تقدم لنا ما يتعلق بأحكام التحلي، وذكرنا ما يتعلق بأحكام التحلي بالنسبة للمرأة، وأيضاً ما يتعلق بأحكام التحلي بالنسبة للرجل، وذكرنا أيضاً حكم تحلي الرجل بالفضة، وحكم تحلي الرجل بالذهب، ثم بعد ذلك تعرضنا لزكاة الدين وأحكامها، وأن الدين ينقسم إلى قسمين:
إما أن يكون على مليء باذل، وإما أن يكون على معسر، أو على مليء مماطل، وكذلك أيضاً تطرقنا إلى ما يتعلق بزكاة المال الضائع أو المغصوب أو المنتهب أو المختلس ونحو ذلك من هذه الأشياء.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (باب: زكاة العروض).
العروض: جمع عرض، وهو ما أعد للبيع والشراء من أجل الربح، وزكاة العروض هي المال الرابع والأخير من الأموال الزكوية التي تجب فيها الزكاة، تقدم لنا زكاة السائمة بهيمة الأنعام، وزكاة الخارج من الأرض، وزكاة النقدين، ثم بعد ذلك زكاة العروض.
ومن الأدلة على ذلك: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر ) أخرجه مسلم ، دل ذلك على أن ما يختص به الإنسان بنفسه أنه لا زكاة فيه، ويفهم منه أن ما لا يختص به الإنسان كعروض التجارة أن فيه الزكاة.
وأيضاً: من الأدلة على ذلك حديث عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) وهذه الأموال التي اشتراها لم يقصدها لذاتها، وإنما قصد قيمتها والربح من وراء هذه العروض.
وكذلك أيضاً: هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مثل: عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وعمر له سنة متبعة، وابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم.
وأيضاً ورد في ذلك حديث -وإن كان ضعيفاً- عن سمرة قال: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الزكاة مما نعده للتجارة ) أخرجه أبو داود ؛ لكن في إسناده ضعف لا يثبت.
والرأي الثاني: كما أشرنا هو قول الظاهرية، وقالوا: بأن الزكاة لا تجب في عروض التجارة؛ لأن الأصل هو براءة الذمة، ولم يرد الدليل، وهذا فيه نظر؛ لأن الصواب في هذه المسألة أن الدليل ورد، كما أسلفنا في أدلة الجمهور.
قول المؤلف رحمه الله: ( لا زكاة فيها حتى ينوي بها التجارة )؛ لحديث عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، فإذا نوى بها القنية، وأن الإنسان يختص بها لنفسه يستعملها، السيارة اشتراها لم ينو بها التجارة بالبيع والشراء، وإنما اشتراها لكي يركبها، والبيت اشتراه لكي يسكنه... إلى آخره، فهذه الأشياء لا زكاة فيها لما تقدم أن ذكرنا من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ).
قال المؤلف رحمه الله: [ وهي نصاب حولاً].
الصواب في هذه المسألة: أنه إذا كانت عروض التجارة نصاباً ونوى بها التجارة فإنها تكون للتجارة، فإذا حال عليها الحول فإنه يخرج زكاتها، كما سيأتي.
قال المؤلف رحمه الله: [ ثم يقومها، فإذا بلغت أقل نصابٍ من الذهب والفضة أخرج الزكاة من قيمتها ].
نصاب عروض التجارة معتبر بأحد النقدين، فينظر إلى الأقل من نصاب الذهب أو نصاب الفضة، فيقدر نصاب العروض بالأقل من نصاب الذهب أو نصاب الفضة، وتقدم لنا أن نصاب الذهب يساوي خمسة وثمانين غراماً، وخمسة وثمانون تساوي اليوم مثلاً: ألفين ريال، فإذا اعتبرنا الذهب قلنا: لا تجب الزكاة في عروض التجارة حتى تبلغ قيمتها ألفي ريال، فإذا كان عنده من المواد الغذائية، والأقمشة... إلى آخره ما يساوي قيمته ألفي ريال وجبت، وإذا كان أقل من ألفي ريال لا تجب فيه الزكاة، هذا إذا اعتبرنا نصاب الذهب، وإذا اعتبرنا نصاب الفضة، فإنه كما تقدم لنا أن نصاب الفضة يساوي خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، والفضة -كما أشرنا فيما سبق- نزلت قيمتهما فهي رخيصة جداً، فخمسمائة وخمسة وتسعون غراماً من الفضة تساوي اليوم تقريباً ستمائة ريال، وعلى هذا نقول: العروض معتبرة بالفضة؛ لأن الفضة هي الأقل، فإذا ملك عروضاً تبلغ قيمتها ستمائة ريال، إذا قلنا: بأن الغرام بريال، أما إذا قلنا: بأن الغرام بنصف ريال، فيساوي تقريباً ثلاثمائة ريال، فإذا ملك من عروض التجارة ما يساوي ثلاثمائة ريال وجبت عليه الزكاة، وإذا ملك أقل من ذلك فإنه لا تجب عليه الزكاة، وعلى هذا تقدر عروض التجارة.
وكذلك أيضاً كما أشرنا الأوراق النقدية اليوم تقدر كلها بالفضة؛ لأن الفضة سعرها نازل فهو الأحظ للفقراء، فعندك نصاب الفضة يساوي خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً تنظر إلى قيمته بالريالات، ثم بعد ذلك تعرف نصاب العروض، فإذا ملك عروضاً يساوي قيمة هذه الغرامات من الفضة، وجبت عليه الزكاة، وإلا لم تجب عليه الزكاة.
إذا كان عنده ذهب أو فضة يضمها إلى قيمة العروض في تكميل النصاب، فهذا رجل عنده من الفضة مائتا غرام، تقدم لنا أن نصاب الفضة يساوي خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، فإذا كان عنده مائتا غرام من الفضة والباقي عنده عروض، يعني: عنده من عروض التجارة ما يساوي أربعمائة غرام، فيضيف مائتي غرام إلى أربعمائة غرام، يبلغ أكثر من النصاب؛ لأن النصاب كما تقدم يساوي خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، فتجب عليه الزكاة؛ لأن هذه العروض كما تقدم ليست مرادة لذاتها، وإنما المراد: هو القيمة.
ومثل ذلك أيضاً: لو كان عنده أوراق نقدية وعنده عروض تجارة، الأوراق النقدية تساوي نصف النصاب، وعروض التجارة تساوي النصف الآخر، نقول: تجب عليه الزكاة.
كذلك أيضاً: إذا كان عنده من الذهب مثلاً: خمس غرامات، والباقي عروض تجارة، فإنه ينظر إلى قيمة هذه الغرامات، وينظر إلى قيمة العروض، ويضم بعضها إلى بعض حتى يكتمل النصاب، فتجب عليه الزكاة.
يعني: لو كان عنده سيارة للتجارة، ثم بعد ذلك نوى بها القنية، نوى أن يستعملها، فنقول: ينقطع حولها ولا زكاة فيها؛ لما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة )، وأيضاً: الإجماع منعقد على أن ما يقتنيه الإنسان لخاصة نفسه استعماله أنه لا زكاة عليه.
وكذلك أيضاً: لو كان عنده آلات أو أثواب وغير ذلك يتاجر فيها، ثم نوى أن يجعلها لنفسه؛ لكي يلبسها ونحو ذلك، فإنه لا زكاة فيها.
قال المؤلف رحمه الله : [ ثم إن نوى بها بعد ذلك التجارة استأنف له حولاً ].
يعني: إذا كانت هذه السيارة للتجارة، ثم نواها للقنية، مضى عليها خمسة أشهر، وهو ناويها للتجارة في المعرض، ثم بعد أن مضت خمسة أشهر نوى أنها للقنية، الآن انقطع حول التجارة ولا زكاة فيها، فإذا نوى بعد أن نواها للقنية أن يجعلها للتجارة مرة أخرى نقول: يستأنف حولاً جديداً؛ لأن الحول الأول قد انقطع، فإذا انقطع ثم بعد ذلك عاود ونوى بها القنية مرة أخرى نقول: يستأنف بها حولاً جديداً.
يعني: صاحب المحل، صاحب البقالة، أو صاحب المعرض، أو الذي يبيع أقمشة، أو يبيع آلات، أو يبيع سيارات ونحو ذلك، كيف يقدر عروض التجارة؟
نقول: يقدرها بسعرها الذي تباع به الآن، فإن كان يبيع تجزئة يقدرها بسعر التجزئة، وإن كان يبيع جملة يقدرها بسعر الجملة، ولا ينظر إلى السعر الذي اشتريت به، بل ينظر إلى سعرها، إن كان يبيع تجزئة مثل: أصحاب البقالات، وأصحاب الأقمشة، والمعارض ونحو ذلك، فإنه يقدر بسعر التجزئة، وإن كان يبيع بالجملة مثل أصحاب المحلات الكبيرة فهذا يقدرها بسعر الجملة، ولا ينظر إلى السعر الذي اشتريت به، إنما ينظر إلى سعرها عند حولان الحول عند وجوب الزكاة، والواجب فيها ربع العشر، يعني: واحد من أربعين، فحاصل ما تأتي به، أو ما يأتي به هذا الدكان يقسمه على أربعين، والناتج هو الزكاة ربع العشر.
التاجر المدير: هو الذي يدير التجارة، يبيع ويشتري على الدوام، مثل: أصحاب البقالات الآن يبيع ويشتري، تذهب هذه السلع وتأتي سلع أخرى، فلا يكاد يمر عليه يوم، أو يومان، أو أسبوع بالكثير إلا وقد تغيرت هذه السلع.
ومثل أيضاً: أصحاب المعارض، وأصحاب قطاع السيارات وغير ذلك، الذين يحركون التجارة، يحركون سلعهم، أو أصحاب معارض السيارات وغير ذلك، هذا يسميه العلماء رحمهم الله: التاجر المدير، هذا لا إشكال أنه تجب عليه الزكاة كل عام، وتقليب البضائع لا يقطع عليه الحول كما تقدم لنا؛ لأن أمور التجارة هذا مبني على التقليب والاستبدال، فقد يكون هذا الشهر عنده سلع، وفي الشهر الآخر عنده سلع أخرى... إلى آخره، لا ينظر إلى تغير التجارة.
كذلك أيضاً كما سبق لنا أن ربح التجارة حوله حول أصله، فإذا حال عليه الحول ينظر إلى السلع التي عنده سواء كانت من جنس السلع التي ابتدأ الحول بها أو اختلفت وتغيرت، وبالنسبة للربح فإن حوله كما تقدم حول أصله.
والتاجر المحتكر: هو الذي يحبس السلع حتى يرتفع سعرها، ثم بعد ذلك إذا ارتفع سعرها يقوم ببيعها، جماهير أهل العلم قالوا: لا فرق بين التاجر المدير، والتاجر المحتكر، كلهم تجب عليهم الزكاة، فإذا كان عنده سلع ما يحركها مثلاً: عنده أراض لا يحركها لكنه قاصد بها ارتفاع السعر، فإذا ارتفع سعرها باع، فهذا عند جمهور أهل العلم تجب عليه الزكاة سواء كان مديراً أو محتكراً، كلهم يوجبون الزكاة على الصنفين.
الرأي الثاني: رأي الإمام مالك رحمه الله، الإمام مالك رحمه الله يفرق بين التاجر المدير والتاجر المحتكر، فيقول: التاجر المدير تجب عليه الزكاة كل عام، وأما التاجر المحتكر الذي يحبس السلعة حتى يرتفع السعر، ثم بعد ذلك يبيع، يقول: هذا لا يجب عليه أن يزكي كل عام، وإنما يجب عليه أن يزكي مرة واحدة إذا باع. والأقرب في هذه المسألة أن نقول: بأن التاجر المدير لا إشكال أنه تجب عليه الزكاة كل عام، وإما بالنسبة للتاجر المحتكر فهذا فيه تفصيل فنقول: هذا التاجر إذا كان عنده سلع يحتكرها، وسلع يحركها، فنقول: تجب عليه الزكاة في كل عام، سواء كانت السلع التي تحرك أو السلع التي لا تحرك، فإذا كان يشتغل بهذه البضائع بعضها يحركه، وبعضها يحبسه، وينتظر بها زيادة السعر، نقول: الصواب في ذلك أنه تجب عليه الزكاة كل عام، أما إنسان ليس عنده شيء يحركه؛ لكن عنده سلعة ينتظر بها زيادة السعر، فهذا لا تجب عليه الزكاة إلا مرة واحدة، مثلاً: إنسان لا يشتغل بالتجارة؛ لكنه اشترى هذه الأرض، وهو يقصد من ذلك أنه إذا ارتفع سعرها أنه يبيع، فنقول: الصواب والأقرب في هذه المسألة أنه يجب عليه أن يزكي مرة واحدة، أو مثلاً: عنده سيارة، وحبس هذه السيارة حتى يرتفع السعر ثم يبيع، فنقول: هذا تجب عليه الزكاة مرة واحدة.
هذا يظهر اليوم في عمل كثير من الناس فيما يتعلق بالأراضي، تجد إنساناً ليس مشتغلاً بالأراضي والبيع والشراء، وإنما يشتري هذه الأرض، ثم يحبسها حتى يزيد سعرها، ثم يبيع، فنقول: إذا باع يؤدي الزكاة مرة واحدة.
فأصبح عندنا المحتكر هذا فيه تفصيل، إن كان إنسان يقلب شيئاً من تجارته وشيئاً يحبسه تجب عليه الزكاة في الجميع، وإن كان ليس عنده ما يقلبه وإنما عنده سلع يحتكرها فقط، فهذا تجب عليه الزكاة مرة واحدة فقط إذا باع.
أما الذي يشتري أرضاً، وهو يقصد من ذلك أن يعمرها للسكنى، أو يقصد من ذلك أن يعمرها للتأجير فلا زكاة فيها.
الفطر: اسم مصدر، وقوله: (باب) مضاف، و(زكاة) مضاف إليه، و(زكاة) مضاف، و(الفطر) مضاف إليه، وهذا من إضافة الشيء إلى سببه يعني: الزكاة التي سببها الفطر من رمضان.
وهذه الزكاة زكاة البدن، فالزكاة زكاتان: زكاة المال، وتقدم كلام المؤلف عليها: عروض التجارة، النقدان، السائمة، الخارج من الأرض... إلى آخره، هذه زكاة المال، وزكاة الفطر هذه زكاة البدن.
وأما السنة فحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد من المسلمين )، فهذا صريح في أنها فرض، وفرض زكاة الفطر قبل فرض زكاة المال، زكاة الفطر فرضت في السنة الثانية من الهجرة قبل فرض زكاة المال، كما في حديث قيس بن سعد رضي الله تعالى عنه.
قال المؤلف رحمه الله: [ وهي واجبة ].
باتفاق الأئمة أنها واجبة، وحديث ابن عمر صريح في الوجوب: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير )... إلى آخره، هذا صريح في الوجوب.
من تجب عليه زكاة الفطر؟ أو ما هي شروط من تجب عليه زكاة الفطر؟
الشرط الأول: الإسلام، فالكافر لا تجب عليه زكاة الفطر، ودليل ذلك ما تقدم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير على الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد من المسلمين)، فيفهم من ذلك أن الكافر لا تجب عليه، ولأنها طهره كما في حديث ابن عباس، يعني: الحكمة منها طعمة للمساكين، وطهرة للصائم من اللغو والرفث، والكافر نجس، ليس أهلاً للتطهير حتى يسلم، إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28] ، وتقدم أن أشرنا أن الكافر يتوجه إليه خطابان:
خطاب وجوب التكليف، وهذا مكلف بحيث إنه يحاسب عليها يوم القيامة.
والخطاب الثاني: خطاب وجوب الأداء، فهذا لا يجب عليه، فلو أنه أسلم لا نلزمه أن يؤدي زكاة الفطر عن الأعوام الماضية، وإنما إذا أسلم قبل وقت الوجوب وجبت عليه زكاة الفطر.
قال المؤلف رحمه الله: [إذا ملك فضلاً عن قوته، وقوت عياله].
الشرط الثاني: الغنى، وضابط الغنى يختلف باختلاف أبواب الفقه، فالغنى في دفع الزكاة، يختلف عن الغنى في أخذ الزكاة، والغنى في باب زكاة الفطر يختلف أيضاً عن الغنى في باب زكاة المال، والغنى في النفقة يختلف، والغنى في العقل في إيجاب الدية... إلى آخره.
المهم أن الغنى يختلف باختلاف أبواب الفقه.
إذاً: الشرط الثاني: أن يكون غنياً، الغني في باب زكاة الفطر هو الذي يملك قوته وقوت من يمونه يوم العيد وليلته بعد الحوائج الأصلية، فمثلاً: هذا رجلٌ هو وعائلته يكفيه يوم العيد وليلته صاعان، والحوائج الأصلية متوافرة من الفرش، والأواني، والآلات التي يحتاجها في بيته، هذه متوافرة، الآن ملك قوت يوم العيد وليلته صاعان، وأيضاً ملك على ذلك زيادة صاع، فنقول: هذا غني في باب زكاة الفطر، ما دام أنه يملك مئونته يوم العيد وليلته مع ملكه للحوائج الأصلية، وملك شيئاً يزيد على ذلك نقول: الآن أنت غني في باب زكاة الفطر، يجب عليك أن تخرج زكاة الفطر، فقد يكون الإنسان فقيراً في باب أخذ الزكاة، لكنه في باب زكاة الفطر غني يجد قوته وقوت من يمونه يوم العيد وليلته، ويجد حوائجه الأصلية، من الفرش، والغطاء، والوطاء، والأواني، والآلات... إلى آخره، ويملك زيادة على ذلك طعاماً، أو نقود يشتري بها، فنقول هنا: تجب عليه زكاة الفطر.
ولم يشترط المؤلف رحمه الله التكليف، فنقول: بأن زكاة الفطر واجبة على الصغير والكبير، والحر والرقيق، والذكر والأنثى.
في هذه الجملة بين المؤلف رحمه الله: قدر الفطرة، وأيضاً بين جنس المخرج، فقدر الفطرة أو قدر زكاة الفطر صاع، كما في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان، صاعاً من تمرٍ، أو صاعاً من شعير، على الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد من المسلمين)، وكذلك أيضاً في حديث أبي سعيد قال: ( كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط ).
وقول المؤلف رحمه الله (وقدر الفطرة صاع من البر).
هذا ما عليه جمهور أهل العلم أنه لا فرق بين الشعير وبين البر وغيره من الأصناف، فيجب على الإنسان أن يخرج صاعاً، سواء كان هذا الصاع من البر، أو من الشعير، أو من التمر، المهم مما يجزئ إخراجه كما سيأتي إن شاء الله، ولا فرق بين البر، وبين غيره، هذا ما عليه جمهور أهل العلم.
وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا أخرج من البر يخرج نصف صاع، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يفرقون بين البر وغيره، وقالوا: بأنه إذا أخرج من البر فإنه يخرج نصف صاع، ودليل ذلك أن معاوية رضي الله تعالى عنه قدم المدينة فقال: أرى أن مدين من سمراء الشام يعدل صاعاً من تمر، فعدل الناس بذلك، يعني: أخذ بذلك كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فأخذ بهذا أبو حنيفة ، وأنه إذا أخرج من البر أخرج نصف صاع، وكذلك أيضاً اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
لكن الأقرب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وأنه يخرج صاعاً كاملاً، حتى ولو أخرج من البر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها صاعاً كما في حديث أبي سعيد : ( كنا نخرجها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب ).
وأيضاً فعل معاوية رضي الله تعالى عنه ومن وافقه من الصحابة خالفهم في ذلك أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، فإنه قال: ( أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم )، يعني: أنه يخرج صاعاً، وكذلك أيضاً خالف في ذلك ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فالصواب في ذلك أنه لا يكفي أن يخرج نصف صاع، حتى ولو أخرج من البر.
يعني: الذي يخرج منه خمسة أشياء على المذهب: البر، الشعير، دقيق البر، دقيق الشعير، يعني: الدقيق الطحين المطحون، يعني: إذا كان عندك بر طحنته، أو عندك شعير طحنته، تخرج من الطحين.
(أو سويقهما) سويق البر، سويق الشعير، يقلى البر، أو يقلى الشعير ثم يطحن، هذا السويق. من البر، الشعير، الزبيب، التمر، كذلك أيضاً الأقط، هذه خمسة أصناف، المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنك إذا كنت واجداًلشيء من هذه الأصناف الخمسة فإنه لا يجزئ أن تخرج من غيرها، فلا يجزئ أن تخرج من الأرز وأنت تجد البر، أو تجد الشعير، أو التمر، ولا تخرج من العدس، أو من الذرة، وأنت تجد هذه الأصناف، قالوا: ما يجزئ الإخراج إلا من هذه الأصناف الخمسة، هذا هو المشهور من المذهب.
الرأي الثاني: أن هذه الأصناف ليست متعينة، وإنما يخرج الإنسان من غالب قوت البلد، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وإنما جاء النص على هذه الأصناف في حديث أبي سعيد : ( كنا نخرج صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو شعير، أو زبيب، أو أقط ) جاء النص عليها في حديث أبي سعيد ؛ لأن هذه هي غالب أقوات الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
فالصواب في ذلك أن الإنسان يخرج من غالب قوت البلد، فمثلاً: إذا كان غالب قوت البلد هو الأرز، فإنه يخرج من الأرز، وإذا كان غالب قوتهم هو الأقط يخرج من الأقط، وإذا كان غالب قوتهم اللحم يخرج من اللحم، وإذا كان غالب القوت هو اللبن أو الحليب فإنه يخرج من ذلك ولا يكلف، هذا هو الصواب، وقد أيده ابن القيم رحمه الله في كتابه أعلام الموقعين، وانتصر لهذا القول، فهذا هو الصواب.
يعني: يقول المؤلف رحمه الله: الإنسان يجب عليه أن يخرج عن نفسه، ويجب عليه أيضاً أن يخرج عمن يمونه، عمن ينفق عليه، فأنت مثلاً: تنفق على أبيك، مثلاً: أبوك معك في بيتك تنفق على أبيك، تنفق على أمك، تنفق على زوجتك، تنفق على أولادك، يجب عليك أن تخرج عنهم الفطرة، يجب عليك أن تخرج الفطرة عن أولادك، عن زوجتك، عن أبيك، عن أمك، حتى لو كان عندك إخوان تنفق عليهم فإنه يجب عليك أن تخرج عنهم زكاة الفطر، ويستدلون على هذا بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أدوا الفطرة عمن تمونون ).
والرأي الثاني: أنه لا يجب على الإنسان أن يخرج عن زوجته، ولا عن أبيه، ولا عن أمه، ولا عن أولاده الكبار، لا يجب عليه ذلك، كل يخرج الفطرة عن نفسه؛ لكن ابن المنذر ذكر الاتفاق على أن الأولاد الصغار يخرج عنهم أبوهم، وما عدا ذلك الزوجة عند الحنفية تخرج عن نفسها، حتى ولو كنت يجب عليك الإنفاق عليها، والأب يخرج عن نفسه، والأم تخرج عن نفسها، يعني: يجب على كل أحد بنفسه، والأخ يخرج عن نفسه، والأخت تخرج عن نفسها، والأولاد الكبار يخرجون عن أنفسهم.
وهذا القول هو الأقرب، حديث ابن عمر ظاهر: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد من المسلمين )، فكل مخاطب؛ لكن لو أن صاحب البيت تبرع بإخراجها عنهم جميعاً فإن هذا مجزئ؛ لكن الأصل في ذلك أن كل أحدٍ يخرج عن نفسه.
قال المؤلف رحمه الله: [ إذا ملك ما يؤدي عنه ].
يعني: إذا ملك ما يؤدي عنه، لو أنه يملك مئونته، ومئونة من يمونه يوم العيد وليلته، وفضل عن ذلك صاع، فإنه يبدأ بنفسه، أولاً لا بد أن يوفر النفقة لكي يكون غنياً في باب الإخراج في زكاة الفطر، لا بد أن يملك قوته وقوت من يمونه يوم العيد وليلته بعد الحوائج الأصلية، فإذا ملك زيادة على ذلك يبدأ بنفسه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ابدأ بنفسك ) يخرج عن نفسه صاعاً، ملك صاعين، يخرج عن زوجته، ملك ثلاثة، يخرج عن رقيقه، ملك أربعة يخرج عن أمه، ملك خمسة يخرج عن أبيه، ملك ستة يخرج عن ولده، ملك سبعة يخرج عن الأقرب فالأقرب، هذا على ما مشى عليه المؤلف رحمه الله؛ لكن إذا قلنا: أن الإنسان لا يجب عليه أن يخرج إلا عن نفسه، إلا كما ذكر ابن المنذر الأولاد الصغار، فما يتعلق بفطرة الزوجة والأب... إلى آخره كل يخرج عن نفسه؛ لكن لو أنه تبرع وأخرجها عنهم، فإن هذا جائز ولا بأس به.
الرقيق يجب على سيده أن يخرج عنه زكاة الفطر، لما في حديث أبي هريرة في مسلم : ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر )؛ لكن إذا كان يملك هذا الرقيق اثنان، أو يملكه ثلاثة، فإن فطرته عليهم على حسب ملكهم، فإذا كان هذا الرقيق يملكه زيد وعمرو مناصفة، نقول: عمرو عليه نصف صاع، وزيد عليه نصف صاع، لكن لو كان زيد يملك ثلثاً، وعمرو يملك ثلثين، فنقول: زيد عليه ثلث الفطرة ثلث صاع، وعمرو عليه الثلثان، ثلثا الفطرة.
(أو المعسر القريب لجماعة) يعني مثلاً: هذا أخ، وعنده أخوان ينفقان عليه، فإن فطرته على أخويه، وهذا مبني على المذهب؛ لكن إذا قلنا: كل يجب عليه أن يخرج الفطرة عن نفسه لا تجب عليهما.
قال المؤلف رحمه الله: [ وإن كان بعضه حراً ففطرته عليه وعلى سيده ].
يعني: هذا رقيق بعضه حر، ولنفرض أن نصفه حر، ونصفه رقيق، فنقول: فطرته في نصفه الرقيق على السيد، والنصف الحر على الرقيق نفسه المبعض، فيجب على السيد أن يخرج عنه نصف صاع، ويجب عليه هو أن يخرج عن نفسه نصف صاع.
شرع المؤلف رحمه الله في بيان وقت زكاة الفطر، وزكاة الفطر يذكر العلماء رحمهم الله لها خمسة أوقات:
الأول: وقت وجوب الفطرة، متى تجب الفطرة؟ هذا فيه رأيان مشهوران:
الرأي الأول: رأي جمهور أهل العلم، قالوا: بأن زكاة الفطر تجب بغروب الشمس من آخر يوم من أيام رمضان؛ لحديث ابن عمر : ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان ) فقال: ( من رمضان )، والذي يتحقق به الفطر من رمضان هو غروب الشمس من آخر يومٍ من أيام رمضان، إذ إنه إذا غربت الشمس من آخر يوم من أيام رمضان، فقد حصل الفطر من رمضان، خرج رمضان، ودخل شوال.
الرأي الثاني: رأي أبي حنيفة رحمه الله، قال: بأن وقت الوجوب يكون بطلوع الفجر الثاني من أول يوم من أيام شوال، وهو يوم العيد، ويستدل أيضاً بنفس الحديث: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان )، قالوا: ما يتحقق الفطر إلا بطلوع الفجر الثاني من أول يوم من أيام شوال، وهو يوم العيد.
يترتب على هذا الخلاف مسائل:
من هذه المسائل إذا أسلم قبل غروب الشمس، فتجب عليه زكاة الفطر عند الجمهور وعند أبي حنيفة ؛ لأن وقت الوجوب جاء وهو من أهل الوجوب، وإذا أسلم بعد غروب الشمس لا تجب عليه عند الجمهور؛ لكن تجب عليه عند أبي حنيفة ؛ لأن عند الجمهور هو كافر وقت الوجوب فلا تجب عليه؛ لكن عند أبي حنيفة هو مسلم من أهل الوجوب.
المسألة الثالثة: إذا ملك رقيقاً قبل غروب الشمس، زكاة الفطر على المشتري، أو على من ملك هذا الرقيق، عند القولين؛ لكن إذا ملك الرقيق بعد غروب الشمس، يعني: اشترى الرقيق بعد غروب الشمس، نقول: زكاة الفطر على رأي الجمهور تكون على البائع، لكن عند أبي حنيفة تكون على المشتري.
ومثل ذلك أيضاً: إذا تزوج زوجة، إذا قلنا: بأن الإنسان يجب عليه أن يخرج زكاة الفطر عن زوجته، فإذا تزوج المرأة قبل غروب الشمس يجب عليه أن يخرج عنها زكاة الفطر على الرأيين؛ لكن لو تزوجها بعد غروب الشمس، فعند أبي حنيفة يجب عليه أن يخرج عنها؛ لكن عند الجمهور لا يجب عليه أن يخرج عنها.
ومثل ذلك أيضاً: إذا ولد له ولد... إلى آخره، وعلى هذا فقس، هذا هو الوقت الأول.
قال المؤلف رحمه الله: [ ويستحب إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة ].
هذا الوقت الثاني: وقت الاستحباب، الوقت الأول: وقت الوجوب، والوقت الثاني: وقت الاستحباب، وقت الاستحباب أن تخرج صبح يوم العيد قبل الصلاة، ودليل ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين قال: ( وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى صلاة العيد )، فنقول: وقت الاستحباب صبح يوم العيد قبل الصلاة، هذا وقت الاستحباب، ولهذا تقدم لنا في صلاة العيد أنه يستحب تأخير صلاة عيد الفطر شيئاً لكي يتسع الإخراج لزكاة الفطر.
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يجوز تأخيرها عن يوم العيد ].
هذا الوقت الثالث: يقول المؤلف رحمه الله: لا يجوز أن تؤخر عن يوم العيد، يعني: يحرم تأخيرها عن يوم العيد، يعني: ما بعد غروب الشمس هذا محرم.
قبل غروب الشمس يوم العيد هذا الوقت الرابع قالوا: هذا وقت كراهة، المذهب إخراجها صبح يوم العيد قبل الصلاة هذا سنة، وبعد الصلاة في يوم العيد هذا وقت كراهة، وبعد غروب الشمس هذا وقت تحريم.
فأصبح عندنا وقت الكراهة هو الوقت الرابع من بعد الصلاة إلى غروب الشمس، وقت التحريم الوقت الثالث الذي أشار إليه المؤلف من بعد غروب الشمس إلى ما لا نهاية له، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.
والرأي الثاني: أنه لا يوجد وقت كراهة وإنما وقت تحريم، يحرم تأخيرها عن صلاة العيد، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأنها إذا أخرت عن صلاة العيد فإنه لا يقدر عليها، وإنما تكون صدقة من الصدقات؛ لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ).
نقول: إذا أديت قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، وأما إذا أديت بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات، لا تجزئ.
وهذا هو الصواب، فأصبح عندنا أنه يحرم تأخير إخراجها بعد صلاة العيد، وهذا محرم ولا يجوز، ولا يقدر عليها، يعني: لا تقضى، اللهم إلا إذا كان التأخير لعذر، كما لو نسي الإنسان أن يخرجها، أو وكل أحداً يقوم بإخراجها ولم يخرجها، أو لم يتمكن من الإخراج؛ لكونه بعيداً عن البلدان، ونحو ذلك في صحراء، ففي هذه الحالة نقول: لا بأس أن يخرجها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر