أما بعــد:
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعــد:
سنتكلم إن شاء الله عن موضوع يهمنا جميعاً، وهو أمر عظيم نحتاج إليه، لأنه يحدد علاقتنا بالله عز وجل، ويميز أعمالنا، وهو طريق الخلاص، إنه الإخلاص.
حاجتنا إلى الإخلاص لله عز وجل حاجةٌ مهمة جداً تدخل في أمور حياتنا كلها، والله سبحانه وتعالى خلقنا لعبادته وأمرنا بالإخلاص في هذه العبادة فقال عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] وقال: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3] واستثنى الله طائفةً من البشر كلهم الهالكون الخاسرون إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ [النساء:146] فهؤلاء الذين أخلصوا دينهم لله هم السعداء حقاً، الذين ينالون من ربهم الجزاء الأوفى والنعيم المقيم في جنات النعيم.
وأثنى الله على المؤمنين لما كانوا يقومون بسائر أعمال القرب والطاعات، ومنها إطعامهم للمحتاجين وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان:8-9] لا نريد أي نوع من أنواع الأجر الدنيوي، كل ما نقوم به لوجه الله عز وجل: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى [الليل:19] من هو هذا الشخص؟ من هو؟ ما هي صفته؟ قال تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21].
ولذلك فإن الله تعالى لا يقبل عملاً من العبد إلا إذا كان خالصاً لوجهه، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه سبحانه وتعالى).
رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه عن الوليد بن أبي الوليد أبي عثمان المدني : أن عقبة بن مسلم حدثه: أن شُفَيّاً الأصبحي حدثه: أنه دخل المدينة فإذا هو برجلٍ قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ قالوا: أبو هريرة ، قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس فلما سكت وخلا قلت له: أسألك بحقي، لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقلته وعلمته، فقال أبو هريرة : أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة نشغةً فمكثنا قليلاً ثم أفاق -أخذته السكينة- فكاد يغشى عليه شفقةً وأسفاً وخوفاً من الله عز وجل، فشهق هذه الشهقة، ثم أفاق من هول الحديث الذي سيتكلم به، فقال: لأحدثنك حديثاًحدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وهو في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نشغ نشغةً أخرى ثم أفاق ومسح عن وجهه، فقال: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وهو في هذا البيت ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغةً شديدة ثم مال خاراً على وجهه فأسندته طويلاً، ثم أفاق، ما هو الحديث الذي لأجله حدث لـأبي هريرة كل هذا الشأن؟
قال الوليد أبو عثمان المدني وأخبرني عقبة أن شفياً هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا الحديث، فقال أبو عثمان : وحدثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيافاً لـمعاوية فدخل عليه رجلٌ فأخبره بهذا الحديث عن أبي هريرة فقال معاوية رضي الله عنه: [قد فُعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس] ثم بكى معاوية بكاءً شديداً حتى ظننا أنه هالك، وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بِشر، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه فقال: صدق الله ورسوله مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16] هذه عاقبة الذي لا يراعي الإخلاص لله في عمله وهذه عاقبة فاقد الإخلاص يوم القيامة.
والإخلاص تعددت فيه أقوال أهل العلم في تعريفه الشرعي.
فمنهم من قال: إفراد الله بالقصد في الطاعة.
ومنهم من قال: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وإعجاب الفاعل بنفسه.
ومنهم من قال: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن.
ومنهم من قال: الصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره.
ومنهم من قال: ألا تطلب على عملك شاهداً غير الله.
وقال الفضيل رحمه الله: [ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما] أن يعافيك الله من الرياء الذي بسببه الناس تترك العمل، والشرك الذي تعمل من أجل الناس، وباختصار فإن تصفية العمل من كل شائبة تشوبه هو الإخلاص لله عز وجل.
فيقول: باب الإخلاص وتصحيح النية، وعد أهل العلم حديث: (إنما الأعمال بالنيات) ربع العلم، وبعضهم عده ثلث العلم، وبعضهم عده نصف العلم، قال ابن مهدي رحمه الله: لو صنفت كتاباً، لبدأت في كل أول باب منه بحديث: (إنما الأعمال بالنيات) وقال: من أراد أن يصنف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث وقد استجاب لوصيته الإمام البخاري رحمه الله تعالى فبدأ مصنفه الجليل، وأعظم كتابٍ بعد القرآن صحيح البخاري بحديث إنما الأعمال بالنيات.
وكذلك بدأ به الحافظ عبد الغني المقدسي كتابه عمدة الأحكام ، والنووي رحمه الله كتابه المجموع ، وابتدأ به السيوطي رحمه الله جميعه، وشرح الحديث جماعة من أهل العلم في مصنفاتٍ خاصة، وتمنى ابن أبي جمرة رحمه الله أن يتخصص بعض العلماء في النيات فقط؛ لتعليمها للناس؛ لأن أكثر المشاكل التي تحدث عند الناس هي في قضية النيات.
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا |
إنا أقمنا على عذرٍ وعن قدرٍ ومن أقام على عذرٍ فقد راحا |
بعض الناس في أقطار الأرض يودون الذهاب إلى الحج والعمرة لكن لا يستطيع، ليس عنده نفقة أو لم تتيسر له الإجراءات اللازمة للحج ولكنه يريد الحج، والله يعلم من نفس هذا الرجل أنه يريد الحج أو يريد العمرة فيكتب له أجر الحاج والمعتمر وهو قاعد في بيته، بسبب إخلاصه.
(من سأل الله الشهادة بصدقٍ، بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن ثابت رضي الله عنه لما تجهز للغزو معه عليه الصلاة والسلام فمات قبل أن يخرج (إن الله تعالى قد أوقع أجره على قدر نيته).
مثالٌ آخر: عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى أصبح، كتب له ما نوى، وكان نومه صدقةً عليه من ربه) وأحدهم أراد أن يقوم الليل بصدق واستعد، لكن غلبته عينه، فأكمل النوم إلى الفجر، فلم يقم برغم نيته الصادقة، فله أجر قيام الليل والنوم صدقة من ربه عليه، حديث صحيح.
ولذلك -أيها الإخوة- تصحيح النية ومراعاتها مسألة مهمة جداً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٌ رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً؛ لعملت بعمل فلان) لو كان عندي مال لتصدقت، وأخرجت زكاته، ووصلت رحمي من هذا المال، وأنفقت على أقربائي، وعملت أشياء من أعمال البر والخير، وكفلت أيتاماً، وعلمت للمسلمين أموراً ينتفعون بها، تصدقت بها في سبيل الله، وطبعت كتباً، وأوقفت مصاحف للمساجد، وعملت وعملت ... فهو يتمنى أنه لو كان له ذلك المال لعمل به في هذا، فإذا صدق الله في نيته تلك، فإن الله يعطيه على قدر نيته، فيقول عليه الصلاة والسلام: (فأجرهما سواء) أجر الذي عنده وأنفق، وأجر الذي ليس عنده ونوى لو كان عنده لأنفق مثل صاحبه أجرهما سواء.
وفي نفس الوقت (عبدٌ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، يخبط في ماله بغير علم، ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقاً فهذا بأخبث المنازل، ورجل قال: لو أن عندي مالاً مثل فلان لعملت بعمل فلان) لو كان عندي مال كنت سافرت إلى الخارج وفسقت وفعلت الفواحش، واستأجرت فرق الغناء والطرب، وعملت وليمة فيها من المعاصي والفسق مثلما عمل فلان، ويرى خاتماً ذهب في يد رجل فيقول: لو كان عندي مال لاشتريت مثله، هذا الرجل الذي يتمنى بقلبه هذا الأمنيات لو أن الله أعطاه مالاً فهو شريك ذلك الرجل في الوزر قال: (فهما في الوزر سواء) مع أنه ما عمل لكن نيته هذه نية عازمة، فلو أن الله أعطاه مالاً لعمل فيه من المعاصي مثلما عمل ذلك الفاجر.
عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه: أنه ظن أن له فضلاً على من دونه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها) بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم؛ هذه الأمة فيها أقوياء وفيها ضعفاء، فيها أغنياء وفيها فقراء، والله عز وجل ينصر الأمة بالضعفاء فيها، بصلاتهم، ودعائهم، وصدقهم، وإخلاصهم، لأنه في العادة أن الضعيف عنده من الإخلاص ما ليس عند القوي؛ فإنه لا يملك كثيراً من الأسباب التي تدفع إلى عدم الإخلاص، ولذلك لا تحتقر ضعيفاً أبداً إذا كان تقياً، فإنه قد يكون سبب نصرة الأمة به.
كذلك من الناس من يغتسل تنظفاً وإزالةً للأقذار والأوساخ، ومنهم من يغتسل تبرداً بسبب الحر، ومن الناس من يغتسل مداواة؛ فقد يكون به حمى شديدة، ولكن من الناس من يغتسل للجمعة، فالذي يغتسل للجمعة له أجرٌ أكبر؛ لأنه نوى بغسله الجمعة أو إتيان المسجد وهو نظيف لكي لا يؤذي المسلمين، أو غسل الجنابة ونحو ذلك، فمادام أنه نوى قربة وطاعة بهذا الغسل فتحولت عادته إلى عبادة يؤجر عليها.
وبعض الناس يظن أن النية في الفعل فقط، يعني: يتزوج ويغتسل، لكن النية لها أثر كبير في الترك كما أن لها أثر في الفعل فمن الناس من يترك الطعام حميةً حتى لا يصيبه مرض، ومن الناس من يترك الطعام تداوياً حتى يشفى من مرض واقع فيه، ومن الناس من يترك الطعام بخلاً حتى على نفسه، ومن الناس من يترك الطعام لعدم ميله إليه وعدم تعلقه به، فهو لا يشتهيه، ومن الناس من يترك الطعام صياماً لرب العالمين، فهذا أكثر أجراً، فإذاً يحصل هنا الأجر على الترك كما يحصل الأجر على الفعل، بسبب بالنية.
ولما ينعدم الإخلاص وينقص، فإن صاحبه ينتكس انتكاسات كبيرة جداً، فقد يأتي أناس يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء يجعلها الله هباءً منثوراً، ذلك بأنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، وهؤلاء عديمي الإخلاص.
يقول سفيان رحمه الله: [ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي، لأنها تنقلب علي كلما آتي لأثبتها تنقلب فأنا أعالج وأجاهد وأجتهد في تثبيت النية] لأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه سبحانه وتعالى قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24] فلا يمكنه من التوبة والإخلاص، فيحول بين المرء وقلبه، ولذلك مجاهدة النفس على الإخلاص وتوجيه النية لله رب العالمين هي أصعب شيء.
قال يوسف بن أسباط رحمه الله: [تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد] لو قام أحدهم الليل ساعات طويلة قد يصبر، لكن تثبيت النية بحيث إن العمل لا يكون فيه شيء للدنيا ولا للناس هذا أصعب من العمل نفسه.
وقال يوسف بن الحسين : [أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء من قلبي، فكأنه يمكث على لونٍ آخر] أحاول أن أسد هذا الباب فينفتح باب آخر، أحاول أن أثبت من هنا؛ فأوتى من هناك وهكذا، لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولكن لا يعني هذا أن ذلك مستحيل وأنه لا يمكن أن نخلص وأنه مهما اجتهدنا لا نصل لمرتبة المخلصين، كلا.
إن سألت كيف أكتسب الإخلاص؟ لو قلت لي الإخلاص صعب، فعرفنا منزلة الإخلاص في الدين، وعرفنا خطورة الموضوع، وعرفنا فوائد الإخلاص، وعرفنا مضار فقدان الإخلاص، فكيف نكتسب الإخلاص؟
يقول ابن القيم رحمه الله: "لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص، وسهولة ذلك بأن تعلم أن مدح أحدٍ أو ذمه لا يضر".
لو قيل: كيف تريد مني أن أقطع الطمع بثناء الناس ولا أكترث بذم الناس؟ أعطني العلاج المفتاح لهذه المسألة، كيف تريد مني ألا أكترث سواءً ذموني أو مدحوني؟ نقول لك: انظر في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه أعرابي فقال: إن مدحي زينٌ وإن ذمي شينٌ، أي: أنا إذا مدحت واحد زان من مدحي وارتفع، وإذا ذممت شخصاً فقد شان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك الله عز وجل) ذاك الله عز وجل الذي إذا مدح أناساً ارتفعوا، وإذا ذم أناساً هبطوا، ولست أنت.
فإذا عرفت أيها المسلم: بأن الناس لو مدحوك ما رفعوك، ولو ذموك ما خفضوك؛ فلا تكترث عند ذلك لمدحهم ولا ذمهم، وتعلم بأن المهم هو مدح الله وليس مدح المخلوقين، وبأن الذم المذموم هو ذم الله لا ذم المخلوقين.
أولاً: أن تعلم أن الله عز وجل حقه أكبر مما عملت، يمكن لو وزنت أعمالك كلها يوم القيامة ما ساوت نعمة البصر مثلاً، عند ذلك تعلم أن عملك لا شيء فكيف بالنعم الأخرى؟ كيف بنعمة الهداية! كيف بنعمة الإيمان! وتعلم أيضاً أن الذي وفقك لهذا العمل هو الله عز وجل، إذاً: فلماذا تعجب به، وهو ما جاء من عندك، والله الذي وفقك له.
وكذلك من الأمور التي تعالج العجب بالعمل: أن تشعر إذا عملت عملاً بشدة الحياء من الله عز وجل قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] أي: إنك إذا تصدقت بصدقة أو عملت عملاً طيباً، فليكن إحساسك بالحياء من الله عز وجل، لأنك تقدم شيئاً وتخشى ألا يقبل، وحق الله أعظم من هذا، ولذلك الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه، فهذا الذي يعمل هذه الأعمال ثم يخاف ألا تقبل منه، هو الذي نجا من الإعجاب بنفسه.
وكذلك أن تعلم -كما ذكرنا قبل قليل- أن عملك منة من الله وليست من نفسك، وفضلٌ من الله وليست فضلاً من عندك، وتوفيق من الله وليس توفيقاً من عندك قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] فالخير عند العبد من الله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النور:21] ولذلك كان كلام أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] لاحظ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] .. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً [الإسراء:74] فالله عز وجل يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: لولا أن ثبتناك يا محمد لقد كدت تركن إلى الكفار شيئاً قليلاً، فمن الذي ثبتك؟ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:7].
إذاً: إذا أقبل الواحد على الطاعات وأحس بحلاوتها، فالذي أوجد في نفسه هذا الدافع هو الله، والذي حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه هو الله.
وكذلك من الأشياء التي تقضي على الإعجاب بالعمل: أن تعلم أن كل عمل مهما عظم؛ فإن للشيطان فيه نصيباً ولو قل، وقال صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي يلتفت فجأة في الصلاة ثم يرجع: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) هذا اختلاس النظر فكيف باختلاس القلب! فإذا عرفت أن كل عمل عملته قد يكون للشيطان فيه نصيبا،ً تعلم أن عملك معيب، ولذلك لا يمكن أن تعجب بعملٍ معيب وناقص.
الثاني: طلب مدحهم؛ فيعمل العمل لأجل أن يمدحه الناس.
الثالث: النجاة من ذمهم؛ فبعض الناس يعملون أعمالاً لا لله، في القتال مقدام حتى لا يقال عنه: جبان، يحسن الصلاة حتى لا يقال عنه: فلان يسرع في صلاته مثلاً، فينجو من ذم الناس.
رابعاً: طلب تعظيمهم؛ أن يعظموه.
خامساً: طلب أموالهم، مثلاً واحد يخلص في العمل، ويتظاهر بالأمانة؛ لكي يحصل على وظيفة؛ وبعض الناس يظهر بمظاهر التقى والصلاح؛ لكي يستأمنه رب العمل فيوظفه عنده، ويقول رب العمل في نفسه: فلان هذا تقي وورع، فلان هذا مناسب أن أضعه في هذه الوظيفة، فيضعه في هذه الوظيفة، وقد يعمل العمل أيضاً بدافع طلب خدمتهم ومحبتهم، يعني: لكي يخدمه الناس، وكذلك بطلب قضاء حوائجه: كتزويجه منهم من بنتهم، فيخلص في العمل والعبادة الظاهرة حتى يقولوا: فلان ذو دين فنزوجه، ولذلك وصلنا أن بعضهم إذا تقدم لأناس فيزورهم كثيراً، فإذا سمع الأذان قام من عندهم للصلاة، وهو أصلاً إنسان غير حريص على الصلاة، فخدعهم من أجل أن يزوجوه.
فإذاً: يعرض للإنسان شوائب تقدح في إخلاصه، من التماس الأشياء من الناس على عمله الصالح، فكل شيء يراد به غير الله قادح ينبغي التخلص منه.
ولكي يقضي العبد على طلب هذه الأشياء من المخلوقين؛ انظر إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء) وقال: (إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: من كان أشرك في عمله لله أحداً؛ فليطلب ثوابه من عنده؛ فإن الله أغنى الأغنياء عن الشرك، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك) وقال: (من عمل عملاً أشرك فيه أحداً غيري؛ تركته وشركه) ولذلك إذا تأمل العبد أنه يوم القيامة سيقال له: اذهب إلى الناس الذين رآءيت من أجلهم اطلب منهم ثواب العمل، وأنهم لن يعطوه شيئاً، فماذا سيكون موقفه؟
وفي علاج الرياء هناك علاج علمي وعلاج عملي، من العلاج العلمي: أن تعلم ما هو عذاب المرائين يوم القيامة، يقول عليه الصلاة والسلام: (من قام مقام رياءٍ وسمعة) وفي رواية: (من سمع الناس بعمله راءى الله به يوم القيامة وسمع) وفي رواية: (سمع الله به مسامع خلقه وصغره وحقره يوم القيامة) وفي رواية: (إلا سمع الله به على رءوس الخلائق يوم القيامة) يعني: فضحه على رءوس الأولين من آدم إلى آخر واحد وهو الراعي من مزينة الذي يحشر آخر واحد من الناس فيموت عند الصعق، لأنه قام مقام الرياء والسمعة.
علامات الرياء كثيرة ومنها، لو قال واحد: أعطني حدوداً أعرف بها هل أنا مرائي أم لا، فنقول: النشاط في الملأ مع الكسل في الخلاء، ومحبة الحمد على جميع أمورك؛ إذا كنت تنشط في الملأ وتكسل في الخلاء، وتحب أن تحمد على أفعالك فأنت على خطر من أن تكون مرائياً، ولذلك من علاجات الرياء العملية، مثلاً إذا شككت أن إطالتك في سجودك في المسجد لأجل الناس اذهب إلى بيتك وصلي صلاةً أطول منها، وإذا شككت أن النفقة التي أخرجتها من أجل الناس في المسجد، فاذهب سراً وأنفق نفقةً أكبر منها، وقال بعضهم: إذا كان المرء يحدث في المجلس؛ فأعجبه حديثه فليسكت، وإذا كان ساكتاً فأعجبه سكوته فليتكلم، فبعض الناس يعجبون بحديثهم، وبعضهم يعجبون بسكوتهم، فيرى أن يعطي انطباعاً للناس عنه بأنه متزن، وقور، هادئ وغير ثرثار ونحو ذلك، فإذا كان المرء يحدث في المجلس، فأعجبه الحديث فليسكت؛ وإذا كان ساكتاً فأعجبه السكوت فليحدث.
ومن الأمور كذلك التي نكتسب بها الإخلاص: الدعاء، لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من أمور: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه) وقد كان وعمر رضي الله عنه كان يسأل الله ألا يجعل لأحدٍ من الخلق في عمله حظاً ولا نصيباً، وأن يجعله لوجهه خالصاً، فالدعاء مهم في هذه المسألة.
ولمرافقة أهل الإخلاص أثر، فأنت تكتسب الإخلاص إذا احتككت وعاشرت ورافقت أهل الإخلاص، وهذه نقطة مهمة جداً لأنك تتعلم منهم، الآن لما رأى الرجل الإمام البخاري رحمه الله، قال: رأيت أبا عبد الله في المسجد والناس حوله، فأخذ الرجل شيئاً من لحيته فرمى به في الأرض -يعني: قذر رمى به في المسجد- قال: فرأيت أبا عبد الله نظر بطرفه إليها، فلما انتهى المجلس وانصرف الناس، نظر يميناً وشمالاً، فلما لم ير أحداً أخذها فدسها في جيبه وخرج من المسجد، فلما خرج رأيته يتلفت يميناً وشمالاً، فلما علم أنه لا يراه أحد من الناس أخرجها وألقاها.
هذا الراوي الذي روى القصة هو الذي شاهد البخاري رحمه الله والبخاري لا يعلم، وانظروا أن الله يقيض لأهل الإخلاص من ينشر سيرتهم مع أنهم لم يقصدوا نشرها، كيف وصلنا الخبر والبخاري رحمه الله لا يريد أن يراه أحد، لكن سخر الله له رجل من الناس رأى فعله فرواها ونقلت وكتبت واقتدى بها الناس، فمعاشرة أهل الإخلاص في غاية الأهمية في اكتساب الإخلاص، فإنك ترى من إخلاصهم ما يربيك بالقدوة.
وأحياناً يكون العمل لله ولكن يدخل معه في بدايته الرغبة فيما عند الناس أيضاً، فيصير لله والناس من البداية فهذا أيضاً حابط، ومن دخل في صلاةٍ هذه نيته أنها للناس فإنها فاسدة يجب إعادتها: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه أحداً غيري تركته وشركه) هذا الدليل على أنه إذا رافقت نية لله نية أخرى للناس من البداية حبط العمل.
وأحياناً يطرأ الرياء على العمل أثناء العمل، هو يبدأ لله لكن يطرأ عليه طارئ، هذا إذا جاهد العبد نفسه فعمله صحيح، وإذا غلب الرياء إلى آخر الصلاة ففي صحتها شك ونظر.
الذي يحج ليأخذ، قصده المال، والوسيلة الحج، فهذا مذموم تماماً؛ لأنه جعل الحج وسيلة للتكسب، مثلما يعمل كثير من الناس اليوم، فهذا يحج ليأخذ فجعل الأخذ هو الهدف، والحج هو الوسيلة للتكسب مثل أي مهنة، يحج عن العالم ويأخذ فلوس.
كذلك الذي يدرس الشريعة ليأخذ مكافئة الطالب، الهدف هو المكافئة، والوسيلة هي دراسة الشريعة، وليس لديه كلية ثانية تقبله فقال: آخذ من ورائهم المكافئة، لكن فرق بين هؤلاء وبين من يأخذ المال ليتقوى به على الطاعة ويعيش ليتمكن من أداء العمل.
افرض أن إمام مسجد ليس له دخل إلا راتب الإمام، هذا الرجل إذا لم يأخذ الراتب فإنه سيشحذ من الناس فيهين نفسه، فيأخذ الراتب من بيت مال المسلمين لكي يساعده على أداء الإمامة، فتكون الإمامة هي الهدف والراتب هو وسيلة.
الذي يدرس الدين في المدارس إذا كان قصده الراتب، ولو ما أعطوه الراتب ما درس شيئاً، ولو خفضوا الراتب خفض التدريس ولو نزلوا الرواتب لم يهتم بالتحضير، فيتأثر الإخلاص ويصير هدفه الراتب، والوظيفة هي وسيلة تدريس الدين للطلاب، كونه يعلمهم أحكام الصلاة والطهارة والزكاة والتوحيد والشرك، وهذا مذموم متوعد يوم القيامة.
وفرق بين من يحج ليأخذ وبين من يأخذ ليحج، والناجي هو الذي يأخذ ليحج؛ لأنه لا يستطيع أن يشتري تذكرة الطائرة حتى يحج بها مثلاً عن فلان، كيف يشتري تذكرة طائرة؟ كيف يتنقل بين المشاعر بسيارات الأجرة؟ كيف يشتري لوازمه من الطعام والماء واللازم له في عرفة ومزدلفة ومنى ؟ فإذاً أخذ المال صار وسيلة والحج هو الغاية، غايته أن يحج حتى يبرئ ذمة ذلك الشخص الذي لم يحج مثلاً.
ولذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله: [التاجر- يعني في الحج مثلاً أو الجهاد والمستأجر والمكاري- الذي يؤجر الدابة- أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزواتهم] فإذا هو خرج قال: ما دام أني خارج للجهاد فلأتكسب، مثلاً أبيع أشياء على الجيش، أبيع طعام على الجيش مثلاً، أو ما دام أني ذاهب للحج فسوف أبيع لي شيئاً، هذا أجره على قدر نيته؛ لأن بعض الناس يفوتون بعض الأشياء في الحج من أجل التجارة يقول: أنا ذاهب الحج، فقد يفوت بعض الأحيان واجبات ويفوت سنناً ويفوت أشياء كثيرة من أجل الكسب والتجارة في الحج، فهذا أجره على قدر نيته ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره.
وأحياناً يكون العمل خالصاً لله إلى النهاية ويطلع عليه بعض الناس فيمدحون صاحبه، مثلاً دخل رجل فجأة فرآك تصلي في الليل، أو استيقظ أحدٌ من أهلك فرآك تصلي، العمل في هذه الحالة صحيح، وكون الله عز وجل قدر أن يطلع على عملك بعض الناس دون قصدٍ منك ودون أن تختار مكان يسهل اطلاع الناس عليك فلا عليك حرج، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير يحمده الناس عليه فقال: (تلك عاجل بشرى المؤمن) رواه مسلم ، فما قال الرسول صلى الله عليه وسلم رياء ولا حبط العمل؛ لأن الرجل ما قصد أن يطلع الناس على عبادته.
فإذاً من عمل لله خالصاً هذا أعلى المراتب، ومن عمل لا يريد إلا الدنيا فعمله حابط، ومن قصد الدنيا مع قصد الله فعمله أيضاً حابط، ولكن إذا طرأ عليه الرياء فجاهده فالحمد لله، فإن استمر معه نقص من أجره بقدر هذا الشيء الطارئ.
وإن قصد وجه الله والدنيا، يحبط العمل إلا إذا كان مثل ما ذكرنا في الحج فإنه لا بأس به؛ لأنه قصد وجه الله والله أباح له التجارة، وينقص من أجره بقدر اهتمامه بالتجارة.
والذي قعد للزنا بين يدي المرأة المحتاجة إليه، فلما ذكرته بالله؛ انصرف عنها وأعطاها المال، ولم يعمل بها شيئاً قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه.
والذي حفظ للأجير ماله ونماه له أضعافاً مضاعفة، فلما جاءه الأجير؛ أعطاه إياه كله دون أن يأخذ منه شيئاً قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه.
فانفرجت الصخرة بسبب أنهم سألوا الله بأخلص الأعمال التي عملوها، فانظر فائدة الإخلاص، هذه أعمال عظيمة ظهر فيها الإخلاص؛ لذلك كانت مكتوبة عند الله ثقيلة جداً ونفعتهم، ولقد حدث أني سألت بعض أهل العلم فقلت له: لو أن الواحد وقع في ورطة فقال: اللهم إني عملت يوم كذا وكذا -بينه وبين الله- عملاً أرجو به وجهك أخلصت فيه لك؛ ففرج عني بذلك العمل الذي عملته لك هذه الكربة، هل ينقص من أجر ذلك العمل؟
فأجاب الشيخ: لا يظهر هذا، وسياق الحديث في مساق المدح له، ولو كان هناك شيء من هذا؛ لورد على الأقل، ولذلك لا بأس بسؤال الله بصالح العمل الذي عملته وانتهيت ليس أن تعمل العلم الصالح من أجل شيء دنيوي، لا، شيء عملته وانتهيت، أخلصت فيه لله وحصلت لك مشكلة بعد ذلك، فسألت الله بذلك العمل أن يفرج عنك المشكلة لا بأس.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، أو تماروا به السفهاء، ولا لتجترئوا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار) حديث صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من تعلم علماً يبتغى به وجه الله -علوم الشريعة- لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً -يعني: متاع الدنيا- لم يجد عرف الجنة يوم القيامة -يعني: ريح الجنة لا يجدها-) فإلى الذين يدرسون في الكليات الشرعية من أجل الشهادة والوظيفة والراتب لا ليعلموا الناس هذا تحذير عظيم.
وإلى الذين يتعلموا العلم؛ ليظهروا أمام الناس بأنهم حفاظ، ويلفتوا الأنظار بجودة حفظهم وحسن سردهم وأنهم لا يتوقفون هذا تحذيرٌ شديد.
وإلى الذين يتعلمون العلم لإفحام الناس في المجالس فقط، وإسكات الخصوم فالويل لهم.
إلى الذي يأتي حلق العلم ليقال عنه نشيط فالويل له.
وإلى الذين يماشون العلماء ويدعون أهل العلم والفضل ليقال: فلان جاء في بيته العالم الفلاني فالويل له، أو يقعد مع عالم ساعة ثم يدور المجالس ويقول: قال شيخنا قال شيخنا، وما جلس معه إلا ساعة فالويل لهم.
و لو جلسنا نستعرض قوادح الإخلاص في طلب العلم لوجدناها كثيرة، وهي كذلك في الدعوة إلى الله، فالإخلاص مهم جداً؛ فإن الله يفتح به القلوب ولو كان الداعية مبتدئ في الدعوة، ويهدي الله على يدي الداعية أناس ولو كان أسلوبه بدائياً جداً في الدعوة بسبب إخلاصه.
نجد أحياناً خطيباً مصقعاً وداعية لا يتوقف في الكلام وأسلوبه ممتاز، لكن لا أحد يهتدي على يديه، كلامه لا يؤثر في الناس، ونجد إنساناً أسلوبه ركيكاً ربما يكون أعجمياً، وإنسان مبتدئ في الدعوة وإنسان ليس عنده خبرة ولا تجربة، لكن لإخلاصه ترى الناس يهتدون على يديه؛ فالإخلاص يفعل الأفاعيل، الإخلاص يثبت العلم في ذهنك ويجعل الله البركة في هذا العلم، ويتناقله الناس، لماذا الآن نجد بعض المصنفات عاشت وبقيت وقيض الله لها من يحييها وطبعت وصارت منتشرة جداً بين الناس، ومصنفات لو طبعوها مليون طبعة تجد أن الناس ما أقبلوا عليها، ولو أخذوها بلا مال لكن لا يقبلون عليها، فيقبل الناس على صحيح البخاري ، وفتح الباري ، كتب السنن التي ألفها علماء الحديث، وتفسير ابن كثير فهناك شيء يتعلق بإخلاص المؤلف -نحن نحسبهم هكذا والله حسيبهم- فقيض الله لكتبهم هذا الانتشار الذائع وإقبال الناس على هذه الكتب بالذات حتى بقيت مراجع يرجع إليها الناس، كذلك فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، والمغني ، كتب تجدها مراجع مع أنه قد يكون هناك مصنفات أطول منها وأكبر منها، فالله عز وجل قيض لها أناساً نشروها لإخلاص الذين كتبوها، وقد يكون مؤلفاً صغيراً ينفع الله به، وكلام كثير لا يسمن ولا يغني من جوع.
والداعية عندما يمرض بالرياء فإنه يحطم نفسه وغيره، بل يعيق عجلة الدعوة من التقدم إلى الإمام بخطواتٍ أوسع، بل قد يتضرر الدعاة من حوله بمرضه، ويتعثرون حتى يتخلص هو من مرض الرياء بالتوبة، أو يتخلصون هم منه بالابتعاد أو الإبعاد.
وكذلك الإخلاص يجعلك تصل إلى حقيقة المسائل وتصل إلى الحق فيها، وقد يكون فلان أعلم من فلان، لكن هذا الأقل علماً يصيب الحق في مسألة وذلك الرجل لا يصيب، قد يحفظ واحد عشرة أقوال، وواحد يحفظ قولين، أو قول واحد ويكون هو الحق، وذلك الذي يحفظ عشرة أقوال لا يصيب الحق، يعمل بواحد بعيد عن الحق، والسبب الإخلاص.
وكذلك فإن الناس يتأثرون من المخلص، فيخرج كلامه من قلبه ليستقر في قلوب الناس، ويجعل الله لعاداته أجراً وتصبح عبادات؛ كأكله وشربه ولبسه ونومه ونكاحه ونحوها، ويلقي الله في قلوب العباد محبة المخلص؛ لأن الله يكتب له القبول.
(ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك) وهذا الشيء عبادة العامة وأن عبادة الخاصة هي لله دون جنة، هذا الكلام أيضاً ضلال، فالله عز وجل قال عن الجنة: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] .. وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57] وحتى على غنائم القتال قال: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف:13] وهذه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعمل لله ويسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار.
أنه يغيب عن كل الأعمال العلنية فلا يصلي في المسجد؛ يقول: رياء، الأفضل أ، أصلي في البيت حيث لا يراني أحد، سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل لا يشهد الجمعة ولا الجماعة، وإذا خرج من بيته يخرج متقنعاً خوفاً من الرياء؟ فأجاب: أن هذا غلو في الدين. فهذا الإخلاص أدى به إلى ترك الفرائض.
وبعض الناس يترك الأذان، وقد يكون خطيباً يترك الخطبة، وقد يكون يعلم في المساجد ويعظ يترك التعليم والوعظ، ويترك عيادة المريض لأنه سيذهب ويرى الناس موجودين يقول: جاء لعيادة المريض هذا يريد أن يظهر نفسه، وهكذا يتركون أعمالاً من الدين، ويترك الحج والجهاد لأنه يقول: هذا رياء أن أظهر أمام الناس، وهذا ضلال، لأن هناك أعمال تخفى وهناك أعمال لا يمكن إخفاؤها، فالأعمال التي لا يمكن إخفاؤها تتوكل على الله وتخلص فيها وتعملها، فنصلي في المساجد وليقولوا عنا مرائين، وليقولوا عنا ما سيقولوا.
الصحابي حنظلة بن عامر لما قال: نافق حنظلة ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو تكونون على الحال التي أنتم عليها عندي -يعني: في بيوتكم تكونوا مثلما كنتم عندي- لصافحتكم الملائكة) فمن الطبيعي أن الإنسان يكون بين الناس مع الصالحين يتشجع للخير ويجلس.
كذلك بعض الناس يخافون من الرياء بشكل كبير جداً، بحيث إنهم يقعون في الرياء، وبعض الناس يعتقد أن تحسين الثياب والنعال ينافي الإخلاص، وبعض الناس يقول: ما يجوز أن أكتم ذنوبي عن إخواني لا بد أخبرهم بكل ما أفعل، حتى تكون واضحة عندهم، فيخبرهم بما ستر الله عليه، وهذا أيضاً غلط والله عز وجل ما أوجب على المسلم أن يفضح نفسه.
كذلك لو أراد أحدهم أن يعمل عمل خير أمام الناس، فنيته لله لكن ليقتدي به الناس، مثل أن يأتي بصدقة عظيمة كي يتتابع الناس بصدقاتهم، فهذا لا يتنافى مع الرياء.
وأخيراً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المخلصين، وأن يختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين.
وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر