وأيضاً ذكرنا ما يتعلق باستلام الركن اليماني، وكذلك أيضاً ما يتعلق باستلام الركنين الآخرين الشاميين، وأنه لا يشرع استلامهما.
ثم تطرقنا أيضاً إلى ما يتعلق بشروط الطواف، وذكرنا: هل تشترط الطهارة من الحدث، وهل تشترط الطهارة من الخبث؟ وما يتعلق بستر العورة وما يتعلق بإكمال السبعة الأشواط، فهذه تقدم الكلام عليها مبيناً.
قال المؤلف رحمه الله: [ويدعو في سائره بما أحب].
تقدم أن ذكرنا أنه يقول بين الركنين: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] وأيضاً ذكرنا ما يقوله عند استلام الحجر الأسود وما عدا ذلك فلم يرد، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (يدعو في سائره بما أحب) أي: بما أحب من خير الدنيا والآخرة، فيؤخذ من هذا: أنه ليس لأشواط الطواف ذكر مخصوص، وأن ما يوجد في بعض الكتيبات من دعاء للشوط الأول ودعاء للشوط الثاني، إنما هو بدعة؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف، والأصل فيها المنع، وإذا كان كذلك فإنه إن لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام تخصيص دعاء في عبادة فإن فعله بعده بدعة.
بعد أن ينتهي من الطواف يشرع له أن يصلي هاتين الركعتين، وإذا انتهى من الطواف هل يشرع أن يشير إلى الحجر ويكبر أو نقول: هذا غير مشروع؟ في هذا قولان لأهل العلم رحمهم الله:
الرأي الأول: ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يشرع استدلالاً بأن النبي عليه الصلاة والسلام كلما حاذى الحجر الأسود استلمه وكبر، فكذلك أيضاً عند نهاية الشوط السابع يستلمه -كما تقدم- ويكبر.
والرأي الثاني: أنه لا يشرع؛ لأنه إذا أتم الأشواط السبعة فقد انتهت العبادة، وهذا الاستلام إنما يكون في جوف العبادة، والعبادة قد انتهت، ويدل لهذا أيضاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام في أيام التشريق -كما سيأتينا إن شاء الله- رمى الجمرة الصغرى ثم استقبل القبلة يدعو، ثم رمى الجمرة الوسطى ثم استقبل القبلة ورفع يديه يدعو، ثم رمى الجمرة الكبرى -جمرة العقبة- ولم يقف عندها ولم يدع.
واختلف أهل العلم رحمهم الله في الحكمة من ذلك، وأقرب الأقوال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع لأن العبادة قد انتهت، وعلى هذا نقول: إذا أتم الأشواط السبعة فإنه لا يشرع أن يكبر أو أن يستلم الحجر أو أن يشير إليه وإنما يمضي.
المسألة الأولى: حكم هاتين الركعتين، للعلماء في ذلك رأيان:
الرأي الأول: وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك أيضاً الشافعي : أن هاتين الركعتين سنتان وليستا واجبتين.
والرأي الثاني: مذهب أبي حنيفة ومالك : أنهما واجبتان.
والذين قالوا بأنهما سنة استدلوا بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما بعث النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن، قال: ( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ) قالوا: هذا الواجب أي: أن الواجب، خمس صلوات في اليوم والليلة ولا يجب غير هذه الصلوات الخمس.
ومن قال بوجوبهما استدلوا بظاهر الأمر، فإن الله عز وجل قال: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] قالوا: هذا يقتضي وجوب هاتين الركعتين.
وأقرب الأقوال في ذلك أن هاتين الركعتين ليستا واجبتين وإنما هما سنة، وأما هذا الدليل الذي استدل به من قال بالوجوب، وهو قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] فإنه وجد الصارف لذلك، وهو أن الإجماع منعقد على أن هاتين الركعتين تجزئان في كل مكان مع أن الآية جاءت في الأمر خلف مقام إبراهيم: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] فالآية جاءت بالأمر بالصلاة خلف مقام إبراهيم، والإجماع منعقد على أنه لا يجب أن تكون هاتان الركعتان خلف مقام إبراهيم، فلو فعلهما في أي مكان فإن ذلك مجزئ، فدل ذلك على أن هاتين الركعتين ليستا واجبتين؛ لأنه إذا كانت هاتان الركعتان أمر بهما خلف مقام إبراهيم ثم بذلك انعقد الإجماع على أنه يجزئ فعلهما ولو في غير هذا المكان دل ذلك على عدم وجوبهما.
وعلى هذا نقول: الصحيح في ذلك أن هاتين الركعتين لا تجبان، وأنهما تجزئان في كل مكان، وعمر رضي الله تعالى عنه صلاهما بذي طوى.
المسألة الثانية: السنة أن تكون هاتان الركعتان خلف مقام إبراهيم، فإن لم يتيسر للإنسان ذلك فإنه يصليهما في أي مكان، وإن تيسر له أن يجعل المقام خلفه -أي: بينه وبين البيت- فهذا أحسن، يعني: إذا لم يتمكن أن يجعلهما خلف مقام إبراهيم فإنه يجتهد أن يكون المقام بينه وبين البيت أثناء تأديتهما.
نقول: هاتان الركعتان يسن فيها سنن:
السنة الأولى: التخفيف أي: أن يخفف هاتين الركعتين.
والسنة الثانية: أن يقرأ فيمها بسورتي الإخلاص: (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )) و: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) كما في حديث جابر الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه.
والسنة الثالثة: ألا يطيل المقام بعدهما بل يقوم مباشرة كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
نقول: الصواب في ذلك ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله: أن هاتين الركعتين تشرعان في أوقات النهي؛ لأنهما من ذوات الأسباب، وذوات الأسباب تشرع في كل وقت؛ لأنها لو أخرت عن سببها لفاتت، إذ إنها شرعت لهذا السبب وهي دائرة معه.
إذا انتهى من صلاة هاتين الركعتين فإنه يشرع أن يعود إلى الركن ويستلمه، يعني: يعود إلى الحجر الأسود ويستلمه ويمسحه قبل أن يشرع في السعي، وهذا الاستلام قال العلماء رحمهم الله: يشرع بعد كل طوافٍ يعقبه سعي، فيشرع أن يستلمه فقط ولا يقبله؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبله، وإنما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقبله داخل الطواف أما خارج الطواف فهذا لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، فنقول: إذا انتهى الإنسان من الطواف فإن تيسر له أن يذهب إلى الحجر وأن يستلمه ويمسحه ثم بعد ذلك يخرج إلى المسعى فقد قام بالسنة.
الصفا: هي الحجارة الصلبة، والمراد به هنا: المكان المعروف في طرف المسعى الجنوبي، طرف جبل أبي قبيس؛ لأن المسعى بين جبلين من جهة الصفا جبل أبي قبيس، ومن جهة المروة جبل قعيقعان.
أي: يرقى على الصفا، وهذا الرقي ليس واجباً لكنه مستحب، وإذا أقبل على الصفا قرأ قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] هكذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر ، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الآية وإنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجزء: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) ثم قال: ( أبدأ بما بدأ الله به ) ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذا الجزء من هذه الآية في غير هذا الموضع.
وبهذا نعرف أن ما يفعله بعض الناس إذا أتى المروة قرأ قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) ثم إذا رجع إلى الصفا قرأها أيضاً أن هذا ليس عليه دليل، فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما قرأها مرة واحدة لما أقبل على الصفا.
أي: يرفع يديه، فإذا صعد على الصفا فليستقبل القبلة وليرفع يديه ويقول: الله أكبر ثلاث مرات.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر. ثم بعد ذلك يقول ما ورد، والوارد كما في حديث جابر يقول: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ) ثم يدعو ثم يقول هذا الذكر ثم يدعو، ثم يقول هذا الذكر ثم ينزل.
أعيد ما سبق: أن يرفع يديه مستقبل القبلة ويكبر ثلاث مرات: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر، ثم يقول الوارد: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، ثم يدعو، ثم يقول هذا الذكر ثم يدعو، ثم يقول هذا الذكر ثم ينزل، فيدعو مرتين ويقول هذا الذكر ثلاث مرات فهذا هو السنة.
وبهذا نعرف أن ما يفعله بعض الناس إذا صعدوا على الصفا يشيرون بأيديهم كأنهم يكبرون للإحرام ونحو ذلك، أو أنهم إذا أتوا إلى المروة يرفعون ويشيرون بأيديهم، فهذا كله غير وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا يدل على أن المسعى يشرع فيه المشي ويشرع فيه السعي، فإذا أتى إلى العلم الأخضر -وهو بطن الوادي- فإنه يستحب أن يسعى سعياً شديداً اقتداءً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأصل مشروعية السعي كما في حديث البخاري الذي رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن إبراهيم لما ترك هاجر وابنها إسماعيل فعطشت وعطش الصبي فصعدت على الصفا هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، وهبطت في بطن الوادي، فكانت إذا هبطت في بطن الوادي لا ترى الصبي، فتسعى سعياً شديداً حتى تصل إلى المروة؛ لكي تنظر هل ترى أحداً؟ أو لا ترى أحداً، فكانت تسعى إذا كانت في بطن الوادي؛ لأن الطفل يغيب عنها، وبهذا حصلت مشروعية السعي.
السعي يشترط لصحته شروط أشار المؤلف رحمه الله إلى الشرط الأول في قوله: (فيمشي في مواضع مشيه) هذا الشرط الأول: أن يمشي، وعلى هذا لو أنه ركب من غير عذرٍ فإن سعيه غير صحيح، فلا بد أن يمشي ولا يركب إلا إذا كان لعذر فإن هذا لا بأس به، فإن النبي عليه الصلاة والسلام سعى ماشياً فلما احتاج إلى أن يركب؛ لكي يراه الناس ولكي يشرف عليهم ولكي يأخذوا عنه نسكهم ركب عليه الصلاة والسلام ركب، فنقول: الأصل أنه يمشي إلا إذا احتاج إلى الركوب فإنه لا بأس أن يركب.
هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وكذلك أيضاً مذهب مالك : أنه لا بد أن يمشي إلا لعذر، وعلى هذا إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يمشي إما لكبر أو لمرض أو لغير ذلك فإنه لا بأس أن يركب، أما إذا كان قادراً على المشي فإنه لا يصح أن يركب، وهذا المشهور من مذهب أحمد رحمه الله، ومذهب مالك وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: رأي الشافعي رحمه الله تعالى، وهو أن المشي سنة وليس واجباً، وأنه لا بأس أن يركب الإنسان، قالوا: لأن النبي عليه الصلاة والسلام ركب.
والأحوط في هذا أن يمشي الإنسان إلا لعذر، ولنعلم أن السعي يخفف فيه ما لا يخفف في الطواف، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لـعائشة لما حاضت: ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ) فتفعل حتى السعي فتسعى وهي حائض، فدل ذلك على أن السعي أمره أيسر من الطواف، ومع ذلك نقول: الأحوط أن الإنسان يمشي إلا لعذر، فإن كان هناك عذر فلا بأس.
وقوله رحمه الله: (حتى يكمل سبعة أشواط).
هذا الشرط الثاني: أنه لا بد أن يكمل سبعة أشواط، وعلى هذا لو أنه لم يسع إلا ستة أو ستة ونصفاً أو سبعة إلا شيئاً، لم يستوعب ما بين الصفا والمروة فإن هذا غير صحيح؛ لأنه لم يكمله، والنبي عليه الصلاة والسلام طاف سبعة أشواط كاملة.
ثم قال رحمه الله: [يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية، يفتتح بالصفا ويختتم بالمروة].
هذا الشرط الثالث: أن يفتتح بالصفا وأن يختم بالمروة، وعلى هذا لو افتتح بالمروة فإن هذا الشوط غير معتبر فلا بد أن يأتي بشوطٍ آخر، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وهناك رواية عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لو بدأ بالمروة فإنه لا شيء عليه كما لو ترك الترتيب بين أعضاء الوضوء، والصواب في هذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.
الشرط الرابع: الموالاة بين أشواط السعي كالطواف، وقد سبق أن ذكرنا قاعدة، وهي: أن كل عبادة مركبة من أجزاء فإنه يشترط فيها شرطان: الشرط الأول: الترتيب، والشرط الثاني: الموالاة بين أجزائها، وإلا لم تكن كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله: أن التوالي بين أشواط السعي ليس شرطاً؛ لأن سودة بنت عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما سعت بين الصفا والمروة في ثلاثة أيام، والأقرب في هذا هو الرأي الأول وأنه لا بد من التوالي؛ لأنه لو طاف شوطاً في أول النهار وشوطاً في منتصف النهار وشوطاً في آخره وأربعة من الغد لم يكن هذا السعي الذي سعاه النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن هذه هي العبادة التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم وشرعها.
