[وإذا أراد الإمام الخروج لها وعظ الناس، وأمرهم بالتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم، وترك التشاحن، والصيام، والصدقة، ويعدهم يومًا يخرجون فيه، ويتنظف ولا يتطيب، ويخرج متواضعاً، متخشعاً، متذللاً، متضرعاً، ومعه أهل الدين والصلاح، والشيوخ، والصبيان المميزون.
وإن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين لا بيوم لم يمنعوا، فيصلي بهم، ثم يخطب واحدةً يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد، ويكثر فيها الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر به، ويرفع يديه فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه: ( اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا )... إلى آخره.
وإن سقوا قبل خروجهم شكروا الله، وسألوه المزيد من فضله، وينادى الصلاة جامعة، وليس من شرطها إذن الإمام، ويسن أن يقف في أول المطر، وإخراج رحله وثيابه ليصيبها المطر، وإذا زادت المياه وخيف منها سُن أن يقول: ( اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب، والآكام، وبطون الأدوية، ومنابت الشجر، ((رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)) ) كتاب الجنائز: تسن عيادة المريض، وتذكيره التوبة والوصية].
تقدم لنا أحكام صلاة الكسوف، وذكرنا تعريف الكسوف والخسوف، وسببهما، وكيفية صلاتهما، وذكرنا أن صلاة الكسوف ورد لها في السنة عدة صفات، وأن العلماء رحمهم الله تعالى بالنسبة لهذه الصفات لهم مسلكان:
المسلك الأول: مسلك الترجيح، وهذا ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله، والشافعي ، والإمام أحمد ، واختاره شيخ الإسلام وابن القيم .
والمسلك الثاني: مسلك الجمع، وهذا ذهب إليه إسحاق بن راهويه ، والخطابي ، وابن خزيمة ، وانتصر له ابن حزم رحمه الله في كتابه المحلى.
وذكرنا أن الراجح من هذين المسلكين: هو ما ذهب إليه الإمام أحمد ، ومالك ، والشافعي ، والبخاري ، وغيرهم من المحققين من أهل العلم، وذكرنا دليل ذلك، وأيضًا ذكرنا حكم ما إذا تجلى الكسوف وهو بالصلاة، وكذلك أيضًا: هل الكسوف متصور في كل وقت، أو أن له وقتًا معلومًا... إلى آخره؟
ثم بعد ذلك شرعنا فيما يتعلق بصلاة الاستسقاء، وذكرنا دليلها، وأن الأصل فيها السنة، كما جاء في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو وحول رداءه، ثم صلى ركعتين.
تكلمنا على: هل تُشرع صلاة الاستسقاء، أو أن الناس يدعون بلا صلاة؟
وذكرنا رأيين، وأن جمهور أهل العلم يرون شرعية صلاة الاستسقاء، وأن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يرى أنهم يدعون بلا صلاة، والصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، لورود ذلك كما جاء في حديث عبد الله بن زيد، وعائشة، وغير ذلك من الأحاديث.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وصفتها في موضعها، وأحكامها كعيدٍ).
ودليل ذلك: ما تقدم من حديث ابن عباس أنه قال: سنة الاستسقاء سنة العيدين، فقوله: (في موضعها) بمعنى أن صلاة الاستسقاء يُشرع أن تكون بالمصلى كصلاة العيدين.
وقوله: (وأحكامها كعيد) يعني: ككيفيتها، فإن كيفية صلاة الاستسقاء ككيفية صلاة العيدين، بمعنى: أنه يُكبر في الأولى سبع تكبيرات مع تكبيرة الإحرام، ويُكبر في الثانية خمس تكبيرات دون تكبيرة الانتقال.
وكذلك أيضًا: ما يتعلق بالقراءة، فإن القراءة في صلاة الاستسقاء كالقراءة في صلاة العيدين، لما تقدم من قول ابن عباس : سنة الاستسقاء سنة العيدين، وأيضًا قول ابن عباس : (فصلى ركعتين كما يصلي في العيدين)، إلا أن هناك فروقًا من حيث الجملة بين صلاة العيدين، وصلاة الاستسقاء.
