الغاية من خلق العباد وإيجادهم في هذه الدنيا هي عبادة الله جل وعلا، ولا يستشعر ذلك إلا من عرف الحقيقة الحتمية التي لا مفر منها، ألا وهي: الموت والقدوم على الله سبحانه وتعالى، والسؤال عن الميثاق والعهد الذي أخذه الله على ابن آدم، وهو: ألا يشرك به شيئاً، كما أن من أكثر من ذكر الموت، واستحضر القدوم على الله كان هذا سبباً في حسن خاتمته.
الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو؛ فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة؛ ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه فقال:
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62]، أحمدك -يا ربي- وأستعينك، وأستغفرك، وأستهديك؛ لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك، وعظم جاهك، ولا إله غيرك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لك، هو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.
اللهم كما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله.
اللهم كما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله.
اللهم كما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله.
اللهم احشرنا تحت لوائه، اللهم احشرنا تحت لوائه، اللهم أحينا على سنته.
اللهم أحينا على سنته، اللهم أحينا على سنته.
اللهم توفنا على ملته، اللهم توفنا على ملته.
اللهم اسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً.
اللهم عافنا واعف عنا، واغفر لنا وارحمنا، اللهم عافنا واعف عنا، واغفر لنا وارحمنا.
اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض.
اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً؛ إنك ولي ذلك ومولاه، وأنت على كل شيء قدير.
أما بعد:
فيا أيها الأحبة في الله! مرحباً بكم في لقاء جديد من لقاءات الإيمان، في ضيافة الحق جل وعلا، وعلى مائدة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنضر الله هذه الوجوه، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وتقبل الله مني وإياكم صالح الأعمال، وغفر الله لي ولكم.
ثم أما بعد:
فإن لقاءنا هذا هو مع موضوع هام، إنه موضوع الخوف من سوء الخاتمة، أسأل الله أن يحسن ختامي وختامكم.
اعلموا -أيها الإخوة في الله- أن الله جل وعلا خلق الإنسان ولم يتركه سدىً وهملاً، بل إن الله جل وعلا قد خلق هذا الإنسان، وحد له القوانين، وشرع له التشريعات، ووضع له الحدود التي تكفل سعادته في الدنيا والآخرة، فإن أطاع الإنسان أوامر مولاه؛ فأتمر بأوامره، وانتهى بنواهيه، ووقف عند حدوده جل وعلا؛ ضمن الله عز وجل له السعادة في دنياه، والنجاة والفوز في أخراه، وإن شذ هذا الإنسان عن أوامر الله جل وعلا، وعن نواهي الله عز وجل، ولم يقف عند حدوده؛ خاب -والله- وخسر في الدنيا والآخرة؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الخلق سدىً وهملاً، قال صاحب (معارج القبول) عليه رحمة الله:
اعلم بأن الله جل وعلا لم يخلق الخلق سدىً وهملاً
بل خلق الخلق ليعبدوه وبالإلهية يفردوه
فالله جل وعلا خلقك، وأنزل إليك الكتب، وأرسل إليك الرسل، فأمرك ونهاك، وحد لك حدوداً لا ينبغي أن تتجاوزها أو تتعداها، ثم بين لك المصير، وحدد لك الجزاء؛ حتى لا تأتي يوم القيامة وتقول: يا رب! لم يبلغني رسولك، ولم أقرأ كتابك، بل أقام الله جل وعلا عليك الحجة في هذه الحياة، فأنزل عليك الكتب، وأرسل إليك الأنبياء والمرسلين، وأبقى لك بعد الأنبياء والمرسلين ورثة الأنبياء وورثة المرسلين، ألا وهم العلماء الذين -دوماً وأبداً- يذكرونك بأوامر الله، ويحذرونك من نواهي الله، ويذكرونك بأن تكون وقافاً عند حدود الله جل وعلا؛ ضماناً لسعادتك وفلاحك ونجاحك في الدنيا والآخرة.
وحق على الله -أيها الأحبة في الله- لمن اتقاه أن يحسن بدايته، وأن يتولى رعايته، وأن يحسن نهايته، والتقوى كما عرفها
علي رضوان الله عليه: هي العمل بالتنزيل، والخوف من الجليل، والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل، وهذا وعد من الله جل وعلا للمتقين أن يحسن بدايتهم، وأن يتولى في الحياة رعايتهم، وأن يحسن نهايتهم بالفلاح والنجاح والتوحيد والإيمان.
وقد بين الله جل وعلا لك أن المصير: إما جنة -نسأل الله أن يجعلنا من أهلها- وإما نار
عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
إذاً: أنت أيها الإنسان مخلوق لله جل وعلا، ومؤتمر بأوامر الله، وملتزم بقوانين الله جل وعلا، فطالما أنك مخلوق لله فأنت عبد لمولاك، ولا ينبغي للعبد أن يتصرف في ملك سيده إلا بإذن وتصريح منه، فيقف عند أوامره، وينتهي بنواهيه، ويمتثل بحدوده جل وعلا، فإذا التزمت بالأوامر والنواهي والحدود حدد الله جل وعلا لك المصير، وإن كانت الأخرى فإن الأمر واضح، يقول الله جل وعلا:
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:7-10]. وقال في سورة النازعات:
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41]، وقبل ذلك يقول الله جل وعلا:
فَأَمَّا مَنْ طَغَى *
وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-39].
-
الحقيقة الحتمية التي لا مفر منها
-
الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم
-
مصيبة الموت وما اشتملت عليه من الدواهي
انتبه معي أيها الشاب! انتبهوا معي أيها المسلمون! ما ظنك وما حالك لو قطع عرق من عروقك؟ لا شك أنك تتألم ألماً شديداً، وتتألم ألماً فظيعاً، وإحساسك بألمه هو من خلال وجود الروح فيك؛ لأنك لا تتألم إذا خرجت الروح منك، سئل
الشافعي عليه رحمة الله وقيل له: يا إمام! هل الروح هي التي تحمل الجسد أم أن الجسد هو الذي يحمل الروح؟ فقال: بل إن الروح هي التي تحمل الجسد، بدليل أن الروح إذا فارقت الجسد؛ وقع الجسد جثة هامدة لا قيمة له، فأنت لا تتألم إلا لوجود الروح فيك، فإذا قطع عرق منك تتألم لوجود الروح فيك، فما ظنك إذا كان الذي ينزع منك هو الروح كله؟!
الذي تنزع الروح من جسده يحس بسكرة عجيبة، وكربة شديدة، إنها سكرات الموت، فإن لكل عضو من أعضائك ولكل جارحة من جوارحك سكرة بعد سكرة، وكرباً بعد كرب، وضيقاً بعد ضيق، وهولاً بعد هول، قال عز وجل:
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا [النازعات:1] وهم الملائكة
وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات:2]، إنها سكرات وكربات وأهوال! كرب بعد كرب لكل عضو ولكل جارحة، فينام الإنسان على فراش الموت وقد بردت أطرافه، وارتعدت فرائصه، واضطربت جوارحه، وتجعد وجهه، وبرد كل عضو منه بعد الآخر، أنفاسه في صدره تعلو وتهبط، اجتمع الناس من حوله، وأحضروا له الأطباء، وأحضروا له الخبراء، ووضعوا له التحاليل، ووضعوا له الأدوية، وجهزوا له كل شيء؛ لأنه صاحب المنصب، وصاحب الجاه، وصاحب السلطان، وصاحب الأموال، وصاحب القوة، وصاحب الوزارات، ولكن الله جل وعلا قدر عليه الموت، ولا راد لقدره ولا راد لمشيئته، قال عز وجل:
وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].
سكرات الموت
مصيبة الموت في حد ذاتها تشتمل على ثلاث دواهي:
الداهية الأولى: سكرات الموت، وسكرات الموت أمر شديد، وأمر فظيع؛ لأن لكل عضو سكرة، ولكل عضو ألم وتألم، فينام الإنسان على فراش الموت وقد اصفر وجهه، وارتعدت جوارحه، واصفر لونه، وبردت أعضاؤه، ينام على فراش الموت فيسلم كل عضو الروح إلى العضو الذي يليه، وتراه قد بردت منه الأطراف، وارتعدت الجوارح، واضطربت الفرائص، واصفر اللون، وتجعد الوجه، واجتمع الأطباء من حوله، وأحضروا له الخبراء والأطباء، وأحضروا له العلماء والأدوية؛ لأنه صاحب الوزارات، وصاحب الأموال والأرصدة، وصاحب العمارات والسيارات، وصاحب المنصب والكرسي، أحضروا له الأطباء من حوله، فهذا يصنع كذا.. وذاك يفعل كذا.. من أجل أن يطيلوا في حياته، وأن يطيلوا في عمره!
فإذا أفاق من سكرات الموت نظر إلى من حوله، وهو في هذا الكرب والهول؛ نظر إلى زوجه.. إلى أولاده.. إلى أحفاده.. وقال لهم: يا أولادي! لا تتركوني وحدي! ولا تفردوني في لحدي! من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟! أنا أبوكم، وأنا أخوكم، وأنا حبيبكم! أنا الذي بنيت القصور، أنا الذي عمرت الدور، أنا الذي نميت التجارة، أنا الذي جمعت ومنعت، ولكن هيهات، قال عز وجل:
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100]، كلا! إنها كلمة لا يجيبها الله؛ لأنها كلمة حقيرة خرجت من حقير على الله، كان في دنياه يعاند شرع الله، ويحارب الدعاة، ويتحدى الله جل وعلا، وكانت زوجته تخرج سافرة عارية ولا يمنعها، ولم يصل لله صلاة، ولم يركع لله ركعة، ولم يسجد لله سجدة، ولم يتق الله جل وعلا، ولم يراقبه: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)، كلمة حقيرة لا يسمعها الله، ولا جواب لها عند الله جل وعلا، (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
سكرات الموت شديدة، تألم منها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري من حديث
عائشة رضي الله عنها قالت: (
لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم النزع كان عنده ركوة فيها ماء، فكان كلما اشتد به النزع وضع يده في الإناء، ثم مسح بالماء على جبهته- أي: على الرشح الذي يخرج من جبينه- ثم يقول: إن للموت لسكرات! اللهم هون علي سكرات الموت)، فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للموت لسكرات! إن للموت لسكرات! اللهم هون عليَّ سكرات الموت)، وذكر الإمام
المحاسبي عليه رحمة الله أن الله جل وعلا قال لإبراهيم الخليل: (يا إبراهيم! كيف وجدت الموت يا إبراهيم؟ فقال الخليل: وجدت الموت يا رب! كسفود -أي: كقطعة حديد صلبة- بين صوف مبلول، فنزعت فانتزع معها كل شيء، فقال الله: أما إنا قد هونا عليك، أما إنا قد هونا عليك).
وذكر
المحاسبي عليه رحمة الله أيضاً: (أن الله قال لموسى: يا موسى! كيف وجدت الموت؟ فقال موسى: يا رب! وجدت الموت كعصفور وضع على مقلاة، فلا هو يطير فينجو، ولا يموت فيستريح)، هذه هي سكرات الموت.
يوم أن نزلت سكرات الموت بـ
هارون الرشيد وأفاق من سكراته وكرباته، نادى على من حوله وقال لهم: أريد أن تحملوني لأرى قبري الذي سأدفن فيه بعيني، فحملوا
هارون الذي أعطاه الله ملكاً عظيماً، كان يخرج فيرى السحابة في السماء فيقول لها: أيتها السحابة! في أي مكان شئت فأمطري، فوالله لسوف يأتيني خراجك إن شاء الله، أي: أن أي مكان أنزلت أمطارك ومياهك، سوف يخرج هذا الماء الزرع، ويأتيني خراج هذا الزرع من أي البقاع، انظروا إلى عظمة ملكه! فـ
هارون لما احتضر قال: احملوني لأرى قبري بعيني، فحملوا
هارون إلى قبره فنظر إلى حفرته وبكى، وظل يبكي حتى أبكى من حوله، ثم رفع رأسه إلى الله جل وعلا وقال: يا رب! يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه، يا ألله! يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه.
رؤية ملك الموت
الداهية الثانية من الدواهي الثلاث التي تتعلق بالموت، والتي تجعل الإنسان غير الصادق يختم له بسوء الخاتمة: رؤية ملك الموت، وهذا أمر مرعب وأمر عجيب! فلقد روى الإمام
أبو نعيم في (حلية الأولياء) بسند ضعيف عن
واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (
رؤية ملك الموت أشد من ألف ضربة بسيف)، ترى شيئاً عجيباً لأول مرة؛ لأنك سترى ملك الموت رأي العين، وتعاين كل شيء، بل سترى مكانك في الجنة والنار، كما في حديث
البراء بن عازب الطويل الذي خرجه الإمام
النسائي والإمام
أحمد والإمام
الترمذي و
الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين.
وبعد ذلك فإن أعظم هذه الدواهي الثلاث هي داهية سوء الخاتمة، والعياذ بالله!
وأقول: إن الأمر بيد الله، ويحتاج إلى إيمان صادق، وعمل مخلص، وسوء الخاتمة أمر خطير يحتاج إلى أمور، ونسأل الله جل وعلا أن يختم لنا بحسن الخاتمة؛ فكم من مسلم ختم له بغير الإيمان، قرأت في كتاب (التذكرة) للإمام
القرطبي: أن امرأة مرت على رجل وسألته قائلة: يا هذا! أين حمام منجاب؟ وحمام منجاب مكان يغتسل فيه النساء، فلما نظر إليها هذا الرجل وقعت في قلبه فافتتن بها؛ فأشار إلى باب داره وقال: هذا هو حمام منجاب، فدخلت المرأة إلى هذا البيت، ولما علمت أنها وقعت في الفخ أرادت أن تزينها له حتى تهرب، فقالت: هلا أحضرت كذا وكذا؟! فخرج هائماً على وجهه، فهربت، فعاد إلى بيته ليبحث عنها فلم يجدها، فخرج إلى الشوارع والطرقات هائماً يقول:
يا ربُّ قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب
وظل الرجل يهذي بهذا الكلام حتى عاش طيلة حياته يقول هذه، ولما حضرته الوفاة وذهبوا يلقنوه (لا إله إلا الله) وكلما قالوا له: قل لا إله إلا الله كان يرد على الحاضرين ويقول:
يا ربُّ قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب
وختم له بسوء الخاتمة، والعياذ بالله!
وذكر
القرطبي أيضاً أن مؤذناً كان يؤذن في مصر، وصعد ذات يوم على سطح المسجد ليرفع الأذان، فوقعت عينه على امرأة في بيت رجل نصراني، فوقعت في قلبه، وافتتن بها، فنزل إلى دارها وقال: أريدك لنفسي، فقالت: أنت مسلم وأنا نصرانية، فإن أردتني فلتخرج من دينك ولتتنصر.
قال: لا مانع من أن أتنصر من أجلك، فخرج الرجل من الإسلام وتنصر، والعياذ بالله! ثم صعد على سطح هذه الدار لبعض شئونه فسقط ميتاً، فلم يفز بدنيا ولا بآخرة.
وذكر أيضاً الإمام
القرطبي في (التذكرة): أن أحد الناس كان يعمل تاجراً، ولما حضرته الوفاة جعلوا يلقنوه (لا إله إلا الله)، فكان يكرر الأرقام الحسابية فيقول: عشرة.. إحدى عشر.. اثنا عشر! يا عبد الله! قل: لا إله إلا الله، وهو يكرر الأرقام الحسابية والعياذ بالله! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وختم له بسوء الخاتمة، نسأل الله العفو والعافية.
فما العمل إن كان الأمر والقلوب بيد الله؟!
إن دواهي الموت الثلاث تجعل الثابت حيراناً، فما العمل لينجينا الله جل وعلا من الخاتمة السيئة والعياذ بالله؟!
يقول الإمام
ابن كثير عليه رحمة الله في تفسيره لقول الله جل وعلا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
(لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه).
إنها قمة العدل وقمة الرحمة.
ويقول الإمام
ابن رجب الحنبلي عليه رحمة الله: (ما علم على الإطلاق أن رجلاً ختم له بسوء الخاتمة وقد استقام ظاهره مع باطنه، ولا يختم بسوء الخاتمة -والعياذ بالله!- إلا لمن اختلف باطنه مع ظاهره)، فمن اختلف باطنه مع ظاهره فهو الذي يختم له بسوء الخاتمة.
فالأمر -أيها الإخوان- يحتاج إلى صدق في العمل، وإلى اجتهاد في الطاعة، وإلى متابعة للجماعة، وإلى التزام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان قول وعمل، ليس الإيمان بالتمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحن نحسن الظن بالله، وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
إذاً: الأمر يحتاج إلى استقامة في الظاهر، واستقامة في الباطن، فمن استقام ظاهره مع باطنه ختم له بخاتمة طيبة إن شاء الله جل وعلا، فلقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، فإن عشت على الطاعة مت على الطاعة، وإن عشت على التوحيد طيلة حياتك واستقمت عليه توفاك الله عليه، وإن عشت للمباريات والمسلسلات والأفلام والمعاصي والشهوات مت على ذلك، وبعثت على ذلك، فالأمر جد خطير.
فمن رحمة الله وعدله وكرمه أن من استقام على طريق الإيمان، واستقام على طريق الطاعة، واستقام على طريق التوحيد، واستقام على طريق السنة؛ ختم الله جل وعلا له بالإيمان، وختم الله جل وعلا له بالتوحيد، فثبته الله جل وعلا عند الموت.
يقول
ابن رجب الحنبلي : (يقال للملك إذا ما ذهب ليقبض روح العبد: شم رأسه، فيقول: أجد في رأسه القرآن، فيقال للملك: شم بطنه، فيقول: أجد في بطنه رائحة الصيام، فيقال: شم قدميه، فيقول: أشم في قدميه رائحة القيام، فيقال: عبد حفظ نفسه فحفظه مولاه).
احفظ الله يحفظك؛ فحق على الله لمن اتقاه أن يحسن الله بدايته، وأن يتولى الله رعايته، وأن يحسن الله نهايته.
إذاً: الأمر بيد الله جل وعلا، والأمر يحتاج إلى إيمان واستقامة، وإلى صدق ومجاهدة، وإلى إخلاص ويقين، وإلى عمل وجد، وإلى اجتهاد وطاعة، فإنك إذا أردت أن تحصل على درجة الماجستير أو على درجة الدكتوراة لا تنام كثيراً، بل تواصل الليل بالنهار من أجل الحصول على شهادة ربما حرص أحد على أن يأخذها وهي تبعده عن الله جل وعلا، وقد يكون فيها تجرؤ بعد ذلك على الله، وتحدٍ لشرع الله، فهذا دكتور عظيم يقول: لماذا لا نخطئ
البخاري ؟ إن
البخاري رجل فلماذا لا نخطئ
البخاري ؟! وهو الذي ظل يجمع صحيحه، وقضى في حله وترحاله ستة عشر عاماً كاملة، ثم يقول هذا: لماذا لا نخطئ
البخاري ؟ وهو الذي أجمع جلة أهل العلم على صحة كتابه إلى الحد الذي قالوا فيه: إنه أصح الكتب بعد القرآن الكريم، ثم يأتي عالم في عرف العلماء يحمل الدكتوراة ليتحدى الله جل وعلا بعد ذلك، ويتجرأ على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيا أيها الأحباب! إن الأمر جد خطير، ولكنني لا أقنط أحداً؛ فإن الأمر في غاية البساطة، قال
ابن رجب : (من استقام ظاهره مع باطنه ختم له بالإيمان، ومن ناقض ظاهره باطنه ختم له بسوء الخاتمة)
.
فهيا استقيموا على طريق التوحيد، وتتبعوا سنة محرر العبيد صلى الله عليه وسلم، واجتهدوا في الطاعة والعبادة، واعلموا أن الله جل وعلا يقبل التوبة عن عباده، ويغفر الذنوب، ويكفر السيئات، قال عز وجل:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
فلا تيئسوا ولا تقنطوا، وتوبوا إلى الله جميعاً -أيها المؤمنون- لعلكم تفلحون، واعلموا أن الله سبحانه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى لله جل وعلا.
فهيا أيها الأحباب! بادروا بالتوبة ولا تسوفوا، فإن الموت يأتي بغتة.
أسأل الله جل وعلا أن يختم لنا بحسن الخاتمة، وأن يختم لنا بالتوحيد والإيمان، وأن يخرجنا من هذه الدنيا على خير، وأن يحشرنا في زمرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه يوم نلقاه.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.