الشرط الخامس: أن يكون هذا السعي بعد طواف نسك ولو مسنوناً، وهذا قول الأئمة الأربعة، وحكي الإجماع على ذلك: أنه لا بد أن يكون السعي بعد طواف نسك، ومعنى قولنا: (نسك)، يعني: طواف مشروع في حج أو عمرة، ولا يشترط أن يكون هذا الطواف واجباً حتى ولو كان مسنوناً مثل طواف القدوم للمفرد والقارن، فإن المفرد إذا طاف طواف القدوم فطواف القدوم هذا سنة، والقارن إذا طاف طواف القدوم فهذا الطواف سنة، فإذا سعى بعد ذلك فإن سعيه صحيح.
وعلى هذا لو قدم السعي على الطواف فإنه لا يصح إلا ما ورد استثناؤه، كما يأتينا إن شاء الله: أنه لا بأس أن يقدم السعي على الطواف يوم النحر، وورد عن عطاء رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أنه لا يشترط ذلك، وحكي عن عطاء وداود أنه لا يشترط ذلك، يعني: لا يشترط أن يكون السعي بعد طواف، وورد عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه يسقط الترتيب بالجهل.
والأقرب في ذلك أن يقال: إن الإنسان إذا قدم السعي على الطواف وكان جاهلاً فإن أمكنه أن يتدارك فإنه يتدارك، مثلاً: إنسان جاهل ذهب للعمرة وسعى قبل الطواف ويمكنه أن يتدارك لأنه في مكة، نقول: يعيد السعي مرةً أخرى، أما إذا كان الإنسان جاهلاً ولا يمكنه أن يتدارك وذهب الوقت ومضى ورجع، فنقول: بأن هذا يعفى عنه إن شاء الله.
أيضاً من شروط صحة السعي: النية؛ لأن الإنسان قد يسعى بين الصفا والمروة قاصداً العبادة، وقد يسعى بين الصفا والمروة إما لمرافقة شخص يسعى أو للبحث عن شخص ونحو ذلك فلا بد من النية، وسبق لنا أن ذكرنا خلاف أهل العلم رحمهم: هل تكفي النية المطلقة أو لا بد من التعيين؟ وذكرنا الصواب في هذه المسألة: أنه تكفي النية المطلقة.
وأما بالنسبة للطهارة وستر العورة والموالاة بين السعي والطواف فهذه كلها سنن، يعني: يستحب للإنسان أن يسعى وهو متطهر، ولو أنه سعى وهو محدث فإن سعيه صحيح، كذلك أيضاً كونه يتنزه من الخبث في بدنه وثيابه، نقول: بأن هذا مستحب، ولو سعى وعلى ثيابه خبث أو نجاسة فنقول: بأن سعيه صحيح.
وكذلك أيضاً سترة العورة نقول: هذا مستحب، ولو أنه سعى وفي إزاره ثقب يخرج منه شيء من عورته نقول: إن سعيه صحيح.
قول المؤلف رحمه الله: (ثم يقصر من شعره) السنة والأفضل هدي النبي عليه الصلاة والسلام أن يحلق، ولهذا دعا النبي عليه الصلاة والسلام للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة واحدة، لكن في موضعٍ واحد يكون التقصير أفضل من الحلق، وهو المعتمر إذا كان متمتعاً وقرب وقت الإحرام بالحج، فإنه لا يحلق وإنما يقصر ويترك الحلق للحج يوم النحر.
أعيد الكلام فأقول: السنة أن يحلق الإنسان، وهذا هو الأفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرةً واحدة، ونستثني من هذا حالة واحدة فقط، وهي: المعتمر إذا كان متمتعاً وقرب وقت الحج فإن الأفضل أن يقصر، ولهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام كل من ليس معه هدي من الصحابة أن يطوف بالبيت والصفا والمروة وبالتقصير، ثم بعد ذلك يحل وهذا في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
قال المؤلف رحمه الله: [إلا المتمتع إن كان معه هدي].
المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن أفضل الأنساك التمتع، قالوا: حتى ولو ساق الهدي فالأفضل التمتع، ولهذا قال المؤلف: (إلا المتمتع إذا كان معه هدي) فقالوا: يمكن للإنسان أن يتمتع وهو معه هدي، فيطوف ويسعى ولا يقصر؛ لأنه لا يمكن أن يحل وهو لم يذبح الهدي، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أنحر ) فقالوا: بأنه يكون متمتعاً، فيطوف ويسعى ولكن لا يقصر؛ لكون الهدي معه، وهذا فيه نظر، والصحيح: أن التمتع لا يمكن مع وجود الهدي؛ لأنه كيف يقال: بأنه متمتع وهو لم يحل؟! لا يمكن أن يكون الإنسان متمتعاً مع وجود الهدي؛ لأن المتمتع لا بد أن يحل من العمرة ثم بعد ذلك يحرم بالحج، فالصحيح في ذلك: أنه لا يتمتع مع وجود الهدي.
قال رحمه الله: [والقارن والمفرد لأنه لا يحل] إذا كان الإنسان قارناً أو مفرداً فإنه إذا طاف فالطواف يسمى: طواف القدوم، والسعي هذا يجزيه عن سعي الحج.
المرأة كالرجل فيما تقدم من الأحكام، مثل: ما يتعلق بأحكام الطواف وأحكام السعي، إلا أن المؤلف رحمه الله استثنى من ذلك: بأن المرأة ليس عليها رمل، وكذلك أيضاً لا تسعى سعياً شديداً بين العلمين؛ لأن أمر المرأة مبني على الستر والحشمة والصيانة، وهذا يخالف هذه الأشياء، فالمرأة لا ترمل في طواف القدوم في الأشواط الثلاثة الأول، وكذلك أيضاً لا تسعى سعياً شديداً بين العلمين.
تبدأ أفعال الحج في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة. وأيام الحج هي:
اليوم الثامن: ويسمى بيوم التروية؛ لأن الناس يتروون فيه من الماء.
واليوم التاسع: ويسمى بيوم عرفة؛ لأن الناس يخرجون فيه إلى عرفات.
واليوم العاشر: ويسمى بيوم النحر؛ لما فيه من نحر الهدايا.
واليوم الحادي عشر: ويسمى بيوم القر؛ لأن الناس يقرون فيه بمنى.
واليوم الثاني عشر: ويسمى بيوم النفر الأول؛ لأن الناس لهم أن يتعجلوا في ذلك اليوم.
واليوم الثالث عشر: ويسمى بيوم النفر الثاني.
هذه أيام الحج، فأيام الحج ستة أيام تبدأ في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة ويسمى بيوم التروية.
وتنتهي باليوم الثالث عشر ويسمى بيوت النفر الثاني.
يعني: كالمتمتعين الذين حلوا من عمرتهم، فإنه يشرع لهم أن يحرموا بالحج في اليوم الثامن.
قال رحمه الله: [أحرم من مكة].
لم يذكر المؤلف رحمه الله متى يحرم، هل يحرم قبل الزوال أو يحرم بعد الزوال؟
نقول: ظاهر السنة أنه يحرم قبل الزوال؛ لأن الصحابة الذين تمتعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالإحرام في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، وخرجوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم من مكة إلى منى، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم ظهر يوم الثامن بمنى، فدل ذلك على أن إحرامهم كان قبل الزوال؛ لأن إحرامهم كان قبل الخروج من مكة فهم أحرموا من أماكنهم.. أحرموا من الأبطح، فدل ذلك على أنهم أحرموا قبل الزوال؛ لأنهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام خرج إلى منى قبل الزوال، وصلى الظهر في منى، وهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم محرمين، فدل ذلك على أن إحرامهم كان قبل الزوال.
وقول المؤلف رحمه الله: (من مكة)؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة الذين تمتعوا أن يحرموا من البطحاء من مكان إقامتهم، فقوله رحمه الله: (أحرم من مكة) فيجزئ من مكة، وكذلك أيضاً يجزئ من بقية الحرم ومن خارج الحرم.
وسبق أن بينا أن الخروج إلى منى في اليوم الثامن، وفعل هذه الصلوات، والمبيت بمنى ليلة التاسع: أن هذا من سنن الحج وليس واجباً بدليل حديث عروة بن مضرس رضي الله تعالى عنه، فإن عروة بن مضرس أتى النبي عليه الصلاة والسلام وقد خرج من صلاة الفجر في مزدلفة فقال له النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر حاله: (من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه).
فنقول: السنة إذا طلعت الشمس في اليوم التاسع أن يسير إلى عرفات.
قال رحمه الله: [فإذا زالت الشمس يوم عرفة صلى الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين، ثم يروح إلى الموقف].
إذا طلعت الشمس فإنه يسير إلى عرفات، والنبي عليه الصلاة والسلام سار إلى عرفات، فوجد قبةً قد ضربت له بنمرة، يعني: خيمة صغيرة، فمكث النبي عليه الصلاة والسلام بهذه القبة حتى زالت الشمس، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يدخل عرفات إلا بعد الزوال وبعد الصلاتين.
ونمرة هذه ليست من عرفة، قال العلماء: إنها غرب وادي عرنة من جهة الحرم، فإذا كان وادي عرنة ليس من عرفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ارفعوا عن بطن عرنة ) والوادي ليس من عرفات، فكذلك أيضاً نمرة.. فنمرة هذه غرب الوادي من جهة الحرم أي: وادي عرنة، فنمرة هذه ليست من عرفات خلافاً لما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله، ووادي عرنة أيضاً ليس من عرفات.
والنبي عليه الصلاة والسلام لم يدخل عرفات إلا بعد الزوال والصلاتين، فلما زالت الشمس دخل النبي عليه الصلاة والسلام وادي عرنة فصلى الظهر والعصر، كما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى: (يجمع بينهما بأذان وإقامتين)، ثم بعد ذلك دخل الموقف عليه الصلاة والسلام.
الرأي الأول: المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن وقت الوقوف بعرفة يبدأ من بعد طلوع الفجر، وعلى هذا لو أن الإنسان وقف بعرفة بعد طلوع الفجر ولو لحظة واحدة فإن وقوفه صحيح وتم حجه، يعني: أتى بركن الحج الأعظم، حتى لو خرج ولم يرجع.
واستدلوا على ذلك بحديث عروة بن مضرس ، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً ) فقالوا: بأن قوله: (أو نهاراً) هذا يشمل النهار من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: ما عليه جمهور أهل العلم، وهو رأي الحنفية والشافعية حيث قالوا: وقت الوقوف بعرفة يبدأ من بعد الزوال؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقف إلا بعد الزوال.
والرأي الثالث: رأي الإمام مالك رحمه الله.. فـمالك يقول: بأن وقت الوقوف يكون بعد غروب الشمس، يعني: لا بد أن يقف لحظة بعد غروب الشمس، وعلى رأي مالك فلو وقف بعد الزوال وجلس وخرج قبل غروب الشمس ولم يرجع فاته الحج؛ لأنه لم يأت بركن الحج، يقول: ركن الحج هو أن تقف بعد غروب الشمس ولو للحظة واحدة.
والإمام مالك والمالكية يتمسكون بحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من جاء ليلة جمعٍ قبل طلوع الفجر فقد أدرك ) وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه جمع من أهل العلم منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني وغيرهم، فقالوا: علق النبي صلى الله عليه وسلم الإدراك على إدراك ليلة جمع.
لكن هذا الحديث الجواب عنه سهل، فنقول: هذا الحديث يدل على أن من جاء في الليل أدرك الحج، ومن وقف في النهار أيضاً أدرك الحج.
فالصحيح في ذلك: أن وقت الوقوف يبدأ من بعد زوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من اليوم العاشر، والإجماع منعقد على أن وقت الوقوف بعرفة يستمر إلى طلوع الفجر الثاني من اليوم العاشر أي: من يوم النحر، وعلى هذا لو جاء في الليل فقط هل يدرك الحج أو لا يدرك الحج؟ نقول: يدرك الحج.
هذا نص حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل عرفة موقف، وارفعوا عن بطن عرنة ) وهو حديث جبير بن مطعم ، أخرجه ابن ماجه وغيره كـالطحاوي وابن حزم وابن خزيمة وإسناده حسن، فدل ذلك أن بطن عرنة ليس من الموقف.
قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب أن يقف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم أو قريباً من الصخرات، ويجعل حبل المشاة بين يديه].
يعني: يستحب للإنسان أن يقف في ذيل الجبل عند الصخرات، فالنبي صلى الله عليه وسلم وقف عند الصخرات في ذيل الجبل واستقبل القبلة وجعل حبل المشاة بين يديه، أما صعود الجبل فهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه صعد الجبل ولا تقصد صعوده، بل النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( وقفت هاهنا وعرفات كلها موقف ) .
إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام وقف في ذيل الجبل عند الصخرات واستقبل القبلة وجعل حبل المشاة بين يديه، كما ورد ذلك في حديث جابر ، أما صعود الجبل فهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً تقصد الصعود هذا غير وارد عن النبي عليه الصلاة والسلام، فالصحيح أن الإنسان يقف في أي مكان، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( وقفت هاهنا وعرفات كلها موقف ).
قال رحمه الله: (ويجعل حبل المشاة بين يديه).
معنى حبل المشاة: طريقهم الذي يسلكونه.
قال رحمه الله: [ويستقبل القبلة].
وهذا دليله حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة )، وهذا أخرجه مسلم في صحيحه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر