بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
فقد تقدم معنا الكلام عن قول ربنا جل جلاله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].
وعرفنا أن الخطاب توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دلالةً على أهمية الأمر وعظم الشأن، وأن قوله تعالى: (يغضوا) أن الغض معناه: ترك التحديق وتثبيت النظر، وهذا الأمر قد نبه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لـجرير بن عبد الله البجلي : ( اصرف بصرك )، وقال لـعلي : ( لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وعليك الثانية )، وقال: ( أعطوا الطريق حقه، قال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: رد السلام، وكف الأذى، وغض البصر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ).
وعرفنا بأن من فوائد غض البصر: وجود حلاوة الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: ( النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه ).
ومن فوائد غض البصر: أن الإنسان يسعد يوم القيامة، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كل عين باكية يوم القيامة إلا عيناً غضت عن محارم الله، وعيناً سهرت في سبيل الله، وعيناً خرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله )، هؤلاء الثلاثة لا يبكون يوم القيامة؛ ( عيناً غضت عن محارم الله، وعيناً سهرت في سبيل الله )، يحمل ذلك على السهر في الرباط، وفي الحراسة، ( وعيناً خرج منها مثل رأس الذباب )، يعني ولو دمعة صغيرة من خشية الله، هؤلاء الثلاثة لا يبكون يوم القيامة.
ومن فوائد غض البصر: الرضا بما قسم الله عز وجل، والقناعة بالحلال، وبالمقابل من أطلق بصره ودامت نظراته دامت حسراته، فالذي ينظر إلى كل شيء فإنه تدوم حسراته.
وقول الله عز وجل: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30]، عرفنا أن حفظ الفرج يكون من أن ينظر إليه غيره، قال صلى الله عليه وسلم: ( احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك )، وكذلك حفظ الفرج من الزنا؛ لأن الله قال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32].
وحفظ الفرج من اللواط؛ لأن الله عز وجل ذم قوم لوط ووصفهم بأنهم فاسقون، مسرفون، عادون، قوم سوء، وأنزل بهم تلك العقوبة البالغة حين جعل عاليها سافلها، وأتبعهم بحجارة من سجيل.
وكذلك يحفظ الفرج من المساحقة، ويحفظه من الاستمناء أو ما يسميه الناس بالعادة السرية، فهذا كله حرام، قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ [المؤمنون:5-7].
وأخبر ربنا جل جلاله أن غض البصر وحفظ الفرج يترتب عليه التزكية والتطهير، قال تعالى: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] أي: أطهر لقلوبهم، وأنقى لدينهم، ثم تهدد الله الجميع بقوله: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، لا تخفى عليه خافية، فمن أطلق بصره في الحرام وأخفى ذلك عن الناس، فالله عز وجل مطلع عليه عالم بسره.
وسبب نزول هذه الآية ما ذكره مقاتل بن حيان عن جابر بن عبد الله : أن أسماء بنت مرشدة رضي الله عنها كان لها محل في بني حارثة، وكان النساء يأتينها غير مؤتزرات يعني: غير لابسات أزراً، فتبدو خلاخل أقدامهن، وتبدو صدورهن وذوائبهن، والذوائب هي: الضفائر، وهذه المرأة الأنصارية استنكرت هذا الأمر، فقالت: ما أقبح هذا، يعني: هذا قبيح، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
ومن قال من أهل العلم: بأن نظر النساء إلى الرجل كنظر الرجال إلى النساء استدل بما رواه الترمذي من حديث ابن شهاب الزهري ، عن نبهان مولى أم سلمة : أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ( كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي ميمونة )، وهي ميمونة بنت الحارث الهلالية ، خالة عبد الله بن عباس ، وكانت آخر النساء اللائي تزوج بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تزوج بها بعد عمرة القضاء، وعمرة القضاء كانت في السنة السابعة من الهجرة، المقصود بأن أم سلمة قالت: ( كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي ميمونة ، فاستأذن ابن أم مكتوم ، يعني جاء ابن أم مكتوم رضي الله عنه يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: احتجبا منه، فقلن: يا رسول الله! إنه رجل أعمى ليس يبصرنا، فقال عليه الصلاة والسلام: أفعمياوان أنتما لا تبصرانه؟ )، يعني: إذا كان هو أعمى فلستما عمياوين، فهذا الحديث استدل به من يقول: بأن حرمة نظر النساء إلى الرجال كحرمة نظر الرجال إلى النساء سواء بسواء، لكن هذا الحديث لا يصح؛ لأن نبهان باتفاق أهل الحديث ضعيف لا يحتج بحديثه، وتشديد الشريعة في نظر النساء إلى الرجال ليس كتشديدها في نظر الرجال إلى النساء، ويدل على ذلك حديثان صحيحان:
الحديث الأول: مضى معنا في ترجمة أمنا عائشة رضي الله عنها ( أن الأحباش لما جاءوا يلعبون بحرابهم في المسجد قلت: يا رسول الله! إني أشتهي أن أنظر، قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر من فوق كتفه، فكان يقول لي: حسبك، فأقول: لا بعد، فيقول: حسبك، فأقول: لا بعد ).
الشاهد من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لـعائشة أن تنظر إلى الأحباش، وهم رجال.
الحديث الآخر: وهو في الصحيح أيضاً: (أن فاطمة بنت قيس أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت أم شريك ، امرأة من الأنصار، ثم قال لها: إن هذه امرأة يغشاها أصحابي)، يعني كان بيتها مفتوحاً والناس يأتون عندها يأكلون ويشربون، (ولكن اعتدي في بيت ابن أم مكتوم ؛ فإنه أعمى، تضعين ثيابك ولا يراك)، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت عبد الله بن أم مكتوم الأعمى رضي الله عنه.
فأقول: الذي يظهر -والعلم عند الله تعالى- بأن تشديد الشريعة في نظر النساء إلى الرجال، ليس كتشديدها في نظر الرجال إلى النساء، وعليه فلو أن المرأة احتاجت أن تنظر إلى الرجل من غير شهوة فالأمر في ذلك واسع، أما مع وجود الشهوة فهو حرام.
قال سبحانه: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]، (ولا يبدين زينتهن)، الله عز وجل ينهى المؤمنات الطيبات عن إبداء الزينة، ويأمرهن بالاحتشام والاحتجاب، واستثنى سبحانه وتعالى ما ظهر من تلك الزينة، وللعلماء في ذلك قولان:
القول الأول: قال ابن مسعود : (إلا ما ظهر منها) أي: ظاهر الثياب، يعني: المرأة ثيابها لا بد أن تكون ظاهرة، ولو وضعت على الثياب ثياباً فهذه الثياب الموضوعة ستكون ظاهرة، فـابن مسعود رضي الله عنه يقول: (إلا ما ظهر منها) أي: الثياب، والثياب زينة بنص القرآن قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، إلى أن قال: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ [الأعراف:31]، وباتفاق المفسرين: المقصود بالزينة هنا: الثياب التي تستر بها العورة، فهذا قول ابن مسعود : بأن (ما ظهر منها) المقصود به ظاهر الثياب.
وبمثل قوله قال الحسن البصري ، و محمد بن سيرين ، و إبراهيم النخعي رحمة الله على الجميع.
القول الثاني: (إلا ما ظهر منها)، قال ابن عباس : الوجه والكفان والخاتم، وبمثل قول ابن عباس قال إبراهيم النخعي في رواية أخرى عنه، وبه قال عبد الله بن عمر ، و أبو الشعثاء جابر بن زيد ، و عكرمة ، وزاد بعضهم على الخاتم قال: الفتخات والأقراط والأسوة، والفتخة هو الخاتم في اليد إذا لم يكن له فص مما يسميه الناس في لغتهم اليوم بالدبلة، وأما الأسورة فجمعها أساور، وهي ما تتزين به المرأة في معصمها، ومنه قوله تعالى على لسان فرعون : فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف:53]، فهذا قول ابن عباس رضي الله عنه وبه قال ابن عمر و إبراهيم النخعي ، و عكرمة ، و جابر بن زيد أبو الشعثاء ، و مجاهد بن جبر أبو الحجاج وغيرهم، وسيأتي معنا إن شاء الله بحث هذه المسألة تفصيلاً في إطلاق كلمة الزينة في القرآن، وسنعرف بأن الزينة في القرآن زينتان: زينة من أصل الشيء، وزينة خارجة عن الشيء.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال سبحانه: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31]، دائماً في القرآن إذا خاطب الذكور فالخطاب موجه أيضاً للإناث، ولا يحتاج إلى تكرار؛ لأن الله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ [البقرة:183]، وما احتاج أن يقول: ويا أيها اللائي آمن كتب عليكن الصيام، كذلك لما قال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، ما احتاج بعدها أن يقول: وأقمن الصلاة، وآتين الزكاة، واركعن مع الراكعات؛ لأن كل ما خوطب به الرجال فالنساء به مخاطبات، إلا ما قام الدليل على تخصيص الرجال أو النساء به.
وهاهنا الله عز وجل كرر فبعدما قال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30]، قال: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور:31]، هذا من باب التأكيد للأمر، وقد استدل بهذه الآية من قال: بأن حرمة نظر النساء إلى الرجال كحرمة نظر الرجال إلى النساء، يعني: مثلما يحرم على الرجل أن ينظر إلى المرأة فكذلك يحرم على المرأة أن تنظر إلى الرجل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر