فصلٌ في أحكام العين المؤجرة: ويشترط في العين المؤجرة معرفتها برؤية أو صفة، في غير الدار ونحوها، وأن يعقدا على نفعها دون أجزائها، فلا تصح إجارة الطعام للأكل، ولا الشمع ليُشعله، ولا حيوان ليأخذ لبنه إلا في الظئر، ونقع البئر، وماء الأرض يدخلان تبعًا، والقدرة على التسليم، فلا تصح إجارة الآبق والشارد، واشتمال العين على المنفعة، فلا تصح إجارة بهيمةٍ زَمِنه للحمل، ولا أرض لا تنبت الزرع، وأن تكون المنفعة للمؤجر, أو مأذونًا له فيها.
وتجوز إجارة العين لمن يقوم مقامه لا بأكثر منه ضررًا. وتصح إجارة الوقف، فإن مات المؤجر فانتقل إلى من بعده لم تنفسخ، وللثاني حصته من الأجرة، وإن أجر الدار ونحوها مدةً ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صح، وإن استأجرها لعمل كدابةٍ لركوب إلى موضع معين، أو بقرٍ لحرث أو دياس زرع، أو من يدله على طريقٍ اشترط معرفة ذلك، وضبطه بما لا يختلف، ولا تصح على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القرية].
تقدم لنا تعريف الإجارة، وذكرنا تعريفها في اللغة والاصطلاح، وأيضاً تقدم لنا حكم الإجارة, وأنها من العقود المباحة، وذكرنا دليل ذلك من القرآن والسنة, وإجماع العلماء رحمهم الله، وأن الإجارة نوعٌ من البيع؛ إذ هي بيعٌ للمنافع، وعلى هذا يثبت فيها خيار المجلس وخيار الشرط، وغير ذلك من الخيارات كما سلف.
وبدأنا بشروط الإجارة، وأخذنا من شروط الإجارة معرفة المنفعة، فيُشترط معرفة المنفعة؛ لأن المنفعة هي المعقود عليها، فلابد من معرفتها، وذكرنا طريق معرفة المنفعة: إما أن يكون عن طريق اللفظ، وإما أن يكون عن طريق الوصف.
وأيضاً تكلمنا عن الشرط الثاني: وهو معرفة الأجرة، وذكرنا أن الأجرة أيضاً تُعرف: إما عن طريق اللفظ، وإما عن طريق الوصف.
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: الشرط الثالث من شروط صحة الإجارة: أن تكون المنفعة المعقود عليها مباحة، فإن كانت محرمة فلا يصح ولا يجوز.
ويدل لهذا قول الله عز وجل: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، ولا شك أن المنفعة إذا كانت محرمة فإن هذا من باب التعاون على الإثم والعدوان، فإذا أجر بيته مثلاً لمن يشرب فيه الخمر، أو أجر أرضه لمن يشرب فيها الخمر، أو يشرب فيها الدخان، لا شك أن هذا من قبيل التعاون على الإثم والعدوان، والله عز وجل يقول: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه )، فلما كان هذا الفعل وسيلة إلى محرم استحقوا الطرد والإبعاد عن رحمة الله عز وجل، والوسائل لها أحكام المقاصد.
فنقول: يشترط أن تكون المنفعة المعقود عليها مباحة، فإن كانت محرمة فلا يجوز، وضرب المؤلف رحمه الله تعالى أمثلةً لذلك، فقال: (كالزنا)، فلو أجر بيته لمن يعمل فيها الفاحشة، فنقول: هذه الإجارة محرمة, ولا تجوز؛ لما فيها من التعاون على الإثم والعدوان, ولما ذكرنا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( قاتل الله اليهود).
قوله: (والزمر والغناء)، يعني: تأجير العين لمثل هذه المحرمات من الزمر والغناء، نقول: بأن هذا محرم ولا يجوز.
ونأخذ أيضاً من قوله رحمه الله: (على نفع محرم كالزنا, والزمر, والغناء)، نأخذ: أن المؤلف يرى أن المزامير والأغاني محرمة لا تجوز، ولهذا لم يُصحح الإجارة لمن يعمل هذه الأشياء.
وقوله رحمه الله: (وجعل داره كنيسة أو لبيع الخمر) هذه -أيضاً- أمثلة ذكرها المؤلف رحمه الله، والضابط في ذلك أنه يشترط أن تكون المنفعة المعقود عليها مباحة, فإن كانت محرمة فإن هذا لا يجوز؛ لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان.
وتأجير من يعمل معصية ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ألا يكون ذلك على سبيل التبع، كما مثل المؤلف رحمه الله لذلك، يعني: لا تكون المعصية تابعة لأمر مباح، بل لأمر محرم لا يجوز، ليس على سبيل التبع، وإنما هو محرم على سبيل الاستقلال، فنقول: بأن هذا محرم ولا يجوز، كما لو أجر بيته لمن يشرب فيها الخمر، أو أجر حَوشه لمن يجتمع فيه على شرب الدخان، أو النظر إلى آلات اللهو من الصور والأفلام وغير ذلك فكل هذا محرم لا يجوز؛ لما تقدم، ومثل ذلك أيضاً لو أجر الدكان لمن يبيع فيه الدخان، حتى لو باع فيه أشياء مباحة وأشياء محرمة فنقول: هذا لا يجوز، مثلاً: أجره، لكي يبيع فيه مواد غذائية. ويبيع فيه الدخان، فهذا لا يجوز؛ لأنه أجره لكي يبيع أشياء محرمة.
القسم الثاني: ألا يكون ذلك على سبيل الاستقلال، وإنما جاء على سبيل التبع، يعني: الإجارة على أمر مباح، لكن جاءت الأشياء المحرمة تبعًا، فنقول: هذا لا بأس به, وإن كان الأحوط أن يُترك.
فمثلاً لو أجر داره لمن يسكنها، لكن هذا الساكن شرب فيها الدخان، أو استمع فيها إلى الغناء ونحو ذلك، فنقول: هو أجره للسكن ولم يؤجره من أجل شرب الدخان، أو من أجل سماع الغناء ونحو ذلك، فهذا جائز، وإن كان الأحوط أن يُترك مثل هذا، وأن يُشرط عليه ألا يفعل المحرم، لكن لو فعل المحرم فالإجارة صحيحة.
تقدم لنا أن الجار يجب عليه أن يُمكن جاره من وضع أطراف خشبه على جداره، وتقدم لنا حديث أبي هريرة في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يمنعن جارٌ جاره أن يغرز خشبه -أو خشبة- في جداره ) مالي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم، فنقول: الأصل أن الجار يجب عليه أن يمكن جاره من وضع الخشب أو غيره على جداره، المهم أنه يستفيد من الجدار بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون محتاجاً لذلك.
والشرط الثاني: ألا يكون هناك ضرر على الجدار.
فإذا توفر الشرطان, فإنه يجب على الجار أن يمكن جاره من الانتفاع بجداره، فإذا اختل شرطٌ، ولنفرض أن الجار ليس محتاجاً إلى وضع الخشب على جدار جاره، أو أن الجدار يلحقه ضرر فلا بأس أن يستأجره.
وقوله رحمه الله: (وتصح إجارة حائطٍ لوضع أطراف خشبه عليه). نقول: يصح أن يستأجر الحائط لوضع أطراف الخشب عليه؛ لأن المنفعة مباحة؛ ولأن الحاجة داعية لذلك، والأجرة تكون تبع المدة، كأن يؤجره كل سنة بكذا وكذا، فتكون الأجرة تبعاً للمدة.
هل تملك المرأة أن تؤجر نفسها, أو نقول بأنها لا تملك ذلك؟ المؤلف رحمه الله تعالى يقول بأن المرأة لا تملك أن تؤجر نفسها؛ لأن المشغول لا يُشغل، فالمرأة الآن مشغولة بحق الزوج، فهي محبوسة بمنفعة الزوج، أي: منفعة الاستمتاع ولهذا يجب عليه أن ينفق عليها، والأقرب في ذلك أن يقال بأن تأجير المرأة نفسها ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون ذلك على مدة، فنقول: بأنها لا تملك ذلك إلا بإذن الزوج، كأن تؤجر نفسها من الساعة السابعة إلى الساعة الثانية عشرة، كأن تعمل في تدريس أو غير ذلك من الأعمال أو الوظائف.
