بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، أما بعد:
ففي الآيات السابقات بين ربنا جل جلاله أن الكافرين عما أنذروا معرضون، وأنهم معاندون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يستوي عندهم الإنذار وعدمه؛ قال تعالى: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:10]، فهم لا ينتفعون بالإنذار ولا تؤثر فيهم الذكرى بل هم بمنزلة الأموات كما بين ربنا جل جلاله في كثير من آي القرآن حين قال: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]، ووصفهم جل جلاله بأنهم صم بكم عمي، لا ينتفعون بالذكرى ولا يؤثر فيهم الإنذار، ولا ينفع معهم وعد ولا وعيد ولا حديث عن جنة ولا نار.
ثم بعد ذلك الله عز وجل في هذه الآيات المباركات يقص عليهم خبر قرية كانت في الزمان الأول فعلت مثل الذي فعلوا، عاندت الرسل، عتت عن أمر ربها، وعصت رسله واتبعت أمر كل جبار عنيد، فأنزل الله بهم العقوبة والنكال، وهكذا دائماً القرآن لا يدع وسيلة للتذكير إلا أتى بها، فتارة ربنا جل جلاله يقص علينا من خبر الأولين، وتارة يضرب لنا الأمثال، وتارة يستعمل أسلوب الوعد والوعيد.. وهكذا.
يقول الله عز وجل مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: وَاضْرِبْ لَهُمْ[يس:13]، واضرب لهم يا محمد، والضرب بمعنى الجعل والوضع، مثل قوله سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [النحل:112-113].
وهنا يقول تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ[يس:13]، أصحاب القرية بمعنى أهلها، والمعنى: الأهل، وكلمة القرية في القرآن تطلق على القرية والمدينة، وهي ليست كاصطلاحنا الآن بأن المدينة تطلق على الحاضرة، والقرية تطلق على ما كانت دون ذلك مساحة وسكاناً؛ ولذلك يقول الله عز وجل: وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ[الأعراف:163]، والله عز وجل سمى مكة قرية، فالقرية مفهومها في القرآن أوسع مما استقر عليه الناس الآن.
قوله: إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [يس:13]، المرسلون جمع مرسل، وهو الرسول الذي بعث برسالة، مشتق من الإرسال بمعنى التوجيه؛ قال تعالى: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل:35].
أيها الإخوة الكرام! هذه القرية هل هي أنطاكية التي على حدود بلاد الشام مما يلي بلاد العجم على حدود الترك؟ وهل هؤلاء المرسلون هم صادق و صدوق و شلوم كما في بعض الكتب؟ أو يوحنا و شمعون أو يحيى و سمعان ؟ تعرفون دائماً أن القرآن الكريم حين يضرب المثل وحين يأتي بالقصة لا يذكر المكان ولا يسمي في الغالب الأشخاص، ولا يذكر التاريخ كذلك؛ لأن المقصود العبرة؛ قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ[يوسف:111].
وما هو مذكور في بعض كتب التفسير إنما هو نقل عن كتب أهل الكتاب التي فيها من التخليط والتخبيط والتضارب الشيء الكثير؛ ولذلك لا يعنينا هذه القرية أين هي ولا اسمها، ولا يعنينا هؤلاء المرسلون ما هي أسماؤهم، بل المقصود الاعتبار والاتعاظ والادكار.
يقول الله عز وجل: إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ[يس:14]، أرسل الله إليهم رسولين كريمين، فَكَذَّبُوهُمَا[يس:14]، يعني: أصحاب القرية هؤلاء المجرمون المعاندون كذبوا هذين الرسولين الكريمين.
يقول الله عز وجل: فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ[يس:14]، هذه قراءة العامة، أكثر القراء قرءوا بالتشديد: فَعَزَّزْنَا[يس:14]، بمعنى قوينا وشددنا، وقرأ شعبة عن عاصم بالتخفيف: (فعززنا بثالث)، بمعنى غلبنا وقهرنا؛ ولذلك الله عز وجل من أسمائه العزيز بمعنى الغالب القاهر جل جلاله.
(فعززنا بثالث)، ومنه في قصة الخصمين اللذين اختصما عند داود عليه السلام قال: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ص:23]، عزني بمعنى غلبني وقهرني.
يقول الله عز وجل: فَقَالُوا[يس:14]، أي: الثلاثة، إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس:14]، هؤلاء أفصحوا عن مهمتهم وبينوا وظيفتهم بأنهم مبعوثون من عند الله عز وجل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد على الصفا ونادى في أفخاذ قريش: ( يا بني عبد مناف! يا بني مخزوم! يا بني تيم! يا بني عدي! يا بني أمية بن عبد شمس! أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً قط، قال: فإني رسول الله إليكم جميعاً، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا )، فهؤلاء الرسل صلوات الله وسلامه عليهم قالوا لقومهم: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس:14]، فماذا كان الجواب الساذج أنهم قَالُوْا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا[يس:15]، هذا جواب الكفار جميعاً، فقوم نوح قالوا: مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً[المؤمنون:24]، وقوم هود قالوا: مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون:33]، وقوم فرعون قالوا لموسى وهارون: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، وقال الله عز وجل عن الكفار عموماً: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا[التغابن:6]، وثمود قالوا: أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ[القمر:24]، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يقولون لأقوامهم: إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ[إبراهيم:11]، أي: نحن بشر مثلكم، نأكل الطعام ونمشي في الأسواق، ولكن الله عز وجل يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، فنحن بشر مثلكم لكننا مؤيدون بالوحي، بشر مثلكم ولكننا معصومون.
قال علماؤنا: هناك فروق بين النبي والولي من سبعة وجوه، وهي: أول هذه الفروق: العصمة، فالنبي معصوم، والولي ليس كذلك، الولي يخطئ ويصيب، يعلم ويجهل، أما النبي فهو معصوم في تبليغه الوحي الذي أنزل إليه من ربه، ومعنى معصوم أنه لا يتعمد ذنباً.
الفرق الثاني: الوحي؛ فالنبي يوحى إليه، والولي ليس كذلك.
الفرق الثالث: تبليغ هذا الوحي.. النبي يعلم به كله ويبلغه كله، والولي ليس كذلك، لا يعلم به كله ولا يبلغه كله؛ فمثلاً سيد أولياء هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، فـأبو بكر الصديق لما جاءته الجدة تطلب ميراثها، قال لها: ( لا أجد لك شيئاً في كتاب الله، ولا أعلم لك شيئاً في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام محمد بن مسلمة ، فشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى للجدة السدس )، فهذا علم عند محمد بن مسلمة وخفي على أبي بكر ، وكذلك لما جاء أبو موسى يستأذن على عمر رضي الله عنه، فاستأذن ثلاثاً ثم رجع قال له عمر : ( لم جئت ولم رجعت؟ قال له أبو موسى : سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: الاستئذان ثلاث، فإن أذن لأحدكم وإلا فليرجع، قال له عمر : لتأتيني بشاهد أو لأجعلنك نكالاً، فجاء أبو موسى إلى المسجد منتقعاً لونه، وأخبر الصحابة بما قال عمر فقالوا: سبحان الله! خفي هذا على عمر ، والله لا يقوم معك إلا أصغرنا، قم يا أبا سعيد ، فذهب أبو سعيد مع أبي موسى وشهد عند عمر فقال عمر رضي الله عنه لـأبي موسى : ما اتهمتك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله )، يعني يقول له: أنت عندي مصدق أمين؛ لكن أردت أن ينتشر بين الناس بأن عمر رضي الله عنه يشدد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الفرق الرابع: وجوب الإيمان بالرسول واتباعه، فيجب علينا أن نؤمن بالرسول وأن نتبعه، أما الولي فليس كذلك، إذ ليس مطلوباً مني أن أؤمن بأن فلاناً ولياً، فعلمه عند ربي، اللهم إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ولي، ومن أمثال ذلك: الصحابة رضوان الله عليهم، نجزم بأنهم أولياء لله عز وجل؛ لأن القرآن أثنى عليهم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ).
الفرق الخامس: حسن الخاتمة؛ فالنبي نجزم له بأن الله عز وجل قد ختم له بالحسنى، والولي ليس كذلك، أمره إلى الله عز وجل.
الفرق السادس: الأمر الخارق الذي يأتي به النبي يكون مقروناً بالتحدي، والولي ليس كذلك، والأمر الخارق الذي يأتي به النبي هو المعجزة، فالنبي عنده أمر خارق والولي قد يكون عنده أمر خارق؛ لكن الفرق بينهما أن النبي يأتي بالمعجزة تحدياً؛ ولذلك قوم صالح لما قالو لصالح: فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ [الشعراء:154]، ما الآية التي تريدون؟ قالوا: نريد ناقة كوماء، يعني: سمينة بدينة وذات لبن كثير بارد في الصيف حار في الشتاء، فدعا الله عز وجل فانفلقت صخرة فخرجت ناقة على الصفة التي يريدون، قال لهم: هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء:155]، يعني: هي تشرب من البئر يوماً وأنتم تشربون يوماً، وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ[الأعراف:73] إلى آخر القصة المعروفة.
فهاهنا الطلب الذي طلبوه كان فيه تحد لهذا النبي وقد أُعطوا، وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لما طلبوا منه آية، أراهم القمر وقد انشق نصفين حتى كان نصف فوق جبل حراء ونصف دونه، قال: ( اشهدوا يا معشر قريش ).
فالولي لا يتحدى؛ بل الولي لو أكرم بكرامة من الله عز وجل لو كان ولياً حقاً فإنه يسترها، فلا يقول: أيها الناس! نحن أناس صالحون، ونحن كذا ونعمل كذا.. ويعمل له دعايات، وإنما يكتم ذلك؛ لأنه يخشى على نفسه من أن يفتن أو يفتتن، أو أن يضل أو أن يكون سبباً في إضلال الناس؛ ولذلك أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي كانت عندهم كرامات رضي الله عنهم لكنهم ما كانوا يشهرونها ويظهرونها.
إذاً: خوارق العادات التي يأتي بها النبي تكون مقرونة بالتحدي، والولي ليس كذلك.
الفرق السابع: النبي نجزم له بأنه في الجنة، والولي ليس كذلك، يعني: النبي نجزم له تعييناً بأنه من أهل الجنة، والولي ليس كذلك، وإنما نرجو له الجنة.
فهاهنا هؤلاء الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كانوا بشراً؛ لكنهم بشر قد خصوا بخصائص ليست لغيرهم؛ قال تعالى: إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ[إبراهيم:11]، وقد بين ربنا جل جلاله أن هذه هي العلة التي منعت الأمم السابقة من الإيمان بالرسل؛ قال تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً [الإسراء:94]، قال الله عز وجل: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً [الإسراء:95]، لو كان سكان الأرض ملائكة لجاءهم ملك، لكن سكان الأرض بشر فلا بد أن يكون الرسول إليهم بشراً؛ من أجل أن يأكل فيأكلوا مثله ويشرب فيشربوا مثله، وينكح ويتناسل ويمرض وينام.. وهذه كلها لا تتأتى من الملائكة؛ فلو جاءنا رسول من الملائكة، وهو لا يأكل الطعام! ولا ينام! كيف نقتدي به؟! فالملائكة يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20].
فهؤلاء الكفرة الفجرة قالوا لأولئك الرسل الثلاثة: مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ[يس:15]، أنكروا الرسالة، وهذه يوم القيامة ستكون سبباً للندامة، بعدما يلقى بهم في النار، تسألهم خزنتها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8]، ماذا يقولون؟ بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك:9]، ثم يشهدون على أنفسهم بأنهم كانوا صماً عمياً: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10]، وبين ربنا جل جلاله أن مرد هذا القول أنهم ما قدروا الله حق قدره، قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ[الأنعام:91].
فهؤلاء الكفرة قالوا: مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ[يس:15]، ثم أضافوا جريمة أخرى باتهام الرسل بالكذب حيث قالوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ [يس:15]، فماذا قال لهم الرسل؟ قالوا: رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس:16]، والملاحظ أنه في المرة الأولى قال الرسل الثلاثة صلوات الله وسلامه عليهم: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس:14]، وفي المرة الثانية قالوا: رَبُّنَا يَعْلَمُ[يس:16]، قال أهل التفسير: هذه تقوم مقام اليمين، وهذا يحصل في كلامنا، بعض الناس يقول: يعلم الله أني ما فعلت كذا، أو أني ما قلت كذا، إذا قلت: يعلم الله أو قلت: يشهد الله، معناه أنك تقول: والله الذي لا إله غيره.
فهنا قول الرسل: رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس:16]، يعني: والله الذي لا إله غيره إنا إليكم لمرسلون، ولاحظوا أنه في المرة الأولى قالوا: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس:14]؛ لأنه تقرير حقيقة، أما هاهنا: إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس:16]، هذه لام التوكيد الواقعة في جواب القسم، قالوا: لأنهم وجهوا بالإنكار، فهو جواب عن إنكار.
وقوله تعالى: وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [يس:17]، يعني: يقولون لأقوامهم: لا نملك قهركم ولا إرغامكم ولا إجباركم، وإنما مهمتنا التبليغ عن الله عز وجل ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، كما قال ربنا جل جلاله مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ[الشورى:48]، أي: إن أنت إلا رسول، وقال سبحانه: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ[فاطر:8]، وقال أيضاً: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، وقال أيضاً: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف:6]، وقال سبحانه أيضاً: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127]، فهؤلاء الرسل يقولون لقومهم: نحن مبلغون عن الله عز وجل فمن آمن كتب الله له الحسنى، ومن أعرض فقد سبقت له الشقاوة في الأزل.
لكن القوم ماذا قالوا لرسلهم إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ[يس:18]، أي: تشاءمنا، وهكذا الأقوام من قبلهم، قوم صالح قالوا لصالح: اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ[النمل:47]، بمعنى: تطيرنا، أو تشاءمنا، أي: نحن متشائمون بك وبمن معك، وكذلك قوم فرعون كما قال ربنا جل جلاله: فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ[الأعراف:131].
وكذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال ربنا جل جلاله عن الكفار: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ[النساء:78]، إذا جاءتهم حسنة.. والحسنة في القرآن يعبر بها عن الحال الطيبة؛ كالمطر، والنبات والسعة، يعني: إذا نما الزرع ودر الضرع وحصل الخير ورغد العيش فإن الله عز وجل يقول عنها حسنة، وبالمقابل إذا جف الضرع ولم ينبت زرع وحصل الجدب والضيق فإن الله عز وجل يسميها سيئة، وكذلك العقوبة يسميها الله عز وجل سيئة، وهذا من إطلاق السبب على المسبب.
فهؤلاء القوم قالوا لرسلهم: إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ[يس:18]، فما هي الطيرة؟!
الطيرة -والعياذ بالله- هي: التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم، وهذه موجودة عند الأولين وموجودة عند الآخرين؛ فبعض الناس إذا خرج من بيته فرأى غراباً رجع يقول: والله اليوم هذا ما هو جيد! كما لو رأى بومة، فهذا يتشاءم بالمرئي.
وبعض الناس يتشاءم بالمسموع، فلو خرج من بيته يريد سفراً أو تجارة أو كذا.. وسمع واحداً يقول للثاني: يا خايف، أو يا خاسر أو يا كذا.. يتشاءم بهذا الكلام الذي سمعه.
وبعض الناس يتشاءم بالمعلوم، كمن يتشاءم بيوم معين، أو برقم معين، كما في البلاد التي يقال عنها بأنها بلاد متقدمة تجد في كثير منها يتشاءمون بالرقم ثلاثة عشر، حتى في المصعد في بعض البنايات فالرقم ثلاثة عشر لا يوجد عند بعضهم وهكذا تتنوع فنون الجهالة عند الناس.
والطيرة سمة الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، أما المؤمن الطيب فإنه يعتقد أن كل شيء عند الله بقدر، كل شيء مكتوب؛ قال تعالى: لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51]، وقال سبحانه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقال أيضاً: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ[التغابن:11]، وقال الله عز وجل: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا[الحديد:22]، كل شيء مكتوب عند الله عز وجل، وتجد بعض الناس مثلاً إذا تعطلت سيارته أو انزلق على الأرض ففكت قدمه أو كسرت رجله.. يأتي الناس يعودونه فيقول لهم: والله في ذلك اليوم رأيت رجلاً أعوذ بالله! بس لو ما رأيته ما كان حصل هذا! وهذا ينافي التوحيد الذي أمرنا به من وجهين:
الوجه الأول: أن فيه قطعاً للتوكل والاعتماد على الله عز وجل؛ لأن الله أمرنا فقال: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159].
الوجه الثاني: أن فيه تعلقاً بالوهم والخيال؛ لأن الإنسان يعلق ما يحصل له على الأوهام والتخيلات لا على الحقائق، وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من التطير، فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر )، والحديث في الصحيحين.
فالنبي عليه الصلاة والسلام ينفي هذه الأربعة، (لا عدوى) بمعنى أن الإنسان لا يوسوس فيخاف إن يجلس إلى جوار فلان لأنه عنده كذا ..
قال أهل العلم: وليس المراد نفي العدوى بإطلاق، فالنبي عليه الصلاة والسلام أمرنا بألا نورد ممرضاً على مصح وأمرنا فقال: ( فر من المجذوم فرارك من الأسد )، فالرجل الذي عنده جذام نبتعد عنه، وأمرنا صلى الله عليه وسلم إذا وقع الطاعون بأرض ألا ندخلها، فإذا سمعت أن الطاعون حصل في بلاد الهند، فلا تذهب إلى الهند، وهذه ما يسمى اليوم بالحجر الصحي، وأمرنا صلى الله عليه وسلم إذا وقع الطاعون ونحن بأرض ألا نخرج منها.
لكن كيف نوفق بين هذا وذاك؟
بعض العلماء قالوا: أحد الخبرين ناسخ للآخر، ثم اختلفوا فبعضهم قال: الأول ناسخ للثاني، وبعضهم: الثاني ناسخ للأول، وبعض العلماء قال: لا نسخ! وإنما قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا عدوى.. )، ينفي أن تكون العدوى مؤثرة بذاتها، فالفاعل هو الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: ( لا عدوى )، وأحد من الأعراب قال: يا رسول الله! إن البعير يكون أجرب فيعدي الثاني، أي: كيف تقول: لا عدوى ونحن نعرف أن البعير إذا كان مصاباً بالجرب؟ فإنه يعدي من بجواره بالجرب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مصححاً: ( فمن أعدى الأول )؟ أي: إذا كانت العدوى هي الفاعلة، فالبعير الأول الجريب من أين أتاه الجرب؟!
ومعناه أن المرض ابتداء بتقدير من الله عز وجل.
لكنني مأمور أن آخذ بالأسباب، فواحد عنده جذام، أو عنده جرب، أو زكام، فلا أجلس إلى جواره، لكني أعتقد بأن الله لو قدر سيكون، وإن لم يقدر فلا يكون، هذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا عدوى ).
ثم قال: ( ولا طيرة )، لا طيرة: لا تشاؤم، الطيرة شرك لكن أي إنسان يحصل عنده أحياناً التطير، بل أي إنسان منا يتطير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث لا يسلم منهن أحد: الحسد والطيرة وسوء الظن، قالوا: فما المخرج يا رسول الله؟ قال: إذا حسدت فلا تبغ )، أي: لا تعتدي، ( وإذا تطيرت فامض، وإذا ظننت فلا تحقق )؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الطيرة شرك، قال ابن مسعود : وليس منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل )، أي: ليس منا إلا متطير، أحياناً الإنسان يتشاءم ببعض الأشياء.
وبالمقابل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل الحسن وتعجبه الكلمة الطيبة، كان يتفاءل عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك حين تعثرت المفاوضات في الحديبية وكل مرة المشركون يغيرون الوفد المفاوض، وأخيراً بعثوا إليه سهيل بن عمرو فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( سهل أمرنا إن شاء الله ).
فهؤلاء المشركون قالوا للرسل: إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ[يس:18]، أي: تشاءمنا بكم، لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ[يس:18]، يعني: إذا لم تتركوا الكلام هذا، وهو قولكم قولوا: لا إله إلا الله وآمنوا بالله وكذا وكذا.. لَنَرْجُمَنَّكُمْ[يس:18]، قيل المعنى: لنشتمنكم، وقيل المعنى: لنقتلنكم، وقيل المعنى: لنخرجنكم، وقيل: هو على بابه من الرجم بالحجارة، لنرجمنكم بالحجارة؛ ولذلك قوم نوح قالوا لنوح: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء:116]، من المرجومين، والشيطان أيضاً رجيم بمعنى: مرجوم، مطرود من رحمة الله عز وجل، هالك، ثم إننا نرجمه بالحجارة إذا ذهبنا إلى الحج إن شاء الله.
قال الله عز وجل على لسان هؤلاء المشركين: لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [يس:18]، وهذه أيضاً عادة المشركين في التهديد؛ ولذلك فرعون يقول لموسى: لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]، ولما قال له قومه: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127].
أسأل الله التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر