باب: صلاة العيدين.
وهي فرض كفاية، إذا تركها أهل بلدٍ قاتلهم الإمام، ووقتها كصلاة الضحى، وآخره الزوال، فإن لم يُعلم بالعيد إلا بعده صلوا من الغد.
وتسن في صحراء، وتقديم صلاة الأضحى، وعكسه الفطر، وأكله قبلها، وعكسه في الأضحى إن ضحى، وتُكره في الجامع بلا عذر، ويسن تبكير مأمومٍ إليها ماشيًا بعد الصبح، وتأخر إمامٍ إلى وقت الصلاة على أحسن هيئة، إلا المعتكف ففي ثياب اعتكافه.
ومن شرطها استيطانٌ، وعدد الجمعة، لا إذن إمام، ويسن أن يرجع من طريقٍ آخر، ويصليها ركعتين قبل الخطبة].
تقدم لنا بعض الآداب والسنن التي تُشرع في يوم الجمعة، وذكرنا من ذلك ما يتعلق بالسنن الرواتب، وهل للجمعة سنةٌ راتبةٌ قبلية؟ وعرفنا أنه ليس لها سنةٌ راتبة قبلية؛ لكن بالنسبة للسنة البعدية فالمؤلف رحمه الله يرى أن أقلها ركعتان، وأن أكثرها ستٌ، وأن المصلي بالخيار، إن شاء أن يصلي ركعتين فله ذلك، وإن صلى أربعاً فله ذلك، وإن صلى ستاً فله ذلك... إلى آخره.
وذكرنا الرأي الثاني والثالث في هذه المسألة، وذكرنا ما يتعلق بالغُسل يوم الجمعة، وبينا حكمه، هل هو واجب أو مسنون، أو أنه واجبٌ على من له رائحة... إلخ؟
وما يتعلق بالطيب، وبقوله: (ويتنظف)... إلخ، وما يتعلق أيضاً بكثرة الدعاء يوم الجمعة، وما يتعلق بقراءة سورة الكهف... إلخ.
من دخل والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام قد خرج، فليصل ركعتين )، ويُخفف هاتين الركعتين لما جاء في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وليتجوز فيهما).
والأمر بفعل تحية المسجد حال الخطبة استدل به بعض العلماء على أن تحية المسجد واجبة، كـالشوكاني وغيره، وعند جمهور العلماء: أنها سنة.
فالذين قالوا بالوجوب استدلوا بمثل هذا الحديث: ( إذا جاء أحدكم والإمام قد خرج يوم الجمعة فليصل ركعتين )، فهذا أمر، واستدلوا بوجه آخر وهو أن استماع الخطبة واجب كما تقدم لنا، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالصلاة حال استماع الخطبة هذا فيه تركٌ للواجب، ولا يُترك الواجب إلا لواجب، وهذا لا شك أنه دليل قوي، واستدلوا أيضاً بحديث أبي قتادة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) وهو في الصحيحين.
وعند الجمهور: أن تحية المسجد سنة وليست واجبة، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة)، فالواجب خمس صلوات، وكذلك حديث طلحة بن عبيد الله أيضاً في الصحيحين في قصة الرجل الذي جاء يسأل عن شرائع الإسلام، وسأل عن الصلاة، فقال: ( خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع ).
وقالوا: الأحاديث الآمرة بتحية المسجد كحديث أبي قتادة، والآمرة بالتحية حال الخطبة وجد الصارف لها، وقد ذكر العلماء رحمهم الله ما يقرب من ثمانية صوارف:
ومن هذه الصوارف:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل بخطبة الجمعة ويجلس، وما كان يصلي ركعتين.
وكذلك أيضاً من الصوارف: ما ثبت في صحيح البخاري من قصة النفر الثلاثة الذين دخلوا والنبي صلى الله عليه وسلم في حلقة، أما أحدهم: فوجد فرجةً فجلس فيها، وأما الآخر: فلم يجد فرجة فجلس خلف الناس، وأما الثالث: فذهب، ففي هذا الحديث دليل على أن التحية ليست واجبة؛ لأن هذا الذي دخل جاء وجلس ولم يُذكر أنه صلى التحية.
وكذلك أيضاً: استدلوا بقصة كعب بن مالك لما تاب الله عز وجل عليه، جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، ولم يُذكر أنه صلى التحية، فهذه صوارف تصرف هذه الأوامر من الوجوب إلى الاستحباب.
تقدمت لنا هذه الجملة، وذكرنا دليل ذلك من قول الله عز وجل: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، وأيضاً حديث أبي هريرة في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قلت: لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت، فقد لغوت )، وهذا دليل حصول اللغو منه والإمام يخطب، فيكون سبباً لذهاب أجره، يعني: أجر الاستماع للخطبة، فيدل على أن الكلام والإمام يخطب لا يجوز.
قال رحمه الله: (إلا له، أو لمن يكلمه).
يعني: لا بأس أن الإمام يتكلم في خطبة الجمعة، أو أن المأموم يكلم الإمام، كما ذكر ابن القيم رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع خطبته للحاجة تعرض له، كما في حديث سليك الغطفاني، قال له صلى الله عليه وسلم: (أصليت ركعتين).. إلخ، وكذلك أيضاً في قصة الرجل الذي تأخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجلس فقد آنيت وآذيت).. إلخ، فلا بأس إذا كان هناك مصلحة أن يقطع خطبته لكي يكلم أحد المأمومين، أو يكلمه أحد المأمومين، فلو أن أحد المأمومين احتاج إلى أن يستفسر عن شيءٍ من الخطبة، فإنه لا بأس أن يقطع خطبته، ومثل ذلك: لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر لأخذ الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما.
قال رحمه الله: (ويجوز قبل الخطبة وبعدها).
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والإمام يخطب)، فيُفهم منه أنه إذا كان الإمام لا يخطب فلا بأس أن تتكلم قبل الخطبة أو بعدها، وكذلك بين الخطبتين لا بأس بالكلام، لكن هذا على سبيل الإباحة، فإنَّ المشروعية شيء والإباحة شيءٌ آخر، فالمشروع للمسلم أن يشتغل بالذكر، والدعاء، والقراءة، ونحو ذلك؛ لكن لو أنه تكلم فهذا جائز ولا بأس به.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله: أن المأموم المستمع إذا صُلي على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يصلي عليه سراً، وإذا سلم أو سُلم عليه فإنه يرد السلام سراً، وإذا عطس فإنه يحمد الله سراً، وكذلك إذا عطس من بجانبه وحمد الله، فإنه يشمته سراً.
لما تكلم المؤلف رحمه الله تعالى على صلاة الجمعة وذكر أحكامها، أعقبها بصلاة العيدين، والمناسبة أن الجمعة هي عيد الأسبوع فهي أحد أعياد المسلمين، والعيدان هما عيدا العام، فلما حصل التجانس بين هاتين الصلاتين بكون كلٍ منهما عيداً، ناسب أن يذكر أحكام صلاة العيد بعد ذكر أحكام صلاة الجمعة، وأيضاً هناك مناسبةٌ أخرى وهي أن هاتين الصلاتين تتشابهان في بعض الأحكام، فمن ذلك:
ما يتعلق بالجماعة وأنه لا بد منها في كلٍ منهما.
ومن ذلك: الاستيطان والعدد في كلٍ منهما.
كذلك أيضاً: يُشرع فيهما الجهر، وتجمع الناس... إلخ.
العيدان: تثنية عيد، والعيد: اسمٌ لما يعود ويتكرر مرةً بعد أخرى، والمراد هنا: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وسُمي العيد عيدًا: تفاؤلاً بتكرره وعوده مرةً أخرى، أو لأنه يعود بالفرح والمسرات، وتكفير الذنوب وغفران السيئات.
وليس في الإسلام إلا هذان العيدان، عيد الفطر، وعيد الأضحى، وماعدا ذلك من الأعياد فإنها أعيادٌ غير مشروعة، إلا ما يتعلق بصلاة الجمعة فإنها عيد الأسبوع، وما عدا ذلك من الأعياد فليست من دين الإسلام، كأعياد الموالد، أو الزيجات، ونحو ذلك.
ولا بد أن نفهم ما هو العيد الذي يُنهى عنه؟.
العيد الذي يُنهى عنه إذا قُصد فيه تعظيم الزمان، فلو أننا خصصنا يومًا من الأيام، وختمنا كتاب زاد المستقنع فيه، وأصبحنا نعظم هذا اليوم بالاجتماع أو التهنئة أو نحو ذلك، يكون قد اتخذناه عيداً، فنقول هذا العمل غير مشروع.
ولهذا فالذين يتخذون أعياد الموالد وينظرون إلى ذات الزمان، أو أنه يتخذ عيدًا إذا مر عليه سنة أو سنتان على زواجه فيعمل حفلة، أو يعمل طعاماً أو نحوه، فإنه قد اتخذ وقت زواجه عيدًا، فإذا نُظر إلى ذات الزمان وعُظم، إما بتهنئة، أو باجتماع، أو بطعام ونحو ذلك، فإن هذا هو اتخاذه عيدًا.
أما لو أن الناس اجتمعوا وحددوا وقتًا يجتمعون فيه ولم ينظروا إلى ذات الزمان، فإن هذا لا بأس به، فلو عملنا كل سنة موعداً نجتمع ونلتقي ونتباحث ونتدارس، فإن هذا جائز ولا بأس به، حتى لو عملنا طعاماً ونحو ذلك؛ لأننا لم ننظر إلى ذات الزمان، ولهذا ربما نؤخر هذا الاجتماع قليلاً، أو نقدمه قليلاً، أو نلغيه.. إلخ، أما الذين يتخذون الأعياد فإنه إذا مر عليه هذا الزمن يجتمع فيه ويعظمه... إلخ.
ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد أهل المدينة يلعبون في يومين، فقال: (إن الله قد أبدلكم بخيرٍ منهما، يوم الفطر، ويوم الأضحى).
يقول المؤلف رحمه الله بأنها فرض كفاية، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة: أنها واجبة، وعند مالك والشافعي : أنها سنة.
أما الذين قالوا بأنها سنة، فيستدلون بحديث ابن عباس في الصحيحين، لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، وحديث طلحة بن عبيد الله، لما ذكر أن الواجب خمس صلوات، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: (لا، إلا أن تطوع).
وأما الذين قالوا: بأنها فرض عين كما هو رأي أبي حنيفة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد استدلوا بحديث أم عطية (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بخروج النساء)، وليس هناك صلاة يؤمر فيها بإخراج النساء إلا صلاة العيدين، وما عدا ذلك فإن خروج النساء على سبيل الإباحة؛ لكن خروجها على سبيل السنية أو المشروعية فيخص بصلاة العيدين، ففي حديث أم عطية رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج النساء)، أي: بخروج النساء إلى صلاة العيدين (حتى الحيض)، أي: حتى الحوائض، (وذوات الخدور؛ يشهدن الخير ودعوة المسلمين)، فإذا كان هذا في حق النساء، ففي حق الرجال من باب أولى، والأصل في الأمر الوجوب، وقد ذكر شيخ الإسلام، كما نقل البعلي: القول بوجوبها على النساء.
وأما الذين قالوا بأنها فرض كفاية، فعللوا بأن هذه الصلاة من شعائر الإسلام الظاهرة، وشعائر الإسلام الظاهرة إذا قام طائفة من الناس بإظهارها كفى ذلك، وأصبحت في حق الباقين سنة.
وما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله من القول بوجوبها وأنها فرض عين، هو قولٌ قوي؛ لكن القول بوجوبها على النساء فيه نظر؛ لأن المرأة ليست من أهل البروز والخروج والجُمع والجماعات، فنقول: المرأة لا تجب عليها.
وسيأتي أن صلاة العيدين كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لا تُشرع إلا مع الإمام فقط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها على هذه الكيفية، فلا تُشرع لها كيفية أخرى، وعلى هذا لو أن الإنسان فاتته صلاة العيدين فإنه لا يقدر على قضائها؛ لأن لها كيفية محددة، ولو قلنا: بأنها واجبة على النساء والمرأة ليست من أهل البروز والخروج.. إلخ، لعظم في ذلك المشقة.
والأصل فيها قول الله عز وجل: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] فقد ذكر طائفة من المفسرين أن المراد بالصلاة صلاة الأضحى، وأيضًا قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، قالوا: المراد بالزكاة هنا: زكاة الفطر، والصلاة: صلاة عيد الفطر، وقوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، المراد بالنحر: الأضحية، والصلاة: صلاة الأضحى.
قال رحمه الله: (إذا تركها أهل بلدٍ قاتلهم الإمام).
إذا تركها أهل بلد ولم يقيموها، قال رحمه الله: (قاتلهم الإمام)، ولم يقل: قتلهم؛ لأن المقصود هو إقامة هذه الصلاة، وعلى هذا الإمام أن يقاتلهم حتى يقيموها، فإذا أقاموها وجب عليه أن يكف عنهم، ولهذا لا يُتبع مدبرهم، ولا يُجهز على جريحهم، ولا تسبى أموالهم؛ لأن المقصود: هو إقامة هذه الشعيرة، وليس المقصود الاستيلاء على أموالهم أو قتلهم ونحو ذلك.
تقدم معنا أن وقت صلاة الضحى يبدأ من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمحٍ، والفائدة من هذا التعبير عند المؤلف رحمه الله، حيث قال: (وقتها كصلاة الضحى)، ولم يقل: وقتها من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، مع أنه أوضح -الفائدة من ذلك- كي يربي الطالب على المراجعة، فالطالب يتذكر ما هو وقت صلاة الضحى.
وهناك فائدة أخرى وهي: أنه يجمع حكمين في جملةٍ واحدة، فأنت تفهم أن وقت صلاة العيد، ووقت صلاة الضحى شيءٌ واحد يبدأ من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، وهذا ما عليه جمهور العلماء رحمهم الله خلافًا للشافعية، فإن الشافعية يقولون: بأن صلاة العيد تبدأ من طلوع الشمس مباشرة وإن لم ترتفع.
وسبق أن ذكرنا أن الشافعية هم أوسع الناس فيما يتعلق بأوقات النهي، ويستدلون على ذلك: بحديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه: (أنه كان مع الناس في يوم عيدٍ فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنا كنا فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح)، يعني كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين فرغنا من صلاة العيد عند حِل النافلة، فيُفهم من ذلك أن صلاة العيد قُدمت قبل حِل النافلة، أي: قبل أن ترتفع الشمس قيد رمح.
فقوله رضي الله عنه: (إنا كنا فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين التسبيح)، يُفهم منه أنه عند خروج وقت النهي أن الصلاة قد انتهت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيؤخذ من ذلك أنه فعلها عند طلوع الشمس مباشرة، لكن هذا الاستدلال فيه نظر؛ لأن هذا الكلام الذي ذكره عبد الله رضي الله عنه يحتمل، وعندنا أحاديث المواقيت كالجبال -كما تقدم- كحديث أبي سعيد، وحديث عقبة بن عامر، وغير ذلك من الأحاديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس).
قال رحمه الله: (وآخره الزوال).
يعني: آخر وقت صلاة العيد زوال الشمس، فإذا زالت الشمس فهذا آخر صلاة العيد، والدليل على ذلك: حديث أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار: (أنه غُم هلال شوال، فأصبحوا صيامًا، فجاء ركبٌ في آخر النهار، فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس عشية، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا غدًا لعيدهم)، الشاهد قوله: (وأن يخرجوا غدًا لعيدهم)، فلو كانت صلاة العيد تُشرع في بقية اليوم لصلاها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وحسنه الدارقطني .
قال رحمه الله: (فإن لم يُعلم بالعيد إلا بعده صلوا من الغد).
إذا لم يُعلم بالعيد إلا بعد الزوال، فإنهم يصلون من الغد، وذكرنا دليل ذلك، وهو الحديث المتقدم.
ويدل على ذلك حديث أبي سعيد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج في الفطر والأضحى إلى المصلى)، وهو في الصحيحين، حتى في المدينة كان النبي صلى الله عليه وسلم يترك مسجده ويخرج إلى المصلى، وهذا مما يؤكد أنها تُشرع في الصحراء؛ لأن الصلاة في المسجد النبوي مضاعفة، فالصلاة بألف صلاة، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يترك مسجده ويخرج إلى المصلى، مما يؤكد أنها تُفعل في المصلى في الصحراء.
وأيضًا صلاة العيد من شعائر الإسلام الظاهرة، وكونها تُفعل في المصلى هذا أظهر لهذه الصلاة، ولهذا يأتينا في حديث جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يغدو إلى العيد من طريق، ويرجع من طريقٍ آخر)، هذا من حِكمه، وكما سيأتينا -إن شاء الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لكي يُظهر هذه الصلاة.
السنة في صلاة العيد سواءٌ كانت عيد الفطر، أو عيد الأضحى أن تُقدم، ويدل لذلك ما تقدم من حديث عبد الله بن بسر أنه أنكر إبطاء الإمام في يوم عيد فطر أو أضحى، وقال: (إنا كنا فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين التسبيح)، هذا مما يدل على أن السنة أن يُبادَر بها، لكن تُقدم صلاة الأضحى في أول الوقت، ويدل لذلك حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه.
أما بالنسبة لصلاة عيد الفطر فيستحب أن يؤخرها شيئًا عن أول الوقت، لكي يتسع الوقت للناس أن يخرجوا زكاة الفطر؛ لأن زكاة الفطر لها خمسة أوقات، ووقت الاستحباب: هو أن تُفعل صبح العيد قبل الصلاة، فلكي يتسع الوقت لإخراج زكاة الفطر يستحب التأخير.
هذه السنة الثالثة وهي: (أكله قبلها، وعكسه في الأضحى إن ضحى)، أي: من السنن والآداب: أن يأكل في يوم الفطر قبل أن يخرج إلى الصلاة تمرات، وأن يأكلهن وترًا، ويدل على ذلك حديث بريدة قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يُفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي).
وفي البخاري من حديث أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وتراً)، فيستحب في يوم الفطر أن يأكل تمرات، وأقل هذه التمرات ثلاث، واستحب بعض العلماء: أن يأكل سبع تمراتٍ، لما ثبت في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تصبح بسبع تمراتٍ من تمر العجوة، لم يضره ذلك اليوم سمٌ ولا سحر)، قال السعدي رحمه الله: قوله: من تمر العجوة، هذا على سبيل المثال، وإلا فإنه يشمل جنس التمر.
ويأكل هذه التمرات قبل خروجه إلى المصلى، قال العلماء: يبدأ وقت أكلها من بعد طلوع الفجر، فلو أنه أكلها قبل صلاة الفجر فقد حقق السنة، ولو أنه أكلها بعد صلاة الفجر قبل أن يخرج إلى المصلى، فقد حقق السنة أيضاً.
والحِكمة من أكل هذه التمرات: هو تحقيق إفطار ذلك اليوم؛ لأن يوم الفطر يحرم صومه، ويتأكد تحريمه.
فلو قلنا بجواز صومه، أدخلنا في ركن الصيام ما ليس منه، فلما كانت الحكمة: هي تحقيق إفطار ذلك اليوم، نقول بأنه لو أكل هذه التمرات بعد طلوع الفجر، وقبل خروجه إلى المصلى حصلت السنة.
قال رحمه الله: (وعكسه في الأضحى إن ضحى).
إذا كان عنده أضحية فإن السنة في الأضحى ألا يأكل شيئًا حتى يذبح أضحيته، ويأكل منها، ويدل لذلك: ما تقدم من حديث بريدة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يطعم يوم النحر حتى يصلي)، وحديث بريدة هذا صححه ابن حبان والحاكم، والذهبي ، وابن القطان، وغيرهم.
قال رحمه الله: (إن ضحى)، وإن لم يضح فإنه مخير بين الأكل قبل الصلاة وبعدها، قال العلماء رحمهم الله: الأولى أن يأكل من كبدها، وهذا ما ثبت فيه سنة؛ لكنهم يقولون: الأولى؛ لأن الكبد أسرع نضوجًا.
السنة أن تُفعل صلاة العيد كما سلف لنا في الصحراء، وفعلها في الجامع بلا عذر مكروه، وهذا الذي ذكره المؤلف رحمه الله صواب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى المصلى ويترك مسجده، مع أن الصلاة في مسجده مضاعفة، فالصلاة بألف صلاة، مما يدل على تأكد الخروج إلى المصلى، فيُكره أن تُفعل في الجامع إلا إذا كان هناك عذر، ككثرة الناس في هذا الزمان واتساع البلدان، ونحو ذلك، فإن كان هناك عذر، فإن هذا جائز ولا بأس به.
وقد ورد ذلك عن علي رضي الله عنه بإسنادٍ صحيح، أخرجه النسائي، وابن أبي شيبة، والبيهقي، ويستثنى من ذلك الحرم المكي، فإن السنة أن تُفعل صلاة العيد في الحرم، ولا تُفعل خارج مكة، والعلة في ذلك: أن الحرم له مزية ليست لغيره من المساجد، فالحرم فيه البيت الذي هو قبلة المسلمين، فليس من الحكمة أن يولي الناس أدبارهم للبيت ويتركونه، مع أن بعض العلماء قال بأن مكة ليست كغيرها من البلاد لما تشتمل عليه من جبال ونحو ذلك؛ لكن هذا ليس ظاهراً، والظاهر أن الحرم ليس كغيره من المساجد، فله من المزية ما ليس لغيره؛ فليس من الحكمة أن يترك ، وأن يولي الناس ظهورهم للبيت.
يسن التبكير إليها ماشياً، ويدل لذلك في التقدم عمومات الأمر، (تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من خلفكم)، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)، فهذا مما يدل على مشروعية التقدم؛ لكن متى يكون التقدم؟
قال رحمه الله: (بعد الصبح).
هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة، وعند الشافعية من بعد طلوع الفجر الثاني، وعند الإمام مالك رحمه الله: من بعد طلوع الشمس، علماً أن الإمام مالكاً رحمه الله يقول: التبكير في صلاة الجمعة يكون في الساعة الثالثة، فهذا فيه نظر، والذهاب إلى العيد يكون بعد طلوع الشمس، وهذا فيه نظر أيضاً.
والصواب في ذلك: ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله وهو قول وسط، أما القول بأنه بعد طلوع الفجر الثاني فهذا فيه نظر، خصوصًا إذا صُليت الصلاة في المصلى، فإنه سيؤدي إلى ترك جماعة الفجر، فالصواب: أن التبكير يبدأ من بعد صلاة الصبح؛ لأنه قبل ذلك مشغولٌ بصلاة الصبح.
وقد ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما الذهاب بعد الصبح، وورد عنه الذهاب بعد طلوع الشمس، كما يستدل الإمام مالك رحمه الله؛ لكن الأدلة الدالة كثيرة تدل على التقدم والتبكير والمسابقة والمسارعة إلى الخيرات؛ لكن ليس قبل صلاة الصبح.
وقوله: (ماشيًا)، لقول علي رضي الله عنه: (من السنة أن يخرج إلى العيد ماشياً)، رواه الترمذي، وإسناده ضعيف، لكن تقدم لنا في صلاة الجمعة من حديث أوس بن أوس الثقفي: (ومشى ولم يركب)، فنقول: إذا لم يكن هناك مشقة فالسنة أن يخرج إلى هذه الأعياد ماشيًا.
ومن السنن أن يتأخر الإمام إلى وقت الصلاة، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر إلى المصلى، فأول شيءٍ يبدأ به الصلاة، ويخرج يوم الأضحى إلى المصلى، فأول شيءٍ يبدأ به الصلاة)، هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر إلى مجيء الصلاة.
قال رحمه الله: (وتأخر إمامٍ إلى وقت الصلاة على أحسن هيئة).
يستحب أن يخرج لصلاة العيد على أحسن هيئة، فيتجمل لصلاة العيد، ويدل لذلك: حديث ابن عمر في البخاري، (أن
أيضًا: يُشرع أن يغتسل يوم العيد، وغُسل يوم العيد لم يثبت فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكنه وارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كابن عمر، والسائب بن يزيد، بأسانيد صحيحة ثابتة، فيُشرع له أن يغتسل يوم العيد؛ لوروده عن هذين الصحابيين.
والغُسل يوم العيد يُشرع أن يكون بعد طلوع الفجر؛ لأن الغُسل مضافٌ إلى اليوم، واليوم يبدأ بعد طلوع الفجر، كذلك أيضًا: يستحب أن يتطيب؛ لورود ذلك عن ابن عمر بإسناد صحيح، وإن لم تثبت فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكنه وارد عن ابن عمر، فالاغتسال والتطيب وارد عن ابن عمر بإسناد صحيح.
إن المعتكف يخرج إلى صلاة العيد في ثياب اعتكافه، ودليلهم على ذلك بأن الوسخ الموجود في ثياب المعتكف أثر عبادة، فيستحب أن يبقى ما دام أنه أثر عبادة، ونظير ذلك دم الشهيد، فإن شهيد المعركة لا يُغسل، وإنما يُدفن بكلومه، فإنه يُبعث يوم القيامة وكلمه يثعب دمًا، اللون لون الدم والريح ريح المسك، فيقول المؤلف بأن هذا نظيره.
لكن القول بأن هذا الوسخ الذي لحق الثياب أثر عبادة غير صحيح، فالوسخ الذي لحق الثياب إنما هو من أثر طول البقاء وعدم تغيير الملابس، فالصحيح في ذلك: أن المعتكف كغيره، وأنه يُشرع له أن يلبس أحسن ثيابه.
المسافر السائر لا يُشرع له أن يصلي صلاة العيد؛ لكن المسافر الذي هو داخل البلد فهذا يصلي تبعاً للناس، كذلك أيضًا من كان خارج البلد كما في الجمعة، كالأعراب الذين يتتبعون القطر ومواضع النبات...إلخ، فهؤلاء لا يُشرع لهم أن يقيموا صلاة العيد؛ لأنهم ليسوا مستوطنين.
ومثل ذلك أيضًا: لو أن أُناسًا خرجوا في نزهة، أو أن شركة من الشركات لها عمال في الصحراء يشتغلون، فإنه يحصل الاستيطان، أو أن معسكرًا أو مخيمًا أقيم... إلخ، أقيم، فهنا لا يُشرع لهم أن يصلوا الجمعة ولا العيد لفقد شرط الاستيطان.
قال رحمه الله: (وعدد الجمعة).
سبق أن ذكرنا الخلاف، وأن المشهور من مذهب أحمد، والشافعي: أنه لا بد من أربعين، وعند أبي حنيفة أنه يكتفي بأربعة في الجمعة، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه يكتفي بثلاثة، وعند ابن حزم ، واختاره الشوكاني: أنه يكتفي باثنين.
يعني: إذا غدا من طريق فإنه يستحب أن يرجع من طريقٍ آخر، ودليله حديث جابر في صحيح البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى العيد خالف الطريق).
واختلف العلماء رحمهم الله في الحكمة، فذكروا كلامًا كثيرًا حول حكمة مخالفة الطريق، فقيل: لكي يسلم على أهل الطريقين، وقيل: لكي يشهد له الطريقان، وقيل: لكي يغيظ المنافقين واليهود، وقيل: إن هذا من قبيل إظهار الشعيرة، وقيل: لكي يتفاءل بالمغفرة والقبول عند الله عز وجل، قال ابن القيم: بهذه الأشياء وغيرها من الحِكم التي لا يخلو عنها فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وهل المخالفة مشروعة في كل عبادة، أم أنها خاصة بالعيد فقط؟
المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أن المخالفة تُشرع في العيد، وفي الجمعة.
والرأي الثاني: أن المخالفة تُشرع في كل عبادة، وعلى هذا إذا ذهبت إلى الصلاة، أو إلى الدرس، أو إلى عيادة المريض، أو إلى صلة رحمٍ، فإنه يُشرع لك أن تخالف، وهذا ما ذهب إليه النووي رحمه الله تعالى.
والرأي الثالث: أن المخالفة يُقتصر فيها على العيد فقط؛ لأن هذا هو الذي ورد كما في حديث جابر رضي الله عنه؛ لكن المذهب يضيفون الجمعة؛ لأنها عيد.
والذي يظهر -والله أعلم- أنه يقتصر على مورد النص، وإن ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم المخالفة في الحج، فدخل عرفات من طريق وخرج من طريقٍ آخر، ودخل مكة من أعلاها وخرج من أسفلها؛ لكن قال العلماء: حصلت هذه على سبيل الاتفاق، وليس على سبيل القصد، وعلى هذا نقول: يقتصر على مورد اللفظ.
يصليها ركعتين بالإجماع، وأن صلاة الجمعة ركعتان.
قال رحمه الله: (قبل الخطبة).
لقول ابن عمر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم و
بمعنى: أنه يخطب أولاً ثم يصلي، واستدلوا بأنه ورد عن عمر، وعثمان، وهذان الأثران صححهما ابن حجر، لكن هذين الأثرين شاذان؛ لأنهما يخالفان حديث ابن عمر في الصحيحين: (كان النبي صلى الله عليه وسلم و
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر