بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
فقول ربنا جل جلاله: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3].
يأتي في سياق الحديث عن هذه الجريمة البشعة، والتنفير منها، والتحذير من السبل المؤدية إليها؛ لأن الزنا -عياذاً بالله تعالى- مورث للفقر، مسبب للمرض، موجب لسخط الله عز وجل، وفيه من البلايا والرزايا ما الله به عليم، وكما ينسب للإمام الشافعي رحمه الله قول:
يا هاتكاً حرم الرجال وقاطعاً سبل المودة عشت غير مكرم
لو كنت حراً من سلالة ماجد ما كنت هتاكاً لحرمة مسلم
من يزن في بيت بألفي درهم في بيته يزنى بغير الدرهم
من يزن يُزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهم
يقول الله عز وجل: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3].
سبب نزول هذه الآية ذكر فيه أهل التفسير أقوالاً ثلاثة:
القول الأول: نزلت هذه الآية في مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه، وهو رجل من السابقين الأولين، كان له في الجاهلية امرأة يقال لها: عناق ، ليست زوجته، بل كانت خدناً له، أو صديقة، وهذه المرأة كانت غير عفيفة، امرأة مشركة، وتمارس الزنا، وكان مرثد رضي الله عنه يتسلل من المدينة فينقل الأسرى، يعني: أن المسلمين المستضعفين الذين حيل بينهم وبين الهجرة، وحبسوا في مكة كان مرثد رضي الله عنه يتسلل فيفك قيدهم، ويحملهم إلى المدينة، فذهب مرةً إلى مكة متسللاً فرأته تلك المرأة، فدعته إلى نفسها، دعته إلى الزنا، فقال لها: قد حرم الله الزنا، فقالت له: تزوجني؛ فقال: لا أفعل حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله؛ فأنزل الله هذه الآية: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3].
القول الثاني: نزلت في امرأة يقال لها: أم مهزول ، أراد بعض الصحابة أن يتزوجها؛ فأنزل الله هذه الآية.
القول الثالث: نزلت في أهل الصفة رضي الله عنهم، وكانوا من ضعفاء المسلمين وفقرائهم، وكان في المدينة بغايا يمارسن الزنا، وبأيديهن مال كثير، وكان هؤلاء الضعفاء الفقراء يذهبون إليهن فيصيبون من طعامهن وشرابهن؛ فأنزل الله هذه الآية مبشعاً حالهن، ولا غرابة من حال هؤلاء البغايا، فهذا مما توارثه الناس من الجاهلية، كما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء:
فنحو: كالذي يعرفه الناس اليوم، يذهب الرجل إلى الرجل فيخطب إليه ابنته أو أخته ويتزوجها.
ونحو: كان نساء يجعلن على بيوتهن رايات يعرفن بها يقال لهن: ذوات الرايات، من أرادهن أتاهن، وهذا يشبه والعياذ بالله! ما يسمى: ببيوت البغاء، أو بيوت الدعارة، أو البيوت المشبوهة ونحو ذلك، فهذا ميراث من زمن الجاهلية الأولى، وليست حضارة كما يزعمون الآن.
ونحو آخر: كان الرهط -دون العشرة- يجتمعون على امرأة واحدة كلهم يصيبها -أعوذ بالله كالبهائم- فإذا حملت ثم وضعت دعتهم جميعاً، ونظرت إلى أشبههم به فقالت: هو ولدك يا فلان! فلا يستطيع أن يمتنع، نعوذ بالله من الخذلان، وهو يعلم أن غيره قد أصابها.
ونحو رابع وهو أبشع هذه الأنواع: فقد كان الرجل يقول لامرأته: اذهبي إلى فلان فاستبضعي منه، فإذا فعلت ذلك اعتزلها حتى يظهر حملها، وإنما يفعل ذلك رغبةً في نجابة الولد، فهو معجب بفلان هذا لأنه شجاع، أو لأنه ذكي، أو لأنه فصيح، فيطلب من امرأته أن تذهب إليه فيصيبها، من أجل أن تأتي بولد يحمل تلك الصفات، وينسب إليه هو، نعوذ بالله من الخذلان! فهذا كله كان موجوداً في الجاهلية.
إذاً: عندنا في سبب نزول هذه الآية أقوال ثلاثة: إما أن تكون نازلةً في مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه، ومعه عناق تلك الجاهلية المشركة، أما مرثد رضي الله عنه فمعلوم أنه قتل شهيداً في سرية الرجيع التي كان معه فيها خبيب بن عدي ، و عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ، و عبد الله بن طارق وغيرهم، رضوان الله على الجميع.
وإما أن تكون نازلةً في أم مهزول ، وإما أن تكون نازلةً في شأن أهل الصفة، والسبب بأنها نازلة في شأن أهل الصفة بعيد؛ لأنهم إذا كانوا يذهبون فيأكلون ويشربون فما مناسبة ذكر النكاح هنا؟ وإنما كان مناسباً أن يذكر أن مالهن حرام.
النكاح في القرآن يطلق على معنيين:
يطلق مراداً به: العقد، ويطلق مراداً به: الوطء، أو: مجموع العقد والوطء معاً، ومن إطلاقه على العقد: قول الله عز وجل في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49]، فواضح هنا بأن النكاح مراد به: العقد، (نكحتم المؤمنات) سماه الله نكاحاً، ثم قال: (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ)؛ ولذلك لو أننا عقدنا لإنسان يمكن أن نقول: نكح فلان فلانة، بمعنى: أنه عقد عليها.
وأما إطلاق النكاح على العقد والوطء معاً فكما في قول الله عز وجل: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة:230]، (فإن طلقها) أي: زوجها الطلقة الثالثة، فإنها تبين منه بينونةً كبرى، ولا تكون حلالاً له إلا إذا نكحها رجل آخر نكاح رغبة لا نكاح تحليل؛ فعاش معها ما كتب الله له أن يعيش، ثم طلقها أو مات عنها فتعتد منه، وبعد ذلك يجوز أن يتقدم الزوج الأول كخاطب من الخطاب، ويتزوجها ثانيةً، ويستقبل معها طلقات، والذي يدل على أن هذه الآية مراد بها مجموع العقد والوطء معاً: ( أن امرأةً طلقها زوجها يقال له: رفاعة، فتزوجت رجلاً آخر، ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو من هذا الزوج الثاني وأنه ما عنده إلا كهدبة الثوب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ قالت: بلى، قال: لا والله، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك )، بمعنى: أن هذا الرجوع لا يصح إلا إذا دخل بك الزوج الثاني.
قال الله عز وجل: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3]، (مشركة) اسم فاعل من الإشراك، وهو المتلبس بالشرك، والعياذ بالله! ومتلبس بالشرك، بمعنى: أنه يعبد مع الله غيره، فيصرف له أي نوع من أنواع العبادة، مثلما كان المشركون الأولون يقرون بأن الله هو الخالق الرازق المالك المتصرف، لكنهم كانوا يعبدون الأصنام فيطوفون بها، وينذرون لها، ويهتفون باسمها، ويتمسحون بحجارتها، ويقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، فالله جل جلاله حكم بأن هذا شرك، كذلك كانوا يدعون تلك الأصنام ويرجونها، والله عز وجل حكم بأن هذا شرك، فـ الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3]، ثم قال سبحانه: وَحُرِّمَ ذَلِكَ [النور:3]، والإشارة إلى النكاح، عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3].
والمسألة الأساس في هذه الآية الكريمة: هل يجوز للمسلم العفيف أن يتزوج زانيةً؟ وهل يجوز للمسلمة العفيفة أن تتزوج زانياً؟
نقول: اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: ذهب إليه جمهورهم -ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ، و مالك ، و الشافعي رحمة الله على الجميع- إلى صحة نكاح العفيف للزانية، وصحة نكاح العفيفة من الزاني.
واعلموا بأنه لا خلاف في جواز أن ينكح الزاني الذي تاب عفيفةً، ولا خلاف في جواز أن تنكح الزانية التي تابت عفيفاً؛ لأن بعض الناس يقول لك: أنا مارست الزنا ثم تبت إلى الله عز وجل، فهل يصح أن أتزوج؟ نقول له: هذه أصلاً ليس فيها خلاف، فالكلام ليس عن التائب ولا التائبة، وإنما الكلام عن إنسان، والعياذ بالله! ما زال يمارس الزنا، أو إنسانة ما زالت تمارس الزنا: هل يصح نكاحهما أم لا؟
أقول: ذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة و مالك و الشافعي- إلى صحة هذا النكاح، فلو أن إنساناً عفيفاً تزوج امرأةً زانية وهو يعلم، أو أن امرأةً عفيفةً تزوجت زانياً وهي تعلم بأنه زان فهذا النكاح صحيح، مع الكراهة التنزيهية عند المالكية.
والأدلة على ذلك ما يلي:
الدليل الأول: أن الله عز وجل لما ذكر المحرمات قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، فذكر ربنا المحرمات وهن سبع من النسب: أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ [النساء:23].
ومثلهن من الرضاعة، فقال: وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب )، فعلم بذلك أن بنتي من الرضاعة حرام، وكذلك عمتي، وخالتي، وبنت أخي من الرضاعة، وبنت أختي من الرضاعة كلهن حرام.
وذكر أربعاً من المصاهرة، فقال: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [النساء:22]، وقال: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23]، وقال: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ [النساء:23]، وقال: وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23]، فالمجموع ثمانية عشر امرأة، ثم قال تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24].
الدليل الثاني: قول الله عز وجل: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32]، وهذه الآية بعمومها تشمل الزانية والعفيفة.
الدليل الثالث: ما رواه أبو داود، والترمذي و النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن امرأتي لا ترد يد لامس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: غربها -وفي لفظ النسائي : طلقها- فقال: يا رسول الله! أخاف أن تتبعها نفسي، فقال له صلى الله عليه وسلم: أمسكها ).
قالوا: قوله: (إن امرأتي لا ترد يد لامس) هذا عند العرب كناية عن الزنا، أو كناية عن الفحش، فالنبي عليه الصلاة والسلام أمره بأن يفارقها، فالرجل بين للنبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه المرأة عندها في نفسه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمسكها).
إذاً: على هذا القول: ما معنى قول الله عز وجل: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3]؟ قالوا: معنى النكاح هنا: الوطء، فالزاني لا يطأ ولا يزني إلا بمن كانت مثله زانية أو أخبث منه، وهي: المشركة، والزانية لا تمكن من وطئها إلا من كان مثلها زانياً أو أخبث منها، وهو: المشرك، فحملوا النكاح في هذه الآية على معنى الوطء.
القول الثاني: قال به الإمام المبجل أحمد بن حنبل ، وكذلك الحسن البصري من قبله، و قتادة السدوسي رحمة الله على الجميع، قالوا: النكاح في الآية بمعنى: التزويج، فمعنى الآية: الزاني لا يتزوج إلا زانية، والزانية لا يتزوجها إلا زان.
وقوله تعالى: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3] يكون على قول الجمهور: وَحُرِّمَ ذَلِكَ [النور:3]، أي: الزنا، أما على القول الثاني (وحرم ذلك) أي: العقد أو التزويج.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر