الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، البشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
فإن نوحاً عليه السلام قد بين بأنه قد استفرغ وسعه في الدعوة إلى الله، والدلالة على الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فاعتذر إلى ربه جل جلاله بأنه دعا قومه بالليل والنهار، سراً وعلانية، مثنى وفرادى ومجتمعين.
ثم بعد ذلك يعتذر إلى الله عز وجل ثانية فيقول: قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي[نوح:21]، هؤلاء القوم الذين لم آلو جهداً في دلالتهم على الخير ما رأيت منهم إلا الكفر والفسوق والعصيان والتمرد عليك يا رب.
قال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً[نوح:21]، وهذه القراءة -وَوَلَده- هي قراءة ابن عامر و نافع المدني و عاصم ، وقرأ الباقون: (واتبعوا من لم يزده ماله وَوُلْده إلا خساراً)، قيل: الوُلْد: جمع الولد، وقيل: الوَلَد والوُلْد لغتان، كالفَلَك والفُلْك.
يقول نوح عليه السلام: يا رب! إن هؤلاء القوم العاصين المتمردين قد اتبعوا كبراءهم الذين بسطت لهم في الأرزاق ووسعت عليهم في الأولاد، لكن هذه النعمة -نعمة المال ونعمة الولد- بدلاً من أن يشكروك عليها ما زادتهم إلا خساراً، وقد بين ربنا جل جلاله في القرآن بأن المال والأولاد فتنة لكثير من الناس، كما قال جل من قائل: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، وقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ[البقرة:258]، وكما قال: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ[سبأ:35]، فكثير من الناس إذا بسط الله له الرزق ووهبه الولد، فإن ذلك لا يدفعه إلى الطاعة والإذعان والشكر، وإنما يدفعه إلى المعصية والطغيان والكفر، عياذاً بالله!
قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً[نوح:22]، كبار: العظيم الكبير، يقال: كبير وكبار، مثلما يقال: طويل وطوال وطوال، ومثلما يقال: وضيء ووضاء، وأنشدوا في ذلك:
والمرء يلحقه بفتيان الندى خلق الكريم وليس بالوضاء
يعني يقال: الوَضاء، ويقال: الوضاء، فهما لغتان، فالكبار: الكبير العظيم.
يشكو نوح إلى ربه جل جلاله أن هؤلاء القوم كان مكرهم مكراً عظيماً، كما قال ربنا جل جلاله: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ[إبراهيم:46]، وما هو المكر الذي مكروه؟
قال بعض المفسرين: مكرهم: تحريشهم سفلتهم على قتل نوح، كانوا يحرضون على قتل نبي الله نوح عليه السلام، مثلما حرضت قريش على قتل محمد صلى الله عليه وسلم، ومثلما حرش اليهود على قتل المسيح عيسى بن مريم، على نبينا وعليه الصلاة والسلام بعدما قتلوا يحيى وأباه زكريا.
وقيل: المكر الكبار هو: ما كان من تغريرهم بضعفتهم حينما رأوا ما عليه السادة من كثرة الأموال والأولاد؛ فقالوا: لولا أنهم على الحق لما رزقوا هذا الرزق الوفير، وبعض الناس من سفهه وقلة عقله يظن أن الدنيا هي ميزان التفاضل، وأن من بسط الله له الرزق فهو المكرم عند الله، ومن ضيق الله عليه الرزق فهو المهان عند الله، كما قال ربنا جل جلاله: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ[الفجر:15-16]، وهذا حال كثير من الناس؛ ولذلك قال بعض الزنادقة:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً
هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقاً
هذا الشاعر يستغرب فيقول: كيف أن العاقل محروم والجاهل مرزوق؟! ولكن الآخر الذي نور الله بصيرته قال:
فلو كانت الأرزاق تجري على الحجا هلكن إذاً من جهلهن البهائم
أي: لو كانت الأرزاق بالعقول كانت البهائم ستهلك وتموت، لكن الله عز وجل قسم الرزق وفق حكمته جل جلاله، كما قال: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ[الرعد:26]، يوسع ويضيق سبحانه وتعالى، وقد علم ( أن من عباده من لا يصلحه إلا الفقر، ومن عباده من لا يصلحه إلا الغنى ).
وقيل: المكر الكبار: قولهم: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً[نوح:23].
فنوح عليه السلام يشكو إلى الله ضعف قوته وقلة حيلته، وعظم مكر هؤلاء الكفار الفجار، وَقَالُوا[نوح:23] - أي: هؤلاء الكفار، يوصي بعضهم بعضاً - لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ[نوح:23]، لا تتركن عبادة آلهتكم؛ بل استمسكوا بها وعضوا عليها، مثل ما قال كفار قريش عن رسولنا صلى الله عليه وسلم: إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا[الفرقان:42]، يعني: يمدحون أنفسهم بأنهم صبروا على عبادة الآلهة الباطلة، عياذاً بالله!
فنوح عليه السلام يحكي مقالتهم فيقول: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً[نوح:23] -وقرئ: وُداً- وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً[نوح:23]، هؤلاء الخمسة كانوا رجالاً صالحين، وكانوا محل محبة وتقدير من أقوامهم؛ فلما هلكوا جزعوا عليهم جزعاً شديداً، فزين لهم الشيطان -لعنه الله- أن ينصبوا في مجالسهم أنصاباً -تماثيل لهؤلاء القوم- فإذا رأوهم ذكروا ما كانوا عليه من الزهد والعبادة فقلدوهم واتبعوهم، فلما هلك هؤلاء الذين يعبدون الله ورأوا هذه الصور، وانتسخ العلم، خلف من بعدهم خلف عبدوا تلك الأصنام من دون الله عز وجل.
وهذه الأصنام كما روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: صارت الأصنام التي كانت في قوم نوح للعرب من بعدهم، فكان ود وهو ذلك الصنم الذي يدعى: وداً - لكلب، وكان سواعاً لهذيل، وكان يغوث لمراد ثم لبني غطيف، وكان يعوق لهمدان، وكان نسر لحمير لآل ذي الكلاع، يعني: أن العرب توارثت هذه الأصنام التي عبدها قوم نوح من دون الله، والعرب عبدت تلك الأصنام من دون الله عز وجل.
ثم قال تعالى: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً[نوح:24]، أي: أن هؤلاء القوم الضالين، أضلوا كثيراً.
ثم دعا عليهم نوح عليه السلام فقال: وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً[نوح:24]، يدعو عليهم بمزيد من الضلال؛ لأنه علم أن سنة الله عز وجل أن الضال الذي يصر على الضلال يزيده الله عز وجل ضلالة؛ كما قال تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً[مريم:75]، وقال سبحانه: ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ[التوبة:127]، وقال: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ[الصف:5]، وقال: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ[البقرة:88].
قال تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ[نوح:25] -وقرئ: مما خطاياهم- أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً[نوح:25]، (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ)، أي: من أجل خطيئاتهم، (ما) قامت مقام أجل، من أجل خطيئاتهم أو خطاياهم (أغرقوا فأدخلوا ناراً).
هؤلاء القوم أذنبوا ذنبين عظيمين: الضلال والإضلال، فعاقبهم الله عز وجل بعقوبتين: الإغراق ثم الإحراق، كل هذا بسبب خطيئاتهم -التي هي: الضلال والإضلال- وهما ذنبان حذر الله منهما، فقال عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ[المائدة:77]، فهؤلاء ضلوا وأضلوا.
(مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا)، ففتح الله عليهم أبواب السماء بماء منهمر، وفجر الأرض عيوناً، فَالْتَقَى الْمَاءُ[القمر:12]، ماء الأرض وماء السماء.
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لو رحم الله أحداً من قوم نوح لرحم امرأة كانت تحمل صبياً لها، فلما أدركها الغرق صعدت إلى جبل، فلما بلغ الماء ترقوتيها رفعت صبيها )، فلو رحم الله أحداً لرحم أم الصبي، لكن الله عز وجل أغرقهم جميعاً.
هذا الماء -والعياذ بالله- تحول عليهم إلى نار، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً[نوح:25]، ما نفعتهم الأموال ولا الأولاد؛ بل سيقول قائلهم: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ[الحاقة:28-29]، لا ينفعه المال ولا الولد؛ كما قال تعالى: لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ[الممتحنة:3]، وكما قال ربنا جل جلاله عن ذلك الكافر الجاحد بعدما أغرق جنته: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً[الكهف:44]، فهذا الكافر الجاحد لن يجد له ولياً ولا نصيراً.
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً[نوح:26]، يا رب! لا تترك على الأرض من الكافرين دياراً، الديار: ساكن الدار، بمعنى: لا تترك يا رب! من الكافرين أحداً، خذهم أخذ عزيز مقتدر، أرح منهم البلاد والعباد، والشجر والدواب.
قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يوم الأحزاب، فقال: ( اللهم منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم )، فدعا رسول الله على كافرين مخصوصين، ودعا نوح عليه السلام على الكفار أجمعين، وهذا أصل في مشروعية الدعاء على الكفار.
انتبهوا لهذا الكلام لأن بعض المسلمين الآن عندهم عاطفة جياشة تجاه الكفار، وعندهم حساسية مفرطة، فإذا سمعوا إماما ًعلى المنبر يدعو على الكفار يقولون: يا أخي تدعو عليهم لماذا؟! الدعاء عليهم ليس صحيحاً؛ لأن الإسلام دين رحمة.
ونحن نقول: نعم، الإسلام دين رحمة، ولكن أعرف بالإسلام نوح ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وأعرف بالإسلام موسى عليه السلام، فنوح قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً[نوح:26]، وموسى عليه السلام قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ[يونس:88]، فالدعاء على الكفار بالعموم لا مانع منه، والممنوع هو: التخصيص، يعني لا تقل: اللهم أهلك فلاناً؛ لأنك لا تدري خاتمته، ربما في علم الله أنه يسلم ويختم له بالخير.
أما دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على أشخاص بخصوصهم حين قال: ( اللهم عليك بـشيبة ، اللهم عليك بـعتبة، اللهم عليك بـالوليد بن عتبة )، فقتلوا يوم بدر كفاراً، قال ابن العربي رحمه الله: هؤلاء الذين كشف الله حالهم وأعلم رسوله صلى الله عليه وسلم مآلهم، كما أعلمه مآل أبي لهب ، بأنه سيصلى ناراً ذات لهب، كذلك هؤلاء الذين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم تخصيصاً، كشف الله عز وجل له حالهم وأعلمه مآلهم.
وهنا نوح عليه السلام دعا الله عز وجل على الكفار بالعموم لاعتبارين:
الاعتبار الأول: بأن الله عز وجل قد أيأسه حيث قال له: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ[هود:36]، قال له: لن يزيد عدد المؤمنين الذين معك على الأربعين أو الخمسين والباقون قد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، واتخذوا أهواءهم آلهة تعبد من دون الله، فهذا اعتبار.
الاعتبار الثاني: بأنهم قد تحدوه فقالوا: يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا[هود:32]، أي: أقفلوا باب النقاش مع نوح عليه السلام؛ ولذلك قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ[نوح:26-27] أي: يا رب! إن تترك هؤلاء الكفار يُضِلُّوا عِبَادَكَ[نوح:27]، سيكونون سبباً في إضلال الناس، وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً[نوح:27]، من أين علم عليه الصلاة والسلام مع أن هذا قدر؟ من أين علم أنهم لن يلدوا إلا فاجراً كفاراً؟ من قول ربنا: لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ[هود:36]، فطالما أن الله عز وجل قد أخبره بذلك، فمعنى ذلك أنه لن يكون بعد ذلك مؤمن، لا صغير ولا كبير.
ويذكر بعض المفسرين بأن نوحاً عليه السلام دعا بهذه الدعوة لما مر به رجل يحمل على كتفه ولده الصغير فخاطب الرجل ولده وقال له: يا بني! هذا نوح لا تؤمن به ولا تصدقه! فأراد الغلام أن يثبت لأبيه بأنه أكفر منه فقال له: يا أبت! أنزلني؛ فلما أنزله أخذ فهراً -أي: حجراً- فضرب به نوحاً فشجه! هذا صنيع الغلام.
ولذلك نوح عليه السلام قال: وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً[نوح:27]، أي: في أفعاله، (كَفَّاراً)، أي: بقلبه، فجمع والعياذ بالله! بين سوء المعتقد وخبث العمل؛ ولذلك العرب تقول: لا تلد الحية إلا حية.
ثم ختم عليه الصلاة والسلام دعاءه بهذه المناجاة المباركة، فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً[نوح:28]، التبار: الهلاك، ومنه قول صالح: فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ[هود:63].
بقي لنا آداب الدعاء:
أولها: أن يناجي الإنسان ربه جل جلاله بالربوبية: رب، وهذا يتكرر في القرآن، قال موسى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ[يونس:88]، وقال إبراهيم: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ[إبراهيم:37]، ثم قال بعدها: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ[إبراهيم:41]، وقال قبلها: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ[إبراهيم:40]، والله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ[الإسراء:80].
فهذا أفضل ما ندعو به ربنا سبحانه وتعالى، (يا ربنا!) ولذلك الإمام مالك لما سمع رجلاً يقول: يا إلهي! يا سيدي! فقال له: يعجبني دعاء الأنبياء: ربنا.. ربنا.. ربنا.
ثانيها: يبدأ الإنسان في الدعاء بنفسه أولاً، فيقول: رب اغفر لي، ومثله أيضاً لو دعوت لإنسان تقول له: غفر الله لي ولك، أو الله يتوب علي وعليك؛ ولذلك نوح قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي[نوح:28].
ثالثها: الدعاء للوالدين؛ لأن أولى الناس بدعائك والداك، فاجعل دائماً في سجودك لوالديك نصيباً؛ فقد علمنا ربنا في القرآن أن يقول أحدنا: رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً[الإسراء:24]، أي: تدعو الله عز وجل لوالديك، كان سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه إذا أصبح يأتي أمه فيقول لها: السلام عليك يا أماه! ورحمة الله وبركاته، رحمك الله كما ربيتني صغيراً، فتقول له: وعليك السلام يا بني! ورحمة الله وبركاته، رحمك الله كما بررتني كبيراً، فهو يدعو لها وهي تدعو له، فالإنسان بعدما يدعو لنفسه يدعو لوالديه.
ثم بعد ذلك قال: وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً[نوح:28]، وقرئ: بيتي مؤمناً، قيل: البيت: المسجد، وقيل: الآية على ظاهرها: البيت الذي يسكنه الإنسان، يدعو لمن دخل بيته حال كونه مؤمناً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي ).
فنوح عليه السلام خصص، ثم عمم، ثم زاد في التعميم، فقال: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ[نوح:28]، الله أكبر! نوح عليه السلام يدعو لكل مؤمن، سابقاً كان أو لاحقاً، كما نقول في صلاتنا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإنك إن قلتها سلمت على كل عبد صالح في الأرض وفي السماء )، في كل مكان.
ثم رجع نوح للدعاء على الظالمين، فقال: وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً[نوح:28]، أي: إلا هلاكاً وضياعاً وخساراً.
وبذلك انتهى الكلام على تفسير سورة نوح.
أسأل الله أن يجعلنا من المنتفعين المعتبرين المتعظين!
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر