من ذلك جميع المسائل التي يمكن أن تقع للنساء وذكروا أحكامها في أبواب الفقه، وبينوا للناس ما تحتاج إليه المرأة في أيام حيضها بحيث لا يقع إشكال إلا ويوجد جوابه في تلك الكتب،رحمهم الله وعفا عنهم!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر