إسلام ويب

تقويم الله لغزوة أحد [4]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعد مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه خرج بهم إلى أرض المعركة ورتبهم ترتيباً محكماً، وجعل الرماة يحمون ظهر المسلمين، وبدأت المعركة وانهزم المشركون في أول الأمر. نزل الرماة لجمع الغنائم وحصلت المخالفة فتحولت المعركة واستدارت لصالح المشركين واستشهد عدد كبير من المسلمين، وبين الله في كتابه أسباب الانهزام، والتي كان منها الفشل وضعف العزيمة، وكذا التنازع والاختلاف، وعصيان أمر الأمير وحب الدنيا على الآخرة، وهذا من حكمة الله في الابتلاء والتمحيص، وإلا فقد وعد سبحانه وتعالى عباده بالنصر والتمكين إذا تحققت فيهم مؤهلات النصر.

    1.   

    وقائع وأحداث غزوة أحد

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يرى الخروج لقتال المشركين يوم أحد خارج حصون المدينة، وإنما كان يرى قتالهم من داخل الحصون؛ لعدم استعداد المسلمين إذ ذاك للقتال؛ لضعف عدتهم وقلة عددهم، ولكن شباب المؤمنين لحماسهم رأوا الخروج، فلما تكاثر رأيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل إلى رأيهم، وذلك من رحمته وحسن خلقه، وأنه لما قيل لهم ذلك، وقد دخل يغتسل ويلبس سلاحه، فخرج، قالوا: ( لعلنا استكرهناك على أمر لم تكن تريده، فقال: أجل. فقالوا: إنما لك الرأي في ذلك، فقال: ما كان لنبي إذا لبس لأمة الحرب أن يخلعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه).

    خروج الجيش وترتيبه

    فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهة أحد في مواجهة العدو، ورتب المؤمنين: فجعل خمسين من الرماة المشاهير على الهضبة، وأمر عليهم عبد الله بن جبير، لينضحوا الخيل عن المدينة، وليحولوا بين جيش قريش وبين أن يدخل إلى البيوت، وكان هو في مواجهة المشركين هو وأصحابه، وكان يصفهم للقتال، وقد حضر هذه المعركة من المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعمائة رجل، وكان خرج معه إليها ألف وأربعمائة، لكن رجع ابن أبي بنصف الجيش (وهم من المنافقين)، رفع لهم لواءً، فقال: من لا يريد الحرب فليجلس تحت هذا اللواء، فذهب إليه نصف الجيش، وهم المنافقون، عدلوا إلى عبد الله بن أبي ابن سلول، لكن منهم من تاب بعد وحسن إسلامه، فارتفعت عنه صفة النفاق؛ لأنها من الصفات التي تمكن التوبة منها، ومنهم من استمر على نفاقه، نسأل الله السلامة والعافية؛ كـعبد الله بن أبي ومن معه.

    غلبة المؤمنين وانتصارهم في أول الأمر

    فلما واجه النبي صلى الله عليه وسلم المشركين كانت هذه المعركة تأخذ ألوانًا شتى، ففي أول الأمر كانت الغلبة للمؤمنين، وحقق الله لهم وعده الذي وعدهم، فإن الله تعالى وعد المؤمنين بالنصر، فقال: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ[الحج:40]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد:7].

    وقد وعدهم بالغلبة على المشركين، فقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[المجادلة:21].

    المخالفات الشرعية التي أدت إلى تحول المعركة

    فكانت الغلبة في بداية الأمر للمؤمنين، ثم بعد ذلك حصل منهم مخالفات شرعية أدت إلى تحول الموقف وانقلاب الريح، فمنها:

    عصيان الرماة لأمر أميرهم، ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم حين تركوا موقعهم، ودخلوا في الناس يجمعون الغنائم.

    ومن ذلك أيضًا: أن بعض الغازين كانوا يريدون الدنيا، فهم يقاتلون من أجل الغنائم، وإن كان عدد أولئك قليلًا يسيرًا.

    ومن ذلك أيضًا: أن بعض المؤمنين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم للقتال، فانهزموا عنه، فلم يكونوا يستمعون إليه، فانقلبت الدائرة، وقتل عدد كبير من المؤمنين، وهم أربعة وسبعون رجلًا، وجرح عدد كثير منهم، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكسرت رباعيته، وضربه ابن قمئة بالسيف في جبهته، فدخلت حلقة من حلقات مغفره في جبينه.

    وحفر أبو عامر الفاسق حفرًا، فوقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحداها، فجحشت ركبته.

    تثبيت الله للمؤمنين بالنعاس

    ومع ذلك دار الأمر أيضًا، فثبت الله المؤمنين بما أنزل عليهم من النعاس والأمن، فاستدار المشركون منهزمين وراءهم، وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر رجلًا وامرأة واحدة، فقاتلوا المشركين حتى كشفوهم وردوهم على أدبارهم، وكان المشركون إذ ذاك ثلاثة آلاف مقاتل، وقد قتل منهم ثمانية وأربعون، منهم حملة اللواء، وهم تسعة.

    ثم بعد ذلك نزلت توبة الله تعالى على أولئك المنهزمين من المؤمنين، وعفا الله عنهم، فهذا يوم واحد، ووقت واحد من أوقات المعركة حصل فيه كل هذه الأمور، مما يدلنا على سرعة تغيير أمر الله تعالى لهذا الكون.

    فهذا الكون كله يظن كثير من الناس أنه يرتبط بالأسباب، والأمور الاعتيادية، ويظنون أنه لا يمكن أن يتغير إلا بعد قرون من الزمن، وأن الأمر لا يأتي إلا بالتدريج الطويل الأمد، لكن أمر الله بين الكاف والنون.

    فلذلك يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل، كما أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله قيوم لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل، حجابه النور)، وفي رواية: (النار)، وفي رواية: (قد احتجب بسبعين حجابًا، حجاب نور، وحجاب نار، وحجاب نور، وحجاب نار، لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من الخلق).

    فعظمة الله سبحانه وتعالى تقتضي تقديره لهذا العالم كله، وتدبيره له، وتنفيذه لما أراد فيه، من دون الأسباب أصلًا، فالأسباب كلها خاضعة لسلطانه، وهي في يده يقلبها كما يريد، فهذا اليوم الواحد حصل فيه كل هذه التنوعات في المواقف والأحوال؛ فلذلك قال: وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ[آل عمران:152].

    و(قد) تحقيقية، واللام التي معها للقسم، معناه: إن ذلك قد وقع بالفعل: وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ[آل عمران:152]، فالله لا يخلف الميعاد، فانتصر المؤمنون، وقتل حملة اللواء، وانهزم المشركون، كل ذلك كان في أول المعركة: وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ[آل عمران:152]، وهذا الوعد هو المعروف بنصرته لكل من نصره، وبنصرته للمؤمنين على المشركين.

    متى كان ذلك؟ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ[آل عمران:152]، معناه: حين كنتم تحسونهم؛ أي: تقطعون رءوسهم وتقتلونهم قتلًا ذريعًا.

    بإذنه؛ أي: بأمر الله سبحانه وتعالى، وإعانته لكم عليهم.

    1.   

    أسباب هزيمة المسلمين في معركة أحد

    ثم انقلب الموقف، فقال: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ[آل عمران:152].

    الفشل وضعف العزيمة

    هذا الموقف الثاني، وهو ما حصل من الخلل من جيش المؤمنين، وأسبابه أربعة، بينها، قال: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ[آل عمران:152]، فأول ذلك: ما يقع في النفوس من نقض العزائم، وهذا هو الفشل.

    فالفشل: هو ما يدب في النفوس من الوهن ونقض العزائم، فالمؤمنون ما دامت عزيمتهم قوية، وما دامت شخصياتهم على المستوى المطلوب بالانتصار بالله سبحانه وتعالى، والتوكل عليه، وما داموا مقبلين على ما عاهدوا الله عليه، لا بد أن ينتصروا، لكن إذا تراجعت العزائم وكلت النفوس لا بد أن يأتي الفشل، فيدب الوهن في النفوس، وحينئذٍ ستتراجع النصرة، ويرجع الموقف عما كان عليه: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ[آل عمران:152].

    الخلاف والتنازع

    الأمر الثاني: وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ[آل عمران:152]، فالمؤمنون قوتهم الأولى بعد توحيد الله سبحانه وتعالى، والإيمان به، هي اجتماع الكلمة، فما دامت كلمتهم واحدة، فإنهم لا يغلبون؛ لأن الجمع إنما هو باعتبار حملته، فإذا كان العدد من الناس على قلب رجل واحد، فإنهم يحملون حملة رجل واحد، وحينئذٍ لا يشترط فيهم كثرة العدد ولا قوة العدد؛ لأن ألفة القلوب واجتماعها كافية من ذلك.

    وقد سبق قول أبي الطيب المتنبي:

    سأطلب حقي بالقنا ومشايخ كأنهم من طول ما التثموا مرد

    ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا كثير إذا شدوا قليل إذا عدوا

    فهم قليل إذا عدوا، ولكنهم كثير إذا شدوا، فكلمتهم واحدة؛ ولهذا جاء كثير من النصوص الشرعية التي تحض على اجتماع الكلمة، وتنفي الخلاف.

    وقد حرم الله تعالى أسباب الخلاف بين المسلمين، فذكر منها في سورة الحجرات ثلاثة عشر سببًا، وحرمها جميعًا، وقد سبق بيانها، فكل ما يؤدي إلى النزاع، ولو كان ذلك للاختلاف في الرأي الذي يتعصب له صاحبه، فهو مذموم؛ لأنه تترتب عليه النتائج الوخيمة، ومن هنا: لا بد أن يحرص الإنسان على تقديم الأمر العام، وعلى تقديم اجتماع الكلمة على رأيه هو، فلا بد أن يضع بين يديه ميزانًا، في إحدى كفتيه رأيه هو وما يترتب عليه من النتائج، وفي الكفة الأخرى جمع الشمل واجتماع الكلمة، ولا شك أن الكفة التي فيها جمع الشمل واجتماع الكلمة سترجح على رأي الإنسان حتى لو ترتبت عليه فوائد عظيمة؛ لأن رأيك أنت لا يعدو أن يكون نتاج عقل واحد قاصر، ليس وحيًا نزل به جبريل من عند الله تعالى.

    ومن هنا، فما يترتب عليه من الفوائد والمصالح ينبغي أن تعزله عن نفسك، فتتجرد منه؛ لأن العمل الجماعي المشترك لا يمكن أن يكون إنسان فيه مالكًا لرأيه، بل الرأي مشترك، كما قال زهير: (الرأي مشترك)، الرأي بين الجميع، فإذا أبرزت رأيًا من الآراء، فلم تعد مالكًا له، ولا بد من تجردك عنه؛ لأن تعصبك لذلك الرأي يؤدي إلى انغلاقك عن الآراء الأخرى، وعدم أخذك بها بالكلية، وسيكون ذلك سببًا لمعصيتك، ومخالفتك للآخرين، وذلك سبب للفشل والخلل.

    ومن هنا، فإن أعداء الله إذا أرادوا غزو المسلمين، يبدءون أولًا بالتفريق بين كلمتهم، فيبثون بينهم السموم والفتن، حتى إذا تفرقت القلوب، ولم تجتمع على رأي واحد، حينئذٍ استطاعوا أن يضربوا بعضهم ببعض.

    ففي الأندلس: كان النصارى يدفعون الجزية إلى بعض الأمراء، ثم يتقربون إلى بعض بدفع أكثر مما فرض الله عليهم من الجزية، فيغار بعضهم من بعض، فيختلفون فيما بينهم، فإذا اختلفوا فيما بينهم، استعان النصارى ببعضهم على بعض، حتى سقطت الأندلس في أيديهم، وزالت منها دولة الإسلام.

    ومثل ذلك: ما حصل أيضًا بصقلية وفي قبرص، فلم تسقط هذه البلدان من بلاد الإسلام التي فتحها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد حصول الخلاف، والمشكلات، ومن هنا، فإن واقع المسلمين اليوم أيضًا دليل على هذا، فأعداء الله لما أرادوا غزو البلاد الإسلامية، بثوا السموم والعداوات بين المسلمين أولًا، حتى إذا دب الخلاف بين النفوس، وتهيأت النفوس للانفصال، حينئذٍ دخلوا غازين، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه دون استنكار.

    ومن هنا، فإن بلفور لما وعد اليهود بدولة في فلسطين، أراد قبل ذلك أن يبث الفتن بين المسلمين، فسعى لإخراج الحسين بن علي الذي كان أميرًا على مكة إلى الشام، وسماه قائد الثورة العربية، وهو يريد بذلك الثورة على الدولة العثمانية، ليقع الخلاف بين العرب والأتراك، حتى إذا وقع الخلاف بين العرب والأتراك، ومن المعلوم أن الثورة العربية فاشلة؛ لأنها ليست ثورة على المستعمر، بل هي ثورة تأتي بالمستعمر، هي ثورة على الدولة الإسلامية، وعلى الخلافة العثمانية، وهدفها ليس التحرر من غزو الكفار، بل ستدخل الكفار، كما حصل لهذه الثورة العربية.

    فأول ما جاء الحسين إلى فلسطين هو وأولاده أراد أيضًا أن يخالف بينه وبين أولاده، فاختلفوا، فسعت بريطانيا لتمليك ابنه فيصل على العراق، فكان ملكًا على العراق، وتمليك ابنه عبد الله على فلسطين وبعض بلدان الشام، فوصل إلى ذلك.

    ثم خالفوا بين الأخوين، فدب الخلاف بينهما، ثم بعد ذلك استعان الذين في الشام بالفرنسيين حتى احتلوا دمشق ولبنان، وبالإنجليز حتى ملكوا فلسطين والأردن، ثم غزا الإنجليز العراق، وكان المسلمون إذ ذاك ضعفاء، فكان شبابهم لا يتمسكون بالدين، ولا بتاريخ الأمة، بل يبحثون عن الحركات التحررية المعاصرة، ووجدوا أن الذي يقف في وجه الإنجليز إذ ذاك، وفي وجه الحضارة الرأسمالية، هم الشيوعيون البلشفيون، فأخذوا بحضارتهم، وانساقوا وراءها، كما قال شاعرهم إذ ذاك، وهو معروف الرصافي:

    للإنجليز مطامع في أرضكم لا تنتهي والحل أن تتبلشفوا

    الحل عنده: هو البلشفية الشيوعية، ومن المعلوم أن هذه البلشفية لا تأتي بخير؛ فلذلك لم تستطع الوقوف في وجه المد الرأسمالي، ونحن نشهد ذلك اليوم بعد سبعين سنة من استمرار البلشفية قد سقطت ولم يبقَ لها أثر، وبقيت أثرًا بعد عين، وانهزمت؛ لأنها تحمل عوامل الهدم في ذاتها.

    ثم بعد أن قسموا العالم الإسلامي إلى دويلات، استطاعوا احتلال فلسطين، وكذلك الحال اليوم، فبعد تقطيع العالم الإسلامي إلى دويلات، أصبحت بلاد الإسلام تتساقط من أطرافها، تنقص من أطرافها، فسقطت الجزر الشرقية، مثل: تيمور الشرقية من إندونيسيا في العام الماضي، وها هي اليوم جزر الملوك تقوم فيها الثورة الصليبية النصرانية لسقوطها، وهكذا في أطراف البلدان الإفريقية، فما تسمعون من القتل في هذه الأيام في نيجيريا في صفوف المسلمين على أيدي النصارى، وما حصل كذلك في ساحل العاج في أواخر العام الماضي، وفي سيراليون، وفي ليبيريا، كله بهذا التخطيط الوافد الذي جاء بالغزو الأمريكي، وخطط له أعداء الإسلام، يريدون الوقيعة بين هذه الشعوب، ويشغلون بعضها عن بعض، فأنتم الآن كأنكم لا تعلمون بما يحصل من القتل في جيرانكم من الأفارقة، وكأنكم لا تحسون بالنهب، والتشريد، والأذى الذي يلحقهم، وكأنكم لا تحسون أيضًا بما يحصل لإخوانكم في إندونيسيا، وهكذا في كل بلدان الإسلام التي فيها جراح عميقة، كما حصل في الشيشان، وفي البوسنة، وفي كوسوفا، وفي كشمير، وفي أفغانستان، وفي العراق الآن، كل ذلك بعد حصول التفرقة، والشحناء، والبغضاء بين المؤمنين، فلم يعد بعضهم ينتصر لبعض، ولا يحس بالخطر يتهدده إذا وصل إلى أخيه، وأنتم تعلمون القصة التي يذكر فيها شأن الثيران الثلاثة:

    حيث قال أحد هذه الثيران: أكلت يوم أكل الثور الأبيض، فكان الثور الأبيض أقوى هذه الثيران، وكان إذا أراد الأسد الاعتداء على الثيران دافع عنها، ولكن قانون الغابة سعى للتفريق بين الثيران، فتخاذلت الثيران، وانفصلت عن الثور الأبيض، فاجتمعت عليه أسود الغابة، فقتلته، وحينئذٍ ذلت الثيران؛ لأنها لم يعد يوجد من يدافع عنها، فقال الحكيم منها: أكلت يوم أكل الثور الأبيض.

    كذلك الحال بالنسبة لهذه الأمة، أكلت يوم أكل الثور الأبيض؛ أي طرف من أطرافها يسقط، إذا سكتت واستسلمت، فستؤكل جميعًا؛ لأنها لا يدافع عنها إلا وحدتها، وقوتها، وليس دولة منها قادرة على الدفاع عن شعبها، ومقدراتها، وأملاكها؛ ولهذا فإن صاحب أهل الأندلس كان حكيمًا حين نبه المسلمين على الواقع الذي حصل هنالك، فقد قال:

    ما ذا التفرق في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان

    فبين حال الأندلس وما حصل فيها من تهديم المساجد، ومن اغتصاب المؤمنات، ومن إراقة الدماء، ومن إغراق المكتبات في الأنهار، وكل ذلك يغفل عنه المسلمون، وكأنهم ما علموا به، ولا سمعوا به.

    فلما سكتوا عن هذا لابد أن يصل إليهم ذلك؛ لأن هذا من تنبيه الله تعالى وتدبيره، فمن سكت عنه ولم يدفع ولم تأخذه حمية الدين، ولم ينصر الله ورسوله، لا بد أن يصاب بعين ما أصيب به غيره، فيصل إليه ذلك عن كثب.

    وقد ذكرت لكم من قبل: أنه حين احتلت الجزائر، حين احتلها الفرنسيون في سنة ألف وثمانمائة وثلاثين، لم يكن المؤمنون في المغرب، وفي تونس، وفي هذه البلاد يهتمون بشأنها، بل قد كان بعض قادتهم إذ ذاك يدعمون الفرنسيين، كما جاء في سؤال الأمير عبد القادر للشيخ محمد عليش، وقد أجابه عليش، وأجابه التسولي، وفتوى عليش مطبوعة في كتابه (فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك)، وهي تحت عنوان (أسئلة الأمير عبد القادر من الجزائر)، فقد سأله عن حكم نصرة النصارى ومساعدتهم على المجاهدين، وأن بعض ملوك البلدان يهدي النفقات والسلاح للنصارى، ويعينهم بذلك على المجاهدين، وأن بعضهم أمراء القبائل يدلهم على أماكنهم وأماكن وجودهم في الجبال، فأفتى الشيخ محمد عليش رحمه الله تعالى، وكذلك علماء المسلمين الذين لا يخافون في الله لومة لائم إذ ذاك، أفتوا: بأن من فعل ذلك فهو خارج عن الملة؛ لأنه قد ظاهر أعداء الله على المسلمين، وبذلك يكون كافرًا وخارجًا عن الملة، بدليل قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ[المائدة:51]، وبدليل قوله تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ[المائدة:81].

    فقد أفتى بنظير ذلك: التسولي رحمه الله أيضًا وفتواه مطبوعة منشورة، ثم إن المفتين الذين لا يقدرون هذا الواقع يفتون في المسائل الجزئية، ويتركون الواقعة الكبرى الكلية، فالشيخ محمد النيفر رحمة الله عليه أفتى فتوى تختلف تمامًا عن فتوى عليش والتسولي، لكن الأثر المترتب سيتضح لكم جليًّا، فـعليش رحمه الله لما دخل الإنجليز مصر حبسوه؛ لأنه مناصر لثورة عرابي، فمات في السجن وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، مات في سجن الإنجليز صائمًا في رمضان بعد أن تجاوز ثلاثًا وتسعين سنة.

    والشيخ محمد النيفر فتواه فيها: أن شهود الجزائر وقضاة الجزائر لا تقبل شهادتهم، ولا أحكامهم، فذكر أنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: الذين دخلوا تحت حكم الفرنسيين، وأخذوا الجنسية الفرنسية، وهؤلاء موالون للكفار، فهم خارجون عن الملة بذلك.

    والنوع الثاني: الذين ضعفوا، وسكتوا، واستقروا تحت حكم الفرنسيين، وهم قادرون على الهجرة، وقد وجبت عليهم فلم يهاجروا، فهم عصاة شهادتهم مردودة.

    والقسم الثالث: وهم الذين لم يرضوا بذلك، وهم الضعفاء الذين لا يستطيعون الهجرة، ولا يستطيعون جهاد الفرنسيين، وهؤلاء غير معلومين، ولا معروفين، فترد شهادة الجميع، هذا مقتضى فتوى الشيخ محمد النيفر رحمة الله عليه، لكن بعد ذلك بخمسين سنة احتلت تونس، فاحتلها الفرنسيون بعد هذا بثلاث وخمسين سنة، وكان ذلك سنة ألف وثمانمائة وثلاث وثمانين، فلما احتلت تونس لم يهاجر فقهاؤها، فكانوا في نفس الواقع الذي أفتى فيه النيفر بالنسبة للجزائر، فيمكن أن تطبق عليهم نفس الفتوى إذ ذاك.

    وهذا الحال أيضًا لم تسلم منه بلادنا، فعندما جاء الفرنسيون إلى هذه البلاد لاحتلالها، أرادوا في البداية حصول الضغائن والخلاف، فكانوا سببًا في المعركة التي كانت تسمى بالمعارك الأهلية التي حصلت بين القبائل، فكانوا يساعدون بعض القبائل بالسلاح على بعض؛ لتقع معارك جانبية بين القبائل، ليست لنصرة دين، وليس فيها دفاع عن حوزته، وليس فيها حماية لبيضته، فتراق فيها الدماء في غير طائل، والمستعمرون دائمًا يحبون الحروب الأهلية، ويحبون أن تقع الضغائن والمشكلات بين الناس؛ لأن هذا مما يمكن لهم؛ ولذلك كان من سياسة الإنجليز: (فرق تسد).

    فلهذا لم يدخلوا البلاد حتى فرقوا بين الناس بالحروب، وساعدوا بعض القبائل على بعض، فكانت حروب كبيرة أزهق فيها كثير من الأرواح، وعلى إثرها استطاع الفرنسيون الدخول، فاستطاعوا احتلال البلاد، وكانت تسقط بلدًا بعد بلد، وعندما أراد المجاهدون قتالهم لم يجدوا إذ ذاك أي دعم خارجي؛ لأنهم أيضًا لم يدعموا جيرانهم عندما احتاجوا إليهم.

    فلو كان أهل هذه البلاد ساعدوا الجزائريين المجاهدين إذ ذاك، أو الذين جاهدوا في المغرب، لوجدوا من يساعدهم وقت الحاجة، لكن لم يساعدوا الآخرين، واحتاجوا إليهم فلم يجدوا من يساعدهم.

    فكانت الأيام الجهادية إذ ذاك ضعيفة الأداء؛ لضعف العدد والعدة، ومع ذلك حصلت فيها انتصارات كبيرة بشهادة الفرنسيين أنفسهم، وأبدى فيها أهل هذا البلد من المجاهدين البسالة والمقاومة النادرة، حتى إن القائد أحمد لديد رحمة الله عليه قال لعدد يسير معه من الناس، وهم على شاطئ هذا المحيط، قال لهم مثلما قال طارق بن زياد للذين فتحوا الأندلس يوم فتحوها، فقال لهم: (وراء هذه الرمال قبعات الفرنسيين الزرقاء، ومن وراء ظهوركم المحيط الأزرق، فاختاروا أي الميتتين شئتم، ومن لم ينجه وجهه وفوهة بندقيته، فلا يمكن أن ينجيه قفاه وهو هارب).

    فقاوموا، فتغلبوا على الفرنسيين وهزموهم هزيمة نكراء في يوم البويشيش، وهو مائة كيلو فقط من نواكشوط إلى جنوبها، المعركة كانت فقط مائة كيلو جنوب نواكشوط.

    فهذا يدلنا على أن المؤمنين كلما قويت عزائمهم، وقوي تمسكهم بدينهم، وأرادوا الدفاع عنه، فإن الله ينصرهم ولو كان عددهم يسيرًا، ولو كانت عدتهم قليلة.

    ولهذا فإن الله عز وجل قص علينا قصص السابقين التي تثبت ذلك، ففي قصة بني إسرائيل: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:249].

    والمؤمنون يوم أحد لما ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم منهم فقط أحد عشر رجلًا وامرأة واحدة، استطاعوا أن يكشفوا جيش المشركين، وهو ثلاثة آلاف مقاتل، فانهزم المشركون، ورجعوا على أعقابهم، ولم يستطيعوا دخول المدينة، ولا أخذ السلب من القتلى، فرجعوا مولين على أدبارهم، وغزا النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم في غزوة حمراء الأسد.

    والتنازع في الأمر خطر عظيم؛ ولذلك جعله الله سبحانه وتعالى منافيًا للاعتقاد الصحيح، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[الأنعام:159].

    وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال:45-46].

    وقال تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ[هود:118-119]، فجعل الاختلاف ضدًّا للرحمة.

    وكذلك فإنه جعله مظهرًا من مظاهر الشرك، فقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ[الروم:30-32]. فبين أن أولئك هم من المشركين، فمن: بيانية، وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ[الروم:31-32].

    ومن هنا، فإن المؤمنين إذا أرادوا الآن الانتصار على أعدائهم، فالطريق ميسور جدًّا، وهو معبد، وقد جرب فنفع، فما هو ذلك؟ هو باجتماع الكلمة، والعزيمة الصادقة على نصرة الله ورسوله، والتعاهد على ذلك، فلا يمكن أن تقف في وجههم أية قوة إذا اتصلوا بالله سبحانه وتعالى، وصدقوا الله ما عاهدوه عليه.

    عصيان ولي الأمر فيما هو موافق للشرع

    فلذلك قال: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ[آل عمران:152]، هذا الأمر الثالث: وهو معصيتهم لأمر قيادتهم، فإن عبد الله بن جبير نهاهم عن ذلك، وقال: قد عاهدني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموقف في هذا المكان، فلن أبرح حتى يأتيني.

    فمعصية طاعة ولي الأمر فيما هو معروف وموافق للشرع خطر عظيم عليهم؛ ولذلك فكل من دعا إلى الجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، فلا بد أن يطاع فيما يأمر به؛ لأن ذلك من طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)، وقوله: (أميري) بالإضافة يدل على أن المقصود به: الذي يتولى أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ويقوم بأعماله، بخلاف من لا يتولى ذلك ولا يقوم به، فليس أمير النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو من خلفاء الاستعمار الذين يفعلون ما يفعله الاستعمار.

    ومن هنا قال: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ[آل عمران:152]، فقد رأيتم هزيمة العدو وقتل حملة اللواء، ورأيتم الغنائم حين بقيت على آثارهم، وبدأتم تجمعونها، كل ذلك مما أراكم الله سبحانه وتعالى، مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ[آل عمران:152]، والذي يحبه أهل الإيمان: هو الفتح العاجل، كما قال الله تعالى: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ[الصف:13].

    وهنا لم يأت تصريح بالنصرة أو بالغلبة؛ وذلك لدقة التعبير، فهذا القرآن معجز، فلو قال: (وعصيتم من بعد ما انتصرتم) لأمكن أن ينتقد ذلك منتقد، فيقول: لم يتم النصر بعد؛ لأن المعركة لم تحسم بعد، ولو قال: (وعصيتم من بعد ما غلبتم، أو من بعد ما استوليتم على العدو) لكان بالإمكان أن يناقش ذلك، فجاءت العبارة الدقيقة البديعة، وهي قوله: مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ[آل عمران:152].

    وأيضًا هنا قال: (أراكم) ورؤية الشيء قد لا يكون الإنسان قد وصل إليه؛ لأن الإنسان يرى شيئًا بعينه دون أن يصل إليه بيده؛ فلذلك قال: مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ[آل عمران:152].

    إيثار الحياة الدنيا على الآخرة

    ثم ذكر السبب الرابع: فقال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ[آل عمران:152]، وهذا سبب يتكرر ويتجدد في كل زمان، فمن كان يريد الله ورسوله والدار الآخرة فلا بد أن يكون صادقًا مع الله سبحانه وتعالى، ساعيًا لإعلاء كلمته ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم، والدفاع عن المحجة البيضاء التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء لا بد أن ينصروا، وقد انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق بكلماتي، أن يدخله الجنة وأن يرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وهذا يقتضي أن أولئك- وإن كانوا ذوي عدد يسير- شؤم ذنبهم وصل إلى غيرهم، فما يحصل في الدنيا كما سبق ليس من جزاء الذنوب، ما يحصل في الدينا من السوء ليس من جزاء الذنوب؛ لأن الجزاء أخروي لا دنيوي، والدنيا دار عمل ولا جزاء، والآخرة دار جزاء ولا عمل.

    فما يحصل في الدنيا من الخير من جراء العمل الصالح، ليس من جزائه، بل هو من بركته، وما يحصل فيها من الضرر من جراء العمل السيئ، ليس من جزائه، بل هو من شؤمه.

    ومن هنا، فشؤم ذنوب أولئك قد تجاوزهم فوصل إلى من سواهم؛ فلذلك قال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا[آل عمران:152]، وهؤلاء الذين يريدون الدنيا، القصد بإرادتهم معناه: مع الآخرة؛ لأنهم لا يريدون الدنيا وحدها، فإرادتهم للدنيا كانت مرتبطة بإرادتهم للآخرة: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ[آل عمران:152]؛ أي: لا يريد سواها.

    فالذين يريدون الدنيا- ولو كانوا مع ذلك يمتثلون أمر الله تعالى، ولكن كانت الدنيا مقدمة لديهم على الآخرة في الطلب- لا يمكن أن ينصروا.

    ومن هنا لا بد من مراجعات النيات في كل أمر يقدم عليه الإنسان، وقد ذكر أن هارون الرشيد رحمه الله ظهر في زمانه بعض المنكرات، ولا تساوي شيئًا بالمقارنة مع جهاده ونصرته للدين وإقامته للحدود، فقد كان أميرًا عدلًا، كان يغزو العدو، ويجاهد في سبيل الله، ويعلي كلمة الله، ويقيم حدود الله في أرض الله، ومع ذلك حصل بعض المخالفات في سلطانه وفي وقته.

    فخرج ذات يوم على المسلمين، فقام إليه رجل من الصالحين، فزجره ونهاه وذكره بالله ووعظه، وتشدد عليه بالكلام شدة قوية، فرجع هارون، فجلس في مجلسه، ثم دعا بعض خواصه، فقال: انظر إلى ذلك الرجل الذي كلمني بهذا الكلام الغليظ، فإن وجدته في عمله ومهنته فاتركه، وإن وجدته يفخر بما فعل ويحدث الناس بما قال، فاعلم أنه مراءٍ، فأتني به. فهذا الرجل خرج إلى ذلك العالم الصالح، فوجده يبيع مبيعاته التي كان يبيعها كأنه ما فعل شيئًا وما قال شيئًا، لم يهرب من مكانه، ولم يخف من هذا الأمير الذي كان يقول للمزنة: (أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك). فعلم أنه صاحب صدق وإخلاص؛ لأنه أدى الذي عليه بالنصيحة، ولم يكن ليصل إلى هذا الأمير إلا في ملأ عام، فأدى النصيحة في الملأ.

    ونظير هذا: ما حصل أيضًا حين كان مروان رحمه الله أميرًا على المدينة لـمعاوية رضي الله عنه، فقدم خطبة العيد على الصلاة، والسنة أن تقدم الصلاة قبل الخطبة في العيد على خلاف الجمعة، فالجمعة خطبتها سابقة عليها، وصلاة العيد خطبتها لاحقة لها، هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ولكن مروان يعلم أن الناس إذا بدأ في الكلام في السياسة، في سياسة الدولة الأموية والتهجم على الصحابة، سيخرجون ويتركونه، فأراد أن يحبسهم بالصلاة، فأخر الصلاة سياسة وقدم الخطبة.

    فلما فعل، قام إليه أبو سعيد الخدري وأبو هريرة، فاكتنفاه حتى أنزلاه عن المنبر، وفي رواية: أن أبا هريرة قام إليه، فقال: متى غيرتم السنة؟ فقام أبو سعيد، فقال: أما هذا فقد أدى الذي عليه، أما هذا- أي: أبو هريرة- فقد أدى الذي عليه حين أنكر المنكر، وأعلن ذلك، ولم يخف في الله لومة لائم، فقام أبو سعيد معه، فقال مروان: ترك ما هنالك، فقال: ما نعلم خير مما لا نعلم؛ أي: ما كانا يعلمانه هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، فهو خير مما لا يعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك اضطر مروان لترك قراره الذي اتخذه، والعدول إلى رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أمروه بالمعروف ونهوه عن المنكر.

    مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ[آل عمران:152]، وهنا قوله: (منكم من يريد الآخرة)، ليس معطوفًا على ما سبق لبيان أسباب الهزيمة؛ لأن هذا ليس من أسباب الهزيمة، ولكنه بيان لتبرئة ساحة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه، فلو قال: (منكم من يريد الدنيا ثم صرفكم عنهم ليبتليكم)، لظن كل إنسان أنها صادقة عليه؛ لأن الله لم يبرئ حينئذٍ أحدًا، لكن من لطف الله ورحمته أن جاء بهذه الجملة لتبرئة أولئك الذين يريدون الله والدار الآخرة، فقال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ[آل عمران:152].

    1.   

    ابتلاء الله للمؤمنين يوم أحد بصرفهم عن الكفار

    ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ[آل عمران:152]، هذا الوضع الثالث: وهو صرف المؤمنين؛ أي: ما حصل في قلوب بعضهم من الهزيمة، فانصرفوا إلى ديارهم هاربين، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، وذلك ابتلاء وامتحان لهم، فقد آثروا الحياة على النبي صلى الله عليه وسلم حين هربوا وتركوه، ولكن الله تاب على المؤمنين منهم، وعاقب المنافقين بذلك؛ فلهذا قال: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ[آل عمران:152]؛ أي: ليمتحنكم.

    وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ[آل عمران:152]، فكان هذا عفوًا عن المؤمنين الصادقين، ومنهم بنو سلمة الذين انهزموا وانكشفوا، ثم عفا الله عنهم وتاب عليهم.

    وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ[آل عمران:152]، فهذا من تمام فضله عليهم، فقد علم عجزهم وضعفهم، فمنَّ عليهم بالعفو الذي يزيل آثار هذه المعصية.

    إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ[آل عمران:153]، الحال الذي صرفكم فيه عنهم هو الحال الذي تصعدون؛ أي: ترتفعون في الجبل هاربين، والإصعاد: هو الصعود بتكلف، أو هو الهرب إلى جهة البيوت في المدينة.

    ولا تلوون على أحد؛ أي: لا تفكرون فيمن تركتم وراء ظهوركم، وهذا يشمل النبي صلى الله عليه وسلم الذي تركوه وراء ظهورهم، ويشمل أيضًا إخوانهم من المؤمنين الذين كانوا يقاتلون العدو.

    وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ[آل عمران:153]، هذه جملة حالية مقترنة بالواو، وهي جملة اسمية، فقال: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ[آل عمران:153]، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يناديهم: (إليَّ إليَّ)، وهم ينهزمون عنه؛ لشدة ذلك الهول الذي ابتلاهم الله به وامتحنهم.

    وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ[آل عمران:153]، فهم قد تركوه وراء ظهورهم، فهو يدعوهم، وهذا مكانه منهم، إذ ذاك في أخراهم.

    فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ[آل عمران:153]، (فأثابكم)؛ أي: جازاكم، والثواب: هو الجزاء، يطلق على الخير والشر، وهو هنا على الشر، فقال: فَأَثَابَكُمْ[آل عمران:153]؛ أي: جازاكم جزاءً في مقابل الإساءة التي فعلتم: غَمًّا بِغَمٍّ[آل عمران:153]، فامتلأت قلوبهم بالغم وهو الحزن؛ لأنهم تركوا النبي صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم وانكشفوا، فأصابهم الغم الشديد والهم، وذلك بدل غم؛ أي: في مجازاة ذلك الغم الذي فعلوه حين أدخلوا الغم على المؤمنين الذين صبروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شيء أشد عليهم من رؤية إخوانهم ينهزمون ويستسلمون؛ ولهذا فإن المؤمنين اليوم أيضًا أصابهم غم شديد بسبب تخاذل المسلمين، وتخاذل رؤسائهم وحكامهم عما يحصل من الغزو لبلادهم، فأولئك قد آزروا العدو وناصروه حين ساعدوه أو سكتوا عنه، ومع ذلك أدخلوا الغم على نفوس المؤمنين بهذا التخاذل والاستسلام والهزيمة؛ فلذلك قال: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ[آل عمران:153]؛ أي: بدل ذلك الغم عجل لكم غمًّا آخر، وهو الهم الذي دخل في نفوسهم، والحزن الذي حصل لهم.

    لماذا عُجل لهم هذا الغم والهم؟

    عجل لهم ليكون رادعًا لهم عن مثلها؛ لئلا يعودوا لمثلها أبدًا، وليكون ذلك سببًا لتقوية إيمانهم بقدر الله، والإيمان بقدر الله يقتضي من الإنسان ألا يحزن على ما فاته من أمور الدنيا، وألا يفرح بما نال من أمور الدنيا؛ فلذلك قال: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ[آل عمران:153]، كيلا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا، ولا ما أصابكم من القتل والجراح.

    ووَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[آل عمران:153]، فكل ذلك قد كان معلومًا من قبل عند الله، مكتوبًا عنده في سابق قدره. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا[آل عمران:154]، هذا الحال الرابع من تطورات هذا اليوم.

    نعم، بعد ذكر ما تحبون، وبعد ذكر الهزيمة والصرف، بعد ذكر الغم جاء الحال الرابع، وهو قوله: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا[آل عمران:154]، فقد أنزل الله عليهم نعاسًا شديدًا مثل النعاس الذي أنزل عليهم من قبل في غزوة بدر، فقد غشاهم الله النعاس في غزوة بدر، وكذلك في يوم أحد جاء النعاس الشديد، فقال عثمان بن عفان: (والله إني لفي وجه العدو، وإن سيفي ليسقط من يدي من شدة النعاس).

    وهذا النعاس هو أمن من الله تعالى أنزله عليهم، فهم في وجوه العدو، ومع ذلك يسقط سلاحهم من أيديهم من شدة النعاس.

    ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً[آل عمران:154]، ما هي هذه الأمنة؟ أبدل منها قوله: نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ[آل عمران:154]، وهذا النعاس حكمة الله فيه: أنه يقتضي الثبات والاستقرار، فالإنسان الذي هو خائف لا يأتيه النعاس، والإنسان الذي هو مهموم حزين لا يأتيه النعاس.

    وهؤلاء قد خافوا أولًا، ثم هموا بعد ذلك، ثم أزال الله عنهم آثار الخوف والهم بالنعاس الذي أصابهم.

    ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ[آل عمران:154]، وهذا النعاس يغشاهم؛ أي: كأنه يجللهم ويسترهم.

    يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ[آل عمران:154]، فمن حكمة الله ألا يغشاهم جميعًا؛ إذ لو غشيهم جميعًا، لتمكن العدو منهم، فهو يغشى طائفة منهم.

    ثم بين حال بعض الطائفة الأخرى، فقال: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ[آل عمران:154].

    طائفة أخرى لم تنل حظها من هذه الأمنة؛ لأن قلوبها قد أهمتها نفوسها، فإنها فكرت فيما حصل من الهزيمة والقتل، فظنت أن الله سبحانه وتعالى لن ينصر المؤمنين بعد هذا اليوم، ولن يمكن لهم في الأرض، وهذا الظن هو من ظن السوء، وهو من قبل النفوس؛ أي: من إيحاء النفوس الأمارة بالسوء، وإلا فالإنسان المؤمن يعلم أن الله لا يخلف الميعاد، وأنه سينصر هذا الحق ويظهره بعز عزيز أو بذل ذليل.

    فالهم الذي أصابهم دخل عليهم من تلقاء أنفسهم حين ظنوا ظن السوء؛ فلذلك قال: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ[آل عمران:154]،أي: أدخلت عليهم الهم.

    يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ[آل عمران:154]، يظنون بالله ظن الجاهلية، وهو غير الحق، فالظن بالله سبحانه وتعالى هو الحق، وهو أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، كما فعل في كل المواقف؛ فلذلك ظن السوء، هو غير الحق: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ[آل عمران:154].

    وبين علامة ذلك؛ لأن الظن ما دام في القلب لا يعاقب عليه صاحبه، وقد سبق أن أفعال القلب خمس درجات:

    أولها: الهاجس، ثم الخاطر، ثم حديث النفس، وهذه لا تكتب لا في الخير ولا في الشر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، فهذه الثلاثة لا تكتب لا بالخير ولا بالشر.

    والقسم الرابع: هو الهم، وهو يكتب بالخير لا بالشر، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة.

    والقسم الخامس: وهو العزم، هذا يكتب بالخير وبالشر؛ لأنه مصاحب لعمل أو قول، وهذا الهم هنا لو كان همًا محضًا لم يصحبه قول ولا عمل، لم يكن ليكتب ولا ليعاقب عليه، لكنه صحبه قول، فما هو هذا القول؟ قال: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ[آل عمران:154]، يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا[آل عمران:154].

    فصحب همهم قولهم؛ فلذلك قالوا هنا: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ[آل عمران:154]، يسألون: هل لنا من الأمر من شيء؟ وقد عودهم النبي صلى الله عليه وسلم على الشورى في الأمر كله، ولكنهم هنا ينسون ذلك لما أدخلوه على أنفسهم من ظن السوء؛ فلذلك: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ[آل عمران:154].

    والجواب ما هو؟: قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ[آل عمران:154]، فالأمر ليس لكم، حتى لو عدل إلى رأيكم لا بد أن يتحقق ما كتبه الله، يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ[آل عمران:154]، وقد بقي من همهم ما لم يصرحوا به، فبينه الله في كتابه، فقال: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا[آل عمران:154].

    يخفون في أنفسهم، وهي التي أدخلت عليهم الهم والحزن من قبل: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ[آل عمران:154]، ما هو هذا؟ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا[آل عمران:154]، ومن المعلوم أن لو تفتح عمل الشيطان.

    فعلى الإنسان أن يؤمن بقدر الله وقضائه، وألا يعجز، وأن يعلم أن ما كتب له سيناله، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف، وإذا تذكر الإنسان ذلك لا يمكن أن يعول على (لو)، (إياكم ولو؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان).

    فلهذا قال: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا[آل عمران:154]، فهم ينتقدون هذا القرار بالقتال والصمود والمواجهة، ويرون أنه سبب لما حصل من القتل، فيقولون في نفوسهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا، وما هو جواب هذا الزعم؟ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ[آل عمران:154].

    لو كنتم في بيوتكم وداخل الحصون لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم؛ لأن الله كتب عليهم أن يموتوا في هذه اللحظة في هذا المكان، فلا بد أن يموتوا في هذه اللحظة في هذا المكان؛ فلذلك قال: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ[آل عمران:154].

    لكن ما هي الحكمة إذا؟

    1.   

    الحكمة من الابتلاء والتمحيص

    الحكمة من كل ذلك بينها بقوله: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[آل عمران:154]، فالحكمة: هي هذا الامتحان الذي من أجله خلق الله الموت والحياة، وهو: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[هود:7]، فمن كان من أهل الإيمان والتقوى فسيقدم لنفسه، وهو ميسر لعمل الخير، ومن كان من أهل الشقاوة فهو ميسر لعمل أهل الشقاوة، كل ميسر لما خلق له.

    ولذلك لابد أن يبتلي الله سبحانه وتعالى أهل الإيمان على إيمانهم، فمن كان يعبد الله على حرف إذا أصابته بلوى رجع وانقلب على عقبيه، ومن كان يعبد الله على اعتدال وسوية وعلى المنهج الصحيح فسيزيده ذلك إيمانًا، ويقينًا، وسكينة، واستمرارًا على الحق؛ فلهذا قال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[آل عمران:154]، وهنا جاء التعبير بجملتين متقاربتي اللفظ والمعنى، والفرق بينهما دقيق جدًّا، فالجملة الأولى: (ليبتلي الله ما في صدوركم)، وذلك أنه جعل التفكير والهم أمرًا عظيمًا يحشو الصدر كله؛ فلذلك قال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ[آل عمران:154]، كأنما بين الضلوع قد ملئ بالهم والحزن. (وليمحص ما في قوبكم): فالقلب أصغر مما في الصدر، وما فيه؛ أي: التفكير المستقبل الذي فيه سيمحص أيضًا، فسيقسم إلى قسمين: إلى قسم صالح يثاب صاحبه، وإلى قسم فاسد يعاقب صاحبه؛ فلذلك قال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ[آل عمران:154]، وهذه عبارة دقيقة عجيبة، وهي من إعجاز القرآن الدقيق الذي لا يهتم به كثير من أهل التفسير.

    وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[آل عمران:154]، فذلك كله لا يخفى منه شيء على الله، فالله أسرع الحاسبين، وهو عليم بذات الصدور، فما تخفيه الصدور معلوم لدى الله سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن يخفي عنه أحد تفكيرًا، ولا همًّا، ولا أي رأي، ولا مجرد الظن، لا يخفى عنه شيء من ذلك؛ لهذا قال: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[آل عمران:154].

    وهذه الآية هي الآية الوحيدة في القرآن التي جمع فيها حروف الهجاء التسعة والعشرون كلها، فلم تجتمع في آية واحدة من كتاب الله إلا هذه، وآية واحدة أخرى، وهي خواتم سورة الفتح: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[الفتح:29].

    وهذا ربط إشاري بين هاتين الآيتين، فهذه الآية التي تتحدث عن الغم والهم، وعما حصل من المخالفة، ربطت بتلك الآية التي تتحدث عن صفة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وما وعدهم الله تعالى به، وما أعده لهم من الثواب في الدنيا والآخرة؛ ليدل ذلك على أن مراحل هذا الزمان متباينة مختلفة، وأن النتيجة إنما هي في الخاتمة والنهاية، فما يأتي من التطورات والتقلبات كله بمثابة درجات السلم، ولا استقرار عليها، فهي توصل إلى غيرها ولا يستقر عليها، فكذلك الحال بالنسبة لما حصل يوم أحد، إنما كان مرحلة من مراحل السير لهذا التاريخ؛ أي: تاريخ هذه الأمة، وكان درجة من درجات السلم، ولكن بعده: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ[الفتح:29]

    فهذا الربط بين الآيتين إشاري، وقد جاء ربط معنوي بينهما أيضًا، وهو في قوله: وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[الفتح:29].

    فهذا الوعد هو مناف لظن السوء الذي جاء في هذه الآية، فهو ضده والضد يذكر بضده، فهذا ربط آخر من ناحية المعنى بين الآيتين.

    1.   

    تحقق وعد الله بنصر دين الإسلام

    ثم إن هذا الواقع الذي حصل وحكته هذه الآية يتكرر أيضًا في كل زمان، فإن كثيرًا من المؤمنين دائمًا يسعون للتشكيك والأوهام، ويظنون بالله ظن السوء، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، فإذا حصلت أية نكبة، انساقوا وراءها، وظنوا أن الأمر قد حسم، وأن المعركة قد انتهت، وأن دين الله لا يمكن أن ينتصر، وأن الداعين إليه والساعين لنصرته قد اختفوا وانهزموا، وهذا غير صحيح، وليس له أي دلالة واقعية، فدرس أحد باقٍ ماثل للعيان في كل زمان ومكان، وبالإمكان أن يستعرضه الإنسان في حياته ومشاهدها.

    ففي كل عام يشهد الإنسان يومًا كيوم أحد في أمور حياته أو يذكره به، ولو كان ذلك في موقف ضئيل يسير، لكنه يذكر ببعض تاريخ هذه الأمة، فتاريخ الأمة في العهد النبوي كان عشر سنوات وبضعة أشهر مثلًا في العهد المدني، لكن هذه عشر سنوات وبضعة أشهر طوي فيها تاريخ الأمة كله، فلا تجد شيئًا من تاريخ الأمة ولا من أحداث هذا التاريخ إلا وقد وجد في العهد المدني، في ذلك الوقت الذي مضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد إقامة دولة الإسلام.

    ومن هنا فحياة النبي صلى الله عليه وسلم هي عبارة عن دروس مطردة مستمرة، تجدد للناس حياتهم، ويجدون فيها حلولًا لكل مشكلاتهم، وتبين لهم أوجه الخلل والخطأ، فما أصاب هذه الأمة من الأخطاء الآن بالإمكان أن نستخلصه من غزوة أحد من خلال هذا التقويم الرباني.

    فالأسباب الأربعة التي كانت سبب الهزيمة يوم أحد نجدها ماثلة للعيان بين أعيننا اليوم.

    فَشِلْتُمْ[آل عمران:152]، وقد حصل ذلك.

    وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ[آل عمران:152]، وقد حصل ذلك.

    وَعَصَيْتُمْ[آل عمران:152]، وقد حصل ذلك، مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ[آل عمران:152].

    مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا[آل عمران:152]، وقد حصل ذلك.

    إذًا الأسباب بارزة للعيان واضحة، وإذا أردنا الخروج مما نحن فيه فعلينا أن نتوب إلى الله ورسوله، وأن نصحح علاقاتنا بالله، وأن نصحح اعتقادنا، وأن نعزم عزمًا صادقًا يصدقه العمل، كما فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم في اليوم الموالي نادى فيهم منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد في سبيل الله، فخرجوا في غزوة حمراء الأسد، ونادى مناديه: ألا يخرجن معنا إلا من خرج بالأمس.

    فالمنافقون لم يرض النبي صلى الله عليه سلم خروجهم بعد ذلك اليوم بعد أن انهزموا عنه؛ ولذلك فسيأتي إقراره على ذلك بالوحي في منصرفه من غزوة تبوك: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ[التوبة:83].

    ثم إن التطورات والتقلبات التي تقع في المشاهد والمواقف كذلك نشهدها اليوم في أيامنا، فتجد المؤمن صاحب الاستعجال إذا سمع معركة حصل فيها انتصار للمسلمين في العراق أو في فلسطين أو في أي مكان من بلاد الله يفرح، ويظن أن النصر قد لاحت بشائره، فإذا سمع على عكس ذلك توغلًا للصهاينة في نابلس، أو في جنين، أو في أي مدينة من المدن، وما قتلوا، يسمع اليوم مثلًا أنهم قتلوا ستة عشر في مخيم واحد بقصف الدبابات، فيقع لديه الهم والحزن، ثم بعد هذا يرجع إلى كتاب الله فيسمع حال الصحابة وحال النبي صلى الله عليه وسلم، يسمع درسًا يذكره، فيزول عنه ذلك الهم، ويؤمن بقضاء الله وقدره، ويعلم أن ذلك مكتوب من قبل، ويتذكر مراتب القدر، وهي علم الله السابق بجميع الأشياء إجمالًا وتفصيلًا، وكتابته لكل ذلك عنده في الصحف التي عنده فوق عرشه، وهي أم الكتاب لا تبديل فيها ولا محو، ثم بعد ذلك توزيعه ما هو كائن على الزمن، وقد كتب ذلك في ليلة القدر: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا[الدخان:4-5]، ثم المرتبة الرابعة: تنفيذ ذلك على وفق علم الله السابق، وهي القضاء، فيشهد ذلك ويراه في تدبير هذا الكون، ويرى أن أمر الله سبحانه وتعالى نافذ وأنه لا معقب له: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23].

    ويعجب كيف تحقق هذا الأمر بالكيد اليسير والعمل الضئيل، فمثلًا: سمعتم في الأيام الماضية قصة ما حصل في الشيشان، وكيف استطاع المجاهدون أن يتسللوا إلى ذلك الملعب الذي سيقام فيه الحفل الماجن الراقص، وكيف استطاعوا أن يأخذوا أسطوانة من أساطين الملعب فيفخخوها بالألغام، ثم بعد ذلك تصبغ بالأصباغ حتى تكون ككل الأسطوانات لا فرق بينها وبينها، ثم يفجرونها عن بعد، فيتأثر الروس بهذا تأثرًا بالغًا لم يشهدوا نظيره من قبل؛ ولذلك يقول بوتين في خطابه الذي سمعتم: (إن ما حصل في الشيشان اليوم درس لن تنساه روسيا أبدًا)، وهو بذلك يقر بأن هذا التخطيط الدقيق والعمل العجيب، لم يكن ليخطر على بال الروس، ولم يكونوا ليفكروا فيه أبدًا، وهو من كيد الله سبحانه وتعالى وتدبيره، ويمكن أن يعود بأضعافها من حيث لا يشعرون، فقد قال الله تعالى: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ[الرعد:31].

    فسيصاب الكفار بأمثالها وأضعافها، وسيتكرر ذلك، فمن كان يظن أنهم سيقضون على الإرهاب أو أنهم سيقضون على الجهاد، فهو مخطئ في تصوره، غالط في ذلك، فهذا القرآن بين أيدينا، وهو حجة دامغة، وقد تعهد الله بهذا التعهد الذي لا مبدل له ولا مغير: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ[الرعد:31].

    ولذلك فإن المستسلمين المستذلين الذين فاوضوا اليهود الخائبين في أوسلو، لما وقعوا معهم الاتفاقية التي تقتضي نزع سلاح الفصائل، ومنع المقاومين من المعركة في فلسطين، في ذلك الوقت دخل هم وغم عظيم على كثير من المؤمنين، فقالوا: ستقع المعركة الآن بين الفصائل، وستكون المعركة بين الفلسطينيين ويقضي بعضهم على بعض، ويتفرج الإسرائيليون عليهم وهم يتناحرون ويتقاتلون فيما بينهم، فقلت لمن حصل ذلك لديه: هذا لا يمكن أن يقع أبدًا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767960656