الفرق الثاني: أن صلاة العيدين مشروعة على الدوام في أوقاتها، وأما صلاة الاستسقاء فليست مشروعة إلا إذا وجد سببها، قد تمر سنة أو سنتان ولا نصلي الاستسقاء إذا كان المطر موجودًا، فصلاة العيدين مشروعة على الدوام في أوقاتها، وأما صلاة الاستسقاء فإنها لا تُشرع إلا عند وجود سببها من جدب الأرض وقحوط المطر.
الفرق الثالث: أن صلاة العيدين يُشرع لها الاغتسال، والتطيب، والتنظف، وأن يلبس ثيابه، وأما صلاة الاستسقاء فإن مثل هذه الأشياء لا تُشرع، بل المشروع كما سيأتينا أن يخرج متبذلاً، يعني: في ثياب البذلة، الثياب العادية التي تُبتذل، ولا يغيرها، بخلاف صلاة العيدين، فإن صلاة العيدين المشروع أن يتجمل لها، وأن يغتسل، وأن يتطيب، وأن يلبس أحسن ثيابه بخلاف صلاة الاستسقاء.
الفرق الرابع: في كيفية الخروج، ففي في صلاة العيدين: يخرج مكبرًا لله عز وجل، وأما صلاة الاستسقاء، فإنه يخرج متخشعًا، متذللاً، متواضعًا، متبذلاً.
الفرق الخامس ويتعلق بالخطبة: فصلاة العيدين فيها خطبتان كما تقدم، وأما صلاة الاستسقاء ففيها خطبة واحدة فقط.
الفرق السادس: أن الصلاة في العيدين تكون قبل الخطبة، وأما في الاستسقاء فإن الصلاة تكون بعد الخطبة، وقبل الخطبة، يعني: الخطبة تكون قبل الصلاة كصلاة الجمعة، وأيضًا تكون بعد الصلاة كصلاة العيدين، هذا كله جائز ومشروع، وقد جاءت به السنة.
الفرق السابع: أن صلاة العيدين الصحيح أنها لا تُقضى كما سلف لنا؛ لأنها مشروعةٌ على هذه الهيئة من الاجتماع فيشترط لصحتها الجماعة، أما صلاة الاستسقاء: فإنها تُصلى فُرادى، فإذا ما صلى مع الناس فله ذلك، ولو صلى في بيته فله ذلك، فالمرأة لها أن تصلي في بيتها، والمريض له أن يصلي في بيته بخلاف صلاة العيدين.
الفرق الثامن: موضوع الخطبة في العيدين يختلف عن موضوع الخطبة في الاستسقاء، ففي الاستسقاء كما ذكر المؤلف رحمه الله: يُكثر من الاستغفار والأمر به، والتوبة، والرجوع إلى الله عز وجل، ويذكر أسباب جدب الأرض وقحوط المطر، وغير ذلك، فالموضوع يختلف.
الفرق التاسع: في صلاة العيدين يستحب أن يسلك طريقًا ويرجع من طريق آخر، وأما صلاة الاستسقاء: فإن ذلك لا يستحب.
الفرق العاشر: صلاة العيدين لها وقتٌ معين، فوقتها من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى الزوال، هذا وقت صلاة العيدين، أما وقت صلاة الاستسقاء فهذا موضع خلاف، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد : أنها تُفعل في كل وقت إلا أوقات النهي، يعني: لو صلينا الاستسقاء بعد المغرب فإن هذا جائز ولا بأس به، ولو صلينا الاستسقاء بعد العشاء الآخرة، كما هو مشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، فإن هذا جائز ولا بأس به، فالمشهور من المذهب: أنها تُفعل في كل وقت إلا في أوقات النهي، ودليلهم على ذلك: أن صلاة الاستسقاء لا تختص بيوم، فكذلك أيضًا لا تختص بوقت.
والرأي الثاني رأي الإمام مالك رحمه الله تعالى: أن وقت صلاة الاستسقاء كوقت صلاة العيدين، يعني: من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى الزوال، ودليل ذلك: ما تقدم من حديث ابن عباس قال: (فصلى ركعتين كما يصلي في العيدين)، وأيضًا حديث عائشة في سنن أبي داود ، (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين بدا حاجب الشمس)، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها كما فعل العيدين في الوقت.
الوعظ: هو التذكير بما يلين القلوب، ويُرجعه إلى الله عز وجل، والتوبة في اللغة: الرجوع، وأما في الاصطلاح: فهي الرجوع من معصية الله إلى طاعته.
قال المؤلف رحمه الله: (والخروج من المظالم).
أي من ظلم العباد في أموالهم، وأعراضهم، وأبدانهم؛ لأن الظلم سببٌ لذهاب البركات، ومنع الرزق.
قال المؤلف رحمه الله: (وترك التشاحن).
التشاحن: الخصام، والجدال، والتقاطع، والتدابر، وهو سببٌ لمنع الرزق، وذهاب البركات، وفي صحيح البخاري، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان، فرُفعت )، النبي صلى الله عليه وسلم خرج لكي يُخبر الصحابة بوقت ليلة القدر فتلاحى فلان وفلان، أي: تخاصما، فرُفعت ليلة القدر بسبب هذا التلاحي.
وهل ما تقدم مشروع عند الخروج لصلاة الاستسقاء، أو ليس مشروعًا؟
المؤلف رحمه الله يرى أنه مشروع، والعبادات توقيفية، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أراد الخروج إلى الاستسقاء وعظ الناس، وأمرهم بالخروج من المظالم، وترك التشاحن، ونحو ذلك، فمثل هذه المواعظ التي تكون بين يدي صلاة الاستسقاء، نقول: بأنها ليست مشروعة، لكن بالإمكان أن يُذكر الإمام الناس في خطبة الجمعة، أو أن يُذكرهم في خطبة الاستسقاء، أما أن يُفرد موعظةً مستقلة عند الخروج لصلاة الاستسقاء، فنقول: بأن هذا ليس مشروعًا.
قال المؤلف رحمه الله: (والصيام).
لأن الصائم له دعوة لا تُرد، فيأمرهم أن يصوموا في اليوم الذي يخرجون فيه لصلاة الاستسقاء.
قال المؤلف رحمه الله: (والصدقة).
أيضًا؛ لأن الصدقة سببٌ لحصول الرزق والرحمة من الله سبحانه وتعالى، ومثل ذلك أيضًا -كما ذكرنا- مثل هذه الأشياء، نقول: بأنها ليست مشروعة، كونه يأمرهم أن يخرجوا صائمين، وأن يتصدقوا في ذلك اليوم الذي يخرجون فيه لصلاة الاستسقاء، نقول: العبادات توقيفية، تحتاج إلى دليل؛ لكن بالإمكان أن يبين لهم فضل الصيام في خطبة الجمعة، وأن الإنسان إذا صام فإن له دعوةً مستجابة لا تُرد، وأيضًا يبين لهم أن من أسباب نزول الغيث حصول الصدقة، وأنها سبب من أسباب الرحمة... إلى آخره.
قال المؤلف رحمه الله: (ويعدهم يومًا يخرجون فيه).
أي: يضرب لهم يوماً يخرجون فيه؛ لأن صلاة الاستسقاء ليست كصلاة العيدين لها يومٌ معين، ولهذا في حديث عائشة في سنن أبي داود : (فوعدهم يومًا، أو واعدهم يومًا يخرجون فيه إلى مصلاهم).
قال المؤلف رحمه الله: (ويتنظف).
يعني: يتنظف لها بالغُسل وإزالة الروائح الكريهة، والقول بشرعية الغُسل لصلاة الاستسقاء... إلى آخره، هذا يحتاج إلى دليل، لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من الصحابة رضي الله تعالى عنهم شرعية الغُسل لصلاة الاستسقاء، وأما التنظف بقطع الروائح الكريهة فهذا مشروع دائمًا، وهو من سنن الفطرة، من سنن الفطرة أن المسلم دائمًا يتنظف بحيث يمنع الروائح الكريهة التي تخرج منه، هذا مشروع على سبيل الدوام، وليس خاصًا بالاستسقاء.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يتطيب).
نعم، لا يتطيب؛ لأنه يوم استكانة وخضوع، والنبي صلى الله عليه وسلم خرج كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما متذللاً، متواضعًا، متخشعًا، متضرعًا، فكونه يتطيب هذا يخالف الخشوع، وهذا أيضًا فيه نظر، فالذي يظهر بأن الطيب له وقتان:
وقتٌ مستحب يتأكد فيه الاستحباب، ووقتٌ مؤكد.
أما الوقت المستحب: فهو في كل وقت كالمسواك، فالمسواك مستحبٌ في كل وقت، ويتأكد في بعض الأوقات، كتأكده عند تكبيرة الإحرام والوضوء والاستيقاظ من النوم، والطيب كالسواك يستحب في كل الأوقات، ويتأكد في بعض الأوقات، فمثلاً: يتأكد في صلاة الجمعة، ويتأكد عند الإحرام، ويتأكد في صلاة العيدين، ويتأكد إذا طهرت المرأة من حيضتها، وفي تغسيل الميت... إلى آخره.
وعلى هذا نقول بأن الطيب مشروع في كل وقت؛ لكن كونه يُشرع عند الاستسقاء، المؤلف رحمه الله يقول بأنه ليس مشروعًا؛ لكن نقول: من حيث المعنى العام هو مشروعٌ في كل وقت.
قال المؤلف رحمه الله: (ويخرج متواضعًا).
التواضع: ضد التكبر.
قال المؤلف رحمه الله: (متخشعًا).
التخشع: هو التذلل، يعني: أن يتذلل، وأن يرمي ببصره إلى السماء، وأن تسكن منه الأعضاء، وأن يخفض صوته.
قال المؤلف رحمه الله: (متذللاً).
من الذل: وهو الهوان.
قال المؤلف رحمه الله: (متضرعاً).
يعني: مبالغًا في الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى، فالتضرع هو: المبالغة في دعاء الله سبحانه وتعالى، والاستكانة إليه، ويدل لذلك: ما تقدم من حديث ابن عباس قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متذللاً، متواضعًا، متخشعًا، متضرعًا)، رواه الترمذي وصححه.
أهل الدين، يعني: أهل التقى والصلاح؛ لأن إجابة دعائهم أقرب من إجابة دعاء غيرهم، وقوله: (ومعه أهل الدين والصلاح) يحتمل أنهم يقاربونه في أثناء الخروج، يخرجون معه إلى صلاة الاستسقاء، ويحتمل أنه يتأكد على أهل الدين والصلاح أن يخرجوا للاستسقاء، وإن لم يقارنوا الإمام في الخروج إلى صلاة الاستسقاء.
قال المؤلف رحمه الله: (والشيوخ).
يعني: الكبار لما فيهم من الضعف، فهم أقرب إلى رحمة الله عز وجل.
قال المؤلف رحمه الله: (والصبيان المميزون).
لأن الصبيان لم يكلفوا ولم تلحقهم الآثام، فدعوتهم أقرب إلى الإجابة من دعوة غيرهم، ويدل لهذا الذي ذكره المؤلف رحمه الله قول عمر رضي الله عنه: (إنا كنا نستسقي بنبينا فتسقنا، وإنا نستسقي بعم نبينا، قم يا عباس! فادع)، فـعمر رضي الله عنه خرج ومعه العباس يستسقي بدعائه.
أهل الذمة إذا خرجوا للاستسقاء فلهم ذلك، لهم أن يخرجوا؛ لأنهم بحاجة إلى رحمة الله عز وجل، هم كغيرهم يحتاجون إلى رحمة الله عز وجل ولطفه، وغيثه، ورزقه، حتى الحيوان يحتاج إلى رحمة الله عز وجل؛ لكن أهل الذمة إذا أرادوا الخروج فإنهم يخرجون في اليوم الذي يخرج فيه المسلمون؛ لأنه قد يحصل الغيث في الوقت الذي خرجوا فيه اتفاقًا، فيحصل بذلك فتنة لبعض ضعاف الإيمان، فإن خرجوا بيومٍ منفرد عن اليوم، أو منفردين عن اليوم الذي يخرج فيه المسلمون، فإنهم يُمنعون لئلا تحصل الفتنة.
قال: يصلي ثم يخطب، فكلام المؤلف رحمه الله تعالى مبني على أن الصلاة متقدمة على الخطبة، وهذا هو المشهور من المذهب، وبه قال مالك والشافعي ، ودليلهم حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (فصلى ركعتين كما يصلي في العيدين).
والصلاة في العيدين تكون الصلاة متقدمةً على الخطبة، هذا الرأي الأول.
الرأي الثاني: أنه يخطب ثم يصلي، كصلاة الجمعة، وهذا رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وبه قال: الليث بن سعد، وعمر بن عبد العزيز، ويدل لذلك: حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فاستقبل القبلة يدعو، وحول رداءه، ثم صلى ركعتين، فقوله: ثم، تفيد الترتيب، فهذا يدل على أن الخطبة وقعت أولاً، ثم بعد ذلك حصلت الصلاة.
والصواب في ذلك: هو العمل بكل الأحاديث الواردة، وعلى هذا نقول: الخطبة في الاستسقاء يصح أن تكون قبل الصلاة، ويصح أن تكون بعد الصلاة، فيكون هذا من السنن التي وردت على وجوهٍ متنوعة، فلا بأس أن الإمام في بعض الأحيان يصلي قبل الخطبة، وفي بعض الأحيان يصلي بعد الخطبة، يفعل كل ما وردت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
كصلاة العيدين، تقدم أن صلاة العيدين المشهور من المذهب: أنه يفتتحها بالتكبير، الله أكبر، الله أكبر... إلى آخره، وسبق أن ذكرنا أن الصواب: أنه يفتتحها بالحمدلة، وأن ابن القيم رحمه الله ذكر أنه لم يُحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح خطبةً من خطبه الراتبة، أو العارضة بغير حمد الله عز وجل.
قال المؤلف رحمه الله: (ويُكثر فيها الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر به).
يُكثر فيها من الاستغفار؛ لأن الاستغفار سببٌ لنزول الغيث، يقول الله عز وجل: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
قال المؤلف رحمه الله: (ويرفع يديه).
نعم، يرفع يديه في الدعاء، لحديث أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيءٍ من دعائه إلا في الاستسقاء، وكان يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه) في الصحيحين.
وفي صحيح مسلم، قال: (فأشار بكفه إلى السماء)، في الدعاء أشار بكفه إلى السماء، وذكرنا أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في قوله: فأشار بكفه إلى السماء على قولين:
المذهب: أنه يجعل ظهور كفيه إلى السماء، تفاؤلاً بقلب الحال، وأن الله سبحانه وتعالى يقلب الجدب إلى الخصب، فيجعل الكفين ظهورهما إلى السماء، هذا هو المشهور من المذهب.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا، بل يجعل بطون كفيه إلى السماء، ومعنى: أشار بكفيه إلى السماء، يعني: أنه بالغ في الرفع، حتى أنه من شدة المبالغة أشار بكفيه إلى السماء، وأصبحت كفاه تجاه السماء، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهذا هو الصواب في الوجهين:
الوجه الأول: أنه هكذا كان الدعاء، وهكذا جاءت به السنة، يعني: هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فما جاءت به السنة هو الدعاء ببطون الأكف، وليس الدعاء بظهور الأكف، هذا الوجه الأول.
الوجه الثاني: أن كونه يرفع يديه حتى يشير بهما إلى السماء هذا أبلغ في التضرع إلى الله عز وجل والاستكانة والخشوع، وطلب الرحمة منه سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله: (فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه: ( اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا )... إلى آخره).
هذا كلام جيد من المؤلف رحمه الله: يدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي لمن دعا أن يتخير من الدعاء ما جاء في الكتاب وفي السنة، فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أنس في الصحيحين: ( اللهم أغثنا، اللهم أغثنا )، كذلك أيضًا: في صحيح البخاري ، ( اللهم اسقنا )، وفي حديث عائشة : ( اللهم أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوةً، وبلاغًا إلى حين )، المهم أنه يستحب للإمام أن يتخير من الدعاء ما جاء في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (مغيثا) يعني: مطرًا مغيثًا، أي: منقذًا من الشدة.
يعني: إذا واعدهم الإمام يومًا يخرجون فيه، ثم حصل المطر قبل أن يخرجوا، فإنهم يشكرون الله عز وجل، قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، فيستحب أن يشكروا الله عز وجل، والشكر له ثلاثة أركان:
بالقلب، باللسان، بالجوارح.
أما الشكر بالقلب: فبأن يوقن ويؤمن بأن هذا الغيث إنما هو من الله سبحانه وتعالى.
وأما الشكر باللسان: فبأن يلهج لسانه بحمد الله، وذكره، وشكره.
وأما الشكر بالجوارح: فبأن يسخر جوارحه: يديه، ورجليه، وبصره، وسمعه، في طاعة الله عز وجل.
ينادى الصلاة جامعة، هذا هو المشهور من المذهب: أنه ينادى لها الصلاة جامعة.
والرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه لا ينادى لصلاة الاستسقاء؛ لأن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا نقول: الصلوات بالنسبة للإعلام تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما يُشرع لها أذان وإقامة، وهي الصلوات الخمس، والجمعة فقط.
القسم الثاني: ما يُشرع لها النداء بقول: الصلاة جامعة، وهي صلاة الكسوف.
القسم الثالث: بقية الصلوات لا يُشرع لها إعلام، كالاستسقاء، والتراويح، والجنازة... إلى آخره.
ليس هذا شرطًا؛ يقول المؤلف رحمه الله بأن هذا جائز ولا بأس به، ولا يشترط إذن الإمام كسائر السنن؛ ولأنها تُشرع فرادى، والذي يظهر والله أعلم أن يقال: بأن هذا ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: إذا أُريد أن تُفعل جماعةً فلابد من إذن الإمام.
القسم الثاني: أن تُفعل فرادى، فهنا لا يُشترط إذن الإمام، فلو قحط المطر وصلوا فرادى فهنا لا يُشترط إذن الإمام.
هناك سنن تُشرع إذا حصل الغيث:
قال المؤلف رحمه الله: (وإخراج رحله وثيابه ليصيبها المطر).
يعني: يُخرج رحله وثيابه، وهذا لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لكن الشافعي رحمه الله يرويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والذي يظهر أيضًا: أنه غير ثابت حتى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فكونه يُخرج شيئًا من فراشه، أو شيئًا من الأواني لكي يصيبها شيءٌ من المطر، نقول: هذه السنة ليس عليها دليل، فلا يُشرط.
الظراب: هي الجبال المنبسطة.
قال المؤلف رحمه الله: (والآكام).
الآكام: الجبال الصغيرة.
قال رحمه الله: (وبطون الأودية ومنابت الشجر، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به).
هذه السنة الثالثة، السنة الثالثة: إذا كثر المطر، فإنه يستحب أن يقول: ( اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب والآكام، وبطون الأودية ومنابت الشجر )، كما ثبت ذلك من حديث أنس رضي الله عنه في الصحيحين.
والسنة الخامسة: أن يقول: ( اللهم صيبًا نافعًا )، كما جاء في حديث عائشة في البخاري ، وأيضًا يقول: ( اللهم صيبًا هنيئًا ).
والسنة السابعة: إذا حصل الرعد، فقد ورد عن ابن الزبير بإسناد صحيح: أنه إذا حصل الرعد والصواعق، فإنه يترك الحديث، ويقول: ( سبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ).
السنة الثامنة: إذا حصلت صواعق، فقد ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم، إذا حصل شيءٌ من الصواعق: ( اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تعاقبنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك ) رواه الإمام أحمد والترمذي .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر