بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمرحباً بكم أيها الأحبة! ومع اللقاء الثالث على التوالي، وما زلنا نطوف في بستان هذا الحديث الطيب المبارك، في شرح حديث جبريل عليه السلام، والحديث رواه
مسلم وغيره من أصحاب المسانيد وأصحاب السنن، وقلنا: إن
مسلماً رحمة الله عليه قد قدم لهذا الحديث بمقدمة هامة، ولقد آليت على نفسي أن أقدم بهذه المقدمة مع متن الحديث في كل لقاء؛ حتى يتيسر على الجميع حفظه إن شاء الله عز وجل.
نص الحديث
علاقة الإسلام بالإيمان
كان لقاؤنا الماضي يدور حول بعض الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المعلم أو العالم، فتعالوا بنا أيها الأحبة في هذه الليلة المباركة، وفي هذا اللقاء الطيب، لنتعرض إلى أول سؤال سأله هذا السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
جلس هذا السائل بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: (يا محمد! أخبرني عن الإسلام).
والإسلام لغة: هو الانقياد والإذعان، أما معناه من الناحية الشرعية إذا أطلق فله حالتان:
الحالة الأولى: إذا أطلق اسم الإسلام دون أن يقترن بالإيمان، فهو في هذه الحالة يراد به الدين كله، من الأقوال والاعتقادات والأفعال والأعمال، لقول الله جل وعلا:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، ولقول الله جل وعلا:
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
فإذا جاءت كلمة الإسلام دون أن تقترن بكلمة الإيمان، فحينئذ يراد بالإسلام: الدين كله.
أما إذا ذكرت كلمة الإسلام مقترنة بكلمة الإيمان، فيراد بالإسلام: الأقوال والأعمال الظاهرة، ويراد بالإيمان: الأعمال الباطنة، لقول الله جل وعلا:
قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، فإذا أطلق الإسلام مع الإيمان فإن الإسلام يراد به: أقوال وأعمال الظاهر، ويراد بالإيمان: أعمال الباطن.
ويقول الإمام
الخطابي رحمه الله: معنى ذلك: أن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً. فالإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، أي: إذا اجتمعت كلمة الإسلام مع كلمة الإيمان افترقا فأصبح الإسلام له معنى، والإيمان له معنى آخر.
ومعنى: (إذا افترقا اجتمعا) أي: إذا أطلقت كلمة الإسلام فحينئذٍ يراد بها الإسلام والإيمان، وإذا أطلقت كلمة الإيمان فحينئذٍ يراد بها الإسلام والإيمان.
فالسائل يقول: (أخبرني عن الإسلام؟) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت).
فلنتعرض إلى أول ركن من أركان هذا الإسلام العظيم، وهو: شهادة أن لا إله إلا الله.
قال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله)، و(لا إله إلا الله) هي كلمة التوحيد والإخلاص، ولقد قسمنا التوحيد قبل ذلك إلى ثلاثة أقسام، فأعيروني القلوب والأسماع لنجمل ما وضحناه من أقسام التوحيد الثلاثة، ألا وهي:
توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
توحيد الربوبية: هو إفراد الله جل وعلا بالخلق والأمر، فلا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مدبر إلا الله، ولا مميت إلا الله، فالله وحده هو الخالق وما عداه مخلوق، والله وحده هو الرب وما عداه مربوب، والله وحده هو الرازق وما عداه مرزوق:
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54].
والأدلة على هذا القسم من أقسام التوحيد كثيرة جداً.
الدليل النقلي على توحيد الربوبية
الدليل العقلي على توحيد الربوبية
الأدلة العقلية على توحيد الربوبية كثيرة، وسأكتفي بقولين أحدهما للأعرابي الذي استشهد على وجود الله جل وعلا بكلمات عجيبة! وهو أعرابي بسيط لم يلتحق بجامعة من الجامعات، ولا بكلية من الكليات، ولكنه تخرج في جامعة الفطرة، وتربى في أحضان الطبيعة: بين سمائها وجبالها، وإبلها وحيواناتها، فسئل: ما الدليل على وجود الله؟
قال: سبحان الله! البعرة تدل على البعير، وأثر القدم يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا يدل ذلك كله على اللطيف الخبير؟!!
واستشهد الإمام
أحمد إمام أهل السنة والجماعة بالبيضة، فأمسك البيضة يوماً فقال: هذا حصن حصين أملس، ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينما هو كذلك إذ انصدع جداره، وخرج منه حيوان سميع بصير! إنها قدرة الله جل وعلا.
والأدلة العقلية كثيرة في هذا الباب.
فتوحيد الربوبية إذاً: هو الإقرار لله جل وعلا بالخلق والأمر، فلا خالق إلا الله، ولا رب إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مميت إلا الله.
هذا ومن أقر بذلك كله وكفر بتوحيد الألوهية فهو مشرك؛ لأن المشركين قد أقروا لله جل وعلا بتوحيد الربوبية، وأقروا بأن الله هو الخالق وما عداه مخلوق، وبأن الله هو الرازق وما عداه مرزوق، وبأن الله هو الرب وما عداه مربوب، ولكن لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الألوهية -أي: إلى إفراد الله جل وعلا بالعبادة- قالوا:
أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، فأنكروا توحيد الألوهية، فحكم الله عليهم بالشرك برغم إقرارهم بتوحيد الربوبية لله جل علا.
توحيد الألوهية هو: إفراد الله جل وعلا وحده بالعبادة.
والعبادة كما عرفها شيخ الإسلام
ابن تيمية : هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وهي كما عرفها
ابن القيم رحمه الله: كمال الحب مع كمال الذل.
وفي الجملة: فتوحيد الألوهية هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، وهي كلمة التوحيد والإخلاص.
هذه الكلمة من أجلها خلق الله السماوات والأرض، ومن أجلها خلق الله الجنة النار، ومن أجلها أنزل الله الكتب، وأرسل الله الرسل، وبهذه الكلمة تكون الشقاوة والسعادة، فريق في الجنة وفريق في السعير.
هذه الكلمة ورد في حقها أحاديث كثيرة، وأكتفي بذكر حديث واحد، وهو ما رواه الإمام
البخاري و
مسلم من حديث
عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق؛ أدخله الله الجنة من أي أبوابها الثمانية شاء)، وفي رواية: (
أدخله الله الجنة على ما كان من العمل).
تقصير بعض المسلمين في فهم كلمة التوحيد
كلمة التوحيد ليست كلمة ترددها الألسنة، وتنكرها القلوب والأعمال، إن كلمة التوحيد واقع وسلوك، إن كلمة التوحيد دين كامل وشامل، فكم من المسلمين يردد كلمة التوحيد وهو لا يفهم لها معنى، ولا يعرف لها مدلولاً، ولا يعرف لها مقتضى!
ولقد نجح أعداء ديننا نجاحاً باهراً في تجهيل المسلمين بحقيقة لا إله إلا الله، فجعلوا كلمة التوحيد في جانب والمسلمين بفهمهم لها في جانب آخر، حتى صار المسلمون في واد، وصار الإسلام وحقيقة التوحيد كما أرادها الله، وكما جاء بها ابن عبد الله في واد آخر.
نجحوا في أن يفرغوا لا إله إلا الله من محتواها كله، ومن مضمونها كله، ومن معناها كله، حتى صار المقتضى والمعنى والمفهوم منها في جهة، وصار المسلمون في فهمهم لها في جهة أخرى، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من قالها بلسانه، وصدقها بقلبه، وطبقها بأعماله، والإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان؛ هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
فلابد أن تقولها بلسانك، وأن تصدقها بقلبك، وأن تترجم ذلك بأعمالك وجوارحك، إذا وقر الإيمان في القلب انعكس على جوارح العبد، فتحركت الجوارح بطاعة الله عز وجل، فائتمرت بأمر الله، وانتهت بنهي الله، ووقفت عند حدود الله جل وعلا.
إذاً: ليس كل من قال: (لا إله إلا الله) دخل الجنة، فلهذه الكلمة شروط لا ينتفع قائلها إلا بها، وهذه الشروط -بإيجاز شديد- هي التي جمعها صاحب المعارج بقوله:
العلم واليقين والقبول والانقياد فادر ما أقول
والصدق والإخلاص والمحبه وفقك الله لما أحبه
الشرط الأول: العلم
أول شرط هو: العلم، والعلم معناه: أن يكون قائلها على علم بمعناها ومقتضاها ومدلولاتها، وعلى علم بما تحمله هذه الكلمة من نفي وإثبات، وولاء وبراء، فكلمة التوحيد نفي للآلهة وللطواغيت وللأنداد وللأرباب، فهي نفي لجميع الآلهة غير الله، وإثبات للألوهية لله جل وعلا وحده.
وهي إثبات العبادة لله وحده: فلا عبادة إلا لله، ولا خوف إلا من الله، ولا إذعان إلا لله، ولا انقياد إلا لله، ولا استسلام إلا لله، ولا تفويض إلا إليه، ولا رجاء إلا فيه، ولا طلب إلا منه، ولا استعانة إلا به، ولا استغاثة إلا به، ولا نذر إلا له، ولا ذبح إلا له، ولا حلف إلا به.
تكون عقيدتك قولاً وعملاً: اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، وأبرأ من الأمل إلا فيك، وأبرأ من التسليم إلا لك، وأبرأ من التفويض إلا إليك، وأبرأ من التوكل إلا عليك، وأبرأ من الصبر إلا على بابك، وأبرأ من الذل إلا في طاعتك، وأبرأ من الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، وأبرأ من الرهبة إلا لجلالك العظيم.
هذا ما ينبغي أن تكون عليه عقيدتك أيها الموحد لله جل وعلا.
إذاً: شرط العلم: أن تكون على علم بمعناها، نفياً وإثباتاً، فهي تنفي جميع الآلهة والأرباب والأنداد والطواغيت، وتثبت الألوهية لله وحده، والعبودية والعبادة لله وحده.
وهي ولاء وبراء: ولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وبراء من كل ما تبرأ الله منه.
فالعلم: أن تكون على علم بمعناها نفياً وإثباتاً:
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ [محمد:19]، وفي الحديث الصحيح من حديث
عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة).
الشرط الثاني: اليقين
الشرط الثاني: اليقين، واليقين هو الإيمان كله، كما ورد في الأثر الصحيح الذي ذكره الإمام
البخاري عن
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (اليقين هو الإيمان كله).
واليقين هو: أن يكون من قال: لا إله إلا الله على يقين جازم بمعناها ومدلولها، وذلك أن يقولها القائل بلسانه، وأن يصدقها بقلبه، وأن يطبقها بأعماله وجوارحه.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام
البخاري من حديث
أبي هريرة، وهو طويل، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى نعلين لـ
أبي هريرة رضي الله عنه وقال له: (
يا أبا هريرة ! اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه؛ فبشره بالجنة).
ومعنى اليقين: أن يكون قائلها على يقين بمعناها، فلا يقولها بلسانه ويكذبها بقلبه وأعماله. هذا هو الشرط الثاني بإيجاز.
الشرط الثالث: القبول
الشرط الرابع: الانقياد والإذعان
الشرط الخامس: الصدق
الشرط السادس: الإخلاص
الشرط السابع: المحبة
القسم الثالث من أقسام التوحيد: توحيد الأسماء والصفات:
وهذا هو الباب الذي ضلت فيه أفهام، وزلت فيه أقدام، نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم الفهم والاستدلال.
نجمل هذا التوحيد في عدة قواعد، وأسميناها قبل ذلك في لقاء مستقل: القواعد الواضحات لفهم الأسماء والصفات.
القاعدة الأولى
القاعدة الأولى: أن أسماء الله الحسنى وصفاته العلا هي التي أثبتها الله لذاته، وأثبتها له عبده ورسوله وأعرف الناس به محمد صلى الله عليه وسلم، وآمن بها جميع المؤمنين، وهي أسماء وصفات كمال وجلال.
القاعدة الثانية
القاعدة الثالثة
القاعدة الثالثة من القواعد الواضحات لفهم مبحث الأسماء والصفات هي: أن أسماء الله جل وعلا حق على حقيقة الذات، مطابقة وتضمناً والتزاماً، فاسم الله جل وعلا (الرحمن) حق على حقيقة ذات الله عز وجل، فلو قلت: الرحمن، لكنت على يقين أنه هو الله:
قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110]، فاسم الرحمن حق على حقيقة الذات مطابقة، وفي نفس الوقت يشتمل على صفة الرحمة تضمناً، وفي نفس الوقت يشتمل على جميع صفات الكمال والجلال التزاماً.
فأسماء الكمال حق على حقيقة الذات، مطابقة وتضمناً والتزاماً.
القاعدة الرابعة
القاعدة الرابعة: هناك أسماء لا ينبغي أن تطلق إلا مقترنة مع بعضها البعض، وإذا جاءت هذه الأسماء وأفردت أوهم ذلك نقصاً في حق الله تعالى الله عن ذلك!
فمن هذه الأسماء: المعطي المانع، الخافض الرافع، الضار النافع، المعز المذل، القابض الباسط، فهذه الأسماء لا ينبغي أن يشتق منها اسم واحد ليطلق على الله جل وعلا، فلا ينبغي أن يقال: بأن من أسماء الله المذل، الخافض، الضار، المانع، هذا لا يصح، وإنما ينبغي أن تطلق هذه الأسماء مع بعضها البعض؛ لأن الشرع ما ذكرها إلا كذلك، فلو قلت: إن من أسماء الله: الضار، المضل، الخافض، المانع؛ لأوهم ذلك نقصاً في حق الله، تعالى الله عن ذلك!
أيضاً: هناك أفعال ذكرها الله تعالى ووصف بها نفسه من باب: الجزاء من جنس العمل كقوله تعالى:
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30]، وكقوله تعالى:
نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]، وكقوله تعالى:
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]، فلا يجوز على الإطلاق أن نقول: إن من أسماء الله: الماكر المخادع، الناسي، وإن بعض الجهال قد اشتق من هذه الأفعال أسماء للكبير المتعال! ولكن هذه الأفعال التي وصف الله بها نفسه لا يجوز أن يشتق منها إطلاقاً بعض الأسماء لله عز وجل.
القاعدة الخامسة
القاعدة الخامسة ذكرها الإمام
الشنقيطي رحمة الله عليه في مبحثه القيم مبحث الأسماء والصفات، قال: إن هذا المبحث الخطير يتركز على ثلاث أسس، من جاء بها ومات عليها مات على المعتقد الصحيح الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هذه الأسس هي:
الأساس الأول: تنزيه الله عز وجل وعدم تشبيهه بشيء من المخلوقات، وهذا الأصل مأخوذ من قوله تعالى: (
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، ومأخوذ من قوله تعالى:
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4]، ومأخوذ من قوله تعالى:
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74].
الأساس الثاني: أن نؤمن بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
أو بعبارة أخرى قالها
الشافعي : أن نؤمن بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وأن نؤمن برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأساس الثالث: قطع الطمع عن إدراك كيفية ذات الله عز وجل، فلا يعلم ذات الله إلا الله:
وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110]،
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
القاعدة السادسة من قواعد الأسماء والصفات: هي تلخيص لمذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب من أبواب التوحيد:
الإيمان بأسماء الله وصفاته من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه
أولاً: نؤمن بآيات الأسماء والصفات، وبأحاديث الأسماء والصفات، كما جاءت، ونمرها صريحة من غير تحريف لألفاظها، ومن غير تحريف لمعانيها، ومن غير تعطيل، ومن غير تكييف، ومن غير تمثيل.
وسأكتفي بمثال واحد، ألا وهو قول الله جل وعلا:
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5].
قال أهل التعطيل وأهل النفي للصفات، وعلى رأسهم
جهم بن صفوان -عليه من الله ما يستحقه- قال: لو كان الأمر بيدي لحككتها من المصحف وجعلتها: (الرحمن على العرش استولى)! وذلك ليعطل صفة الاستواء.
وهذا فعل أسلافه اليهود، قال الله جل وعلا لهم:
وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58] أي: قولوا: اللهم احطط عنا الخطايا والذنوب؛
نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ [البقرة:58]، فأبوا إلا أن يحرفوا ويبدلوا، فبدلاً من أن يدخلوا سجداً اعترافاً بفضل الله جل وعلا، وشكراً لله عز وجل، دخلوا يزحفون على أستاههم، أي: على مقاعدهم، وهم يسخرون بقول الله: (حِطَّةٌ) ويقولون: حنطة، فزادوا النون كما زاد
جهم اللام في (استوى) فقال: استولى!
قال: لو كان الأمر بيدي لحككتها من المصحف وجعلتها: (الرحمن على العرش استولى)! ليلغي صفة الاستواء، ولكن أهل السنة والجماعة يقولون: استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال، استواء منزهاً عن الحلول والانتقال، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته، والكرسي وعظمته، الكل محمول بقدرته، مقهور بجلال قبضته.
فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ونحن نؤمن بأسماء الكمال وصفات الجلال، ونمرها صريحة.
يقول الله جل وعلا:
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً [الفجر:22]، فلا ينبغي أن نأول، وأن نتحذلق ونقول: المعنى: وجاءت قدرة ربك.
الله يقول: (وَجَاءَ رَبُّكَ) هل أنت أعرف بالله من الله؟! هل أنت أعرف بالله من رسول الله؟! هو يقول: (وَجَاءَ رَبُّكَ) فنؤمن أنه يجيء مجيئاً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
خطورة الإلحاد في الأسماء والصفات
لقد حذر الله تبارك وتعالى من القول بغير علم في مبحث الأسماء والصفات، فقال في سورة الأعراف:
وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180].
يقول صاحب معارج القبول: الإلحاد في الأسماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
إلحاد المشركين، وهو الذي قال عنه
ابن عباس رضي الله عنهما: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) أي: يشركون في أسمائه، فسموا اللات من الإله، وسموا العزى من العزيز.
القسم الثاني: إلحاد المشبهين، الذين شبهوا الله عز وجل في أسمائه وصفاته بالمخلوقين.
القسم الثالث: إلحاد النفاة الذين نفوا أسماء الله جل وعلا وصفاته.
وهؤلاء ينقسمون إلى قسمين:
قسم أثبت لله جل وعلا الأسماء الحسنى، ونفى عن هذه الأسماء ما تضمنته من صفات.
القسم الثاني: قسم أنكر الأسماء والصفات، فكفر بالله عز وجل.
هذا بإيجاز معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (
الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله)؛ فإن قدر الله جل وعلا لنا اللقاء والبقاء، فسوف يكون حديثنا في اللقاء المقبل عن الشق الثاني لشهادة التوحيد.
أسأل الله جل وعلا أن يتوفانا وإياكم على التوحيد، وأن يجنبنا الشرك، وأن يختم لي ولكم بخاتمة الإيمان، إنه ولي ذلك ومولاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.