إسلام ويب

القابضون على الجمرللشيخ : محمد الدويش

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في آخر الزمان تكثر الفتن وتزدحم المغريات ووسائل الشر، فيكون القابض على دينه كالقابض على الجمر، وقد تحقق ذلك في زماننا، حتى وقع الناس في كثير من المخالفات الشرعية وارتكبوا الفواحش، إلا أن الله هيأ جيل الصحوة الذي هب كالمارد يحيي السنن ويجتنب الفتن، وهو مع ذلك لا يسلم من التقصير والخطأ، ولذا تناولته الألسنة والأقلام بالنقد والتقويم حتى كادت فضائله تستهلك بهذه الانتقادات، فكان من الجدير التذكير بفضائله ودوره في إصلاح الحياة.

    1.   

    أهمية الحديث عن شباب الصحوة

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

    فنحيي الإخوة الكرام في هذا اللقاء في هذا المكان المبارك، وأي مكان أطهر وأقدس من هذه البقعة التي اختارها الله تبارك وتعالى -وهو يخلق ما يشاء ويختار- واصطفاها تبارك وتعالى فخصها ببيته الذي يؤمه الناس من كل فجٍ عميق، في هذه الليلة ليلة الثلاثاء السادس والعشرين من شهر ربيع الأول عام ستة عشر وأربع مائة وألف للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.

    وأشكر الإخوة في المركز الصيفي في مركز الخدمة الاجتماعية بمكة على إتاحة هذه الفرصة وهذا اللقاء الطيب المبارك، الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم فيه من المخلصين في العمل ابتغاء وجهه إنه سميع مجيب، وأن يجنبنا وإياكم الزلل في القول والعمل إنه تبارك وتعالى قريب مجيب.

    عنوان حديثنا هذه الليلة: (القابضون على الجمر)، وهو كما تعلمون حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم: (أنه يأتي على الناس زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر)، وهو ليس حديثاً عن القابضين على الجمر بأصنافهم وأحوالهم وأمورهم، إنما هو حديث عن طائفة نحسبهم والله حسيبهم ممن يصدق عليهم هذا الوصف النبوي.

    لقد مرت الأمة بجهود للتغريب، وجهود لسلخها عن دينها، وإخراجها من عقيدتها، ولقد تضافرت جهود أعداء الأمة لصد الشباب وفتنتهم عن دين الله تبارك وتعالى، ورأينا في عالمنا الإسلامي صوراً تدمي وتحزن وتحرك أشجان من كان له قلب، ومن يملك غيرةً وعاطفةً على هذه الأمة المباركة، من بعد الشباب المسلمين عن دين الله تبارك وتعالى، ومن سير هؤلاء وراء قذارة هذه الحضارة المعاصرة، وسيرهم وراء أعداء الله، وفي وسط هذا الواقع المظلم البائس، وفي وسط هذا الانحراف والبعد.

    رأينا نماذج فذة، ورأينا صوراً إيجابية، رأينا صوراً لامعة من ذلكم الشباب المتدين، الشباب الصالح المحافظ الذي أصبحنا نراه يتوافد على المساجد، يتوافد على ما يدله على دين الله تبارك وتعالى، من مجالس العلم ومجالس الخير والصحبة الصالحة، ورأيناه يأخذ طريقاً غير طريق أقرانه وأترابه، وهاهم هؤلاء الشباب أمام مرأى المسلمين وجمعهم، هاهم يلتزمون بأمر الله تبارك وتعالى، ويستقيمون على طاعة الله عز وجل في هذا العصر المائج المضطرب.

    1.   

    دوافع الحديث عن القابضين على الجمر

    تثبيت السائرين على طريق الهدى

    فحديثنا هذه الليلة عن بعض الجوانب المشرقة من واقع هؤلاء القابضين على الجمر؛ ولعل سائلاً يتساءل: ولماذا الحديث عن الجوانب المشرقة؟ ولماذا الحديث عن الإيجابيات؟

    فأقول: الحديث عن هذا الموضوع له دوافع عدة أولها: أنه تثبيت لهؤلاء السائرين على هذا الطريق، والذين قد يواجهون ما يواجهون، فهم حين يشار لهم بما ميزهم الله وخصهم به، وحين ترفع أمامهم هذه اللافتات فإن هذا يزيدهم ثباتا، ويزيدهم إصراراً في المضي على الطريق، ويزيدهم عزيمة لأن يحتملوا ما يصيبهم في هذا الطريق من اللأواء والنصب والنكد.

    دعوة التائهين لسلوك الطريق القويم

    ثانياً: هذا الحديث دعوة لأولئك الذين لما يزالوا على بنيات الطريق، دعوة لأولئك الذين لم يسلكوا هذا الطريق، أولئك الذين لا زالوا يسيرون في ركاب الغفلة والبعد عن الله تبارك وتعالى، فنقول لهم: هاهو الطريق، وهاهم هؤلاء قد سبقوكم فبادروا، فالميدان رحب واسع فسيح لا زال يتسع لكم ولأمثالكم، وأنتم طالما سمعتم الدعوة من خلال الترهيب من هذا المسلك السيئ الذي تسلكونه، ومن خلال التحذير من مغبة هذا الطريق المعوج الذي تسيرون عليه، لكن ربما كان ذكر بعض الجوانب المشرقة من الطريق الآخر الذي ندعوكم إليه، الطريق الذي سلكه أقرانكم، الذي سلكه أترابكم، ووفقهم الله تبارك وتعالى، بل أكرمهم عز وجل بسلوكه؛ إنكم حين تعرفون مزايا هذا الطريق، وحين تعرفون الجوانب المشرقة، وحين تعرفون تلك المنزلة التي يصلها أولئك الذين جانبوا الشهوات واللذات، الذين هجروا اللهو واللعب، وساروا في طريق الصالحين، ربما كان هذا دافعاً لكم أن تسيروا وأن تلحقوا بالقافلة.

    كما أن الخطر يتهددكم حين تمضون على هذا الطريق المظلم، حين تمضون على طريق الضلال، كما أن الخطر يتهددكم حين تسيرون على هذا الطريق، فإن الطريق الآخر أمامكم، مفروش بالأضواء، الطريق أمامكم يدعوكم ويقول: هلموا فإن الطريق لا يزال يتسع لكم ولغيركم.

    كثرة النقد الموجه لجيل الصحوة وأخطائهم

    ثالثاً: لا نزال نسمع الحديث الكثير عن النقد لبعض المظاهر السلبية في واقع الشباب المتدينين، والحديث عن بعض الأخطاء التي يقعون فيها، وهو حديث لا شك أن الكثير منه يصدر بلغة النصح، ومنطق الإشفاق على هؤلاء، والهدف والرائد له الإصلاح والتغيير، وأشعر أنني ممن يشارك أيضاً في الحديث في هذا الأمر، فقد تحدثت كثيرا عن بعض الجوانب، وعن بعض الأخطاء والسلبيات التي ربما وقع فيها هؤلاء الشباب الأخيار.

    لا شك أن الكثير من هذا الحديث يصدر بمنطق النصح وتدفعه الغيرة والإشفاق على واقع هؤلاء الشباب؛ لكننا نخشى أنه حينما يكثر الحديث عن هذه الجوانب السلبية، وحينما يكثر الحديث عن الأخطاء، وهو وإن كان بمنطق النصح والإشفاق نخشى أن يحول الصورة لدينا إلى صورة سلبية، وإلى صورة بائسة، وأن نتصور أن الالتزام والاستقامة التي عليها هؤلاء الشباب لا تعدو أن تكون سراباً ووهما، وأنها قضية خادعة، وأن هؤلاء الشباب يقعون في أخطاء في عبادتهم لله تبارك وتعالى ويقصرون، ويقعون في المعاصي، ويرتكبون طائفة منها، ويقعون في أخطاء في دعوتهم إلى الله تبارك وتعالى، ويقصرون وحقوق إخوانهم في حقوق أهلهم في هذا الجانب وذاك، حتى لا تكاد ترى جانباً من الجوانب إلا وترى الحديث عن الأخطاء حوله!

    ولا شك أن الحديث عن الأخطاء حين يكون رائده النصيحة، ودافعه الغيرة، والهدف من ورائه الإصلاح، لا شك أنه أمر مطلوب، ولا يسوغ أن نلغي الحديث عن هذا الجانب، لكننا نخشى حين تطول هذه اللغة وحين يرتفع هذا الصوت أن تتحول القضية إلى قضية سلبية، وأن نشكك في أصل استقامة هؤلاء الشباب، وفي حقيقة تدينهم والتزامهم؛ لذا كان لا بد من الحديث عن الجانب الآخر، حتى لا نغلو في هذا الجانب وهذا الميدان.

    الدعوة لمناصرة شباب الصحوة ومعرفة مكانتهم

    والدافع الرابع للحديث حول هذا الموضوع هو: الدعوة لسائر المسلمين أن يدركوا موقع هؤلاء، الشباب الذين أكرمهم الله تبارك وتعالى بهذه الهداية والسير على هذا الطريق، وأن يدركوا عظم منزلتهم ومكانتهم، وأن يدركوا قيمة هذا الإنجاز الذي حققوه، فيتعاطف معهم في وقت هم أحوج ما يكونون فيه إلى التعاطف مع قضيتهم.

    إن هؤلاء الشباب الأخيار مع ما من الله عز وجل عليهم من الهداية والاستقامة على طاعة الله يواجهون أخطاراً تهددهم، إنهم يواجهون الخطر الأكبر الذي يؤرق ليلهم وهو أن يُختلجوا من هذا الطريق، وأن يسلكوا بنيات الطريق فينحرفوا، وهاهم يرون أنهم يعيشون في واقع يعج بالفتن والمغريات، واقع يدعوهم صباح مساء إلى أن يعرضوا عما هم عليه، واقع يدعوهم إلى أن يسيروا مع طريق الضلالة والغواية، ولا عجب فها نحن نرى فئاماً من الشباب ممن كتب له الاستقامة والصلاح في أول عمره ربما تنكب الطريق وزاغ وضل.

    إنها قضية تؤرقهم، قضية تستدعي أن يتعاطف الجميع معهم، في هذه القضية التي يرونها قضية القضايا عندهم.. أن يتعاطف الآباء.. أن يتعاطف المصلحون.. أن يتعاطف الغيورون في مجتمعات المسلمين، وأن يدركوا أن هذا الجيل المبارك يستحق أن نحميه، ويستحق أن نثبته، ويستحق أن نعينه.

    ولا شك أن من أعظم ما نعينه عليه ويكون بإذن الله طريقاً إلى تثبيته أن نسعى إلى إغلاق أبواب الفساد، وأن نسعى إلى سد طرق الفتنة.

    إنه يواجه كيداً وتآمراً من أعداء الإسلام، والذين شعروا أن قضية الإسلام هي القضية التي تهددهم، وأن هذه الصحوة المباركة هي التي سوف تقضي على مكتسباتهم، سنة الله في التاريخ الصراع بين الحق والباطل، والصراع بين أهل الغواية والهداية، وما لبث أولئك وقد شعروا أن هؤلاء قد قطفوا الثمار دونهم، قد شعروا أن هؤلاء عادوا ليهدموا ما بناه أولئك من إفساد في صرح هذه الأمة، وهم يسرهم أن تعلن الأمة ردتها عن دين الله، وأن تتخلى عن دين الله.

    لاشك أن هؤلاء الأعداء يغيظهم أن يروا هذا الواقع وأن يروا هؤلاء الشباب، ومن ثم فإنهم لا بد أن يتآمروا على فتنتهم وصدهم عن دين الله بكل الوسائل.

    إن هؤلاء الشباب يعيشون -أيها الإخوة- في هذا العصر مأزقاً بحاجة إلى أن يتعاطف معهم الجميع، إن فتن الشبهات والشهوات قد بدأت تحاصر المسلمين الآن، ولا شك أن للشباب من ذلك نصيباً وافراً، بل لهم نصيب الأسد من ذلك.

    ومن ثم فنحن نتحدث عن قضية هؤلاء، ونتحدث عن ما أنجزه وحققه هذا النشء المبارك، وهذا الجيل الطيب الذي نسأل الله عز وجل أن يثبته، وأن يعصمه من مضلات الفتن، وأن يكتب له الامتداد وأن يكتب له تبارك وتعالى الخير والتمكين.

    لا شك أن هذا الجيل يواجه سيلاً جارفاً وبحاجة إلى يتعاطف المسلمون جميعاً مع قضيتهم ، وحين يدركوا انجازهم فإن هذا يدعوهم إلى يتعاطفوا مع قضيتهم، لهذا وغيره رأيت أن أتحدث عن بعض هذه الجوانب والتي ربما أهملت، وهي لا تعدو أن تكون استثارة لصور نراها من واقع هذا النشء؛ لكنها دعوة للتذكير بهذه الصور التي قد ننساها.

    وأنت قد تتهمني بأنها أخذتني العاطفة وأني أنطلق من منطلق عاطفة، وأنا لا أبرئ نفسي ومعاذ الله أن أسعى إلى أن أتخلى عن هذه العاطفة؛ كيف لا وأنا أدين الله تبارك وتعالى وأعبده بحب هذا الجيل المبارك وهذا النشء المبارك، لقد أخبر صلى الله عليه وسلم فيما رواه طائفة من أصحابه، في الصحيحين وغيرها (أن المرء يوم القيامة يحشر مع من أحب).

    فإنني أملك عاطفة تجاه هذا الجيل لأنه أطاع الله تبارك وتعالى، بل أنني أتعبد الله عز وجل بحب هذا الجيل وبالولاء له والتعاطف معه، وأشعر أن قضية الإيمان وأن قضية حب الله تبارك وتعالى تستلزم منا أن نحب من يحب الله ويحبه الله تبارك وتعالى.

    أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله).

    أليس صلى الله عليه وسلم أخبر: (أن ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه).

    إنني حين أسعى إلي دفع تهمة العاطفة حول حديثي هذا فإنني أسعى إلى أن أتخلى عن واجب شرعي وحق شرعي في أن أحب من يطيع الله تبارك وتعالى ويحبه الله، بل إننا جميعاً نتعبد الله بحب الصالحين، ونشعر أن مما يكرم الله عز وجل به من أحب الصالحين أن يبلغه منازلهم ولو لم يلحق بهم.

    لقد سئل صلى الله عليه وسلم عن المرء يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب).

    ولهذا قال الشافعي رحمه الله:

    أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعه

    وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعه

    فإن كان الشافعي رحمه الله يقول هذه المقولة تواضعاً منه وإلا فهو -نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً- من الصالحين المصلحين، فنحن نقول هذا حقاً وصدقاً، فنحن نتعبد الله عز وجل بمحبة الصالحين.

    قد تقول لي: إن هؤلاء يقعون في أخطاء وعيوب!

    فأقول: نعم، إننا لسنا في مقام التقويم ولسنا في مقام المقاضاة ولسنا في مقام الموازنة بين الأخطاء والمحاسن حتى تحدثني عن هذه الأخطاء، بل أعلم وتعلمون أني تحدثت عن كثير من هذه الأخطاء في أكثر من مناسبة، وأن حديثي عن هذه الأخطاء أكثر من حديثي عن هذه الجوانب، وأنا حين أتحدث عن هذه الجوانب المشرقة لست أدعي العصمة، ولست أدعي السلامة من الأخطاء، ومن ذا الذي لا يذنب، ومن ذا الذي لا يقع في الخطأ، ولكني أشعر وأجزم أن هذه الأخطاء مهما كثرت وعظمت لا يمكن أن تقارن بجوانب الإحسان، وجوانب الخير، خاصة أن الكثير منها ليس مصدره الهوى وتعمد العصيان وركوب طريق الغواية.

    1.   

    مميزات شباب الصحوة وإنجازاتهم

    تحقيق الأوصاف الشرعية

    أول هذه الجوانب وهذه الإيجابيات: أن هذا الجيل وهذا النشء المبارك من أسعد الناس بتحقق هذه الأوصاف الشرعية، قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان القابض فيهم على دينه كالقابض على الجمر) والحديث رواه الإمام الترمذي وأحمد وأبو داود .

    لا شك أن هؤلاء وقد استقاموا على طاعة الله تبارك وتعالى وقد ابتعدوا عن الشهوات في عصرٍ يعج بالفتن والشهوات، في عصر يدعوهم إلى ركوب الغواية، لا شك أنهم كالقابضين على الجمر، وهم من أسعد الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) .

    وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الغرباء بأنهم الذين يصلحون إذا فسد الناس، وأنهم أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، فهنيئاً لكم يا شباب الإسلام وقد أخذتم على عاتقكم الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فأنتم بين إحدى الحسنيين: إن استجاب لكم الناس وأطاعوكم فأنتم من أسعد الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).

    وإن عصاكم الناس وأعرضوا عن دعوتكم فأنتم سعداء بقوله صلى الله عليه وسلم: (أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).

    وهذا النشء المبارك من أسعد الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، الإمام العادل، وشاب نشأ في طاعة الله) إلى آخر الحديث.

    إننا حين نقول هذا فإننا لا نشهد لشخص بعينه أن هذه الصفة أو تلك تحققت فيه، لكننا نرى أن هذا الجيل المبارك بالجملة من أسعد الناس بهذه الصفات، ومن أقرب الناس إلى تحققها.

    الاستقامة في وسط يحتقر الدين والتدين

    ثانياً: من إيجابيات ومنجزات هذا الجيل المبارك استقامتهم على الدين في وسط يحتقر الدين والتدين.

    إن العالم الإسلامي اليوم قد فتن بصورة من صور الردة عافانا الله وإياكم، صورة احتقار الدين واحتقار المتدينين، حتى أصبح البعض من المسلمين يستحيي حين يصلي مع أقرانه، يستحيي حين يعمل طاعة من الطاعات، يستحيي حين يمتنع عن معصية من المعاصي.

    ولئن تفاوتت الدرجات أو الدركات حول هذه الخطيئة التي عمت بلاد المسلمين فإن مجتمعات المسلمين تشترك في أن لها نصيباً وافراً من احتقار الدين وأهل الديانة والتدين، ووصفهم بأقبح الأوصاف وأحطها، واتهامهم بهذه التهم، ومع ذلك يسير هؤلاء الشباب ويستقيمون على طاعة الله تبارك وتعالى، ويحتملون ما يواجهونه من احتقار الناس، ولعلهم من أسعد الناس بقول الله تبارك وتعالى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:109-111].

    وقوله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:29-35].

    وقد دأب أهل العلم على أن يحتجوا -كما قال ابن عبد البر - بما نزل من الآيات في الكفار على من تشبه بأعمالهم ولو كان من المسلمين.

    أيها الشباب المبارك! لا يهولنكم سخرية الناس بكم ما دمتم تعتزون بدين الله تبارك وتعالى، لقد أخبر الله عز وجل عن طائفة من المنافقين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، فقال الله تبارك وتعالى عنهم: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79].

    وأخبر تبارك وتعالى عن حال أولئك الذين يقولون لشياطينهم: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] فقال تبارك وتعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15].

    أي منزلةٍ أعلى وأكمل من أن يسخر الله تبارك وتعالى بأولئك الذين يسخرون بعباده الصالحين، أن يستهزئ بأولئك الذين يستهزئون بهم، وأي خسارة وبوار لمن يتعرضون لسخرية الجبار وأن يستهزئ بهم تبارك وتعالى.

    إن استقامة هؤلاء الشباب وثباتهم في هذا الوسط الذي يحتقر الدين والمتدينين ويعتبر من صفات القصور والنقص في المرء أن يكون متديناً، إن هذا من أعظم الإيجابيات، ومن أعظم جوانب الإنجاز التي حققها هؤلاء.

    الانتصار على الشهوات

    ثالثاً: من منجزات هؤلاء انتصارهم على شهواتهم في وسط مجتمع يعج بالفتن والشهوات.

    إنها قضية ليست بحاجة إلى بيان، وأنتم جميعاً لستم بحاجة إلى أن أثير أشجانكم، إلى أن أذكركم بما تعج به مجتمعات المسلمين من مظاهر الإغراء والرذيلة، من تلك المظاهر التي تدعو الشباب، وتدعو الفتيات إلى مواقعة الرذيلة والفساد، حتى صارت الرذيلة تلاحق الشاب، وتلاحق الفتاة في الشارع، وفي السوق، بل في منزله وهنا وهناك، وصارت الصورة الفاتنة ومشهد الرذيلة يلاحقه في كل مكان، ومع ذلك يثبت هؤلاء الشباب، وينتصرون على شهواتهم، ويسيرون في طريق العفة، وتنتصر الفتيات على هذه الدواعي والدوافع بإذن الله تبارك وتعالى وتوفيقه.

    إن هذا وحده كافٍ في أن نتجاوز كل ما يقع فيه هؤلاء من تقصير، في مقابل ما استطاع هؤلاء أن يحققوه في وسط فتن تؤزهم إلى الفساد أزّاً، وتدعوهم إلى الفساد بكل صوره وألوانه.

    إحياء سنة حفظ كتاب الله تعالى

    رابعاً: أن هذا النشء المبارك قد أحيا سنة حفظ كتاب الله تبارك وتعالى.

    قضية لا ينكرها أحد، لقد كان قبل سنوات يندر أن نرى في مجتمعنا إماماً يصلي بالناس وهو حافظ لكتاب الله تبارك وتعالى، فضلاً عن أن نجد شاباً حافظاً لكتاب الله، حتى صار يقال: إن في بني فلان شاباً أو رجلاً يحفظ كتاب الله تبارك وتعالى، بل إنه كان من النادر أن تجد من يتقن تلاوة كتاب الله عز وجل، ولو كان المصحف بين يديه.

    أما الآن فها نحن نرى هذا الجيل المبارك يقبل على كتاب الله تبارك وتعالى، وها نحن نرى هؤلاء الشباب قد أقبلوا على حفظ كتاب الله تبارك وتعالى، ونرى العديد من هؤلاء مع الانشغال بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى، والانشغال بدراسته وبمصالح نفسه ومصالح أهله، مع ذلك نجد المئات من الشباب والفتيات قد أتموا حفظ كتاب الله تبارك وتعالى، بل أصبحت لا تكاد ترى شاباً من هؤلاء الشباب المتدينين إلا وقد بدأ في حفظ كتاب الله عز وجل وشرع فيه، حتى أولئك الذين قعد بهم ضعف همتهم، وقعد بهم كسلهم وفتورهم لا نزال نراهم يتطلعون بلهف وشوق إلى أن يحفظوا كتاب الله عز وجل، وها نحن نراهم يتساءلون في كل مناسبة: كيف أحفظ كتاب الله؟ ما الطريق إلى حفظ كتاب الله عز وجل؟ وهي صورة أوضح وأظهر من أن نشيد بها وأن نتحدث عنها.

    العناية بالعلم الشرعي

    خامساً: العلم الشرعي والعناية به وإحياؤه.

    لقد مرت على مراكز العلم وحلقه ودروسه حالة من الجفاف، حالة من الفقر، كادت الأمة فيها أن تنسى العلم الشرعي، فما لبث هؤلاء الشباب، وما لبث هذا الجيل المبارك أن يقبل ويتوافد على حلق العلم وأن يحييها، وإذا أردت مصداق ذلك فاذهب يمنة ويسرة، وتأمل في حلق العلم من هم روادها؟ من هم الذين يثنون ركبهم في حلق العلم؟ في وقت يتوافد فيه أترابهم وأقرانهم على أماكن اللهو والمتعة واللعب، في وقت يدعوهم الناس فيه إلى الشهوات، إلى أن يسعدوا باللهو واللعب، ومع ذلك يضحي هؤلاء ويتركون لذة الفراش والنوم، يتركون لذة اللهو واللعب ليثنوا ركبهم أمام المشايخ وأمام حلق العلم يتعلمون العلم بل يقطعون المسافات لذلك.

    وها نحن نرى بحمد الله الدراسات الشرعية، والكليات الشرعية تشهد إقبالاً واسعاً منقطع النظير من هذا الجيل، بعد أن مرت بالأمة مرحلة يستحي الطالب فيها أن يقول: إنه يدرس في كلية شرعية .. بعد أن مرت مرحلة كان يرى المسلمون وللأسف أنه من العيب ومن النقص في الشاب أن يدع سائر التخصصات ويقبل على العلم الشرعي.

    إن رواج حلق العلم وقيام سوق التخصصات الشرعية في الجامعات في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، ورواج الكتاب الإسلامي وانتشاره، بل كون الكتاب الإسلامي هو أكثر الكتب رواجاً وانتشاراً في العالم العربي كله، إن هذا دليل على إقبال الناشئة على هذا العلم الشرعي، وعلى أن هؤلاء وبحمد الله قد أحيوا هذه السنة وقد أقبلوا يتوافدون على هذا العلم، وهو لا شك أمارة وعلامة على أن الأمة سائرة نحو المنهج الحق، وعلى أن هذه الدعوة المباركة سائرة على المنهج الصحيح وفي الطريق إليه؛ لأن الناس حين يقبلون على علم الكتاب والسنة، فإن هذا بإذن الله عنوان عصمتهم من الأهواء والفتن والصوارف والضلال.

    الدعوة إلى الله وحمل همّ الإصلاح

    سادساً: الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وحمل هم الإصلاح.

    من هم الذين يقومون بأمور الدعوة اليوم ويحملون همها، ويتحملون اللأواء في سبيلها، أليسوا هم هؤلاء الشباب، إننا وبحمد الله نرى هذا الجيل وهذا النشء المبارك قد أخذ هذه الدعوة على عاتقه، ها نحن نراه يصعد المنبر يخطب الناس، أو يقف أمامهم واعظاً، أو داعياً بأي وسيلة من الوسائل، ها نحن نراه يحيي الدعوة في مدرسته، في جامعته، في حيه، بل ها نحن نرى هؤلاء هم أبرز الناس، وهم أكثر الناس حملاً للدعوة.

    وقد أصبح هم الإصلاح وهم التغيير في مجتمعات المسلمين يسيطر عليهم، بل يشغلهم عن سائر الأمور التي يهتم بها أقرانهم، ولا عجب ولا غرابة، فقد كان فرط هذه الأمة ورعيلها الأول أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثير من الشباب، إن خمسة من العشرة المبشرين بالجنة كانوا من الشباب، كانوا من أمثال هذا الجيل، إن طائفة من السابقين الأولين إلى الإسلام، أمثال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسعد بن أبي وقاص وخباب بن الأرت وغيرهم وغيرهم، كان هؤلاء لم يصلوا إلى العشرين من أعمارهم، ومع ذلك كانت لهم أدوار مثلى وكان لهم القدح المعلى في الدعوة لهذا الدين والجهاد في سبيله والقيام بنصرته، ولهذا لا غرو أن نجد هذا الجيل وهذا النشء المبارك يحيي سنة أسلافه: (ومن تشبه بقوم فهو منهم) ومن سار على طريق أولئك فهذا بإذن الله حري وجدير به أن يحشره الله تبارك وتعالى معهم: (فالمرء يحشر يوم القيامة مع من أحب).

    إصلاح من في البيوت

    سابعاً: مساهمة الكثير من هؤلاء الشباب والفتيات في إصلاح بيوتهم، كم هي البيوت التي صلحت بإذن الله تبارك وتعالى بسبب دعوة شاب ربما لم يبلغ الحلم، بل ربما لم يجاوز العشرين من عمره، كم هي البيوت التي صلحت بسبب شاب أو فتاة من الفتيات؟

    كم هم الآباء والأمهات الذين أصلحهم الله تبارك وتعالى وتغيرت هذه البيوت فزالت منها المنكرات، واستقامت على طاعة الله تبارك وتعالى بسبب جهد شاب صالح أو فتاة صالحة من هذا النشء وهذا الجيل المبارك!

    نفع الناس في أمور الدنيا

    ثامناً: النفع للناس بأمور دنياهم.

    إن هذا الجيل المبارك من الشباب والفتيات الصالحين، قد أخذ على عاتقه حمل قضية الدعوة والإصلاح، وقد شعر أن قضية الناس الكبرى والأساس هي القضية التي خلقوا من أجلها، لعبادة الله تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

    وشعر أن أعظم خير ونفع يقدمه للناس هو إن يدعوهم إلى عبادة الله تبارك وتعالى، وأن يدعوهم إلى طاعة الله تبارك وتعالى، ولهذا أخذ على عاتقه هذا الهم، ومع ذلك لم يكن ذلك شاغلاً له عن أن يقوم بالواجب الآخر، أن ينفع الناس بأمور دنياهم، وهو أمر ظاهر بحمد الله، فمن هم الذين يتصدرون في الإحسان إلى المحتاجين والإحسان إلى الفقراء؟

    من هم الذين يقومون ويسهرون على المضرات؟ يسهرون في نفع المسلمين في أمور دنياهم، في مسح دمعة يتيم، أو إطعام جائع ذي مسغبة، أو التخفيف عن مصاب في مصيبة، وقد أدرك أعداء الإسلام هذا الجانب، وشعروا أن هذه القضية قد تكسب هؤلاء بعداً عند الناس، ولهذا سعوا في حجب هذه الأدوار عن هؤلاء، لكن حالهم حال أولئك الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره، وهانحن نرى هؤلاء والحمد لله هؤلاء الصالحين في كل مكان في مشرق العالم الإسلامي وغربه، حين تلم بالمسلمين كارثة، أو تصيبهم مصيبة، نراهم يبادرون لنجدة إخوانهم ونصرتهم ولمسح الدمعة عنهم، ولا غرو فقد ورثوا هذا الهدي من نبيهم صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم: (يحمل الكل ويعين على نوائب الحق) وكان صلى الله عليه وسلم هو القدوة في الإحسان إلى الناس، في أمور دينهم وأمور دنياهم.

    التفوق في مجالات الحياة المختلفة

    تاسعاً: مما يميز هذا الجيل المبارك من الشباب الصالحين والفتيات الصالحات التفوق في سائر مجالات الحياة المختلفة.

    مع ما شغل به هؤلاء من الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ومن حفظ كتاب الله تعالى وتعلم العلم الشرعي، ومن نصرة قضايا المسلمين والاشتغال بها؛ مع ذلك كله هاهم يثبتون للناس أنهم هم المتفوقون في مجالات الحياة، ولا شك أن الاطلاع على نتائج الامتحانات في جامعة من الجامعات في بلاد المسلمين أو مدرسة من المدارس للشباب أو الفتيات تعطينا دليلاً على أن هؤلاء المتدينين الصالحين هم الذين يتصدرون القائمة، وأن أغلب هؤلاء الذين يحققون التفوق هم والحمد لله من هؤلاء.

    لقد سعى أعداء هذه الدعوة إلى أن يصوروا للأمة أن التدين والاستقامة إفراز لمشكلات نفسيه أو لمشكلات اجتماعية واقتصادية، وأنه إفراز لتخلف يعاني منه هؤلاء، لكن يرى المسلمون بأعينهم أن هؤلاء كما أنهم قد فاقوا في العلم الشرعي، وفي حفظ كتاب الله، فقد فاقوا في سائر التخصصات، فهم الأوائل في الكليات التي تعنى بالدراسات التطبيقية.

    وفي إحدى كليات الطب كان الخمسة الأوائل من الطلاب في سنة من السنوات كلهم من الشباب المتدينين الصالحين، وهي قضية تزعج أولئك وتقض مضاجعهم، مع أن هؤلاء قد عمروا معظم وقتهم في تعلم علم نافع، أو في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فلم يصدهم ذلك عن أن يتفوقوا، وعن أن يبزوا أقرانهم.

    وفي إحدى البلاد الإسلامية، والتي كانت أول بلاد سعي فيها إلى تحرير المرأة ورفع الحجاب، كانت نتيجة الثانوية العامة على مستوى تلك البلاد أن ثمانياً من العشر الأوائل من الطالبات هن من المحجبات.

    هذا في بلد هي أول بلد رفع فيه الحجاب، ومع ذلك تأتي هؤلاء الفتيات ليقلن للعالم أجمع: إن الحجاب والتدين ليسا -كما يطرحه أولئك- إفرازاً لعقد نفسية، أو مشكلات اجتماعية، وليثبت هؤلاء أن المتدينين هم أقدر الناس، فهم الذين يدركون أن قضية الحياة قضية جادة، فهم أينما ساروا وأينما ذهبوا هم المتفوقون، وهم الذين يثبتون للناس أنهم متفقون في مجالات الحياة، مع أن غيرهم أولى بالتفوق، لأن هؤلاء قد حملوا هموماً أكثر من غيرهم.

    تجاوز الاهتمامات الفارغة

    عاشراً: من إيجابيات هؤلاء أن اهتماماتهم تجاوزت اهتمامات الناس الفارغة.

    ما هي القضايا التي تسيطر على هم المسلمين صغاراً وكباراً شيباً وشباناً؟ إنها قضية الدينار والدرهم، إنها قضية الشهوة، قضية اللهو، قضية العبث الفارغ.

    أما هذا الجيل المبارك فهو يحمل هماً آخر ويحمل قضية أخرى، إن القضية التي تقلقه وتشغل باله، هي أنه كيف يستقيم على طاعة الله تبارك وتعالى، كيف يحفظ كتاب الله؟ كيف يحصل العلم الشرعي؟ كيف ينفع المسلمين؟ كيف يدعو إلى الله تبارك وتعالى؟ وهو من أعظم الإنجازات، حين يجتاز هؤلاء ما يهتم به سائر المسلمين والمسلمات ممن لم يسلكوا هذا السبيل ويسيروا في هذا الطريق، ولسان حال أحدهم يقول: يا قوم أنتم في واد وأنا في واد، يا قوم لكم هم ولي هم آخر، لكم شأن ولي شأن آخر، وهذا جدير بهم أن يكونوا ممن يقول يوم القيامة لله تبارك وتعالى حين يسألون: قد مضى الناس ولم تمضوا، فيقولون: فارقنا الناس في الدنيا ونحن أحوج ما نكون إليهم، وهانحن نفارقهم يوم القيامة أحوج ما يكون الناس إلى ذلك، فنحن ننتظر ربنا تبارك وتعالى، كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل.

    استثمار المواقف والأوقات في الدعوة إلى الله

    حادي عشر: أن هؤلاء أصبحوا يتساءلون في كل موقف وكل مناسبة: كيف يخدمون الإسلام؟ كيف يدعون إلى الله عز وجل؟

    ألسنا نرى الشباب يتساءلون في كل مناسبة، على مقتبل الإجازة، في الحج، في رمضان في كل مناسبة: كيف نستثمر هذا الموقف في الدعوة إلى الله عز وجل، كيف نستغل هذا الوقت وهذا الموسم وهذه الفرصة في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، في حين كانت القضية التي تشغل غيرهم في الإجازة هي قضية السفر، وقضية اللهو واللعب، وفي حين كانت القضية التي تشغل بعض المسلمين وللأسف في شهر رمضان هي: كيف يمتعون أنفسهم بأطيب الطعام والشراب؟ كيف يرتبون أوقاتهم في اللهو واللعب، مع ذلك القضية التي تشغل هؤلاء في كل حين وفي كل مناسبة هي: كيف يخدمون هذا الدين؟ كيف ينصرون قضية هذا الدين؟ كيف يدعون إلى الله عز وجل في كل مناسبة وكل حين؟ ولهم أسوة في نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي كان لا يدع قضية من القضايا وباباً من الأبواب وميداناً من الميادين إلا ونشر فيه علما، ودعا فيه إلى الله تبارك وتعالى.

    أليس صلى الله عليه وسلم يأتي في موقف ربما لا يزيد أثره على الناس أن يستثير بعض عواطف الأمومة والأبوة نحوهم، فيرى صلى الله عليه وسلم امرأة تأخذ طفلاً من السبي وتضمه إلى صدرها، فيستوقف أصحابه صلى الله عليه وسلم ويقول: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فيقولون: لا، فيقول: لله أرحم بهذه من ولدها، أو يقول: والله لا يلقي حبيبه في النار) .

    نعم لقد كانت قضية الدعوة، وقضية التعليم قضية تشغل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يستثمر كل هذه الفرص، ولهذا أخذ هذا النشء المبارك هذا الهدي منه صلى الله عليه وسلم، فصارت قضيته وصار سؤاله في كل وقت وفي كل مناسبة: كيف يستثمر هذا الوقت أو هذا الموقف في الدعوة لدين الله تبارك وتعالى.

    إحياء الجهاد في سبيل الله

    ثاني عشر: أن هذا الجيل من الشباب أحيا سنة كادت الأمة أن تنساها، إلا وهي سنة الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.

    إن تجربة الجهاد الأفغاني تجربة قريبة وتجربة لن تنساها الأمة في وقت كادت الأمة أن تنسى الجهاد، كادت أن تنسى هذه الفريضة، بل للأسف لقد كان بعض من يتصدر للتعليم وتدريس الناس الفقه يقفز من باب الجهاد حين يصل إليه، لأنه قد نسيته الأمة، وحين قام هذا الجهاد في تلك البلاد وفتح الميدان رأينا الشباب ممن لم يتجاوز العشرين، أو تجاوزها بقليل، رأيناه يترك الدنيا ويترك الدينار والدرهم، ويترك كل ما يسير إليه الناس من متعهم، ويرحل إلى بلاد لا يعرف لغة أهلها، ولا يعرف طريقتهم، ولا يعرف حياتهم، ولسان حاله كحال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين ودع أصحابه وقالوا له: حفظكم الله وردكم إلينا، فقال: لا ردنا الله إليكم، وقال:

    لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

    أو طعنة بيدي حران مجهزة بحرية تنفذ الأحشاء والكبدا

    حتى يقال إذا مروا على جدتي يا أرشد الله من غاز وقد رشدا

    وكان يسأل الله الشهادة ويقول وهو يخاطب راحلته:

    إذا أديتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء

    فشأنك أنعم وخلاك ذم ولا أرجع إلى أهلي ورائي

    وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام منجدل الثواء

    هنالك لا أبالي طلع بعل ولا نخل أسافلها رواء

    ولسان حاله يقول كما قال الأول:

    إذا العرش إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف

    ولكن أحن يومي سعيداً بصحبة يمسون في فج من الأرض خائف

    لئن كان قالها صاحب بدعة وصاحب ضلاله فهو يقولها وهو على السنة، وهو يتمنى أن يرزقه الله الشهادة هناك.

    لقد نسيت الأمة صور الشهادة، لقد نسيت صور الجهاد، وها نحن نرى بحمد الله نماذج من هؤلاء، ممن قتلوا ونحسبهم والله حسيبهم من الشهداء في سبيل الله، ممن أحيوا فريضة الجهاد، وضربوا للأمة أروع الأمثلة في التضحية والبطولة والفداء، في وقت كان يسافر فيه أترابهم وأقرانهم لقضاء الرذيلة ولقضاء الشهوات المحرمة، في وقت كان يسافر فيه الكبار والصغار للنزهة، يسافرون إلى البلاد التي يتيسر لهم فيها ما لا يتيسر لهم في بلادهم، أما هؤلاء فلهم شأن آخر وقضية أخرى وحياة أخرى، وأولئك الذين لم تكتحل أعينهم برؤية ميدان الجهاد، ولم تشنف أسماعهم بسماع صوت الجهاد، كما كان أحدهم يتغنى:

    لا شيء يشجيني ويطرب مسمعي كأزيز رشاش وصولة مدفع

    إنهم إذ لم تكتحل أعينهم برؤية تلك المشاهد، ولم تتشنف أسماعهم بسماع ذاك الصوت، ولم يحصل لهم شرف المشاركة في تلك الميادين، فإنما عاقهم عائق، وحبسهم حابس عن هذه الميادين، وأحدهم يتمنى أن تتاح له الفرصة، وأن يفتح له الميدان، أليست صورة تستحق الإشادة، أليست صورة تستحق أن نحفل بها وأن نشعر أنها وبحمد الله من منجزات جيلنا المبارك.

    وكما قال صلى الله عليه وسلم: (من خير معاش الناس لهم في دينهم ودنياهم رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، كلما سمع هيعة طار يبتغي القتل والموت مظانه).

    إحياء سنة الأخوة الإيمانية

    ثالث عشر: أن هؤلاء قد أحيوا سنة الأخوة في الله تبارك وتعالى، بعد أن كادت الأمة أن تنساها.

    لقد كادت الأمة أن تنسى الحب في الله، والأخوة في الله، فجاء هذا النشء المبارك ليحيي معاني هذه الأخوة، وليتأسى بنبيه صلى الله عليه وسلم، والجيل المبارك الذين تآخوا علي غير أرحام بينهم، ولعل هؤلاء من أسعد الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) مما حدا بأحد شعراء هذه الصحوة أن يستبشر أي استبشار حين رأى هذا الأمل:

    الله أكبر إن عيني قد رأت نورا بآفاق السما يتلألا

    فلعله فجر الأخوة قد بدا يحيي النفوس ويبعث الآمالا

    ويميط عن هذه القلوب هوانها فتروح ترسل روحها إرسالا

    موقفهم من المعاصي

    رابع عشر: موقف هؤلاء من المعاصي.

    إن هؤلاء شأنهم شأن سائر المسلمين، قد يقعون في المعصية، وقد يواقعون الذنب، ومن هو الذي لا يقع في الذنب والمعصية: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) . (وكل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون كما قال صلى الله عليه وسلم).

    إن هؤلاء وإن وقع أحدهم في المعصية، إلا أن حالهم مع المعصية ليست كحال سائر المسلمين، إن أحدهم ما يلبث أن يبادر للتوبة إلى الله تبارك وتعالى والإقلاع، ولعله بهذا من أسعد الناس بقوله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202].

    وبقوله تبارك وتعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133].

    ثم ذكر تبارك وتعالى في صفة هؤلاء أنهم: إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135].

    في حين يصر غيرهم على هذه المعاصي، وهم لو وقعوا في المعصية فإن أحدهم يستعظم المعصية، وتعظم عنده، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن المؤمن يرى معصيته كالجبل يوشك أن يقع عليه، وإن المنافق يرى ذنبه كذباب طار على أنفه فقال به هكذا).

    كم يستهين الكثير من المسلمين بالنظر الحرام، بل يستنكر حين ينكر عليه هذا الأمر، وكم يستهينون بالكبائر والفواحش!

    أما هذا الجيل فإنك تراه حين تقع منه نظرة أو حين يقع في معصية يستعظمها، ويقبل على الله عز وجل مستغفراً تائباً، ويشعر أن هذه القضية توشك أن توبقه.

    وهم أيضاً لو وقعوا في المعصية فإنهم إنما يقعون في المعصية وقوعاً عارضاً، إنهم لا يسعون إلى المعصية، ولا يبحثون عنها، ولا يفرحون بها، لكن قد يواقع أحدهم المعصية وقد غلبته شهوة، وقد غلبه هواه، ولعله أسعد الناس بما قاله ابن القيم رحمه الله وهو من أعلم الناس بأمراض القلوب، قال في مدارج السالكين: إن الله تبارك وتعالى إنما يغفر للعبد إذا كانت مواقعة الذنب منه على وجه غلبة الشهوة والهوى، فإذا واقع الذنب واقعه مواقعة ذليل خائف، مختلج في قلبه شهوة الذنب، وخوف الله تبارك وتعالى.

    أما ذاك الذي يواقع الذنب وهو يضحك ظهراً ببطن، وهو الذي لا يدع ذنباً إلا أتاه، فهو من أبعد الناس عن التوبة، ومن أقرب الناس إلى أن يحال بينه وبين التوبة، أو كما قال رحمه الله تبارك وتعالى.

    وهم أيضاً لو وقعوا في المعصية فهم لا يجاهرون بها، بل يستخفي أحدهم بها، ويخشى أن يراه غيره عليها، ولا شك أن هذا بإذن الله دليل خير، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) ولعله ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم بحديث النجوى: (إن الله يدني عبده المؤمن، ويضع عليه كنفه، ويقرره بذنوبه، فيقول: تذكر ذنب كذا وكذا؟ تذكر ذنب كذا وكذا؟ حتى إذا ظن أنه قد هلك، قال: أنا ستترها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، وأما الفاجر أو الكافر فينادى بذنوبه على رءوس الخلائق).

    أيها الإخوة! إن هذا الحديث ليس شهادة عصمة، ولا مناداة بالبراءة من الخطأ والزلل والذنب على هذا الجيل، وليس دعوة إلى أن ننسى الأخطاء والسلبيات، لكن كما سبق أن أشرت في أوله، حيث إننا أصبحنا لا نسمع عن هذا الجيل إلا حديث النقد وذكر الأخطاء، فربما كان هذا مدعاة أن ينسينا بعض هذه الجوانب المشرقة، فأحببنا أن نستثيرها في أذهانكم، وأحببنا أن نذكركم بها، وهو لا يعني كما قلت شهادة براءة، ولا يعني الدفاع عن الأخطاء والسلبيات.

    فمن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

    أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن نشأ في طاعة الله تبارك وتعالى، ونسأله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وأن يجعلنا وإياكم ممن يقبض على دينه ويكون كالقابض على الجمر.

    هذا والله وأعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755982473