فنقول: بأنها لا تملك ذلك؛ لأنها تفوت حق الزوج من الاستمتاع في هذه المدة، إلا إذا كان هناك شرط عند عقد النكاح، فلو أن المرأة اشترطت أنها ستعمل، فالمسلمون على شروطهم، ولا يجوز للزوج أن يمنعها من ذلك.
القسم الثاني: أن تكون الإجارة على عمل، كأن تؤجر نفسها للخياطة، أو للطبخ، أو للغسل، أو غير ذلك من أعمال النساء، فنقول: هذا جائز ولا بأس به؛ لأن هذا لا يفوت حق الزوج، فهي محبوسة في بيتها، اللهم إلا إذا كان هناك ضرر على الزوج، فنقول بأنه يملك أن يمنعها, إلا إذا كان هناك شرط، فإن المسلمين على شروطهم.
هذه شروط خاصة بالعين المؤجرة، وتقدم أن المؤلف رحمه الله ذكر ثلاثة شروط فهي لعموم الإجارة، وهذه الشروط التي سيذكرها المؤلف رحمه الله شروط خاصة في العين المؤجرة، كأن تكون العين المؤجرة بيتاً أو سيارةً أو نحو ذلك.
هذا هو الشرط الأول، حيث يشترط في العين المؤجرة أن تُعرف هذه العين المؤجرة، وطريق المعرفة كما قال المؤلف رحمه الله: بأن يرى العين المؤجرة، فمثلاً: أراد أن يستأجر بيتاً، يشترط: أن يرى هذا البيت، أو أراد أن يستأجر سيارةً، يشترط: أن يرى هذه السيارة، فهذا هو الطريق الأول.
الطريق الثاني: الوصف، فمثلاً: إذا أرد أن يستأجر سيارة، يقول: أجرتك سيارة صفتها كذا وكذا، وتأريخ صناعتها كذا وكذا، يعني: يذكر الأوصاف التي تختلف بها الأجرة اختلافًا ظاهرًا، أما استقصاء جميع الأوصاف فهذا متعذر، لكن يذكر الأوصاف التي يُحتاج إليها.
والمؤلف رحمه الله ذكر طريقين؛ إما الرؤية، وإما الوصف، والصحيح أنَّ الضابط في ذلك كما أشرنا إلى هذا في البيع، أنه يختلف باختلاف الزمان والمكان، وربما تكون هناك طرق أخرى، والمهم أن أي طريق ينفي الجهالة عن العين المؤجرة فإنه طريق صحيح.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (في غير الدار ونحوها).
نحو الدار هي الأشياء التي لا يصح السلم فيها، وقد تقدم لنا الضابط فيما يصح السلم فيه وما لا يصح السلم فيه، وقلنا: كل ما انضبط بالوصف صح السلم فيه.
وسبق أن بينا أنهم يقولون: بالنسبة للعقارات لا يصح السلم فيها، وأيضاً العقارات على المذهب لا تُباع بالوصف، كذلك أيضاً لا تؤجر بالوصف، ولهذا إذا أراد أن يبيع أرضًا، قالوا: يذهب وينظر إلى الأرض، أما أن يقول: هي أرض صفتها كذا وكذا، فنقول: هذا لا ينضبط بالوصف، وإذا أراد أن يؤجره بيتًا، فلا يقول: أجرتك الشقة الفلانية التي صفتها كذا وكذا، قالوا: لأن هذا لا ينضبط بالوصف.
وعلى هذا قال: الدار ونحو الدار مما لا يصح السلم فيه، فهذه يشترط فيها الرؤية، ولا يكفي فيها الوصف، هذا هو المشهور من المذهب، وهو أيضاً مذهب الشافعية.
والرأي الثاني: رأي المالكية أنه يكفي الوصف إذا انضبطت به، وهذا القول هو الصواب، ومثل وقتنا الحاضر تضبط بالوصف، يعني: إذا قال لك مثلاً: أجرتك الشقة الفلانية في الدور الثاني، وعدد الغرف كذا، ومساحة الغرف كذا فإنها تنضبط بذلك، فالدقة في البناء في الزمن السابق ليست كالدقة الموجودة اليوم، حتى الآن في قطع الأراضي تخطيط الأراضي ووضع المخططات تضبط بالوصف، فهناك فرق بين هذا الزمن وبين زمن السلف، فالصحيح أنه إذا أمكن ضبطها بالوصف كما سلف صح أن تُباع، ويصح أيضاً أن تؤجر إذا ضُبطت بالوصف.
وسبق أيضاً قول المؤلف رحمه الله: (ويشترط في العين المؤجرة معرفتها برؤيةٍ, أو صفةٍ)، سبق أن تكلمنا على هذه المسألة أيضاً في كتاب البيع، وأنه لابد من معرفة السلعة برؤية أو صفة ونحو ذلك، وسبق أن ذكرنا رأي الحنفية أنه يجوز أن يبيع شيئًا، أو يجوز أن يشتري شيئًا لم يره ولم يوصف له، ويكون له خيار الرؤية.
مثلاً لو قال: بعني سيارتك، فقال: بعتك سيارتي بمائة ألف، ولم يرها, ولم توصف له، فيصح هذا البيع عند الحنفية ويكون له خيار الرؤية؛ لأن العلة وهي الغرر انتفت، فما دمنا أثبتنا له خيار الرؤية انتفت العلة، كذلك أيضاً هنا على رأي الحنفية لو أنه أجره العين، ولم يرها ولم توصف له، فنقول: يصح ذلك ويثبت له خيار الرؤية.
هذا هو الشرط الثاني من شروط صحة العين المؤجرة: أن يعقد على عينها ولا يعقد على أجزائها؛ لأن الإجارة بيع للمنافع، فلا دخل للأجزاء في الإجارة، فيرون أن مورد العقد في باب الإجارة هي المنافع دون الأجزاء، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى، وفرع عليه، وهو قول جمهور أهل العلم.
والرأي الثاني: أن مورد العقد في باب الإجارة هو العين دون المنافع؛ لأن المنافع معدومة، وهذا قال به بعض الشافعية.
وعند شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله: أن مورد العقد في باب الإجارة كل ما يحدث ويتجدد بدله مع بقاء العين، سواء كان عينًا أو منفعةً وهذا الرأي الثالث.
فالمؤلف لما كان يرى أن مورد العقد في باب الإجارة هي المنافع دون الأجزاء، قال رحمه الله: (فلا تصح إجارة الطعام للأكل، ولا الشمع ليُشعله).
لو قال: أجرتك هذا الرز للأكل لا يصح؛ لأن الإجارة تكون على المنافع ولا تكون على الأعيان، فهذا لا يصح أن يعقد عليه عقد إجارة، ولكن يعقد عليه عقد بيع؛ لأن البيع مورد العقد فيه على الأعيان، أما الإجارة فإن مورد العقد فيها إنما هو على المنافع، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.
والرأي الثاني: أنه يصح أن تؤجر الطعام للأكل، وأن تؤجر الشمع لمن يشعله، ولا بأس به، ويكون هذا من قبيل الإذن بالإتلاف.
ونظير ذلك ما لو قال: أجرتك هذا البيت كل شهر بمائة ريال، فهنا الآن أتلف هذه المنافع كل شهر بمائة ريال، أيضاً أتلف من هذا الطعام النصف بقيمته كذا وكذا، ونظير ذلك لو قال: أجرتك هذا البيت أو هذه السيارة كل شهر بكذا وكذا، فهذا جائز ولا بأس به، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ونظير ذلك أيضاً كما ذكر ابن القيم رحمه الله، لو قال: بعتك من هذا الشمع كل أوقية بكذا وكذا، فهذا جائز، ونظيره أيضاً لو قال: أجرتك هذا الشمع كل أوقية تتلف بكذا وكذا، مع أن الأصل في ذلك الحِل والصحة، فيظهر والله أعلم أن مثل هذا جائز ولا بأس به.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا حيوانٍ ليأخذ لبنه إلا في الظئر).
يعني ما يصح أن تؤجره البقرة أو أن تؤجره الشاة لكي يأخذ اللبن، وهذا هو المذهب وهو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى؛ لأن الإجارة عقد على المنافع لا على الأعيان، والمقصود هنا العين وليست المنفعة.
الرأي الثاني في هذه المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام وقول عند الحنابلة: أن هذا جائز ولا بأس به، ونظير ذلك لو قال: أجرتك الشاة كل مُدٍ من الحليب بريالين، أو أجرتك البقرة كل صاعٍ من الحليب بعشرة ريالات، فهذا جائز ولا بأس به، ويدل لذلك قول الله عز وجل: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6].
ولهذا المؤلف رحمه الله يستثني الظئر، قال: (إلا في الظئر)، أي: المرضعة، وسبق أنهم يقولون: أنه يجوز أن تستأجر المرضعة لترضع الولد بطعامها وكسوتها، فهذا جائز ولا بأس به، فهذا مثله، يعني: كونك تستأجر البقرة، كل صاع من الحليب بعشرة ريالات هذا جائز ولا بأس به، وكما أسلفنا يدل لذلك وروده في قول الله عز وجل: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6]، فالصواب في ذلك أن هذا جائز ولا بأس به.
قال رحمه الله: (ونقع البئر وماء الأرض يدخلان تبعًا).
المؤلف رحمه الله تعالى قال: المورد في الإجارة على المنافع، لكن سيرد عليه إشكال، سيرد عليه نقع البئر، وهو الماء الموجود في البئر، فأنت إذا استأجرت البئر أو استأجرت الأرض التي فيها البئر، سيكون العقد على الأعيان أم على المنافع؟ على الأعيان؛ لأنك تتلف الماء. كذلك أيضاً إذا استأجرت أرضًا وفيها ماء، سيكون العقد أيضاً على الأعيان، سيتلف هذا الماء، فسيكون العقد على الماء.
فأراد المؤلف رحمه الله أن يزيل هذا الإشكال فقال: لا توردون عليها نقع البئر, ولا توردون عليها ماء الأرض، فإن نقع البئر, وماء الأرض تبع للأرض، وتبع للبئر، والقاعدة أنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، وإن كان مورد الإجارة على المنافع، لكنه هنا إذا استأجر الأرض وفيها الماء، أو استأجر البئر وفيه الماء فإن المورد وإن كان على الأعيان، لكنه جاء تبعاً وما جاء على وجه الاستقلال، فهو أراد أن يتخلص من ذلك؛ لأنه إذا استأجرت الأرض وفيها ماء، فقطعًا ستنتفع بالماء، والماء عين فمورد الإجارة هنا جاء على العين، فلكي يتخلص من هذا الإشكال، قال: بأن هذا جاء على سبيل التبع، وليس مقصودًا، وإنما هو تبع للأرض، ويثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالاً.
ولكن هذا على القول بما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، والصواب كما أسلفنا: أن مورد العقد في باب الإجارة على المنافع التي تحدث وتتجدد فيصح حتى على الماء، وحتى على الشمع لكي يشعله، والطعام لكي يأكله.
هذا هو الشرط الثالث: القدرة على تسليم العين المؤجرة، فلا يصح أن يؤجر سيارة مسروقة أو مغصوبة، أو أرضاً مغصوبة. فقوله رحمه الله: (فلا تصح إجارة الآبق والشارد)، يعني الرقيق الآبق، ولا الجمل الشارد، ولا الطير في الهواء.
وتقدم لنا هذا في باب البيع، وذكرنا الكلام على هذه المسألة وأنه هل يصح بيع العين التي لا يُقدر على تسليمها؟ وذكرنا دليل ذلك، وذكرنا أن الصواب في هذه المسألة أنه يصح البيع على من يقدر على تحصيل هذه الأشياء، فكذلك أيضاً نقول هنا: يصح تأجير هذه الأعيان على من يستطيع أن يخلصها.
فمثلاً: يصح أن تؤجر الأرض على الغاصب، أو على من يقدر على تخليصها من الغاصب، أو تؤجر السيارة المسروقة على من يستطيع أن يخلصها من السارق؛ لأن العلة هنا انتفت، والعلة هي حصول الغرر وقد انتفت، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
أيضاً يقول المؤلف رحمه الله: لابد أن تشتمل العين المؤجرة على المنفعة، فإن كانت العين المؤجرة خالية المنفعة، لم تصح الإجارة؛ لأن العقد إنما هو على المنافع، نقول: بأن العقد على المنافع فلا تصح الإجارة على عين خالية من المنافع.
فقوله رحمه الله: (إجارة بهيمة زمنة للحمل).
البهيمة الزمنة -التي هي مريضة- لا يصح أن تؤجر للحمل، فهذه البهيمة التي لا تستطيع المشي لا يصح أن تؤجر للحمل، ومثل ذلك سيارة عطلانة تؤجر للركوب أو للحمل لا يجوز هذا.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا أرض لا تنبت الزرع).
تأجير الأرض التي لا تُنبت لأجل الزرع، هذا لا يجوز.
هذا هو الشرط الخامس: أن تكون العين المؤجرة ملكًا للمؤجر، أو مأذونًا له في التأجير، والذي يؤذن له في التأجير أربعة كما تقدم: وهم الوكيل، والناظر، والوصي، والولي.
الوكيل: من استفاد التصرف في حال الحياة، والوصي: من استفاد التصرف بعد الوفاة، والناظر: هو القائم على الأوقاف، والولي: هو القائم على القصر، كما سبق في باب الحجر، فلا بد أن يكون المؤجر مالكًا للعين المؤجرة، أو مأذونًا له في ذلك.
ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تبع ما ليس عندك )، وقول الله عز وجل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188].
وعلى هذا يرد عندنا ما يسمي بالتصرف الفضولي، يعني: لو أجر ملك غيره، كما لو أجر سيارة غيره أو بيت غيره، هل تصح هذه الإجارة؟ تقدم لنا كلام العلماء رحمهم الله في التصرف الفضولي، وأن المشهور من مذهب الإمام أحمد والشافعي أن التصرف الفضولي لا يصح، وعلى هذا لو أجر ملك غيره فلا تصح الإجارة، ولو أذن له المالك.
والرأي الثاني: رأي الحنفية والمالكية أن هذا صحيح، وعلى هذا لو أجر ملك غيره فنقول: بأن الإجارة صحيحة مع الإذن، ويدل لذلك حديث عروة بن الجعد رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وكله أن يشتري له شاة أُضحية، فذهب واشترى شاةً, وفي الطريق باع الشاة بدينارين، واشترى بأحدهما شاةً، ورجع للنبي صلى الله عليه وسلم, بشاة ودينار، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم.
إجارة العين هل هي جائزة؟ المؤلف رحمه الله تعالى يقول: بأن إجارة العين جائزة؛ لأنه مالكٌ للمنفعة، فالمستأجر مالك لأنه اشترى منافع هذه العين، فمثلاً: استأجر الدكان لمدة سنة، أو البيت لمدة سنة، فإنه يملك أن يؤجر هذا الدكان؛ لأنه مالكٌ لمنفعة هذا الدكان هذه المدة، فنقول: يملك أن يؤجره.
لكن اشترط المؤلف رحمه الله فقال: (لمن يقوم مقامه لا بأكثر منه ضررًا)، يعني: الأقسام ثلاثة:
القسم الأول: أن يؤجره بمثل الضرر، فهذا جائز.
القسم الثاني: أن يؤجره بأقل منه ضررًا، فهذا حكمه جائز.
القسم الثالث: أن يؤجره بأكثر منه ضررًا، فنقول: هذا غير جائز.
مثال ذلك: استأجر البيت للسكنى، فإذا أجره لمن يسكن أيجوز, أم لا يجوز؟ وهل هذا مثل الضرر، أم أقل, أم أكثر؟ الجواب: هو مثل الضرر، وعليه فنقول: هذا جائز ولا بأس به.
مثال آخر: استأجر البيت للحدادة، فهل يجوز أن يؤجره لمن يسكن أو لا يجوز؟ الجواب: هذا يجوز؛ لأنه أقل ضررًا.
مثال ثالث: استأجر البيت لأجل السكنى، هل يجوز أن يؤجره لمن يعمل فيه حدادة؟ نقول: لا يجوز؛ لأنه أكثر ضررًا، ولهذا قيد المؤلف فقال: لا بأكثر ضررًا، فلا بأس إذا كان بمثل الضرر أو بأقل منه، أما بأكثر فإن هذا لا يجوز.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله تعالى: أنه يجوز أن يؤجر العين المؤجرة، سواء كان ذلك بمثل الثمن، أو بأقل، أو بأكثر، أما بمثل الثمن أو بأقل منه فهذا ظاهر، لكن بأكثر منه هل هو جائز؟
للعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان, الرأي الأول: وهو ظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أن هذا جائز ولا بأس به.
مثلاً: استأجر البيت لمدة سنة بعشرة آلاف، ثم أجرها بعشرين ألفاً، فهذا جائز ولا بأس به؛ لأنه مالك للمنفعة، ومادام أنه مالك المنفعة فلا بأس، حتى ولو أجرها بأكثر.
الرأي الثاني: أنه لا يجوز؛ لأنه يربح في شيء لا يدخل تحت ضمانه، والصواب في هذه المسألة هو الرأي الأول, وأن هذا جائز ولا بأس به؛ لأنه يعتبر مالكاً الآن، فالصحيح أن المنافع مضمونة عليه، فلو أنه استهلك المنافع لفاتت عليه.
تصح إجارة الوقف، والوقف: هو العين المحبسة والمسبلة، فتصح إجارة الوقف من قِبل الناظر، ومن قِبل الموقوف عليه أيضاً.
فمثلاً: لو قال هذا الرجل: هذا البيت وقف على طلبة العلم في هذا المسجد، ثم بعدهم الفقراء أو المساكين، أو بعدهم طلبة العلم في المسجد الثاني، ثم إنّ طلبة العلم في هذا المسجد أجروا هذا البيت، أيصح ذلك أم لا يصح؟ نقول: يصح هذا؛ لأنهم مالكون للمنفعة.
أو مثلاً قال: هذا البيت أو هذا الدكان وقفٌ على زيد إلى أن يموت، ثم بعده عمرو، فزيد يملك منفعة هذا الدكان إلى أن يموت ثم بعده عمرو، فهل يصح لزيد أن يؤجره؟ نقول: يصح؛ لأنه مالكٌ للمنفعة، ولذلك سيأتينا إن شاء الله في الوقف، أن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.
وما معني تحبيس الأصل؟ يعني: أن العين الموقفة لا تُباع، فهي محبسة، والتصرف فيها ممنوع، فلا تُباع، ولا توهب، ولا تورث.
وتسبيل المنفعة على العكس، أي: إطلاق التصرف فيها الموقوف عليه، فيملك الموقوف عليه أن يستوفي المنفعة بنفسه, ويملك أن يستوفيها بنائبه، أو بأن يؤجرها أو أن يهبها؛ لأنها ملك له.
هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله، وسيأتينا إن شاء الله في باب الوقف، والصحيح أنه لا يملك؛ لأنه قد يموت وينتقل الوقف إلى من بعده، فهو لا يملك أن يؤجره لمدة طويلة, وإنما يملك أن يؤجره لمدة محدودة عُرفًا، يعني سنة، أو سنتين، أو ثلاث سنوات وما زاد على ذلك فإنه لا يملكه؛ لأنه قد يموت وينتقل الوقف لمن بعده، فيكون تصرف في نصيب البطن الثاني، أي: الموقوف عليه الثاني الذي يأتي بعده، فلا يملك أن يتصرف فيه, أو أن يؤجره إلا مدةً يسيرة، كما سلف كسنة, أو سنتين أو ثلاث، أما ما عدا ذلك فإنه لا يملكه.
يعني: لو فُرض أن الموقوف عليه قام بتأجير الوقف لمدة سنتين كما قلنا، وبعد سنة هلك، وانتقل الوقف للبطن الثاني، فمن حين موت الأول تكون الأجرة للثاني.
فمثلاً: أجره لمدة سنتين بعشرين ألف ريال، وبعد سنة مات، نقول: لا يستحق إلا عشرة آلاف ريال، فمن حين موته انتقل الوقف إلى البطن الثاني، وهو الموقوف عليه الثاني، فنقول: له حصته من الأجرة.
وهل تنفسخ الإجارة؟ نقول: لا تنفسخ الإجارة؛ لأن العقد وضع بحق، فمادام أنه مالك للمنفعة له أن يؤجر، ولكن كما ذكرنا يشترط ألا يؤجر إلا مدةً يسيرةً.
وعلى هذا فالموقوف عليه الأول هل له أن يستسلف الأجرة؟ يعني: مثلاً: يؤجر سنتين ويأخذ أجر سنتين، هذا موضع خلاف بين العلماء.
لكن لو فرضنا أن الموقوف عليه الأول أخذ الأجرة واستسلف، أي: تقدم الأجرة، فإن الموقوف عليه الثاني يرجع في حصته من قيمة الأجرة بعد وفاة الأول على التركة.
فمثلاً: لو أجر الوقف لمدة سنتين بعشرين ألفاً، وأخذ العشرين، وبعد سنة مات، نقول: لا يستحق إلا عشرة، وتبقي عشرة يرجع فيها الموقوف عليه الثاني في تركة الموقوف عليه الأول.
يعني: تأجير العقار مدةً طويلة، والمقصود هنا العقار المطلق الذي ليس وقفًا، فهذا يصح؛ فالإنسان له أن يتصرف في ملكه كيفما شاء.
فمثلاً: بيتك لك أن تؤجرها لمدة سنة، أو سنتين، أو لمدة عشرة سنوات، فليس هناك ارتباط بينك وبين غيرك، فلك أن تؤجرها لمدة عشرين سنة، فالأمر راجع إليك، ولكن بالنسبة للوقف، فهناك من يتعلق بالوقف غيرك، ولهذا قلنا بأن الوقف لا يؤجر مدةً طويلة، وإنما تأجيره يكون مدة يسيرة، على الصواب من الأقوال.
لكن الملك المطلق الذي ليس وقفًا لصاحبه له أن يؤجره، ولو مدةً طويلة، ولكن اشترط المؤلف رحمه الله تعالى أن يغلب على الظن بقاء البيت.
فلو كان مثلاً البيت من الإسمنت، ويغلب على الظن أنه سيبقى عشرين سنة، أو ثلاثين سنة، أو خمسين سنة، فلا بأس أن يؤجره إلى خمسين سنة، ولكن إذا كان من الطين، الذي قد لا يبقى عشرين سنة، فنقول: نرجع إلى أهل الخبرة، فإذا قالوا: يبقى إلى عشرين سنة، فله أن يؤجره إلى عشرين سنة، أما ما زاد فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: ليس له ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: (وإن استأجرها)، يعني العين (لعملٍ كدابةٍ لركوب إلى موضع معين، أو بقرٍ لحرث، أو دياس زرع، أو من يدله على طريقٍ اشترط معرفة ذلك، وضبطه بما لا يختلف).
هذا تقدم الكلام عليه، وسبق أن ذكرنا أن من شروط صحة الإجارة معرفة المنفعة.
وذكرنا أن معرفة المنفعة؛ إما أن يكون عن طريق اللفظ، وإما أن يكون عن طريق العُرف، فمثلاً: استأجر عينا لعملٍ كدابة لركوب إلى موضع معين مثلاً إلى مكة، أو بقر لحرث، أو دياس زرع، أو من يدله على طريق، لا بد من معرفة ما الذي ستحرثه هذه البقر؛ لأن هذا يختلف باختلاف الأرض، وكذلك أيضاً لدياس زرع، لا بد من معرفة هذا الزرع أهو قليل أم كثير، ومثل هذه تقدم أن ذكرنا.
هذه مسألة كبيرة، قد أُفرد فيها مؤلفات، وهي أخذ الأجرة على القُرب، فهل يصح أخذ الأجرة على القُرب؟ هذه مسألة تكلم عليها العلماء رحمهم الله كثيرًا، وعلى كل حال، فأخذ المال على القرب -والمقصود بالقرب: العبادات، مثل: أخذ المال على الأذان، أو على إمامة الناس بالصلاة، أو على الخطبة، أو على الفتيا، أو على القضاء، أو على التدريس تدريس العلوم الشرعية أو على الحج- نقول بأن هذا ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن يكون رزقًا من بيت المال، فهذا جائز ولا بأس به.
فمثلاً: إذا كان أئمة المساجد أو المؤذنون يعطون مكافآت من بيت المال، فنقول بأن هذا جائز ولا بأس به.
القسم الثاني: أن يكون الأخذ بلا مشارطة، فمثلاً: جاء رجل وصلى بالناس، أو أذن، أو خطب، ثم جاء شخصٌ وأعطاه دون أن يكون هناك مشارطة، فإن هذا جائز ولا بأس به.
القسم الثالث: أن يكون جعالة، كأن يقول شخص: من أذن في هذا المسجد فله كذا وكذا، أو من درس في هذا المسجد فله ألف ريال -مثلاً- أو من خطب فله خمسمائة ريال، فهذا جائز ولا بأس به، إذا كان عن طريق الجعالة.
القسم الرابع والأخير: وهو موضع الخلاف بين العلماء رحمهم الله: إذا كان عن طريق المشارطة، وهي الإجارة، وسيأتي إن شاء الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر